خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
خلاصة تاريخ العراق: منذ نشوئه إلى يومنا هذا
ژانرها
المستعصم بالله: هو ابن المستنصر، ولد في 21 شوال سنة 609ه/17 آذار 1213م، أمه أم ولد، اسمها «هاجر»، أدركت خلافته. بويع له بالخلافة ضحوة نهار الجمعة 10 جمادى الآخرة من سنة 640 كما ذكرنا، واستدعي من مسكنه (بالتاج) سرا من باب يفضي إلى داره. وجلس في قبة المبايعة يوم السبت 11 جمادى المذكورة، فحضر جميع الأكابر، وجلس الوزير في المحفة التي حضر فيها محمولا بمحجرة على أرفع درج المنبر، ووقف أستاذ الدار دونه بمرقاة، يلقن الناس لفظ المبايعة، ولم يحضر الحفلة أعمامه وعم أبيه، فأغلق عليهم باب الفردوس الذي يحتوي على دورهم، بحيث لا يدخل عليهم طعام ولا غيره، فبقوا على ذلك ثلاثة أيام، فسألوا المبايعة وأحضروا فبايعوا. وكان سهل الأخلاق، سليم الصدر، طاهر النفس، عفيف الإزار، ظاهر الحياء، لين الكلام، لم يشرب مسكرا قط، لكنه لم ينزه سمعه عن سماع المحرم، فإنه كان مغرما بلعب الحمام وبسماع الملاهي، محبا للهو واللعب، يبلغه أن مغنية أو صاحب طرب في بلد من البلاد فيراسل سلطان ذلك البلد في طلبه، فكان شغفه بهذه الأمور الزائلة أشغلته عن القيام بأمور الخلافة، واعتمد فيها على أناس غير أكفاء، بل أعداء له ولسدة الخلافة العباسية.
وكان ابن العلقمي وزيره يصانعه ويظاهره في الخارج وينافقه في الباطن، وكان قد عقد النية على إخراج الخلافة من العباسيين وجعلها في العلويين، فأخذ الوزير يضرب أخماسا لأسداس بلوغا لأمنيته، وأول شيء أشار به على الخليفة أن يسرح أكثر الجند لعدم الحاجة إلى هذا القدر العظيم الذي جمعه أبوه، وأقنع الخليفة أيضا بمصانعة التتر ومهادنتهم لانتشارهم في الأرض وتقدمهم السريع في فتوحاتهم، وأن نيتهم القدوم إلى بغداد واجتياحها، فإن لم يستعد لمصانعتهم عظم عليه الفتق وتعسر الربط والضبط. وكان ابن العلقمي في تلك الأثناء يساعد الأعداء في ما يؤملون، ويكاتبهم بما يجري في البلاد، وكيف يعملون على إضعاف قوى الخلافة ورجالها المتعلقين بها، وكانت الرسل بينه وبين التتر والمستعصم غائص في لذاته، لا يطلع على الأمور، ولا له غرض في المصلحة، وكان إذا جاء خبر منهم كتمه عن الخليفة، ويطالع التتر بأخبار مولاه، فأطمعهم في البلاد وسهل عليهم الأمر، وطلب أن يكون نائبهم فوعدوه خيرا، فدلهم على عورات الأمصار، وصورة أخذ دار السلام، وضعف الخليفة، وانحلال العسكر، فزحف هولاكو بجيش جرار إلى بغداد، والمستعصم ومن معه في غفلة عنه لإخفاء ابن العلقمي سائر الأخبار، إلى أن وصل العراق واستأصل من بها قتلا وأسرا. ولما دخلت سنة 656ه/1258م وصل التتر بغداد، وهم مائتا ألف في مقدمتهم هولاكو، فخرج إليهم عسكر الخليفة وعددهم أربعون ألف مقاتل، فانهزموا أمام العدو، وبعد أن قاتلوه من إقبال الفجر إلى إدبار النهار عجزوا عن الاصطبار وولوا الأدبار بالإدبار، فتعقبهم التتر فوضعوا السيف فيهم، وكان دخولهم بغداد يوم عاشوراء.
وبينما الأمور تجري على هذا الوجه الشنيع أشار ابن العلقمي على الخليفة أن يصانعهم، وقال: أخرج أنا إليهم في تقرير الصلح، فخرج وتوثق لنفسه منهم، وعاد إلى الخليفة يقول: إن الملك قد رغب أن يزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويبقيك في منصب الخلافة، كما كان يفعل بنو بويه وبنو سلجوق في من كان في عهدهم، ويستأثر بالسلطنة وينصرف عنك بجيوشه، فليجب مولانا إلى هذا، فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد ، والرأي أن تخرج إليه، فعمل الخليفة بما قال له وزيره، وخرج إلى هولاكو في جمع من الأعيان، فأنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد فضربت أعناقهم، وكانت تخرج الطائفة بعد الطائفة منهم فتضرب أعناقهم، حتى قتل جميع من هناك من العلماء والأمراء والحجاب والكبار، ثم مد الجسر وبذل السيف في المدينة، فقتل من المسلمين في ثلاثة أيام ما ينوف على 370000 نسمة، لكن القتل دام نحو أربعين يوما، فبلغ القتلى أكثر من مليون نسمة، ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة، وقتل الخليفة رفسا بالأرجل، ولم يسمع بأنه دفن، وقتل معه جماعة من أولاده وأعمامه وأسر بعضهم وسبي آخرون، وألقيت كتب الخزائن في دجلة، فكانت لكثرتها جسرا يمرون عليه ركبانا ومشاة، فكانت هذه الفتنة من أعظم مصائب الإسلام، ولم يتم للوزير ما أراد؛ إذ لم يستحسنوا أن يقيموا خليفة علويا حسبما طلب، بل أخذوه معهم، فصار في صورة بعض الغلمان، ومات كمدا. وكان قتل الخليفة المستعصم ليلة الأربعاء 14 صفر سنة 656 (الموافق 21 شباط 1258م)، فكانت مدة خلافته 16 سنة و7 أشهر و4 أيام، وعمره 46 سنة، وكانت مدة ملك بني العباس منذ انتقلت إليهم الخلافة من بني أمية إلى أن انقرض ملكهم 526 سنة، عن 37 خليفة، أولهم السفاح، وآخرهم المستعصم. (5) حفظ العرب لعلوم اليونان وعودتها إلى الغرب
قد تكلمنا على الدولة العباسية منذ نشأتها إلى اضمحلالها في العراق، فحان لنا أن ننظر إلى ما أدى خلفاؤها من الخدم إلى الحضارة والعلم والرقي. وقبل أن نحوض عباب هذا البحث، لا بد أن نعرف حالة العلم عند العرب في بداوتهم وجاهليتهم، لنعرف ونقدر ما صاروا إليه من التقدم بعد تلك الخلافة، فنقول: إن بداوة العرب أمر غير منكر، والعلوم التي كانوا يعرفونها في حالتهم تلك لا تتطلب عناء عظيما ولا القبض على القلم، بل تتطلب ذاكرة رائقة، وملاحظة دقيقة، ومشاعر متنبهة، وشواعر متيقظة؛ ولذلك لم يكن لهم من العلوم يومئذ إلا علم الأنساب، وقرض الشعر والبلاغة، ورواية الأخبار، والنظر إلى القبة الزرقاء، وعلم الأنواء وعلم نزول الأمطار، والقيافة، والعيافة، والريافة، والفراسة، والكهانة، والعرافة، والطب، والضرب في الفلوات، والرماية، والملاحة، وركوب الخيل، وأصول الحساب، ومبادئ تقويم بلدان جزيرتهم، إلى ما ضاهاها من العلوم التي تؤخذ بظواهر الحواس، والتي لا يبذل في معرفتها من قوة الفكر شيء يذكر. ثم جاء الإسلام فكان معظم عناية الخلفاء الراشدين بنشر الدين وتمكين أسسه في البلاد، وكبح جماح المرتدين، ثم ما لبث أن ظهر الأمويون، فلما أقاموا في ديار الشام - وكانت سابقا مقر حضارات عديدة جليلة القدر - أخذوا ينتقلون من البداوة إلى الحضارة، فأصبحوا في حالة لا هي بدوية محضة، ولا حضرية بحتة، فكانت بين بين، ولم تأت بنفع للحضارة العصرية، ثم دالت الدولة، فظهر العباسيون في ميدان العمل، فكان جل همهم توسيع ملكهم وتوثيق دعائمه، وتأييد سلالتهم على عرش الخلافة بحيث لا ينزعها أحد من أيديهم، ولا يطمح إليها طامح. وتحققوا أنهم لا يتوصلون إلى بغيتهم هذه إلا بالعلم؛ إذ بالعلم ينال المرء كل ما يسعى إليه في هذه الدنيا، من قوة، ورئاسة، ومال، وجاه، وشهرة، وصحة، وراحة، وطول عمر.
وأول من عني منهم بالعلوم هو الخليفة المنصور باني بغداد؛ فإنه كان أول خليفة قرب المنجمين، وكان أصحاب التنجيم من أقرب المقربين من الملوك في ذلك العهد. وكان المنصور أيضا أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية والأعجمية، ككتاب كليلة ودمنة، وكتاب إقليدس، وكتب اليونان، فنظر الناس فيها وتعلقوا بها. فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي والسير ودونها، فكانت هذه المؤلفات أمهات المصنفات التي أنشئت بعدها، وأصبحت مثلا يحتذى عليها، ووسائل نشطت همم من أراد التقرب من الخليفة وأولاده، فنشأت في قلوب رعيته محبة العلم وأربابه.
ثم جاء الرشيد فتمكن ذلك الحب في الصدور، فازداد في عهده عشاقه والمعاونون له. وما جاء المأمون إلا وكان العلم قد أثمر أثمارا بلغت أطايبها، وكان هو بنفسه مثالا للجد والجهد والعلم الصادق. بيد أنه كثر في زمانه الزنادقة والملاحدة، فنسب الناس تكاثرهم وتبجحهم بالكفر إلى مطالعة الكتب الحديثة والتوغل فيها، فكان هذا الأمر سببا لحط العلم وعشاقه إلى دركات منعت كثيرين من المسلمين عن الاشتغال به؛ إذ رأوا أن الذين زاولوه حادوا عن سواء السبيل إلى ما لا تحمد عقباه، ولا سيما بعد أن نظروا في الكتب التي كان قد صنفها ماني، وابن ديصان، ومرقيون، مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره وترجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنفه في ذلك الوقت ابن أبي العرجاء، وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس تأييدا للمانوية والديصانية والمرقيونية، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس وأفسدت كثيرين في آرائهم وعقائدهم حتى اشتهر هذا المثل: «من تمنطق تزندق.» وأصبح معنى الفلسفة عند أهل ذلك العصر وما بعده مرادفا للكفر والزندقة والإلحاد.
على أن الأذكياء رأوا أن العلم الصحيح بريء من تهمة الكفر؛ إذ قد وجد الإلحاد - أو قل التظاهر به - في الجهلة كما وجد في الأدباء، مع أنه قد ثبت أن العلم غير مناف للدين، ولو تنافيا لما وجدا مجتمعين في امرئ قط، ونحن نعلم أنهما قد اجتمعا في أناس كثيرين وقد اشتهروا بهما معا. ومع ذلك فقد صنف الجدليون من أهل البحث من المتكلمين أسفارا جليلة في رد الجاحدين والزنادقة ومن لف لفهم، فأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شبه الملحدين، فأوضحوا الحق للشاكين، فأخذ النفور يزول من صدور أولئك الذين كانوا قد استنكفوا من درس المنطق والفلسفة وأنواع العلوم الطبيعية وغيرها، فعادوا إليها قريري العين. وقد ظهرت نتيجة هذا الاشتغال في عهد بني بويه، فنبغ من العلماء والنحاة واللغويين والمؤرخين والشعراء والأدباء ووصاف البلدان ما يكسف نورهم نور شمس من كانوا في عهد الرشيد والمأمون، وبلغ هذا معظمه في عهد المستنصر؛ إذ وصلت العلوم نهايتها، ويشهد على صدق دعوانا تلك المدرسة التي شيدها ذلك الخليفة الكبير، وزينها بالعلماء الأعلام على اختلاف طبقاتهم ومعارفهم، بيد أنه لم تظهر ثمارها للعيون؛ لأن هولاكو وأبناءه هبطوا «أم العراق»، وعاثوا عيث الذئاب في الغنم، وتمادوا في القتل والفتك، فكانت شمس تلك الحضارة شمس الأصيل، كما وقع مثل هذا الحادث في آخر الدولة الساسانية وآخر دولة الآشوريين العظيمة.
هذا، وحصل من اشتغال العرب بعلوم الأوائل حضارة خاصة بهم، إلا أن أسسها ودعائمها بقيت يونانية. نعم، إن أهالي أرض الرافدين أتقنوا لغة مواليهم العربية، واعتاضوا بها عن لسانهم الآرمي الذي كانوا يتكلمون به بصورة من الصور منذ عهد نبوكد نصر، والأسفار الجليلة التي كانوا قد نقلوها إلى الآرمية في عهد الدولة الرومانية النصرانية، وفي مواضيع مختلفة، كالرياضيات، والفلكيات، والبلدان، والحيوان، والنبات، والجماد، والكيمياء، والمنطق، وما وراء الطبيعة، نقلوها أيضا إلى العربية في عهد العباسيين، فأخذ العرب يجلون أرسطوطاليس الفيلسوف الذي لا يصدق هذا الاسم إلا عليه، وأكبوا على دراسته في ديارهم كلها من آسية الوسطى إلى الأوقيانوس الأتلنتيكي، ولعلهم فهموه في بلخ وسمرقند أحسن مما فهمه دارسوه في أوروبة في ذلك العهد. والخواطر التي بدت لهم من مطالعة المصنفات اليونانية أنتجت آدابا علمية وفلسفية عربية فاقت كل آداب سواها كانت تعرف يومئذ في الغرب. وأغلب هذه الآداب لم تكن نتاج أناس عربيي النجار والعنصر، بل نتاج أفكار السريان، وأفكار المنتسبين إلى العنصر الفارسي القديم المعروف في هذه الديار، وقد أصبح لسانهم عربيا بعد الفتوحات الإسلامية، ويدعم رأينا هذا مشاهير ذلك العصر؛ ففي القرن الحادي عشر مثلا كان ابن سينا يوغل في أبحاثه العلمية في خزائن كتب بخارى، وكان البيروني ينعم النظر في ثقل المعادن النوعي وهو في خيوق (خيوا). فالفكر الفلسفي الذي جاء به اليونان إلى عالم العلم أثر كل التأثير على فلسفة العرب وعلمائهم على اختلاف عناصرهم وديارهم ونزعاتهم.
فنرى مما تقدم بسطه أن الناطقين بالضاد انتحلوا بسهولة معارف الأقدمين ووسعوها، لكنهم - والحق يقال - لم يزيدوا عليها علما جديدا جديرا بالذكر، ومع ذلك فلهم أعظم فضل على العلم والعالم؛ لأنهم حفظوا وديعة نور العقل في عهد كانت دول الغرب مرتبكة بأمورها الداخلية، وغزوات الأقوام الهمجية لهم، فكان انتقال معظم تلك المعارف إلى تلك الديار الغربية بواسطتهم، فمنها ما وصلتهم عن طريق الحروب الصليبية التي وقعت بين القبيلين، ومنها عن طريق المدارس التي أنشئت في الأندلس، ولا سيما في إشبيلية وقرطبة وطليطلة، يدلنا على ذلك الألفاظ التي دخلت لغاتهم في مواضيع مختلفة، كالكيمياء، والفلك، وعلم المواليد وغيرها، عند ترجمة كتبهم العربية إلى ألسنتهم الأعجمية.
ومما أخذه أهل الغرب عن العرب: بعض الأعمال المتعلقة بالصنائع، كعمل الكاغد، والبارود، والخزف، والسكر، وتركيب الأدوية ، وتقطير الأرواح والمشروبات. وتعلموا منهم أيضا: نسج ضروب مختلفة من الثياب، وأدخلوا بلادهم أيضا دود القز بعد أن تعلموا منهم تربيته، وأخذوا منهم بذر كثير من الحبوب كالأرز، وغرس كثير من متنوع الأشجار، كقصب السكر، والزعفران، والقطن، والإسبانخ، والرمان، والتين. وتعلموا منهم دباغة الأديم وتجفيفه ودلكه وتلوينه؛ إلى غير ذلك مما يطول سرده ولا يحصى تعداده. (6) في أن المغول آفة الحضارة، وفي ذكر ما أوقعوه فيها، وانحطاط العلوم بانحطاط السلطة والثروة
صفحه نامشخص