وسوف أقول أنا بأن الأيديولوجيات تمثل معاني/تفسيرات للواقع (العالم المادي، والعلاقات الاجتماعية، والكيانات الاجتماعية) وأنها بهذا المفهوم راسخة في أبنية شتى الأشكال/المعاني الخاصة بالممارسات الخطابية، وأنها تسهم في إنتاج علاقات السيطرة أو إعادة إنتاجها أو تحويلها (ويشبه هذا موقف طومسون (1984م، 1990م) القائل بأن بعض استعمالات اللغة وغيرها من «الأشكال الرمزية» ذات طابع أيديولوجي، أي إنها تؤدي، في ظروف معينة، إلى إنشاء علاقات السيطرة أو الحفاظ عليها). وتحقق الأيديولوجيات القائمة داخل الممارسات الخطابية أقصى تأثير لها عندما «تطبع» (أي عندما تبدو طبيعية) وتصطبغ بصبغة «المنطق السليم»؛ ولكننا ينبغي ألا نبالغ في تقدير هذه الخصيصة الثابتة الراسخة للأيديولوجيات؛ لأن إشارتي إلى «التحول» تعني وجود الصراع باعتباره بعدا من أبعاد الممارسة الخطابية؛ فهو صراع يرمي إلى إعادة تشكيل الممارسات الخطابية والأيديولوجيات القائمة في داخلها، في سياق إعادة هيكلة علاقات السيطرة أو تحويلها. فإذا حدث ووجدنا استعمال ممارسات خطابية متضادة في مجال ما أو مؤسسة ما، فإنه من المحتمل أن يكون جانبا من جوانب هذا التضاد أيديولوجيا.
وأنا أقول: إن اللغة تصطبغ بالأيديولوجيا بطرائق منوعة وعلى مستويات متفاوتة، وإننا لسنا مضطرين إلى أن نختار «موقعا» من بين عدة «مواقع» للأيديولوجيا، فلكل موقع ما يبرره جزئيا فيما يبدو، وليس من بينها ما يبدو مرضيا تماما (انظر فيركلف، 1989م، ب، حيث أتحدث بتفصيل أوفى عن الموقف الذي أتخذه هنا). والقضية الرئيسية هي إن كانت الأيديولوجيا من خصائص الأبنية أم من خصائص الأحداث، والإجابة تقول: إنها من خصائص هذه وتلك. والمشكلة الرئيسية، كما سبق أن ذكرت في مناقشتي للخطاب، أن نعثر على شرح مرض لجدلية المباني والأحداث.
وتقول بعض الشروح: إن الأيديولوجيا من خصائص المباني، مبينة أنها تكمن في شكل من أشكال الأعراف التي تقوم عليها اللغة، سواء كان ذلك «شفرة»، أو «بناء»، أو «تشكيلا» معينا. ومن مزايا هذا الشرح إبرازه لقيود الأعراف الاجتماعية المفروضة على الأحداث، ولكن من عيوبه ما سبق لي أن أشرت إليه، أي الميل إلى عدم التركيز على الحادثة استنادا إلى افتراض أن الأحداث مجرد نماذج للمباني، وتحبيذ منظور إعادة إنتاج الأيديولوجيا لا تغييرها، والميل إلى تصوير الأعراف في صورة مبالغ فيها لخضوعها الواضح للقيود. ويمثل هذا موقف بيشوه في أعماله الأولى. ومن أوجه الضعف الأخرى في «الخيار البنائي» أنه لا يعترف بأولوية نظم الخطاب على أعراف خطابية محددة؛ أي إن علينا أن نعمل حسابا للصبغة الأيديولوجية المضفاة على (أجزاء من) نظم الخطاب، لا مجرد أعراف فردية، وإمكانية وجود صبغات أيديولوجية متنوعة ومتناقضة. ومن البدائل عن خيار البناء تصور وجود الأيديولوجيا في الحادثة الخطابية، وتأكيد الأيديولوجيا باعتبارها عملية، وتحولا ووسيلة، ولكن هذا يمكن أن يؤدي إلى توهم كون الخطاب عمليات تشكيل طليقة، إلا إذا صاحب ذلك تأكيد نظم الخطاب في الوقت نفسه.
ولدينا أيضا النظرة النصية إلى موقع الأيديولوجيا، وهي التي نجدها في علم اللغة النقدي، وتقول: إن الأيديولوجيات توجد في النصوص. وإذا كان صحيحا أن أشكال النصوص ومضمونها تحمل انطباع العمليات والأبنية الأيديولوجية (بمعنى أن النصوص تحمل آثارها)، فليس من الممكن استنباط الأيديولوجيات من النصوص. وذلك، كما سبق أن ذكرت في الفصل الثاني؛ لأن المعاني تستنبط من خلال تفسيرات النصوص، والنصوص تقبل تفسيرات منوعة قد تتفاوت في مفادها الأيديولوجي، ولأن العمليات الأيديولوجية تنتمي لضروب الخطاب باعتبارها أحداثا اجتماعية كاملة - فهي عمليات تدور بين الناس - وليست مجرد نصوص تمثل لحظات داخل هذه العمليات. وأما الزعم بالقدرة على اكتشاف العمليات الأيديولوجية استنادا إلى تحليل النص وحده فإنه يصطدم بالمشكلة التي أصبحت مألوفة الآن في علم الاجتماع الإعلامي، وهي أن «المستهلكين» (من قراء ومشاهدين) يتمتعون، فيما يبدو، بحصانة تامة إزاء آثار الأيديولوجيات التي يفترض وجودها «داخل» النصوص (مورلي، 1980م).
وأنا أفضل الرأي القائل بأن الأيديولوجيا قائمة داخل الأبنية (أي نظم الخطاب) التي تكون حصاد أحداث الماضي وظروف الأحداث الجارية، وداخل الأحداث أنفسها أثناء إعادة إنتاجها وتغييرها لصياغتها للأبنية. فهي توجه تراكمي مطبع راسخ في داخل المعايير والأعراف، وكذلك عمل لا يتوقف في تطبيع مثل هذه التوجهات في الأحداث الخطابية ونقض هذا التطبيع.
ومن الأسئلة المهمة الأخرى عن الأيديولوجيا سؤال يقول: ما معالم النص والخطاب أو مستوياتهما التي تصطبغ بصبغة أيديولوجية؟ من المزاعم الشائعة القول بأن «المعاني» وخصوصا معاني الألفاظ (وهو ما يقال أحيانا إنه «المضمون»؛ تمييزا له عن «الشكل») هي التي تحمل الأيديولوجيا (مثل طومسون، 1984م). ومعاني الألفاظ مهمة، بطبيعة الحال، ولكن الأهمية تنسب أيضا لجوانب أخرى من المعنى، مثل الافتراضات السابقة (انظر الفصل الخامس) والاستعارات (انظر الفصل السادس) ومثل ترابط المعنى. وقد سبق لي أن أشرت في القسم السابق إلى مدى أهمية ترابط المعنى للتكوين الأيديولوجي للذوات.
والواقع أن إقامة تضاد صارم بين «المضمون» أو «المعنى» وبين الشكل، أمر مضلل؛ لأن معاني النصوص ترتبط ارتباطا وثيقا بأشكال النصوص، وبعض المعالم الشكلية للنصوص، على مستويات منوعة، قد تكون ذات صبغة أيديولوجية. فعلى سبيل المثال نجد أن تصوير حالات التدهور الاقتصادي وشيوع البطالة باعتبارها تشبه الكوارث الطبيعية قد يتضمن تفضيلا لأبنية الجمل (ذوات الأفعال) اللازمة على الأبنية (ذوات الأفعال) المتعدية. قارن هذه العبارة «العملة فقدت
1
قيمتها والملايين عاطلون» بالعبارة التالية «المستثمرون يشترون الذهب، والشركات فصلت الملايين» (وانظر الفصل السادس؛ حيث أشرح هذين المصطلحين). ونجد على مستوى آخر أن نظام التناوب في الحديث داخل قاعة الدرس أو أعراف التأدب بين السكرتيرة والمدير، تدل على وجود افتراضات أيديولوجية معينة حول الهويات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين المعلمين والتلاميذ، وبين المديرين وأفراد السكرتارية. وسوف أقدم نماذج أخرى ذات تفصيلات أكبر في عينات النصوص الواردة في الفصول 4-6، بل إن بعض جوانب الأسلوب قد تكون ذات صبغة أيديولوجية؛ راجع تحليلي (في الفصل الرابع) حيث أبين كيف أن أسلوب الكتيب الذي نشرته وزارة التجارة والصناعة يسهم في تكوين صورة «الذات المبادرة» (أو ذات «الهمة») باعتبارها نمطا من أنماط الهوية الاجتماعية.
وينبغي ألا نفترض أن الناس على وعي بالأبعاد الأيديولوجية لممارساتهم، فالأيديولوجيات التي تتحول إلى جزء لا يتجزأ من الأعراف قد تصبح إلى حد ما مطبعة وذات صبغة تلقائية، وقد يصعب على الناس أن يدركوا أن ممارساتهم المعتادة قد تتخذ لها صورا أيديولوجية محددة. وحتى حين تقبل ممارسة المرء تفسيرها بأنها تمثل مقاومة وتسهم في التغيير الأيديولوجي، فالمرء لا يعي بالضرورة وبالتفصيل مفادها الأيديولوجي، ونستطيع أن نقيم الحجة على إمكان الأخذ بأسلوب من أساليب تعليم اللغة يؤكد الوعي النقدي بالعمليات الأيديولوجية في الخطاب، بحيث يزداد وعي الناس بممارستهم، ويزداد انتقادهم لضروب الخطاب المثقلة بالأيديولوجيا التي تفرض عليهم (انظر كلارك، وآخرون، 1988م، وكتاب فيركلف تحت الطبع، أ).
صفحه نامشخص