ما إن أصبحت في العربة وحدي مع الحقيبة، أي ما إن دخلت بها بعيدا عنك وراء الكواليس حتى انتابني شعور مفاجئ بالخوف من أن تكون الحقيبة فيها ديناميت حقا؛ إذ إنني بيني وبينك كنت لا أعتقد في صحة محتوياتها «وكأنك أنت الآخر تمثل»! فوضعتها فورا على الكرسي وفتحت أقفالها ومددت يدي ووجدت تلك القوالب الصغيرة المرصوصة، وتخيلت أنها لا بد حجارة أو طوب مثلا، واستخرجت واحدا منها وضغطت عليه وشممته فوجدته مادة غريبة لم تصادفني في حياتي ولا شممت رائحة مثل رائحتها أبدا، وأغلقت الحقيبة في الحال وجلست أرتعش وأنظر إليها وأحس بوحدتي معها في العربة وكأنني طفل أدخل نفسه من بين الحديد في قفص الأسد، وكان أول ما خطر لي أن أتخلص منها مباشرة، أما كيف فلم أجد لي عقلا أفكر به.
وأمرت السائق أن يغير من اتجاهه وييمم ناحية النيل لتتاح لي فرصة للتفكير، وظللت أرتعش وأفكر حتى وصلنا إلى الجيزة، وكنت قد اهتديت لطريقة كانت مثلى في نظري: أغير العربة وأذهب بأخرى إلى شارع فؤاد وأقف بها أمام عمارة من العمارات التي لها بابان، وأنزل وأقول للسائق انتظر لحظة، وأدخل من باب وأخرج من باب آخر، وفعلا وصلت بي العربة أمام الأمريكين، وهبطت منها والسائق ضامن أني سأرجع؛ إذ حقيبتي كانت لا تزال في عربته، ودخلت من الباب الرئيسي وخرجت من الباب الذي على الشارع الجانبي.
وأسرعت في المشي.
ولن تتصور يا حمزة كثرت الأشياء التي فكرت فيها في هذه الدقائق القليلة، كنت أنت أول من خطر لي بوجهك ولحيتك ونظارتك وابتسامتك الهادئة التي لا تثور والتي لا تفارقك، وحجرتك في سطوح أعلى عمارة في شارع المبتديان، وملاءة سريرك السفرى التي بليت من الوسط فقطعت ثم وصلت حتى تصبح الأجزاء البالية إلى الخارج، والمنضدة الصغيرة التي في ركن الحجرة وأدراجها وما فيها من أوراق لا أسرار فيها، وصورة أخيك وهو يرتدي بالطو وجلابية وطربوشا والتي كتب على ظهرها بخطه: إلى شقيقي العزيز الأستاذ حمزة، ثم بيتا من الشعر عن المحبة الدائمة والإخلاص المقيم. وفانلتك القديمة التي فيها خروق كثيرة والتي كنت على ما يبدو تستعملها منفضة، وكتبك المتراكمة في كل مكان بالحجرة، وجهاز الراديو المصنوع صناعة محلية، ولعلك أنت الذي صنعته ووضعته في صندوق من الأبلكاش الأغبر، والخطاب الذي كتبه لك أخوك على لسان أبيك يقول لك فيه: إن أمك صحتها «مش ولا بد»، وأنها باستمرار تشتكي من المغص وتدوخ وعندها صداع دائم. وصورتك مع دفعتك وقد وضعت فوق رأسك علامة
x ، وفردة الشبشب المقطوعة المهملة التي تحت السرير، والجوابات الغرامية التي حاولت إخفاءها أسفل الجريدة التي فرشت بها درجة المنضدة التي تقول لك فيها «المخلصة
L » تقول أواه حمزة، ومنظرك يوم قابلتني مشمرا بنطلونك وجوربك ممزق وفيه طين، ثم وأنت تهز رأسك في إصرار وتقول: شعبنا ده فيه مقاومة لا يمكن تصورها.
ثم تبينت فجأة أني هاربة كاذبة مخادعة لئيمة، خنتك وأنت الذي أوليتني كامل ثقتك، وليس ذلك كل ما تبينت فلأول مرة منذ عرفتك فكرت في هذه الثواني بالذات في القضية التي تدافع عنها أنت دفاع المستميت، تصورت كم من الجهد بذلت لتشتري الديناميت وتخفيه ثم تعود وتأخذه، وكم من النقود أنفقت وكم من المرات عرضت فيها نفسك للقبض والموت والنسف، وتصورت كم ضحيتم لتهيئوا الناس للكفاح وتقيموا المعسكر وتدربوا وتعدوا بلادنا للوقوف في وجه العدو، وتصورت حسن الخشن وهو يعزم علي بالشاي وقد قبض عليه، وأولاد 6 مارس الذين ماتوا وعلى أفواههم بسمات، والخمسين عسكريا الذين قتلوا في مذبحة المحافظة، وأقسم لك يا حمزة أنني انتفضت في الشارع حين فكرت في كل هذا وأيقنت أنني أنا التي تطوعت مختارة لأخفي الحقيبة، وأنني أنا التي تقوم بهذا الدور القذر وتريد التخلص منها وحرمانكم جهود أيام وليال وحرمان شعبي من سلاح من أسلحته، وكأنني جاسوسة من جواسيس الأعداء، ولا يمكن أن تتخيل مبلغ الاحتقار الذي شعرت به لنفسي ولتفكيري.
ولو كنت متأكدة أنني سأموت ما كنت ترددت فيما فعلته حين استدرت وعدت أجري وألهث، ودخلت من الباب وخرجت من الباب الآخر ووجدت السائق يبحث عني بعينين زائغتين، فركبت وقلت له: شارع خيرت.
وحين استقر بي المقام داخل العربة شعرت كأنني أفقت من كابوس مزعج، وبدأت أتصور مبلغ جريمتي لو كنت قد تركت الحقيبة في العربة؛ إذ فضلا عما فكرت فيه ألم يكن من المحتمل أن يعتقد السائق أن فيها ملابس أو أشياء ثمينة فيأخذها إلى بيته ويفتحها ويخطئ فتنفجر وتنسف البيت بمن فيه؟ ألم يكن من المحتمل أن يأخذها إلى القسم وتقع أو ترمى فتقتل عشرة أو عشرين أو مائة من الأبرياء؟
وظللت أحدق في ظهر السائق السمين العجوز الطيب وأفكر فيما كان ينتظره، وأزداد حقدا على نفسي واشمئزازا منها.
صفحه نامشخص