كان أهل المهدية أوفياء للرجل؛ فلم يبق فيهم أحد لا يمسكه عذر إلا ذهب إلى الجنازة والمأتم جميعا، ولكن عبد الوارث لاحظ أن المعزين الذين جاءوا لمنصور أكثر بكثير مما يتوقع أحد لشاب في العشرين من عمره. وكان عبد الوارث قد سمع عن الجمعية التي تكونت في المدرسة ثم اتسع أمرها، ولكنه لم يكن يتصور أن الشباب المنضم إليها بهذه الكثرة.
كما لاحظ عبد الوارث أن أمين لم يترك منصور لحظة منذ مرض جده، بل هو يلازمه ملازمة تامة، ولم يذهب إلى كلية الحقوق التي كان انتظم فيها هو أيضا طوال الأيام التي بقي فيها منصور مع جده.
حين انتهت أيام المأتم وحان لمنصور أن يعود إلى كليته. - يا منصور أنت حتى الآن ... - أعرف يا عم عبد الوارث، والأمر لا يحتاج إلى كثير كلام؛ ولهذا سمحت لنفسي أن أقاطعك. إنني أختارك أنت وصيا علي، وحتى حين أبلغ رشدي في العام القادم، فأنت المسئول وحدك عن ثروتي وكأنها ما زالت في يدي جدي تماما. وضع لي حقي في البنك، وأنا أعرف من أنت؛ فلا حساب بيننا؛ فأنا واثق أن حقي سيزيد في يديك لن ينقص.
4
حين تخرج منصور في كلية الحقوق كانت أمواله في البنك أكثر مما توقع بكثير؛ فقد كانت مطالب منصور أثناء الدراسة قليلة كل القلة؛ فإن فيه زهدا طبيعيا عن بهرج الحياة وهو نقي كل النقاء. وعبد الوارث أمين كل الأمانة، وكان أحيانا إذا وجد صفقة مؤكدة الربح مستحيلة الخسارة كان يدخل بأموال منصور فيها ويضع الربح كاملا باسم منصور مع أمواله في البنك.
أبى منصور أن يترك المهدية، بل أصر أن يبقى بها، وقام بالتمرين في مكتب الأستاذ عز الدين الديواني، وزامله في المكتب أمين عبد الصادق. وبعد انتهاء فترة التمرين فتح منصور مكتبه في شقة بإحدى عماراته، كان يعدها لذلك. وكان المكتب باسمه وباسم صديقه أمين عبد الصادق الذي شاركه في المصاريف.
ومكاتب المحاماة في المراكز سريعا ما يقصدها الزبائن؛ فالناس يعرفون المحامين معرفة وطيدة، ويعرفون آباءهم وأجدادهم وكل ما يحيط بهم.
فلم يكن عجبا أن يبدأ المحاميان الناشئان عملهما في المحاكم في نفس الأسبوع الذي افتتحا فيه مكتبهما بقراءة القرآن الكريم.
وتمضي الحياة في طريقها بمنصور لا يميل لها سمت ولا يعوج به قصد؛ فقد كان يعرف ما يريد وما يجب أن يفعله وما لا يجوز له أن يفعله. •••
فواز صالح وتوفيق شافعي وعدلي عبد المسيح وعاطف منير، شباب من قرية المهدية، لم يكتب لهم أن ينالوا من التعليم إلا ما يسمح لهم بالقراءة والكتابة. أما فواز صالح وعدلي عبد المسيح فيعملان في إصلاح السيارات بورشة الأسطى فتحي الصلحي، وأما توفيق شافعي فنجار، ويعمل عاطف منير كمنجد، وهذان الأخيران لا يستقر بهما مقام في ورشة، وما هذا بعجيب، بل العجيب أن يستقر فواز وعدلي بورشة الأسطى حامد، ولعل السبب في ذلك أن الأسطى فتحي الصلحي لا يبدأ عمله قبل الحادية عشرة من صباح كل يوم. وهكذا يستطيع كل من فواز وعدلي أن يفيقا من سهرة الحشيش والخمر التي يعكفان عليها كلما وجدا ثمنها ويشاركهما فيها توفيق وعاطف.
صفحه نامشخص