أقول: إنني طالما تمنيت أن أنقلها إلى العربية، وطالما تصورت أنني أنقل هذه القطعة أو تلك - مثل خطبة أنطونيو في أهالي روما بعد مقتل قيصر، أو تصوير غضبة الطبيعة قبيل مقتله - وطالما أحسست بصعوبة العمل وتمنيت أن تكتمل عدتي الأدبية يوما ما فأتصدى واثقا لهذا النص العسير، وإذا كنت لا أدعي اليوم أن عدتي قد اكتملت، فإنني أشعر أن العديد من التجارب التي خضتها في الكتابة المسرحية، نثرا وشعرا،
2
وفي الترجمة الأدبية، نثرا وشعرا،
3
أقدر على «مواجهة» هذه البلاغة عما كنت عليه عندما ترجمت «حلم ليلة صيف» (1964م)، أو «روميو وجوليت» (1965م) نثرا بالعربية المعاصرة. أو «الفردوس المفقود» (1982-1986م) بأسلوب عربي يضارع الأسلوب الذي استخدمه ملتون (
Grand Style ) أو حتى عندما ترجمت روميو وجوليت مرة ثانية عام 1985م (دار غريب للطباعة) ترجمة تجمع بين الشعر والنثر، مما حفزني إلى ترجمة تاجر البندقية شعرا من البداية للنهاية في أواخر الثمانينيات (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988م).
وقد شرعت، بعد انتهائي من ترجمة تاجر البندقية، في الاستعداد لترجمة هذه المسرحية. فذكرت أنني رأيت لها ترجمة عربية رصينة، قرأت بعضا منها في منزل أستاذي الدكتور عبد الحميد يونس أثناء معاونتي له - رحمه الله - وأنا بعد أخضر العود في ترجمة مسرحية أخرى لشيكسبير هي طرويلوس وكريسيدا في صيف عام 1959م. وذكرت أن الدكتور يونس كان معجبا بها أيما إعجاب، وكنت أقرأ له منها أقساما تبهرنا بجزالتها ورصانتها، وكثرة مائها ورونقها وخلوها - كما يقول أبو هلال العسكري صاحب الصناعتين - من أود التأليف وعوج التركيب . وذكرت أيضا أنه كان ينصحني باتباع منهج مترجم هذه المسرحية، وهو الأستاذ محمد حمدي، لنجاحه في تحاشي رطانة الترجمات الحديثة وركاكة المترجمين الذين كانوا آنذاك (وما زالوا حتى يومنا هذا) يلتزمون بحرفية النص بدعوى الأمانة.
وعندما ذكرت تلك الترجمة بدأت أتساءل عن جدوى إخراج ترجمة جديدة، فاستشرت صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد في الموضوع، وطلبت منه أن يقطع لي برأي؛ فهو مرجع أستند إليه في شئون الأدب الإنجليزي الحديث والأدب المقارن والترجمة جميعا، وهو ناقد ذو إحاطة موسوعية لا تتأتى للكثير من أبناء هذا الجيل، فلم يلبث أن أعارني نسخة لديه من تلك الترجمة القديمة (ليس عليها تاريخ الصدور)، وترجمة أخرى قام بها الأستاذان عبد الحق فاضل، ومصطفى حبيب، وصدرت في سلسلة ترجمات شيكسبير عن الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية عام 1973م، ولم أكن قد اطلعت عليها من قبل. وعندما أعدت قراءة نص محمد حمدي عاودني الإعجاب القديم، وكاد يصيبني اليأس من المضي في المشروع، ثم جعلت أقارن بين النص العربي والنص الإنجليزي فوجدت ما أعاد إلي الأمل ودفعني إلى التفكير في الموضوع الذي كنت طرقته من قبل في مقدمات ترجماتي الأدبية تفكيرا مركزا وعميقا - ألا وهو مناهج الترجمة الأدبية.
وطوال صيف عام 1988م واصلت الجهد الذي كنت بدأته من سنين في تحليل بلاغة اللغة العربية القديمة منها والمعاصرة، مستندا إلى ما أبدعه جيل أساتذتنا ورفقاء جهودنا اللغوية والأدبية من المتخصصين في اللغة العربية، محاولا أن أضع يدي على «نوع» التطور الذي شهدته بلاغة هذه اللغة، فأعدت قراءة كتابات شوقي ضيف، وشكري عياد، وإبراهيم أنيس، ومحمود حجازي، وعبد الحكيم راضي، وسواهم، ثم عدت إلى نصوص اللغة العربية المعاصرة منذ هيكل وطه حسين، ثم نجيب محفوظ وحتى المحدثين من كتاب الرواية، وأمامي وورائي يمتد تراث العربية الزاخر الذي نشأت في كنفه، حتى انتهيت إلى «نظرة» لا تبلغ حد «النظرية» أعانتني في إدراك أبعاد المشكلة، وتلك أول خطوة على طريق الحل. ولا أريد أن أشغل القارئ بتفاصيل هذه «النظرة»، فما أحسبها جديدة كل الجدة ، ولقد بسطتها بسطا وافيا في دراسة كتبتها بالإنجليزية عن تطور لغة الرواية العربية عند نجيب محفوظ بعنوان
Novel Rhetoric
صفحه نامشخص