وحين وصلت البيت أشفق علي السائق ذو النوايا الطيبة فحملها عني إلى شقتنا، وقلت لأبي: إنها ملابس فريق المرشدات التي اشتريتها لهن يومها. وما دخلت حجرتي وأغلقت الباب ووضعت الحقيبة تحت الفراش حتى رقدت فوقه وقضيت هكذا ثلاث ساعات.
وإذا كان لكل إنسان نقطة يتحول عندها مجرى حياته، فهاته الساعات الثلاث حولت مجرى حياتي.
حقيقة كان لي اهتمام دائم بالمسائل العامة؛ فحين كنت في الكلية كنت أسهم في كل أوجه النشاط بقسم وافر حتى رشحت نفسي في انتخابات الاتحاد مرة، ولكن زميلاتي الطالبات لم ينتخبنني على اعتبار أن ترشيحي ما هو إلا «تقليعة» و«لفت نظر» لا أكثر ولا أقل، حتى السياسة كنت أهتم بها وأتابع أخبارها ولكن الاهتمام شيء والإيمان شيء آخر، واهتمامي بهذه الأمور كان فقط محاولة مني لأثبت للرجال أنني لست أقل منهم، وهكذا كانت صلتي بلجنة المدرسات وصلتي بلجنتكم، لم أكن أؤمن إلا بك أو بالأحرى بتمسكي بك، أما القضية وعملك وكفاحك فكان سواء لدي أن تكون مسئولا عن معسكر التدريب أو مدرسا زميلي أو حتى طالبا، إلى أن كان ذلك اليوم الذي واجهت فيه حقيقة ما تكافح أنت من أجله، وكانت حقيقة هائلة.
فلم يكن ما تقوم به مجرد عمل ككل الأعمال بل كان كفاحا رهيبا من أجل غيرك، ولم تكن تختفي ليطاردك البوليس وتستعذب المطاردة والمغامرة ولكنك تفعل هذا لتكمل دورك من أجل وطننا. اكتشفت أنك أنت مهتم بالقضية الكبيرة قضيتنا كلنا، وأنني فقط مهتمة بذلك الهدف المحدود: علاقتي بك؛ مهتمة بنفسي.
والإنسان يظل يمضي في الحياة مؤمنا بما شب عليه وتعلمه من أفكار وفلسفات ومبادئ دون مناقشة للأسس التي يقوم عليها إيمانه، إلى أن يحدث حادث مثل أن يمرض بالسل نتيجة حياة كلها سهر وعربدة، أو يقترف جريمة ويقبض عليه، حين يقع ويشعر أنه يهوي يبدأ حينئذ فقط في مراجعة الخطوط العريضة لحياته وتأمل إيمانه والتشكك في أفكاره وفلسفته وآرائه وتحميلها وزر ما اقترف، أو قد لا يشك في نفسه وإنما يظل مغمض العينين يعتبر أن ما حدث له كان قسمة ونصيبا وكان مكتوبا، وأن الدنيا والحظ هما السبب، وقد أدركت ليلتها أنني دلفت إلى مهاوي ما كنت أعتقد أبدا أن فوزية التي أثق فيها وأؤمن بها تدلف إليها.
وأخذت أتفحص حياتي وأتوقف عند تصرفاتي وأراجع علاقاتي بالناس، وإحساساتي الداخلية التي لا يطلع عليها أحد سواي، والطريقة التي أحدد بها مواقفي من الشرف والخيانة وأقيس بها ما يصح وما لا يصح والفارق بينهما، وأدركت بعد هذا كله أن الحقيبة قد أنقذت بمعجزة، وأن الطريق الذي كنت أمضي خلاله في الحياة كان يحتم أن أترك الحقيبة وأهرب من مسئوليتها؛ لأني كنت لا أفكر إلا في نفسي وذاتي وسلامتي، ولا أفكر فيما أقوم به من عمل قدر تفكيري فيما يعود علي بالنفع من هذا العمل، وبعض الناس لا تبدو أنانيتهم في نظرهم شذوذا ولا قبحا، والبعض الآخر يدري، ولكنه يتعامى حتى إذا ما واجه ذاته ورأى فيها الأنانية مجسدة فلا بد أن يستبشع تلك النفس، ولا بد ستتفتح عيناه على حقائق ما كان يراها كفرد لا يؤمن إلا بنفسه ولا تتعدى نظرته حياته هو ورغائبه فقط، سيرى حينئذ الناس والعالم والقيم والمسئولية من زاوية جديدة.
وكنت أنا الأخرى وكأني ظللت مغمضة العينين طوال حياتي، ثم فتحت عيني لأجد نفسي وسط شعب كادح عريق، كنت أراه كل يوم ولا أحفل به ولا أفكر فيما يمكن أن يكون مصيره، ولأجد السائق العجوز الطيب الذي كدت أقتله، ولأجد أبناء الشعب من أمثالك أنت وحسن وسعد والآخرين، شبان في صلابتهم فولاذ يعملون من أجل الناس الذين أمر أنا بهم مرور الكرام وأتسلى على حسابهم، وأعشق شبابا ورجالا آمنوا بالغوغاء والحفاة والمظلومين جميعا وعقدوا العزم على أن يذيقوهم السعادة وهم أحياء.
وأخذت كلمات كنت أسمعها منك ولا أعيرها التفاتا تومض أمامي وتأخذ بيدي، ولأول مرة فهمت أن النظريات التي كنت أقرؤها في الكتب لم تكتب فقط من أجل أن يقرأها الناس وإنما هي تعبير عن واقع علمي موجود وملموس يأبى بعض الناس لسبب أو لآخر أن يراه. فهمت أن المجتمع الذي أوجد فيه ما هو إلا جسد حي كبير وما أنا إلا خلية من ملايين خلاياه، ولا حياة لي إلا داخل ذلك الجسد أردت أم لم أرد، ولا أستطيع أن أعمل غير ما يعود عليه بالنفع وإلا نبذني وتخلص مني ومت.
ومقياس حياتي ليس هو ما أنعم به في لحظات حاضري؛ لأن تلك الحياة تموت معي وتفنى، إنما المقياس الصحيح هو ما أقدمه لذلك الجسد؛ لأن ما أقدمه سيحيا مع المجتمع طالما المجتمع حي وسأحيا معه أنا الأخرى. إنكم وأنتم تفنون من أجل الناس لا تفنون، وإنما الذين يقولون: أنا، وحياتي، والمحافظة على كياني وعمري، ومصالحي، هم الذين يموتون، أنتم تربطون وجودكم بوجود مجتمع سيظل قائما أبدا، ووجودهم الموقوت المحدود إذا قيس بكم يعد لا وجود، ولن أحكي بقية ما فكرت فيه، فقط أقول لك: إنني أدركت أني ضللت الطريق ومشيت في درب يؤدي إلى خارج الجسد الحي الكبير، ويقودني في النهاية إلى داخل نفسي الضيقة المحدودة ودائرة رغباتها الصغيرة لأجف فيها وأموت.
وكنت أنت بعد الثلاث الساعات مثلما كنت دائما قائدي في ذلك الطريق الجديد، اعتزمت أن أضع يدي في يدك وأتعلم، وأكبو ثم أنهض لأواصل المسير.
صفحه نامشخص