نسلکشی: زمین، نژاد و تاریخ
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
ژانرها
الإهداء
شكر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
صفحه نامشخص
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
صفحه نامشخص
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
صفحه نامشخص
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
صفحه نامشخص
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
صفحه نامشخص
الإهداء
شكر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
صفحه نامشخص
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
صفحه نامشخص
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
صفحه نامشخص
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
صفحه نامشخص
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السابع والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
صفحه نامشخص
جينوسايد
جينوسايد
الأرض والعرق والتاريخ
تأليف
فهمي سعيد الشيخو
الإهداء
إلى أول قتيل في التاريخ .. الحياد.
شكر
بضعة توضيحات قبل أن أبدأ بالشكر.
إن قرية أنجرلك مكان خيالي غير موجود في الواقع.
صفحه نامشخص
إن أسماء المدن والبلدات والقرى المذكورة في الرواية، مأخوذة من خريطة في الأرشيف العثماني المنشور بعنوان: «خارطة مستحدثة لولايات المملكة العثمانية في آسيا 1893م»، طبعت بمطبعة الأميركان في بيروت أيام خلافة السلطان عبد الحميد الثاني.
بداية أتقدم بالشكر الجزيل للدكتور والكاتب أمجد الجنابي لقراءته المخطوطة وملاحظاته وتعليقاته القيمة، وأيضا الشكر موصول إلى الصديق العزيز محمود وهاب للدعم الكبير وإيمانه بالقصة وملاحظاته القيمة في رفع جودة السرد التاريخي.
وأخيرا أتقدم بالشكر الجزيل للأخت أشواق الرفاعي على التعب المضني في التنقيح اللغوي الأولي للمخطوط.
شكرا لكم جميعا.
إن التاريخ هو أخطر ما أنتجه الفكر؛
فهو الذي يرمي بنا في أحضان الحلم،
فيثمل الشعوب ويولد لديها ذكريات زائفة،
ويقودها إلى جنون العظمة أو جنون الاضطهاد،
إنه يجعل الشعوب عظيمة أو رهيبة أو هامشية ...
بول فاليري
صفحه نامشخص
الفصل الأول
إسطنبول - تركيا 1891م
كانت أعين الحاضرين تتفحص الصالة التي لم يروا مثل جمالها قط؛ فالسقف المزين بالألواح الذهبية البراقة على شكل سداسيات متداخلة، منقوشة بنقشات الطراز العثماني، والأرضية الواسعة المكسوة بسجادة الهركة التي ملأتها دون وجود قطع تكمل بعضها بل صنعت خصوصا لها بمساحة أكثر من 400 متر مربع، والجدران البيضاء المزخرفة التي تحوي تسع عشرة نافذة مستطيلة متوزعة على ثلاثة جدران عدا الجدار الرابع الذي يحوي أربعة أبواب خشبية بيضاء مزخرفة بالأزهار البرية الملونة، وفيها مرآتان ضخمتان بينهما لوحة كبيرة مرسومة فيها أزهار متنوعة بشكل فني رائع.
كان السلطان دقيقا في مواعيده، لكن الولاة قد حضروا قبل الموعد بكثير احتراما له وخوفا منه؛ فهو معروف بشدته في إصدار العقوبات الصارمة لمن يخالفون الدولة وقوانينها؛ إذ لم يبلغ الولاة سبب الاجتماع الطارئ إلا أنهم كانوا يتوقعون أنه من أجل الأوضاع التي تعيشها ولاياتهم، كان الخوف ظاهرا جليا على وجوههم، خوف خسارة المنصب والامتيازات، وخوف من العقوبة الجماعية بسبب عدم قدرتهم على تسيير شئون ولايتهم بالشكل الأمثل.
قبل حلول الموعد بقليل، سمعوا أصوات ذف أحذية قادمة خلف الباب مع صوت ضربة مختلف عن ذف الأحذية، عدل الحاضرون جلستهم وتهيئوا، ازدادت ضربات القلب ، وهم ينتظرون ولوج السلطان من الباب إليهم، ثم فتح الباب، دخل أحد الحراس ونادى بأعلى صوته: «جلالة السلطان المعظم عبد الحميد الثاني قادم.»
وقف الجميع احتراما للسلطان، كان بكامل قيافته المعروفة، ف «القفطان» الأزرق الباهت الذي كسا معظم جسده، مفتوح من الأمام وفيه قطع مثلثة الشكل على الجانبين، وتحته جلباب أسود فيه نقشات خاصة بالسلاطين العثمانيين، يصل إلى ما فوق ركبتيه، وسروال من نفس لون الجلباب، وعلى رأسه طربوش أحمر ويحمل في يده عكازه الذي لا يفارق مقبض يده أبدا.
ألقى السلام على الجميع وهو يتوجه إلى كرسيه، وكفه اليمنى على صدره ثم التفت، ألقى نظرة سريعة بوجوه الحاضرين قبل أن يجلس، ثم أشار بيده باسطا كفه اليمنى: تفضلوا بالجلوس.
ساد صمت مخيف الصالة كلها، جلس الولاة دون أدنى حركة وكأن على رءوسهم الطير، كان يبدو على وجه السلطان الغضب، ونظراته تملؤها الثقة والهيبة. بعد مضي وقت ليس بالقليل على السكون المخيف تحدث أحد مستشاريه: أيها السلطان المعظم، هؤلاء ولاة المدن الستة «أرضروم، ووان، وبتليس، وسيواش، ومعمورة العزيز، وديار بكر»، قد حضروا لأجل الاجتماع الطارئ الذي طلبته.
هز رأسه ورفع عكازه ثم ضربه على البلاطة بشكل خفيف موحيا بأنه سيبدأ بالكلام: لقد جمعتكم هنا اليوم بعدما وصلتني برقيات لا تسرني ولا تسركم عن حال ولاياتكم؛ لقد عمت الفوضى في الشرق، ويترصد أكبر أعدائنا خلفه، ونعلم أنهم وراء الدعم الذي يحصل عليه المخربون الأرمن وبعض العصابات الكردية، لكن يجب ألا يستمر الوضع هناك هكذا، لا بد من وضع حل نهائي للفوضى، وبما أنكم أقرب مسئولي الدولة الكبار هناك إلى الواقع فأشيروني إلى حلول جذرية للقضية.
أنهى كلامه بضربة عكازة على البلاطة أقوى من الأولى موحيا إلى شدة غضبه مما يجري هناك.
صفحه نامشخص
استأذن والي أرضروم من السلطان فأومأ إليه موافقا: حضرة السلطان المعظم نحن بحاجة إلى زيادة عديد القوات هناك؛ فالقرى متباعدة ونحن لا نملك العدد الكافي لتغطية تلك القرى بالجنود، وعادة ما يكون عدد المهاجمين أكبر من عدد الجنود الموجودين في مخافر القرى؛ ولذلك لا نستطيع إلقاء القبض عليهم أو حتى مجابهتهم، إضافة إلى وجود العصابات الكردية والنسطورية التي تقطع الطرق على قوافل التجار والمسافرين بين المدن وهم يقطنون الجبال، ولا قدرة لنا على الإغارة عليهم لنفس السبب.
التفت السلطان إلى بقية الولاة ليسمع منهم ما يرون في حل المشكلة، فكانت آراء البقية نفس رأي والي أرضروم، ومن ثم تدخل المستشار الاقتصادي للسلطان وأخذ الإذن منه بالكلام: جلالة السلطان المعظم، إن زيادة عدد الجنود تحتاج إلى ميزانية ضخمة، والدولة تمر بظروف اقتصادية صعبة، أنا أقترح إرسال جنود من المناطق ذات المشاكل الأمنية القليلة إليهم، وبذلك نسد النقص ولا نؤثر على ميزانية الدولة.
كانت تلك فكرة جيدة، وبدا التفاؤل يعتلي وجه السلطان إلى أن أخذ المستشار العسكري الإذن بالكلام من السلطان: أظن أن المستشار الاقتصادي قد نسي أننا طبقنا هذه الفكرة في زيادة عدد الجنود في المعارك الجارية مع اليونانيين على جزيرة كريت من جهة، والمعارك الجارية على حدود الدولة المترامية الأطراف من جهات أخرى، ولم يبق في المدن الآمنة إلا ما يسد الفراغ الأمني الضروري، برأيي لا بد أن نبحث عن حل آخر.
ساد الصمت مرة أخرى حتى أدار السلطان وجهه إلى شاكر باشا «القائد العام للقوات العثمانية» الذي كان جالسا يستمع طوال الجلسة إلى آراء الولاة والمستشارين: لم نسمع رأيك بالأمر؟!
تنحنح شاكر باشا وعدل جلسته قبل البدء بالكلام: جلالة السلطان المعظم، كما تعلمون أن تلك الولايات يقطنها أغلبية كردية، وكما هو معلوم لديكم أن الأكراد في بنيتهم الهيكلية ينتمون إلى عشائرهم أكثر من انتمائهم للدولة، وهذه العشائر تمتلك مقاتلين وخيالة متمرسين، وقد قاتل بعضهم معنا في حربنا ضد الروس واستبسلوا فيها، نعم توجد هنالك مجموعات منهم يعملون كعصابات سلب ونهب وقطع الطريق أحيانا، إلا أنهم يأتمرون بأوامر رؤساء عشائرهم ولا يخرجون عن طاعتهم .. لذا أنا أقترح أن نكسب رؤساء العشائر الكردية ونعطيهم بعض الامتيازات الخاصة، ونجعل فرسانهم تحت إمرة الحكومة، وبذلك نضمن أمرين رئيسيين في تقليل حدة الفوضى وإعادة سلطة الدولة في المدن الستة إلى سابق عهدها وقوتها بأقل التكاليف الممكنة.
أولهما: «أننا نقلل من العمليات التي تقوم بها بعض العصابات المنتمية إليهم، وذلك بأمر من رؤساء عشائرهم بالعدول عنها والانضباط تحت سلطة الدولة التي أصبحوا جزءا منها.»
وثانيهما: «ننظم جيشا كاملا بهم، يسدون النقص في الخيالة العثمانية على الحدود الروسية، وكذلك نقمع بهم الثورة الأرمنية في مهدها، ولا ندع مجالا للأرمن بكسبهم إلى جانبهم فتقوى ساعد ثورتهم.»
ابتهج السلطان بما سمع من شاكر باشا، ونظر إلى مستشاريه ليسمع رأيهم بالفكرة المطروحة، فقال المستشار العسكري: الفكرة جيدة، وأنا أقترح أن ننظمهم على شكل فرق مسلحة كما هي موجودة في القوات الروسية «فرق القوازق»، فهم كانوا أيضا مثل الأكراد فلاحين ومزارعين من أوكرانيا وغرب روسيا، وقد أدت القوازق دورا كبيرا في اتساع رقعة الإمبراطورية الروسية في خمسينيات هذا القرن، وكان دعمهم للأباطرة الروس غير محدود خاصة بعدما انخرطوا في الجيش الروسي، وبإمكاننا جمعهم تحت مسمى الجيش الرابع للمنظومة العسكرية العثمانية، لكن يجب أن يدخل مقاتلوهم في دورات تدريبية تحت إشراف الضباط النظاميين من الجيش العسكري، ولا بد من إعطائهم زيا موحدا ورسميا من مخازن الألبسة العسكرية المستعملة حتى يكونوا أقرب ما يمكن للقوات النظامية.
وعلى هذه الآراء انتهى الاجتماع الطارئ بقرار تشكيل فرق القوازق، الذي كان يحمل في طياته الكثير من التفاؤل لمصير المدن الشرقية للأناضول، وكان لا بد من قائد محنك لهذا الجيش الجديد حتى يستطيع أولا: كسب العشائر الكردية وإقناعهم للانضمام إليه. وثانيا: لا بد أن يحمل مكانة كبيرة في الدولة، فأوعز السلطان بتولي هذا المنصب إلى عديله «زكي باشا»؛ حتى يقود الفرق باسم السلطان.
بعدها بعدة أيام أصدر السلطان فرمانا يوصي بإنشاء كتائب «الفرسان الحميدية» مما أعطى للمنضمين لها مكانة عالية عندما ربط اسمه بها، وجاء ضمن الفرمان وعود كثيرة للعشائر التي تقبل الانضمام إليها، وكان الغرض المعلن من هذه التشكيلات هو الجهاد؛ أي الدفاع المقدس عن الإمبراطورية العثمانية، وفيها وجهوا دعوات إلى الكثير من رؤساء العشائر الكردية لزيارة السلطان في الآستانة ولبى الكثير منهم الدعوة. وعند زيارتهم الآستانة أبهرهم الاحتفال الكبير الذي استقبلوا به، حيث استقبلهم السلطان في قصر يلدز بنفسه، وبقي رؤساء العشائر قرابة شهر في ضيافة السلطان وقدم لهم الهدايا والألقاب والأوسمة والرتب العسكرية ومخصصات شهرية بعد أن وعدوا السلطان بتقديم الرجال إليه وبأعداد تفوق ما كانوا يستطيعون تأمينه من كثرة ما حصلوا عليه من هدايا، وإضافة إلى ذلك أمر السلطان بإعفائهم من الضرائب التي كانت تفرض على أراضيهم وممتلكاتهم.
صفحه نامشخص
الفصل الثاني
القدس - فلسطين 1943م
إن في اللغة العربية كلمات جاءت من الصوت الذي يصدر عن الفعل، فنسمي الصوت الصادر من ضرب معدن بآخر ب «الطرق»، وهذه الكلمة مأخوذة من الصوت نفسه، وأخذ يضرب قطعتي حديد ببعضهما ويقول: أتسمعون كمية التشابه بين الصوت والكلمة؟
سكت هنيهة ثم قال: وكذلك العقوق يا أبنائي؛ فهي كلمة مأخوذة من صوت تدفق الدم من عنق الدابة عند ذبحها، فيصدر صوت أشبه ب «عق، عق»، وكأنها توحي أن تسمية «العقوق» جاءت لتشبه الخروج عن رضا الوالدين بذبحهما، لكن من دون سكين!
كان حسن ينصت إلى أستاذ اللغة والدين «محمود الخطيب» صاحب العلم الغزير والحضور المهيب الذي ملأ الحصة صمتا تاما إلا من صوت كلماته القليلة والمليئة بالمعاني العميقة، على عكس بقية الأساتذة الذين لا يستطيعون السيطرة على الطلاب في حصصهم.
وما إن انتهى الدرس حتى خرج حسن بصحبة صديقه المقرب هشام «ابن أكبر تجار الحي»، وكان من عادتهما أن يقضيا بعضا من الوقت في باحة الأقصى الشريف، يتأملان المارة تحت ظل شجرة معمرة، عند باب المغاربة قبل عودتهما إلى البيت.
نظر هشام إلى قبة الصخرة وهي تلمع وكأنها ياقوتة صفراء في قاع نبع صاف تعكس ضوء الشمس على الماء فتزيده عذوبة ونقاء أكثر، وقال لحسن: أتعلم .. لو بإمكاني تملك هذه القبة لأقنعت أبي بشرائها.
أخرج حسن ضحكة هازئة، وقال: تشتري بيتا من بيوت الله، أمجنون أنت؟! ولمن تدفع المال مقابله؟ - لا أدري، ألا يدور على ألسنة الناس أن البريطانيين وعدوا اليهود به؟ كيف يعدون بشيء ليس لهم ويتصرفون به؟!
ثم أليس هنالك مقابل لهذا الوعد؟ إذن من الممكن بيعه وشراؤه. - أتصدق هذه الترهات! بريطانيا الآن منهمكة في حرب كبرى، وأعداؤها أقوياء فلتحافظ على أراضيها إن استطاعت، لا يمكنها فعل شيء، أيامهم معدودة هنا، ما إن تتعرض بلادهم لخطر محدق حتى يجروا ذيول الهزيمة من فلسطين فجأة ويبقى الوعد حبرا على ورق، ثم إن المسلمين يفدون البيت بأرواحهم.
هز هشام رأسه مؤيدا ومد يده نحو حسن، وقال: هيا بنا لنعود إلى البيت.
صفحه نامشخص
في طريق العودة بعدما أوصل حسن صديقه إلى دارهم كان الحاج صالح الكفيف يجلس على عتبة الباب الخارجي لداره، سلم عليه حسن وقبل يده وطلب خدمته وحاجته، فلم يسمع منه سوى عبارة يكررها دائما: «الله يرحم ترابك يا عبد الحميد»، ولم يخطر على باله يوما أن يسأله من هو عبد الحميد؟ لعله يقصد أحد أولاده الذي فقده، أو أحد أصدقائه القدماء. وأثناء ذلك أقبل رجل كبير في السن يبدو من هيئته أنه ليس بعربي، شعره أبيض ناصع وبشرته حمراء، فيه من دم وملامح بني الأصفر، ونظراته الثاقبة القاسية لم يلينها الزمن وطول العمر، سلم على الحاج صالح، وصافح حسن وهو يبتسم ثم قال: سمعتك من بعيد تترحم عليه! أما آن لتبصر الحقيقة بقلبك بعدما فقدت البصر بعينك، وتكف عن الترحم عليه؟ - سأبقى أترحم عليه حتى تغادر الروح الجسد. - دعك من ذلك، وأخبرني عن تاجر أحجار كلسية، لدي ترميمات في بيتي.
رد عليه حسن دون أن يستأذن من الحاج صالح: أبي يعمل في تجارة الأحجار الكلسية.
تحسس الحاج صالح بكفه على ظهر حسن حتى وصل كتفه، ثم ربت عليه، وقال لصاحبه العجوز: نعم، أبو خالد يعطيك أحسن الأنواع، ويراعيك في السعر إن أخبرته بأنك صاحبي. - وأين دكانه؟ - في خان تنكز «أوتوزبير»، اسأل عن أبي خالد السرابي يدلك أهل الخان عليه، دكاننا صغير، لكن أبي معروف هناك.
أشاح الرجل بوجه حسن ونظر إليه، وقد قطب حاجبيه: لا تلفظ تلك الكلمة التركية اللعينة أمامي، تنكز يكفي، إنني أكره الترك ولغتهم وكل شيء يتعلق بهم.
راود حسن الكثير من الأفكار وهو يرمقه بأطراف عينيه وقال في نفسه: أبي رجل عصبي لا يحتمل مثل هؤلاء الزبائن الثقيلي الظل، أخشى أن يضربه بحجرة كلسية يعجل أجله.
سأل حسن عن اسمه، ليخبر والده أنه سيأتي إليه فقال: العم أرتين. •••
كانت الأزقة الضيقة والقناطر التي تربط البيوت المتقابلة، تفوح من نوافذها الخشبية روائح الأطعمة المتنوعة في مثل هذا الوقت من الظهيرة، المسخن والمفتول والمقلوبة التي تجعل حسن يعجل خطواته ليصل إلى البيت ويمني النفس أن يكون المسخن الذي تبدع بتحضيره والدته أم خالد هو الطبق الرئيسي للغداء اليوم.
كان الجوع قد أخذ مأخذه من حسن، فبدأ يأكل بشراهة كبيرة حتى غص بلقمة واحمر وجهه من الاختناق وهو يطلب الماء، ضحك أخوه الأكبر خالد، وربت على ظهره: على رسلك، على رسلك، الصحن لك وحدك. مع من تتسابق في الأكل؟!
قطبت الأم حاجبيها وهي تنظر لخالد، وقالت: عليك بالعافية حبيبي حسن. وسقته الماء. - تذكرت .. هنالك رجل كبير في السن يدعى العم أرتين يكون صاحب الحاج صالح، سأل عن بائع للأحجار الكلسية، فأشرته إلى دكاننا في الخان.
قال الأب وهو ينظر إلى صحنه ويحرك الملعقة عليه دون أن يأكل، وكأنه غارق في تفكير عميق: خيرا فعلت.
صفحه نامشخص
وبينما هم كذلك انتبه حسن إلى أخته «سكينة» وهي تضرب بكتفها، على كتف أمها لتوحي لها أن تتكلم .. تنحنحت أم خالد ونظرت نحو زوجها: أبا خالد، أريد شراء بعض الحاجيات للبيت وقطعة قماش أخيط بها فستانا لسكينة؛ فعرس ابنة أختي فاطمة الخميس القادم، وهي لا تملك فستانا يليق بالمناسبة.
ساد الصمت بعدما توقفت أم خالد عن الكلام وتوجهت الأنظار خلسة إلى أبي خالد، رفع رأسه من صحنه ونظر بوجه ابنته التي احمرت وجنتاها، وقال كلمة واحدة وهو يغادر المائدة: حسنا.
همس خالد لأمه: أبي في ضيق مادي: الناس يشترون بالدين، والسوق متوقف تقريبا، والأوضاع في البلد غير مستقرة حتى إننا لا نملك ثمن بضاعة جديدة، لا تكثروا عليه بالطلبات، أنا في الدكان وأعلم ما يدور هناك. - سأقنعه ببيع قطعة من أرضنا الزراعية المتروكة على أطراف القدس. - ومن يشتري غير اليهود؟ وأنت تعلمين أن أبي لو متنا من الجوع لن يبيع شبرا لهم. - ولم اليهود؟ أبو هشام هو من يشتري، كنت عند أم هشام وأخبرتني أن زوجها يشتري الأراضي والبيوت من غير حاجة، فقط لكيلا يضطر الناس لبيعها لليهود.
نعم، السعر الذي يدفعه اليهود أكثر مما يدفعه أبو هشام، لكن الناس رغم حاجتهم الماسة لا يحبذون البيع لليهود. - لكن هنالك الكثيرين ممن باعوا ويبيعون لليهود! قال حسن ذلك.
رد خالد بحزم: الذي يبيع لهم وهو يعلم طمعهم بأرضنا وحلمهم بإقامة دولة عليها، لا يملك مبادئ في الحياة، وهو خائن للأرض، وسيلعنه التاريخ. - ومن يهتم للتاريخ! ومن يكتبه أصلا، الحاجة لا تعترف بالمبادئ! تمتم حسن وهو يغادر المائدة متوجها إلى غرفته.
ترك كلام أمه عن أبي هشام وما يفعله من أجل الحفاظ على الأرض بعيدا عن أطماع اليهود أثرا في نفس خالد، وتمنى لو أنه يملك مال قارون ليفعل مثل أبي هشام وأكثر، ويسد حاجة الناس ويمنعهم من اليهود.
آثر حسن أن يسأل الأستاذ محمود الخطيب عن أطماع اليهود في فلسطين؛ فهو لا يمانع أن يخرج عن المادة المقررة في الحصة، وبالأخص لأجل موضوع مهم كهذا. - بني: قبل الخوض في هذا الموضوع يجب أن تفرق بين اليهود والصهاينة؛ اليهود أهل الكتاب، ولنا معهم تاريخ مشترك لآلاف السنين على هذه الأرض، كما لنا مع المسيحيين مثل ذلك، بالرغم من كل المعارك والقتال الذي حصل على مر التاريخ بقيت الجيرة والعلاقات الطيبة بيننا. لكن الصهاينة هي مجموعة ذات فكر منحرف تريد بسط سيطرتها على اليهود أولا، ومن ثم على جميع سكان البلد، وهي على علاقة وطيدة بالمحتل البريطاني، وهؤلاء لا مانع لديهم أن يقتلوا اليهود أبناء جلدتهم من أجل بلوغ أهدافهم .. أذكر مرة دخلت بنقاش مع أحدهم عن فلسطين فقال لي: لو عدنا بالتاريخ لألفي سنة، كانت هذه الأرض ملكنا نحن؛ يقصد «مملكة داوود». فقلت له: ولماذا لا نعود بالتاريخ ثلاثة آلاف سنة لنجد أن هذه الأرض للكنعانيين الذين قدموا من جزيرة العرب وسكنوا فيها، وكتابكم التوراة يشهد بذلك، فلمن الأحقية إذن؟
سكت ولم يلق جوابا، ثم عاد يهدد بأن هذه المرة ستكون الأرض لهم إلى الأبد.
صمت قليلا، ثم استرسل بالكلام: من يظن أن هذه البقعة المباركة له وحده دون الآخرين فهو واهم، وإن توافرت له المقومات الكاملة بأن يسيطر عليها لفترة من الزمن، إنه صراع تاريخي على السيطرة، لكن يجب أن تدركوا يا أبنائي أنها لن تدوم تحت سيطرة أحد، لا نحن المسلمين ولا المسيحيين ولا حتى اليهود.
أبنائي .. إن مقاييس التاريخ الزمنية لا تشبه مقاييسنا نحن البشر؛ فالتاريخ يتكلم بالقرون والسنين الطوال، ويذكرها بكلمة أو كلمتين أحيانا، ونحن نتكلم بفترات أقصر بكثير، ولأجل ذلك تمر الأمم بفترات قوة وفترات ضعف، ومن يعيش في فترة القوة يظن أنها ستستمر إلى الأبد.
صفحه نامشخص
فينتشي ويتكبر ويتكلم بعلو صوته.
ومن يبلغ فترة الضعف يصيبه الهوان ويشعر بأنه يبقى ضعيفا أبد العمر، ويصل إلى مرحلة اليأس كما حصل للناس في زمن التتار؛ إذ يذكر أن جنديا من التتار أراد أن يقتل رجلا في بغداد، وما كان يحمل سلاحه معه، فقال: انتظرني هنا، سآتي بسلاحي وأعود، فبقي ولم يحرك ساكنا حتى عاد وقتله!
دهش الطلاب من كلامه وسألوه مستغربين: كيف يمكن ذلك كيف؟! كان بإمكانه الهرب على الأقل! - لا تلوموه، فلو كنتم مكانه لربما فعلتم ما فعل، الهوان والخوف من التتار كان قد بلغ في نفوس الناس مبلغه، وظنوا أن هؤلاء لا يهزمون ولا يمكن لأحد أن ينتصر عليهم! وهذه المرحلة من أخطر المراحل التي تصل إليها أية أمة بأن تفقد الثقة بنفسها ويصيبها الخور، وهذا ما يريده أعداؤنا لنا ويحاولون في كل مرة هز ثقة الناس بما يستقوون به، ولعل فشل الثورة الكبرى قبل سنوات قليلة مثال قريب عشناه ورأينا ما خلفته من هوان وخيبة لدى البعض .
الفصل الثالث
ميونخ - ألمانيا 1938م
دفعت ريح قوية وباردة باب النافذة المطلة على الرواق من الطابق الثالث للمبنى، فأصدر صوت تحطم زجاج مع تطاير الستائر البيضاء الشفافة. هرع مايكل ليتأكد ما الذي انكسر، فإذا المرآة التي على الحائط المقابل للنافذة قد سقطت، فصاحت الأم: ما الذي انكسر؟ - المرآة. - ألم أقل لك قم بإصلاح القفل منذ البارحة؟! لماذا لا تسمع الكلام يا بني؟ - لقد أوصيت ديفيد بأن يشتري قفلا جديدا؛ لأن هذا القفل لا يمكن إصلاحه.
وضع مايكل قطعة خشب صغيرة على باب النافذة وأحكم غلقها بالمطرقة لكيلا ينفتح مرة أخرى لحين مجيء ديفيد، ثم أقبلت أخته الصغيرة «سارة» ذات العشرة أعوام لتلملم الزجاج من الأرض.
كانت ليلة هادئة لا يشجب هدوءها سوى صوت صرير الرياح الشمالية التي تحاول التسلل إلى البيوت بأي وسيلة كانت .. خطر في ذهن مايكل وهو متكئ على الأريكة يراقب سارة وهي تحمل القطع الزجاجية المتناثرة بحذر وتضعها على سلة القمامة، شؤم انكسار المرايا في البيت؛ ففي الأعراف اليهودية تحطم المرآة ليس بالعلامة الإيجابية، إنها تدل على حدوث مكروه ما، وحتى في الأعراف الرومانية القديمة كانت له دلالات سيئة؛ إذ اعتقدوا «أن المرآة تحوي وتعكس روح صاحبها، وكسرها دليل على فنائه وموته»، وذهبت الأسطورة الرومانية إلى أنها تجلب سبع سنوات من الحظ السيئ؛ لأن الروح بعد موت صاحبها تحتاج إلى سبع سنوات حتى تتشكل من جديد.
هز مايكل رأسه محاولا إزاحة هذه الأفكار المشئومة عن ذهنه وعاد ليقرأ الجريدة على مهل، كانت إحدى المقالات تتحدث عن التحريض ضد اليهود، قرأ الأسطر الأولى فأصابه الضجر فطوى الجريدة وهو يقول: كالعادة مقالات فارغة، مشحونة بالكراهية.
وضع الجريدة على الطاولة الخشبية قربه، ثم نظر إلى الساعة المعلقة على الحائط، كانت العقارب متراكبة فوق بعضها وهي تشير إلى السابعة وثمان وثلاثين دقيقة. قال في نفسه: لقد تأخر ديفيد على غير عادته!
صفحه نامشخص
ثم فجأة طرق الباب بضربات قوية وبطيئة، خفق قلبه خوفا وقال في نفسه: ما قصة الأبواب اليوم؟!
أخرجت الأم رأسها من باب المطبخ المطل على الصالة، وعلامات الشحوب ظاهرة على وجهها، تحرك مايكل لفتح الباب، فنادى قبل أن يفتح: من الطارق؟
لم يسمع ردا فانتابه الخوف أكثر. كانت الطرقات تتسارع، مد مايكل يده على قفل الباب وسحب المزلاج ثم فتح الباب، وإذ بديفيد يسقط أمامه، وقد لطخ وجهه بالدماء. هرعت الأم وأطلقت صيحة ملأت البيت، حمل ديفيد بحضنه وسحبه إلى الداخل. - من الذي فعل بك هذا؟ من؟!
رد عليه وهو يئن ألما، وكأن خروج الكلمات من فمه كانتزاع الشوك من الجرح: النازية قادمون.
ولم تمر إلا دقائق معدودة حتى بدأت الأصوات تتعالى في الحي، وتناهت إلى مسامعهم أصوات تحطم الزجاج وكسر لأبواب الدكاكين وصيحات وهتافات عنصرية ضد اليهود، كانت الأم قد نسيت كل مخاوف التهديدات المرعبة القادمة من الخارج وهي تبكي وتمسح الدماء من جراح ديفيد وتتمتم بالدعاء عليهم حتى جفلت بصوت تحطم زجاج النافذة، وبدأت الحجارة تنهمر كحبات البرد من خلالها، كانوا ينادون «أيها اليهود القذرون، اخرجوا إن كنتم رجالا، هيا اخرجوا لا تختبئوا مثل الأرانب»، «لا مكان لهؤلاء الخنازير بيننا بعد اليوم».
كانت سارة ترتعد خوفا وهي تحضن أمها من الخلف، لم يكن بمقدورهم فعل شيء سوى الترقب وانتظار ما سيحدث، هل سيدخلون البيوت؟ أم الأمر مقتصر على الشوارع والأزقة، وكل عاثر حظ يصادفهم خارج بيته من اليهود يقع فريسة الوحشية المفرطة تحت أيديهم كما حصل لديفيد؛ إذ إن النازية بعد وصولها إلى الحكم شرعت إلى تمييز اليهود، وذلك بوضع حرف
J
باللون الأحمر دلالة على كلمة
Jude
يهودي باللغة الألمانية على البطاقة الشخصية لكل فرد منهم، حتى المحال التجارية والبيوت والأملاك العائدة لليهود تم رسم النجمة السداسية عليها باللون الأصفر.
صفحه نامشخص
استمرت عمليات الشغب الجماعية من ليلة التاسع من نوفمبر 1938 إلى العاشر منه، وتم فيهما قتل أكثر من تسعين يهوديا وحرق عشرات المحال التجارية وسرقة محتواها، وكذلك حرق المعابد في كل أرجاء ألمانيا، وتم تبرير هذه الأعمال لقيام أحد الشبان اليهود الذي يدعى «هرشل غرينشبان» بإطلاق النار على السكرتير الثالث في سفارة ألمانيا بباريس «السير أرنست فون رات»، الذي مات على إثر تلك الحادثة تعصبا منه لطرد عائلته من ألمانيا إلى بلدة زبونشين الحدودية ورفض بولندا استقبالهم، ليجد المنفيون أنفسهم بلا مأوى في العراء. •••
خرج مايكل ليتفقد خسائر متجره لبيع الأقمشة في السوق القريب للحارة التي يقطنها، كانت كل التخيلات المتوقعة لحال المتجر التي خطرت له في الأيام الماضية وهم يخشون الظهور إلى الشوارع العامة، لم تكن بكل تلك البشاعة التي رآها. كان يقول في نفسه وهو يراقب المارة من النافذة المطلة على الرواق: «لربما كسروا الأبواب فقط أو سرقوا نصف الأقمشة أو حتى كلها.»
وقف قبالة متجره الصغير وقد تحول كل شيء فيه إلى رماد، سواد في سواد؛ الجدران والباب الخشبي الذي لم يبق منه سوى الإطار الحديدي، ضرب كفا بكف وهو يتمتم متحسرا: كسرت أيديكم، هدمت دوركم! ثم انتبه إلى السقف، فرأى فيه شقا طوليا من شدة اللهب جراء احتراق الأقمشة والرفوف الخشبية.
كانت إعادة ترميم المتجر تحتاج إلى مبلغ كبير عوضا عن البضاعة الجديدة إذا ما أراد العودة للسوق مرة أخرى، لكن اليأس تملكه؛ فمن يدري لربما تعاد الكرة، ويتم حرق المتجر من جديد، وفي خضم هذه الأفكار المتشابكة في ذهنه سمع صوت جاره آيخمان: لا تحزن، نستطيع إعادته مثل السابق، أنا معك بكل ما تحتاج إليه. - شكرا لك، لا أظنني أفكر في فتح تجارة بهذه المدينة مرة أخرى، نحن بتنا لا نضمن حياتنا هنا، فكيف نضمن تجارتنا؟! - الذي حصل لكم في تلك الليلة لم يكن يمثل توجه أهل المدينة كلها، أرجوك لا تظن أن الذي حصل يؤيده الجميع، بل هؤلاء ثلة ممن أعمى بصيرتهم التعصب العرقي. - وما فائدة ظني بكم؟ هل سيعيد خسارتي الظن السوء أو الظن الحسن بكم؟ - لم أقصد هذا .. لكنك تعلم جيدا أن الكثير من اليهود يعيشون هنا في ألمانيا ولم نفرق يوما بينكم وبين أي ألماني آخر. وجرت بيننا مصاهرات كثيرة، وتجد الكثير من الألمان من أب يهودي أو أم يهودية، لكن هذه الفكرة العرقية، وفصلكم أنتم والغجر وغيركم من البشر، وجعل المواطنة على أساس العرق؛ أمرا طارئا وشاذا لا يمكن أن يستمر. - لو لم تكن شيوعيا ...
وضع كفه على فم مايكل، وهمس في أذنه: إن سمعك أحد أفراد الجستابو فسيخفونني من الأرض.
فقال هامسا: لو لم تكن شيوعيا ومعارضا للحكم النازي لما انتقصت من فكرهم هكذا. - مايكل اهدأ! لا تدع غضبك يعميك ويشكل عليك عدوك من صديقك، أنسيت كم قتلوا منا قبل أربع سنوات في ليلة «السكاكين الطويلة»؟ - لم أنس .. لكن كيف لي أن أهدأ؛ ففي تلك الليلة عاد ديفيد ملطخا وجهه بالدماء وقد شج رأسه وتكسرت أضلاعه، واليوم أرى تجارتي أصبحت رمادا، وتريد مني أن أهدأ وأميز من حولي! - أحقا ما تقول؟ وكيف هو الآن؟ - تحسن قليلا .. لكنه طريح الفراش. - كسرت أيديهم. •••
في طريقه نحو البيت وهو يمشي الهوينا من زقاق إلى آخر لاحظ المتاجر المحترقة لليهود هنا وهناك، كل متجر مرسوم على حائطه النجمة السداسية قد تم إحراقه.
حاول أن يقارن خسارته بخسارة غيره ليخفف الوطء على نفسه، ثم شعر أن الخطأ الكبير الذي فعله اليهود هو خروجهم من عزلتهم واندماجهم في المجتمع، لطالما كنا أقوياء في عزلتنا نقاوم كل خطر فكريا كان أم جسديا يحدق بنا.
يبدو أننا لم نستطع تغيير النظرة السيئة تجاهنا من قبل المجتمعات بعد انصهارنا فيها، حتى وصل الحال لبعض اليهود أن قاموا بتغيير دينهم إلى المسيحية والاستغناء عن الزي اليهودي المعهود، وبالرغم من ذلك النظام النازي عاد إلى الوراء وفتح سجلات قديمة لنفوس الآباء والأجداد، وأن كل مسيحي ألماني حتى لو كان قسا ويحمل عرقا يهوديا يعتبر من اليهود ويلاقي ما يلاقيه اليهود الأصليون.
توقف هنيهة، أخرج سيجارة من جيب معطفه الأيمن أشعلها بعود ثقاب، وحرك يده ليطفئ العود قبل أن يرميه، ثم وضع السيجارة على الطرف الأيسر من فمه وعاد في تفكيره من جديد.
صفحه نامشخص