وترجمة لغة الوثائق الرسمية المكتوبة إلى صورة من صور الكلام الشائع مثال واحد وحسب للترجمة الأعم الأشمل للغة «الجماهيرية» - مكتوبة أو منطوقة - إلى اللغة «الشخصية»، وهذا تحول لغوي يعتبر في ذاته جزءا من إعادة صوغ العلاقة بين المجال الجماهيري للأحداث السياسية (والاقتصادية والدينية) والقوى الاجتماعية، وبين المجال الشخصي، مجال عالم الحياة، والخبرة المشتركة. فلقد ظهر الاتجاه أخيرا إلى تحويل الأحداث «الخاصة» والأفراد (مثل حزن الأقارب على فقدان ضحايا حادث ما) إلى مادة جديرة بأن تصبح أخبارا في بعض أجهزة الإعلام على الأقل، وقد بدأ هذا الاتجاه ينتقل من الصحافة الشعبية إلى أخبار التليفزيون على سبيل المثال. وعلى العكس من ذلك نرى أن أجهزة الإعلام بدأت تتناول الحياة الشخصية للأفراد والأحداث في الحياة العامة. وفيما يلي مثال من الصحافة البريطانية (صحيفة
صنداي ميرور
28 مارس 1980م):
الصورة التقليدية لرئيس الخدم في أحد القصور الملكية تجعله شخصية عامة، وإن تكن هامشية، من حيث دوره ووظيفته، لا باعتباره فردا، ولكن صوت رئيس الخدم في القصر الملكي في هذه الحالة صوت الكلام الشائع، سواء في الخطاب المباشر الذي يمثله في آخر المقالة أو في الإشارة إلى أنه يلبس حذاء رياضيا. وترجمة (هذه الشخصية العامة) إلى المجال الخاص للأفراد العاديين يؤكدها تعبير مثل «يترك عمله» بدلا من «يستقيل من منصبه». ويتضح في الوقت نفسه نقل أفراد الأسرة المالكة أنفسهم إلى المجال الخاص ذو المغزى الأكبر؛ إذ يشار إلى الأميرة ديانا في جميع الصحف الشعبية بالمقطع الأول من اسمها (وهو «داي») وإن كان ذلك لا يستخدم في الحياة اليومية إلا بين أفراد الأسرة والأصدقاء، وهو ما يوحي بأن الأسرة المالكة تشبهنا في استعمال أمثال هذه الأسماء المختصرة، وبأننا (الصحفيين والقراء) نستطيع أن نشير إلى ديانا بالصورة المختصرة، «داي»، كأنما تربطنا بها علاقة ود وثيقة. والمعاني المضمرة في هذا الاستخدام الشائع للاسم المختصر تجد التعبير الصريح عنها في بقية الخبر، في الألفاظ المنسوبة لرئيس الخدم إذ يقول: إنها «لطيفة»، و«عادية»، و«متواضعة» و«طبيعية».
ويشير كريس (1986م) إلى إعادة بناء مماثلة في الصحافة الأسترالية للحدود التي تفصل العام عن الخاص. وهو يبين التضاد بين صورتين من صور التغطية الصحفية للخبر الخاص بإلغاء تسجيل «اتحاد عمال البناء» أي سلبه حصاناته النقابية؛ إذ تعامل إحدى الصحف هذه الحادثة باعتبارها حدثا عاما (أي جماهيريا) وتعالجها الصحيفة الأخرى باعتبارها حدثا خاصا (أي شخصيا) مركزة على الشخص وعلى شخصية رئيس الاتحاد نورم جالاجر. ويتضح التضاد في الفقرتين الافتتاحيتين للمقالتين.
ونرى هنا، من جديد، أي إعادة رسم الحدود بين العام والخاص تتضمن الأسلوب مثلما تتضمن المادة، مثل استخدام الاسم الأول والزمن المضارع في العنوان، والتعليق الفظ في العبارة المنسوبة إلى جالاجر.
وتلعب أجهزة الإعلام دورا مهما في مجال الهيمنة؛ فهي لا تعيد إنتاج العلاقة بين المجالين العام والخاص فقط، بل تعيد بناءها أيضا، والاتجاه الذي حددته هنا يتضمن تفتيت التمييز بينهما؛ بحيث تختزل الحياة العامة والخاصة في نموذج للفعل الفردي والدافع الفردي، بل وفي نموذج للعلاقات القائمة على ما يفترض أنه الخبرة الشائعة في الحياة الخاصة. وأهم عامل في تحقيق ذلك هو إعادة البناء في داخل نظام الخطاب الخاص بالعلاقات بين «الكلام الشائع» وشتى أنماط الخطاب العام الأخرى.
كنت قد بدأت هذه المناقشة بالتركيز على التمثيل الخطابي باعتباره شكلا من أشكال التناص - أي كيف يتضمن أحد النصوص أجزاء من نصوص أخرى - ولكن المناقشة اتسع نطاقها فامتدت إلى النظر في كيفية تكوين الخطاب الإعلامي في صحيفة مثل
ذا صن ، من خلال الربط الخاص بين أنماط الخطاب، والعمليات الخاصة للترجمة فيما بينها، وهو ما يمكننا أن ندعوه «المركب الخطابي» أو «التناص المكون» للخطاب الإعلامي. ففي النص الخاص بسوء استخدام العقاقير نجد أن الترجمات إلى الكلام الشائع تتعايش مع المقتطفات المباشرة من الوثيقة الحكومية، وإن كان الأول قد منح مكان الصدارة في العناوين وفي الفقرة الافتتاحية. وعلى الرغم من التنوع في أجهزة الإعلام واشتمالها على ممارسة منوعة للتمثيل الخطابي وشتى أنساق المركبات الخطابية، فإن الاتجاه السائد هو الجمع بين أنماط الخطاب العامة والخاصة بهذه الطريقة.
العينة الثانية: «دليل حامل البطاقة الائتمانية إلى باركليكارد»
صفحه نامشخص