وهذا التلاقي بين التسليع وإضفاء الديمقراطية غير كامل ويسير في اتجاه واحد، إذ أحيانا ما نجد الديمقراطية وحدها من دون التسليع، كما نرى في المقابلة الشخصية الخاصة بالطب «البديل» في العينة المقتطفة في الفصل الخامس. ومع ذلك فإن التلاقي يؤدي فعلا، فيما يظهر، إلى الكشف عن خصائص مشتركة على مستوى أعمق، وخصوصا تأثير هذه الاتجاهات في بناء الخطاب للذاتية أو للكيان النفسي، في سياق التحولات التي وثقها الباحثون (بحث ن. روز على سبيل المثال) في التكوين الاجتماعي للنفس في المجتمع المعاصر. وتسير هذه التحولات في اتجاه زيادة استقلال النفس وازدياد دوافعها الذاتية (أي نحو النفس التي تتمتع ب «التسيير الذاتي» على نحو تعريف «روز» لها). والواضح أن الاتجاهين يشتركان في التوجه نحو النفس التي تتميز ب «التسيير الذاتي»، فالطبيب في العينة المقتطفة من المقابلة الشخصية الخاصة بالطب «البديل»، ومؤلف الكتيب الذي يقدم اللائحة الجامعية، يخاطبون (ومن ثم يفترضون سلفا) صورا مضمرة من النفس المتميزة بالتسيير الذاتي. وهكذا فإن «المستهلك»، أي «المخاطب» القائم في حالات الإعلان وتوسعاته الاستعمارية في التعليم والمجالات الأخرى، صورة من صور النفس التي تتمتع بالتسيير الذاتي، وبالقدرة على «الاختيار» وإرادة «الاختيار». وذلك أيضا شأن «العميل - المريض» في المقابلة الخاصة بالطب البديل، إذ ينسب إليه كذلك الاستقلال والاختيار. فإذا كان التسليع وعمليات إضفاء الديمقراطية الأوسع نطاقا تتجه معا إلى بناء النوع عينه من هذه «النفس» فلن ندهش لتداخلهما في بعض المجالات مثل التعليم. وهكذا فإن طالب المستقبل الذي تبنى صورته باعتباره مستهلكا قد يجد أنه قد أصبح عند دخوله الجامعة «طالب علم يتمتع بالاستقلال».
وأنا أصف الاتجاه إلى إضفاء الديمقراطية والتسليع وصفا عاما باعتبارهما من خصائص النظام المجتمعي المعاصر للخطاب، وتأثيرهما - وفق ما ذكرت عاليه، في مختلف نظم الخطاب المحلية والمؤسسية - تأثير متفاوت؛ فبعض نظم الخطاب تكتسب قدرا كبيرا من الديمقراطية والتسليع أو من أحد هذين الاتجاهين، والبعض الآخر لا يكتسب القدر نفسه منهما أو من أحدهما. ومع ذلك فإن ما يبهرنا هو تغلغل هذين الاتجاهين في شتى المجالات، إذ يستطيعان عبور الحدود التي تفصل ما بين المؤسسات والمجالات. ويبدو أن البروز الحالي لهما يتفق لا مع نماذج الكيان النفسي التي يوحيان بها وحسب، ولكن أيضا مع حال خاصة من أحوال النظام المجتمعي للخطاب في المجتمع المعاصر، الأمر الذي يتيح طرح نماذج جديدة منها.
والحال المذكورة حال «تفتيت» نسبي للمعايير والأعراف الخطابية، وهي تؤثر في ضروب شتى من المؤسسات والمجالات. وأما ما أعنيه بالتفتيت فهو انهيار من نوع ما، أو فقدان الفاعلية، في بعض نظم الخطاب المحلية، الأمر الذي يتيح للاتجاهات العامة التغلغل فيها. ولأعبر عن هذا بمزيد من التفصيل، فأقول: إن التفتيت يتضمن (1) زيادة المغايرة في الممارسة الخطابية (فالمقابلات الشخصية الطبية تجري بطرائق أشد تغييرا)، و(2) انخفاض القدرة على التنبؤ بما سوف يلقاه المشاركون في أي حدث خطابي، ومن ثم ضرورة بذل الجهد لمعرفة المسار المحتمل لمقابلة من المقابلات على سبيل المثال، و(3) زيادة إمكان تغلغل أنماط الخطاب القادمة من خارج المجال المعني (مثل زيادة انفتاحه على خطاب المحادثة) والاتجاهات العامة. وتشير الدلائل على زيادة تفتت الخطاب التعليمي والطبي وخطاب موقع العمل، بهذا المعنى.
ومن المفارقات أن تفتت نظم الخطاب المحلية أصبح، فيما يبدو، من شروط زيادة إضفاء التكنولوجيا على الخطاب، بمعنى أن زيادة انفتاح النظم المحلية للخطاب تتضمن زيادة انفتاحها على العمليات التكنولوجية القادمة من خارجها. وأما المفارقة فهي أن التفتيت أصبح يعني، على ما يظهر، تخفيفا من النظم التي تحكم الممارسة الخطابية، في حين أن إضفاء التكنولوجيا يمثل، على ما يظهر، تعميقا لهذه النظم. ومن أساليب تفسير هذه العملية إدراك التحول في طبيعة النظم وموقعها. فحينما تكون نظم الخطاب ثابتة ومستقلة نسبيا، فإن تنظيمها يجري محليا وداخليا من خلال آليات سافرة للتنظيم أو من خلال ضغوط خفية، وهو الأكثر شيوعا، ولكن الاتجاه الآن هو أن يقوم خبراء البحوث والتدريب بتنظيم الممارسة في مختلف المؤسسات والمجالات. وإذن فهل يتسبب رجال تكنولوجيا الخطاب في احتلال اتجاهات التسليع وإضفاء الديمقراطية لنظم الخطاب المحلية؟ لا شك أن تأثير هذه الاتجاهات كثيرا ما ينتج عن احتلال تكنولوجيات الخطاب الرئيسية - وهي الإعلان، والمقابلات الشخصية وجلسات المشورة - ومن خلال التدريب على هذه التكنولوجيات باعتبارها مهارات منتزعة من سياقها.
ولكن هذا التفسير قاطع ومنحاز بأكثر مما ينبغي، إذ يعيبه العيب الذي انتقده تيلور (1986م، 81) في دراسات الأنساب عند فوكوه، ألا وهو اعتباره أن التغيير يقتصر على تقنيات السلطة التي يفسرها دون لبس أو غموض باعتبارها من أدوات السيطرة وحسب، أي إنه ينقصه ما يشير إليه فوكوه نفسه بعبارة «تعدد التكافؤ التكتيكي لضروب الخطاب» بمعنى أنها يمكن أن تكون لها قيم مختلفة في مختلف «الاستراتيجيات» (انظر الفصل الثالث أعلاه). ومن الحالات التي ينطبق هذا عليها حالة إعادة إضفاء الديمقراطية التي يمثلها اصطناع الصبغة الشخصية (في الحديث). ولأزد هذا المثال إيضاحا وتفصيلا.
تقول الحجة التي أسوقها إن إضفاء الديمقراطية يمكن أن يكون له أكثر من معنى، إما في إطار تخفيف القيود أو بسبب استعماله استراتيجيا باعتباره إحدى التقنيات، ولكن إضفاء التكنولوجيا، حتى في الحالة الأخيرة، قد لا يكون قاطعا؛ فقد يستولي أصحاب السلطة على إضفاء الديمقراطية، وإن كانت عملية الاستيلاء نفسها قد تؤدي إلى فتح ساحة جديدة من ساحات الصراع التي يمكن أن يتلقى فيها أصحاب السلطة بعض الهزائم. ومن زاوية معينة يمكن اعتبار تصنع الديمقراطية أو محاكاتها لأغراض استراتيجية استراتيجية ذات أخطار شديدة، كما أنها تمثل في ذاتها بعض التخلي لصالح سلطة قوى إضفاء الديمقراطية وكذلك، وفي الوقت نفسه، خطوة مناهضة لها. والواقع أن استعمال أشكال الخطاب الذي أضفيت عليه الديمقراطية - مثل استبعاد الدلائل السافرة على عدم التناظر من الخطاب، واستبعاد الطابع الرسمي، والاقتراب من الأرض المشتركة للمحادثة - يدل دلالات مضمرة على طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة عمليا، وهي دلالات من المحال الإبقاء عليها إن كان إضفاء الديمقراطية مصطنعا، وقد تكون النتيجة تناقضا في الممارسة الخطابية بين أشكال الخطاب الديمقراطي ومضمونه، وهكذا فقد يغدو هذا ساحة للصراع.
وهكذا فقد تشتبك هذه الاتجاهات مع عمليات الصراع داخل الممارسات الخطابية وحول هذه الممارسات التي يمكن اصطباغها بألوان مختلفة. فإلى جانب الإمكانية التي أشرت إليها في الفقرة الأخيرة، أي إمكانية الاستيلاء عليها وقلبها رأسا على عقب، توجد فرصة مقاومتها ورفضها، أو قبولها وتهميشها. وإذا نظرنا إلى هذه التقنيات في إطار عمليات إضفاء التكنولوجيا على الخطاب، وجدنا أن هذه الاتجاهات تؤدي إلى ضروب بالغة التنوع من أشكال الخطاب المختلطة أو المهجنة، حيث تنشأ «حلول وسط» توفق بينها وبين الممارسات الخطابية التقليدية غير المسلعة وغير الديمقراطية. وقد سبق لي تحليل نص بطاقة الائتمان «باركليكارد» من هذه الزاوية. ومن مبررات اتخاذ مدخل إلى تحليل الخطاب يركز على التناص وعلى التداخل الخطابي، ويرتبط بأفكار معينة مثل عدم تجانس الخطاب والتباس معناه، أن نظم الخطاب المعاصرة حافلة بأمثال هذه النصوص المهجنة.
ومع ذلك فإن التركيز هنا لا يزال منصبا إلى حد كبير على إضفاء التكنولوجيا، حتى ولو تأكدت مقاومتها، إذ لا يزال الافتراض السائد يقول بوجود عمليات اجتماعية وخطابية مركزة نسبيا. ونجد في مقابل هذا تأكيدا في الدراسات المنشورة عن مذهب ما بعد الحداثة للقول بانهيار الهيكل الاجتماعي، الأمر الذي يوحي بتفسير مختلف بعض الشيء لعمليات التغيير الخطابي الجارية الآن. ومن شأن هذا التفسير أن يؤكد تفتيت النظم المحلية للخطاب التي أشرت إليها عاليه، باعتبار ذلك بعدا خطابيا لضرب من ضروب تفتيت النظام الاجتماعي. ومن شأنه أيضا أن يوحي بالنظر إلى العمليات التي أشرت إليها عاليه (قائلا إنها من قبيل إضفاء الديمقراطية) باعتبارها «تفتيتا»، أي بوصفها سلسلة مما يسميه جيمسون (1984م) «حالات طمس الاختلاف»، ويعني بهذا التعبير انهيار فواصل التمييز وحواجزه، من دون الإيحاء بأن حالات الانهيار المذكورة مجرد نواتج لاتجاهات التوحيد على مستويات أخرى، سواء كانت نحو إضفاء الديمقراطية أو التكنولوجيا. وقد تتضمن حالات طمس الاختلاف المشار إليها إزالة الحواجز بين المستويات المعتمدة وغير المعتمدة للغة، وقد توحي بعكس عمليات التوحيد التي كانت ولا تزال تمثل معلما رئيسيا من معالم المجتمع الحديث. ومن هذا المنظور تبدو التحليلات التي أوردتها حتى الآن حالات مبالغة في تفسير التغيير، ما دامت تقوم على افتراضات خاصة بعقلانية العمليات الاجتماعية وطابعها المركزي، وهو ما لم يعد يتحقق في المجتمعات المعاصرة.
الخاتمة
قدمت في الواقع ثلاثة تفسيرات مختلفة للاتجاهات التي حددتها، وهي تفسيرات تقول بوجود استعمار ذي خط واحد، وصراع على الهيمنة، والتفتيت، وكل تفسير يوحي ضمنا بنموذج خاص من نماذج الممارسة الخطابية، والقول بوجود استعمار وحيد الاتجاه يعني ضمنا وجود نموذج «شفري» للممارسة الخطابية. والصورة الكلاسيكية للنموذج الشفري يفترض وجود نظام محلي مستقر للخطاب، ووجود أعراف «مطبعة» تتحقق أمثلتها المعيارية في الممارسة، أي إن الممارسة تتبع المعايير وحسب، ولكن الاستعمار ذا الخط الواحد يعني ضمنا كذلك وجود نموذج شفري، وإن كانت الشفرات في هذه الحالة التي تتبع فيها معياريا تتعرض من جانب معين إلى التشكيل من الخارج من خلال استعمار تكنولوجيات الخطاب لها.
صفحه نامشخص