خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
ژانرها
كما أن للأجسام أمراضا قد تقضي عليها في بعض الأحيان، وكما أن بين النباتات نباتات أخرى مضرة لآكلها، بل سامة له، كذلك للحضارة أقواما مضرة بها، بل متلفة لها في بعض الأحوال؛ فالمغول أو المغل هم من هذا القبيل؛ أي إنهم متلفون للعمران مهلكون للمجتمع البشري كما شاهدناهم عند هبوطهم بغداد، ففعلوا من الأفاعيل ما يرتعد لها فرائص الإنسانية من قتل ونهب وإفساد وإحراق ومنكرات ليس للقلم إمكان أن يدونها أو يصفها. وأعمالهم هذه لم تكن أعمال أمس، أو في هذه الأمصار الشرقية فقط، بل كانت كذلك منذ الأعصر الواغلة في القدم، إلا أن التاريخ لم يعرف من أمرهم شيئا مثبتا إلا منذ عهد تموجين الذي سمى نفسه «جنكيز خان»، فلما هلك اقتسم مملكته أبناؤه الأربعة، وهم: جوجي، وجغطاي، وتولاي، وأوكتاي، وكانت الكلمة النافذة والسطوة العاملة لأوكتاي، وهو الذي فتح الصين في سنة 1234م، وأرهب وأرعب خلقا جما، ومن الصين ذهب إلى كوه قاف (قوقاس، أو قفقاسية)، وغزا «باطو» ابن أخيه جوجي بلاد روسية، وأخذ موسكو في سنة 1237م، وأوغل في ديار المجر، ثم عاد أدراجه إلى بلاده المغولية عند وفاة أوكتاي في سنة 1241م. وقام بعده كويوك، ثم منكو بن تولاي سنة 1250م، فأمعن منكو في هند الصين، بينما كان أخوه هولاكو يأخذ أم العراق بغداد. وخلف منكو قبلاي (1259-1294)، وقلب دولة «سنغ» الصينية وأنشأ دولة «يوين» المغولية في سنة 1279م، فامتدت رقعته من بلاد الروس إلى ديار اليابان، ومن المحيط الشمالي إلى هند الصين. ولما طرد اليوينيون من بكين حاضرة الصين لكثرة من قام عليهم من الثوار احتل عرشهم آل «منغ» سنة 1368-1388، وحينئذ أصبح لكل طائفة منهم تاريخ مستقل خاص بها. وفي هذا التاريخ لا ترى من الحسنات شيئا، بل تراه مكتوبا بأحرف من دم على صحف سوداء، سودتها فظائعهم ومظالمهم وشنائعهم التي تقشعر لذكرها الأبدان؛ فالذي أنزلوه من البلايا والرزايا في ديار النهرين أنزلوا مثله في سائر الأمصار العامرة، فصيروها غامرة.
وأنت تعلم أن البلاد التي لا يتسنى لها الراحة لا يتسنى لها المعاملة والمتاجرة، ولا المبايعة والمقايضة، ولا الزراعة والصناعة، فتغدو فقيرة بحكم الحال. وإذا افتقرت البلاد قام أهلها يغزو بعضهم بعضا ليعيشوا، فيأخذ القوي ما يجده لحاجته عند الضعيف. وعلى هذه الصورة تنحط البلاد، ويذل سكانها ويقلون إن لم ينقرضوا، وما ذلك إلا آفة الجهل، وما آفة الجهل إلا الأقوام المنحطة التي لا تريد الرقي، كما لا تريد أن تدين لسيد عاقل حكيم كما تظهر هذه الحقيقة لأدنى تأمل. (7) في صنائع الإسلام الراقية، وفي الريازة (علم البناء)
كان العرب قبل الإسلام يعرفون التصوير والتمثيل، يشهد على ذلك ما جاء في الحديث النبوي: «رأيت الجنة والنار ممثلتين في قبلة الجدار»؛ أي مصورتين أو مثالهما. ويشهد عليه الأصنام والأوثان التي كانت في الكعبة، وعددها يفوق الثلاثمائة، فلما جاء الإسلام حرم التصوير والتمثيل، فكسرت الأصنام، ومزقت الصور أينما كانت وفقا لهذا الحديث: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة.» وفي حديث آخر: «لا تمثلوا بنامية الله»؛ أي لا تشبهوا بخلقه وتصوروا مثل تصويره، وقيل: هو من المثلة، والأشهر الأول وعليه المعول. فلما أخذ المسلمون بالتوغل في العمران وأرادوا أن يزينوا بيوتهم ودورهم وقصورهم بضروب التصاوير عدلوا عنها، واختاروا لهم زخارف اشتهرت عند الإفرنج باسم «النقوش العربية»، لا لأنهم اخترعوها؛ بل لأنهم أكثروا من استعمالهم لها، ولأن أهل الغرب تلقوها عنهم، وهي نقوش هندسية يزينون بها الآيات أو الأحاديث والحكم التي يكتبونها أو يحفرونها على تلك المعاهد، وتمثل تلك الزخارف رسوما هندسية أو أنواعا من الأزهار والأثمار والأوراق ، هي إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة؛ إذ لم يقصدوا بها إلا مجرد الزينة ليحسنوا بها الكتابة، فتزداد بها حسنا ورواء. ومن أحسن ما عنوا به من هذا القبيل ما زينوا به القصور التي شيدت في الأندلس في عهد الخلفاء الأمويين.
على أن الشيعة لم يحرموا التصوير والتمثيل؛ لأنهم لم يروا في القرآن آية تدل على تحريمهما، إلا أنهم حرموا صنع التماثيل؛ لقربها من هيئة الأصنام والأوثان. ولهذا نرى كثيرا من الكتب المصورة وفيها مثل الإنسان والحيوان والنبات، وهذا لم يتخذوه قبل يوم أو يومين، بل جاء ذلك عندهم منذ سابق العهد؛ فقد كان المتوكل قد بنى قصرا بسامراء سماه «المختار»، وكانت فيه صورة عجيبة من جملتها صورة بيعة فيها رهبان، وأحسنها صورة شهار البيعة، وقد قال الواثق واصفا القصر والصورة:
ما رأينا كبهجة المختار
لا ولا مثل صور الشهار (هذا الكلام مأخوذ عن معجم البلدان لياقوت الحموي في مادة: المختار)، والظاهر أن المتوكل بنى هذا القصر قبل أن يلي الخلافة؛ لأن الواثق أخاه وليها قبله، فيكون قد ذهب إليه بعد بناء المتوكل له وفي عهد خلافة أخيه الواثق. ومن الغريب أن المتوكل كان سنيا صرفا، وعدوا أزرق للشيعة، فلا نعلم كيف رضي بأن تصور تصاوير في قصره! وعلى كل حال فإن الدكتور هرتسفلد اكتشف في سامراء عداة تصاوير في قصور العباسيين قبل نحو ثماني سنوات، مما حمل العلماء المستشرقين على القول إن العباسيين كانوا قد تساهلوا في هذا الباب، وكان الخلفاء قبل ذلك العهد مخالفين لهذا التسامح والتجوز. (7-1) الزخارف العربية
أما أصل هذه الزخارف المشهورة بالزخارف العربية فهو الهند؛ فقد قال هيرودوتس وإسترابون وإريانس وجماعة من قدماء المؤرخين، إن الهنود كانوا يصنعون منذ عهد عهيد ثيابا، يطبعون عليها تصاوير زاهية الألوان لا تنفض (لا تجرب). وتلك التصاوير تمثل أزهارا وأنبتة وحيوانات ونقوشا مختلفة. وكانت تلك الثياب (الأقمشة) تباع في الديار المصرية واليونانية قبل أن يفتح الإسكندر الكبير فتوحاته الشهيرة، فتنقل إلى اليونان أسرار صنعها. وكان البطالسة أقاموا في الإسكندرية معامل وكان فيها مهرة العملة من اليونان، يرشدون المصريين إلى تقليد تلك الثياب الهندية، وكانوا ينقشون عليها - على ما قال كلوديانس - «وحوشا مختلفة الأشكال، وسلاحف طائرة، ونسورا ذات قرون، وصور بشر متصلة بصدف الحلزون.» وقد أخذ المصريون أيضا في ذلك العهد عن الفرس والبابليين صنع الطنافس والبسط التي كان قد أغرم بها اليونان في زمن أرسطوطاليس، الذي قال عنها: إنها كانت مرغوبة لحسن ألوانها الزاهية وغرابة نقشها وإتقان صنعها. ولعل رؤية الثياب الشرقية هي التي هدت اليونان إلى معرفة الزخارف العربية من شماريخ وتعاريج وأوراق زينوا بها بعض أبنيتهم، ومن جملتها رأس البناء المعروف عندهم بما معناه: «مصباح ديمستينس»، لكنه لا ينكر أن الرومان لم يأخذوا ذوق هذه الرسوم إلا من ديار مصر حتى بلغت عندهم (أي عند الرومان) الشأو الأبعد.
ولقد أشار فتروفس
3
إلى هذه الرسوم كأنها حديثة في عهده. ومع ما كتب هذا الناقد من الكلام اللاذع بشأن أولئك الذين أحدثوا أمورا في الريازة الرومانية، بقي معاصروه محافظين على ما أدخلوه في بلادهم من تلك النقوش والتزينات، وظلوا يزخرفون بها مصانعهم ومعاهدهم، بل ومدافنهم نفسها، لا ترى ثم إلا تصاوير ومنحوتات تمثل لك مناظر أبنية خيالية ونقوشا تشتبك فيها الأبنية الوهمية والحيوانات الوحشية، وأطفالا تلعب بضروب من عنقاء مغرب، وغيرها كالسباع التي لا حقيقة لها. وترى بينها أيضا أثمارا وحيوانات صيد وأزهارا، أو أدوات لهو وتخاريم؛ إلى غيرها. وأغلب هذه المرسومات تشف عن تقليد مأخوذ عن الشرق، مثل النباتات والحيوانات المقدسة المصرية والهندية، وبجانبها مصانع بناؤها فارسي الطرز أو بابلية. أما الرموز التي تشير إليها تلك المصورات، فإن الرومان ما كانوا يفقهون لها، فكانوا يتخذون «الطرز المصري» طرزا صناعيا لا غير. كما يقلد اليوم الإفرنج «الطرز الصيني والياباني» وهم لا يفهمون ما تنطوي عليه من المغازي والمعاني والإشارات الدقيقة. ولقد اكتشف الباحثون منذ نحو قرنين كثيرا من هذه التصاوير العربية في بنبئي وهركلانم، وقد رسمت قبل الإسلام بنحو خمسمائة وخمسين سنة، فوجودها قبل الحضارة العربية دليل واضح على أن أبناء يعرب لم يخترعوا تلك النقوش، بل أخذوها عن المصريين والهنود كما تقدمت إليه الإشارة، وبهذا القدر كفاية في هذا الصدد. (7-2) النقش
صفحه نامشخص