نسل‌کشی: زمین، نژاد و تاریخ

فهمی سعید شیخو d. 1450 AH
98

نسل‌کشی: زمین، نژاد و تاریخ

جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

ژانرها

ساد صمت بين الحاضرين، ثم علت الأصوات بينهم، هذا يقول: «إنهم الصهاينة قد لفقوا عليه تهمة عند البريطانيين، فعلم بذلك واختفى قبل أن يعتقل.» وأضاف آخر: «لعلهم علموا أن هشاما مع المقاومة.» خرجت أصوات دهشة من بعض الحاضرين وتهامسوا بينهم «هشام معهم»، كبر شأن العائلة في نفوس أهل الحارة أكثر فأكثر، ثم أخبرهم حسن عن ذلك الرجل الغريب المتلثم الذي رآه يخرج من بيت أبي هشام حينها كأن الجميع اقتنعوا أن الأمر متعلق بالمقاومة، وجنود الاحتلال سيحضرون في أي وقت للتفتيش والبحث عنه، فقال أبو خالد: «هيا تفرقوا إذن.» أثناء ذلك سمع دوي انفجار هز المدينة كلها هرع الحاضرون إلى خارج الحي ليروا أين موقع الانفجار، ارتفعت أعمدة دخان من خارج السور القديم، سمعوا أصوات تكبيرات، لقد تم تفجير «فندق الملك داوود» مقر حكومة الاحتلال البريطاني. أمسك حسن ياقة أحد المكبرين: اصمت، لحاك الله! المقاومة لا تفجر مكانا يعج بالمدنيين، ولا تمتلك متفجرات بهذه القوة المدمرة.

تجمع الناس حول مكان الحادث الذي طوقته الجنود البريطانيون بعرباتهم العسكرية، تدافع حسن ليصل إلى مقدمة الجمع فرأى الجانب الأيمن من الفندق قد تهدم من الأمام بطوابقه السبعة وأشلاء الضحايا قد تناثرت على المكان وبين الأنقاض وتحت الركام، لم يسمحوا للناس بالقرب من المكان أكثر، كانت فرق الإسعاف تحمل الجثث وتنقلها إلى المشفى، السيارة تلو الأخرى، تناقل الحاضرون بينهم: الضحايا كثر خمسون، لا بل مائة وأكثر. وكأنهم في مزاد! شعر حسن بالضيق الشديد وقال في نفسه: «بأي ذنب قتلوا يا رب؟» ترحم عليهم وقرأ الفاتحة على أرواحهم، ثم عاد أدراجه إلى الحي.

وقبل حلول الظلام جاءت دورية للجيش البريطاني طرقوا باب أبي هشام، فخرج أهل الحارة إليهم، وصل مختار الحي: ما الذي يجري؟ أهل البيت ليسوا هنا! - أليس هذا بيت أبي هشام؟ سأل مترجم الدورية. - بلى، يبدو أن هناك سوء فهم، أخبرونا ماذا يحصل؟ - عن أي سوء فهم تتكلم، لقد وجدنا جثة ابنه هشام بين ضحايا التفجير، أخبروهم بأن يأتوا لتسلم جثته من المشفى.

عندما سمع حسن الخبر لم يتمالك نفسه، خارت قواه وبرك في أرضه غير مصدق بما سمع، هشام مات! بقي كالصنم توقف عقله عن التفكير، أقبل إليه خالد يخفف عنه ويربت على كتفه، ثم فجأة انبرى حسن من مكانه وهرع نحو المشفى، كانت دموعه تتطاير وهو يركض من زقاق إلى زقاق، وشريط ذكرياتهما معا يظهر أمامه، بمقاطع سريعة وكأنه طائر نسر يحلق فوق أرضية الذكريات يصور له المواقف بعيدا عن متحكمات الزمان، أصوات ضحكاتهما تأتي على مسامعه، صور من المواقف الأخوية، باحة الأقصى، باب المغاربة، ظل الشجرة المعمرة، قبة الصخرة، حبات الصنوبر، وكأن كلها تركض معه نحو هشام الذي أحبهم وأحبوه، تذكر كلامه عن «عمر الصفدي» في تلك الليلة وتأثره به، يبدو أن روحيهما تآلفتا وتعانقتا في السماء الآن.

حضر تشييع جنازته أهل الحي جميعا، أطفال ونساء، شيب وشبان، وأهل الأحياء المجاورة من المسيحيين العم أرتين والست مريم وأنوشكا، امتلأت باحة الأقصى بالمشيعين مع غياب لافت لأبي هشام الذي اختفى مع عائلته اقترب أحدهم من حسن أثناء التشييع: أأنت حسن؟ - نعم أنا هو. - هذه رسالة كتبها هشام لك، قبل موته وأوصاني أن أوصلها إليك عند تشييعه في باحة الأقصى.

انسحب حسن جانبا، جلس تحت الشجرة المعمرة وفتح الورقة بيدين مرتجفتين سقطت دمعة من عينه على الرسالة وبدأ يقرأ: «عزيزي حسن، أرجو أن تكون بخير عندما تقرأ رسالتي، أنت أخي الذي لم تلده أمي، أحببت أن أخبرك بسر أتمنى أن تخفيه عن أهل الحي كلهم، وعلى رأسهم أبوك، سر مؤقت لا بد من أن يتم كشفه يوما ما.» اختلج حسن شعور بالخوف والفضول ابتلع ريقه، وعاد للقراءة: «بعد آخر لقاء بيننا في باحة الأقصى عدت إلى البيت، لفت انتباهي حركة في غرفة أبي، كانت ستارة غرفته مفتوحة شيئا ما، رأيته يحمل رزما من الجنيهات وأوراقا ومستندات يحاول جمعها على عجل ، ووضعها في حقيبة خاصة، أحسست أنه يخبئ سرا كبيرا، بعدها خرج إلينا وأخبرنا بوجوب الرحيل من القدس خلال أيام قلائل، عارضته وسألته عن السبب فلم يجب، وحصلت بيننا مشادة كلامية، هرعت إلى غرفته وأخرجت الحقيبة والمستندات، حاول أن يمنعني منها لكنني استطعت أن أكشف سره، لقد خان أبي الجميع، خان الأرض والوطن وباع كل الأراضي التي اشتراها من الفلسطينيين بأبخس الأثمان لليهود بأضعاف أضعاف سعرها، كانت كلها سندات بيع للأراضي والعقارات؛ أرضكم في أطراف القدس، وأراضي كثيرة، حتى بيتنا الذي في الحارة باعه لهم.» توقف حسن عن القراءة وتذكر الرجل الغريب الذي كان يحمل ظرفا عندما مر من جانبه البارحة، شعر بوخزة في قلبه، وعاد ليكمل القراءة: «حسن، أرجوك إذا انكشف سر أبي لا تكرهني بسببه، أنت، أنت بالذات من يعرف هشاما حق المعرفة، أنا لا أخون ولو على دمي، أعلم أن أهل الحي سيندمون على تشييعهم لي يوما ما، أخبرهم أنني تركت البيت لهذا السبب وأخبرت عنه قيادة المقاومة، وأنني صادق في تضحيتي لأرضنا، أخبرهم أن هشاما ضحى بنفسه من أجل فلسطين ولم يرض بفعلة أبيه، أخبرهم أن روحه كانت رخيصة من أجل وطنه.» «وأنا أكتب هذه الرسالة لك أشعر أن الموت قريب مني قريب جدا، وروح عمر الصفدي تأتيني كل يوم في المنام وتناديني: لقد اقترب موعدنا، لقد اقترب لقاؤنا. هذه رسالتي لك، وأستحلفك بالأخوة الصادقة التي جمعتنا، ألا تترك زيارة قبري كل حين، وتتحدث إلي كما كنا نتحدث تحت ظل الشجرة المعمرة عند باب المغاربة. وأخبرني عن أنوشكا وحبكما، أخبرني عن كل شيء، وأنهي بما قال الشيخ إبراهيم: «وعد الدنيا إلى خلف، وبقاؤها إلى تلف، وبعد عطائها المنع، وبعد أمانها الفجع، طواحة طراحة».» «أخوك ورفيق عمرك، هشام».

وضع حسن الورقة على صدره وبكى بكاء شديدا على الرسالة وما فيها من أوجاع ومآس، خيانة ووفاء، صدقه وكذب أبيه، أمانة وخداع وإيثار وطمع، اجتمعت في وصيته كل النقائض التي تزيد الألم ألما وتعمق الجراح جرحا. ثم قال في نفسه : بعد فقدك لعزيز كأن كل شيء يموت معه، ثم تولد الأشياء بعده من جديد!

أول يوم دونه،

أول أسبوع دونه،

أول شهر دونه،

صفحه نامشخص