وولت ظلال الظلام، وانعكس الضياء الوضاح على سماء الأفق، فانتظمت صفوف الجنود تأهبا لمعركة الموت، وكان ملك الرعاة يدرك ما حل بجيش المصريين بعد مقتل مليكهم، فأراد أن يصعقهم بقوات تشل فيهم كل مقاومة فتأهب على رأس قواته من العجلات والرماة، ليقضي بضربة واحدة على الجيش الصغير الذي يعترض سبيله .. وحين تراءى الجمعان، بدأ القتال واتصل البحر المتلاطم بالجدول الصافي، وأطبق جيش أبوفيس على الجيش المصري، ودارت عجلة الموت، وبذل المصريون كل ما في طاقته البشرية من بسالة وبطولة، لكنهم تساقطوا سريعا بطلا في إثر بطل، وداستهم أرجل الخيل بقساوة، وبدا لعيني بيبي أن المعركة تنتهي سريعا، ولا سيما لما شاهده من مصارع كثير من القواد والضباط، ورأى جناحه الأيمن يفنى فناء عاجلا، والعدو يوشك أن يحيط بهم، فأراد أن يختم حياته أكرم الختام، وجال بنظره في جيش عدوه، فثبت على قلبه حيث يرفرف علم الهكسوس على أبوفيس وكبار قواده - وبينهم قاتل سيكننرع بغير شك - فجعله هدفه، وأمر حرسه أن يتبعه ليدافع عن ظهره، ثم أمر سائقه بالاندفاع، وكانت حركة مفاجئة لم يتوقعها العدو الحذر نفسه، وتفادت عجلته مما تعرض لها من عجلات، وأرسلت سهامها إلى قلوب الرماة، ومضت تدنو من أبوفيس حتى فطن الأكثرون إلى غرضها، فتصايحوا غضبا وخوفا، وقاتل بيبي ومن معه قتال من جن بحب الموت، فتدلل عليهم الموت طويلا حتى شقوا الصفوف إلى جبهة أبوفيس وقواده، وهنالك وجد بيبي نفسه محاطا بفرسان العدو من كل جانب، ورأى مئات من الرجال يحولون بين عجلته وبين الملك، فقاتل قتالا عنيفا والدماء تسيل من وجهه وعنقه وساقيه، حتى ظن عدوه أنه شيء لا يموت، وتكالبت عليه السهام والرماح، والسيوف والخناجر، فسقط كما سقط سيكننرع لاحقا بحرسه البواسل، وقد ضج الجيش من هجمته الهائلة، وكان القتال - في الميدان - في نهايته، والمصريون يلفظون آخر أنفاسهم، فأمر أبوفيس بالابتعاد عن جثة الرجل الذي انقض عليه خلال صفوفه المتراصة! ونزل من عجلته وترجل دانيا منه، حتى وقف على رأس الجثة، وجعل يتأمل السهام المنغرسة في كل قطعة منه كشعر القنفذ؛ ثم هز رأسه الكبير ضاحكا؛ وقال لمن حوله: لقد مات ميتة جديرة بأشجع رجالنا!
15
واستيقظت طيبة كعادتها لا تدري عما سطر لها في لوح الأقدار شيئا، وإذا بالقرويين يحملون الجرحى آتين من الميدان، فتجمع الناس حولهم، وتكاثروا بالأسئلة عليهم، وروى لهم هؤلاء الأنباء على حقيقتها فقالوا لهم إن الجيش هزم وفرعون قتل، وهاجرت أسرته إلى مكان مجهول، وذهل الناس وتبادلوا نظرات الإنكار والانزعاج، وذاع الخبر في المدينة فأشاع فيها الاضطراب والتقلقل، ففارق الناس ديارهم، وهرعوا إلى الطرق والأسواق، وتجمعوا في دور الحكومة ومعبد آمون ليأنسوا بالجماعة ويستمعوا إلى زعمائهم، أما أصحاب الضياع والقصور من النبلاء والأغنياء فقد هجروا ضياعهم وقصورهم مذعورين، وفروا جماعات إلى الجنوب أو اختفوا في ثنايا الأحياء الفقيرة.
وجاءت أخبار أسيفة أخرى عن سقوط قسي وشنهور، وأن جيوش الرعاة تتقدم نحو طيبة لضرب الحصار حولها وإجبارها على التسليم، فاجتمع الوزراء والكهنة والقضاة الثلاثون في بهو الأعمدة بمعبد آمون، وتشاوروا في الأمر، وكانوا جميعا يدركون خطر الحال ويحسون دنو النهاية وعبث المقاومة، ولكنهم لم يميلوا إلى التسليم دون شرط أو قيد، ورأوا أن يقوموا خلف أسوارهم المنيعة، حتى ينالوا وعدا بحقن دماء الأهالي، إلا أوسر آمون فكان شديد الحماسة فائر الغضب، فقال لهم: لا تسلموا طيبة أبدا، ولنقاوم حتى نموت كمليكنا سيكننرع، إن أسوار طيبة لا تقتحم، وإذا هددت حقا فلنخرب المدينة ونشعل فيها النيران، ولا نترك لأبوفيس شيئا منها ينتفع به.
وكان أوسر آمون يهدر غاضبا، ويلوح بيديه كأنه يخطب، ولكن الرجال لم يتحمسوا لفكرته، وقال نوفر آمون: نحن مسئولون عن حياة أهل طيبة، وتدميرها يعرض الآلاف منهم للتشرد والجوع والبؤس، فليكن هدفنا وقد خسرنا الموقعة أن نخفف الآلام ونحصر الدمار.
وفي أثناء ذلك كان الرعاة يهاجمون السور الشمالي بغير هوادة، والحراس يقاتلون عنه بثبات وبسالة، والقتلى تسقط من الجانبين، وتفقد الوزراء الأسوار فاطمأنوا إلى المقاومة، ولكن أسطول العدو هجم على الأسطول المصري بعد أن جاءه مدد جديد، ودارت معركة حامية انتهت بتحطيم الأسطول المصري، وحاصر أسطول الرعاة غرب طيبة، وأنزل جنودا كثيرين في جنوبها، فضرب حصاره الكامل حول المدينة، وهجم عليها من الشمال والجنوب والشرق هجوما عنيفا، وجاءت هزيمة الأسطول ضربة قاضية على كل أمل في إطالة المقاومة، وهددت المدينة العظيمة بالمجاعة والظمأ، فلم ير الزعماء بدا من التسليم تفاديا من الكارثة العظمى، وأوفدوا ضابطا يعلن وقف القتال، ويستأذن في قدوم رسول عن المدينة للتحدث في شروط التسليم النهائية، وعاد الضابط بالموافقة، فوقف القتال في جميع الأسوار، واختار الزعماء نوفر آمون كاهن آمون ليكون رسولا.
وقبل الكاهن على غضاضة، وركب عربته فسارت به نحو معسكر الرعاة مثقل الرأي كسير الفؤاد، ومر في طريقه بالفرق المختلفة متراصة الصفوف في قوة وصلف وزهو، تخفق عليها الأعلام من كل لون، ثم وقفت العربة فترجل في سكون، ووجد في استقباله بعض الضباط يتقدمهم رجل قصير القامة بدين كثيف اللحية، عرفه من النظرة الأولى، فهو الرسول خيان نذير الشؤم الذي حل بحلوله الدمار بمملكة طيبة، ولم يغب عنه ما في استقباله من الشماتة المقصودة، وبدا الرجل صلفا متعجرفا مزهوا، فنظر إلى نوفر آمون بمؤخر عينه، وقال دون تحية: أرأيت أيها الكاهن إلى أي مصير انتهى بكم رأي أميركم؟ .. إنكم تتحمسون كثيرا وتحسنون الكلام، ولكن لا قبل لكم بالقتال .. ولقد قضي على مملكتكم بالزوال إلى الأبد ...
ولم ينتظر الحاجب كلاما فسار أمامه نحو خيمة الملك، ورأى نوفر آمون الخيمة كالسرادق مسدلة عليها الستائر، يقف أمامها الحراس البيض الغلاظ ذوو اللحى الطويلة .. ثم أذن له فدخل، ورأى في الصدر الملك أبوفيس في زي الفراعين وعلى رأسه تاج مصر المزدوج، وكان مهيب الطلعة حاد البصر أبيض مشربا بحمرة، مسترسل اللحية جميلها، وسط هالة من قواده وحجابه ومستشاريه، فانحنى له الكاهن في إجلال، ووقف صامتا ينتظر أمره، فقال الملك بلهجة ساخرة: أهلا بكاهن آمون الذي لن يعبد بعد اليوم بأرض مصر.
فأغضى الكاهن ولم ينبس بكلمة، فضحك الملك ضحكة عالية وسأله بتهكم: أجئت تملي علينا شروطا؟
فقال نوفر آمون: بل جئت أيها الملك لأستمع إلى شروطك، كما ينبغي لزعيم قوم خسروا معركتهم وفقدوا مليكهم، وليس لي سوى رجاء واحد أن تحقنوا دماء شعب ما شهر سلاحه إلا ذودا عن كيانه.
صفحه نامشخص