وإنما الخلو من الألم شرط لكل استمتاع بشيء من الأشياء حتى ما كان من قبيل المتعة المادية؛ إذ كان الألم على الأقل صارفا للشعور عن سبيل المتعة، إن لم يكن مناقضا للشيء المضحك أو للشيء الجميل أو للشيء الجليل.
ونضرب المثل لذلك بإنسان مشوه ينظر إليه صاحب الإحساس المرهف فيدرك ما يعانيه، وينظر إليه الطفل الغر أو الرجل الجلف فيهزأ به أو يولع به للضحك منه وإضحاك الناس عليه.
فلا يجوز أن تفهم من ذلك أن الرجل الحساس غير صالح للضحك وغير خبير بالمضحكات؛ لأنه قد يحس منها ما يجهله الأطفال الأغرار والرجال الأجلاف، بل يجوز أن نقول إن الطفل الغر والرجل الجلف لا يعرفان ما يضحك ولا يعرفان ما يؤلم في وقت واحد. •••
وندر من فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه في حكمة جديرا بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي ولم يبحثوا بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيدية والكوميدية مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وشعائر الدين ومحافل الأعياد الوثنية.
إلا أننا قد نعثر بين الآونة والأخرى على فيلسوف من فلاسفة القرون الوسطى بحث في معنى الضحك لاتصاله من بعض أطرافه بمباحثه الأخلاقية أو اللاهوتية، وأحق هؤلاء بالالتفات إلى رأيه في هذا المبحث يوسف ألبو
Joseph Albo (1380-1445)، وتوماس هوبز
Thomas Hobbes (1588-1679).
فيوسف ألبو فيلسوف إسرائيلي ممن درسوا فلسفة الأندلس الإسلامية واقتبس منها في كتابه عن المبادئ والأصول، وتكلم عن الضحك لأنه مذكور في كتب «التوراة» ومنسوب إلى الأنبياء ومنهم إبراهيم الخليل.
قال: «الضحك - وبالعبرية سحوق - كلمة مرادفة لكلمات في معناها، وتدل على الفرح كما جاء عن إبراهيم أنه خر على وجهه وضحك، ومعنى ذلك أنه كان فرحا بما سمع.» «وقد يدل الضحك على السخرية والاستهزاء كما يقول القائل: إنني ضحكة للجار، وربما امتزج معنى الضحك والسخرية كما جاء أن الذي يستوي على السماء - الله - يهزأ بهم؛ إذ كان الضحك أحيانا دليلا على الشعور باحتقار من يستحق الاحتقار، وهكذا يشعر من يلحظ نقصا في كلام أحد أو عمله ويشعر بتفوقه عليه لأنه لا يقع في مثل ذلك النقص، فإنما يتولاه الضحك؛ لأنه يرى الآخر يقول أو يعمل ما لا يجمل بالإنسان ووقاره.» «وعلى هذا النحو ينسب الضحك إلى (الله) في التعبير المتقدم، وسببه أنه يسمع القائلين يقولون: هلموا نمزق شملهم. وهي كلمات لا يجمل بالبشر أن ينبسوا بها. على حد قول الربانيين إن سبب المشابهة بين نشيد أبسالوم وأخبار يأجوج ومأجوج أنه لو سأل سائل: هل من الممكن أن يتمرد العبد على مولاه؟ لكان الجواب: وهل من الممكن أن يتمرد الولد على أبيه؟ وقد حدث هذا فمن الممكن إذن أن يحدث ذاك.» «وواضح من ثم أن ذلك المقال مما لا يحسن بإنسان أن يقوله وإلا كان أهلا للازدراء والسخرية، وبهذا المعنى ينسب الضحك إلى الإله وإلى الإنسان.» «ويضحك الإنسان أحيانا إذ يخدع غيره في أمر كان ينبغي أن يحذره المخدوع وينتبه إليه، ومن ثم يرجع سبب الضحك في جميع الحالات إلى الشعور بالتفوق في نفس الضاحك حين يرى غيره يقع في حماقة وأمر ينبئ عن جهالة. ويقول العلماء إن الضحك خاصة إنسانية كما يقولون إن أسبابه مجهولة، ويعنون بذلك أننا لا نعلم لماذا يكون الضحك مصحوبا بحركات جسدية معينة، ولماذا يحدث الضحك عند لمس الإبط أو بعض المواضع الحساسة من الجسد، على أن حدوث الضحك من السخرية معروف جد المعرفة كما بينا في شرح الآية.»
وظل هذا الرأي مأخوذا به في تفسير الضحك إلى أوائل العصور الحديثة، وهو على التقريب رأي الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز الذي يرجع بكل خليقة أو عاطفة ترضي الإنسان إلى شعوره بالقوة والامتياز والرجحان، ويرى أن الأخلاق الإنسانية المحمودة تدل جميعها على القوة في صورة من صورها؛ فالكرم والشجاعة والصبر والعزة والفضائل جميعها لا تنال حمد الإنسان ما لم تكن مقرونة بالقدرة والدلالة عليها، وتتساوى الأخلاق النبيلة والعواطف الرفيعة في هذه الخصلة، بل تتساوى فيها الأعمال الإرادية وغير الإرادية كالضحك في صورته العقلية وصورته الجسدية، فإنما يضحك الضاحك؛ لأنه يحس من نفسه انتصارا مفاجئا أو مزية مفاجئة، ولا بد من شعور النصر أو الامتياز فيما يضحك الإنسان ويرضيه.
صفحه نامشخص