ولا شك أن فكرة السلطة هذه مستمدة أصلا من وضع المالك الإقطاعي في المجتمع، الذي تكون لديه بالفعل سلطة مادية على ساكني إقطاعيته، كما تكون لديه سلطة معنوية عليهم، تتمثل في إطاعتهم لأوامره وسعيهم إلى محاكاته والرجوع إليه من أجل حل مشكلاتهم. هذا النمط من السلطة يمتد بحيث يسري على سائر المجالات، ففي الأمور العقلية بدورها يكون هناك مصدر معين للسلطة يحتكم إليه المشتغلون بالعلم في كل مسألة يريدون استجلاء غوامضها. وقد يكون هذا المصدر شخصا حيا، ولكنه في معظم الأحيان حكيم من الحكماء السابقين الذين تطمئن العصور الإقطاعية إلى آرائهم، بعد أن تصبغها بصبغة متحجرة، كما هي الحال بالنسبة إلى أرسطو في العصور الوسطى.
على أن نوع الشخص - ماديا كان أم معنويا - الذي يتخذ منه المجتمع سلطة، لا يهمنا بقدر ما يهمنا مبدأ السلطة ذاته. فنتيجة لانتشار هذا المبدأ، يصبح منهج التفكير المعترف به هو إرجاء الجديد إلى القديم، ويضيع عنصر الابتكار الفردي في التفكير، بل إن الإبداع الفردي أمر لا يعترف به أصلا في المجتمع الإقطاعي. فكل ما يتم إنجازه في مثل هذا المجتمع يتحقق عن طريق جماعات، لا عن طريق أفراد، أو لنقل بعبارة أدق إن الفرد لا ينجز في هذا المجتمع شيئا بصفته الفردية، بل بوصفه عضوا في جماعة كبيرة تمحى فيها شخصيته الفريدة المميزة. فالفرد لا يتميز إلا من حيث هو عضو في طائفة دينية معينة، أو مشتغل في إقطاعية معينة، أو ينتمي إلى جماعة حرفية معينة. وحتى الإبداع الفني، الذي تعد الفردية - في نظر الإنسان الحديث - شرطا أساسيا لتحققه، حتى هذا الإبداع كانت تمحى فيه شخصية الفنان، الذي لم يكن يقوم بعمله الفني إفصاحا عن مشاعره الخاصة، أو رغبة منه في التعبير عن نفسه، وإنما كان يقوم به خدمة لأغراض الطائفة الدينية التي ينتمي إليها، أو تخليدا لاسم الحاكم الذي يدين له بالولاء، أو غير ذلك من الأغراض التي لم تعد لها مكانة هامة - أو لم تعد لها مكانة على الإطلاق - عند الفنان ذي النزعة الفردية في عصرنا الحديث.
ومجمل القول إن العصور الإقطاعية لم تعترف بالفرد من حيث هو كيان مستقل، بل إنها كانت دائما تدمج الفرد في كيان أوسع تذوب فيه شخصيته الخاصة. وكان على الفرد أن ينظر إلى المبادئ التي تحكم عمل هذا الكيان الأوسع - سواء كان إقطاعية أم طائفة دينية أم جماعة حرفية - على أنها سلطة لا تناقش، وأن يرجع إليها كلما تشعبت أمامه المسالك والتبست الأمور، ليجد لديها الكلمة الأخيرة في كل ما يريد أن يعرفه أو يبت فيه.
وفي مثل هذا الجو العقلي يستحيل أن تتقدم عملية البحث عن الحقائق؛ إذ إن كل شيء يرد إلى أصول معترف بها من قبل، وتتوقف قيمة النتائج التي يتوصل إليها المرء لا على قدرتها على إقناع العقل بل على قوة السلطة التي ترتكز عليها. وهكذا تظل الملكات العقلية للإنسان في حالة خمول وتعطل، ويشيع الاعتراف بمنهج القياس، أعني منهج إرجاع كل واقعة جديدة إلى واقعة أخرى أعم، تكون معروفة سلفا، وتنحصر قيمة كل إنسان في مدى قدرته على الاستشهاد بآراء الغير، وبالعبارات المحفوظة عن الأجداد والأسلاف، أو المنقولة حرفيا عن أقوال أولي الأمر، لا في قدرته على استخدام عقله من أجل توسيع معارفه والارتقاء بحصيلة المجتمع الإنساني من العلم، ومن فهم العالم الطبيعي والاجتماعي المحيط به. (5)
ولقد كانت النتيجة المباشرة لسيادة أسلوب التفكير القائم على فكرة السلطة، هي شعور الفرد بالاستسلام والعجز عن تغيير أي وضع من الأوضاع التي يجدها سائدة في المجتمع. بل لقد كان الفرد يحس بأن هذه الأوضاع لا تقبل التغيير أصلا، فهي أوضاع أزلية لا يملك المرء إلا أن يقبلها على ما هي عليه.
ولقد كان البعض يعمد أحيانا إلى تفسير المبادئ الدينية تفسيرا باطلا يساعد على تقوية هذا الشعور بالعجز عن تغيير الواقع، وذلك عن طريق الدعوة إلى فهم معين لأفكار مثل القضاء والقدر، يزيد من إحساس المرء بأن ما يحيط به في العالم مقدر له منذ الأزل أن يكون على ما هو عليه، وأن جهود الإنسان في هذه الحياة لن تجدي فتيلا؛ لأن كل شيء يسير في طريق مرسوم محتوم لا يملك الإنسان إزاءه شيئا. بل إن بعض المفكرين يرون أن هذا التفسير المتطرف للقدرية إنما هو التعبير المباشر - في المجال الديني - عن الرغبة في الإبقاء على الأوضاع السائدة في العصر الإقطاعي على ما هي عليه، وصبغها بصبغة أزلية لا تتغير ولا تتبدل. فحين يصبح كل حادث أمرا يستحيل على الإرادة الإنسانية أن تتدخل فيه أو تعمل على تغييره، يكون معنى ذلك أن النظم الاستبدادية الظالمة في المجتمع هي بدورها شيء مقدر منذ الأزل، وأن الإنسان لا يملك إلا أن يتركها على ما هي عليه. وبعبارة أخرى، فإن التفاوت الهائل بين الطبقات، والاستغلال البشع الذي تمارسه الطبقة المالكة على الطبقات الدنيا في المجتمع، ينظر إليه في هذه الحالة على أنه تعبير عن المشيئة الإلهية، التي ينبغي أن يقبلها الإنسان دون أدنى اعتراض. وليس هناك ما هو أبعد من هذا التفسير عن الفهم السليم لجوهر العقائد الدينية، التي كانت كلها تستهدف إقرار العدالة ومحاربة كافة أشكال الظلم. وليس هناك أيضا ما هو أحب إلى الطبقات العليا المسيطرة، وأقرب إلى تحقيق أهدافها ومصالحها، من هذه الدعوة التي تؤكد استحالة تجاوز الفوارق بين طبقات المجتمع، وتشيع بين الناس الاعتقاد بأن النظام الاجتماعي ينتمي إلى مجال الأمور الأزلية المقدرة سلفا، وأنه جزء من النظام العام للكون، وأن الإنسان مثلما يعجز عن أن يجعل الشمس تشرق من المغرب لا يمكنه أن يتدخل في تغيير الفوارق الاجتماعية التي نظمت بها حياة الناس منذ الأزل.
فهل من المستغرب بعد ذلك أن نجد أصحاب السيطرة في المجتمعات الإقطاعية يشجعون أمثال هذه التفسيرات الباطلة للعقائد الدينية؟ لا جدال في أن الارتباط واضح بين مصالحهم الشخصية وبين انتشار الدعوة القائلة بأن الشكل الجائر للنظام الاجتماعي هو جزء من نظام الكون، ومن هنا فقد أصبحوا على مر التاريخ حماة لأصحاب هذه الآراء الباطلة، وكونوا معهم تحالفا وثيقا، بل لقد تداخلت الفئتان تداخلا وثيقا، كما حدث في أوروبا عندما أصبح رجال الدين في العصور الوسطى هم في الوقت ذاته من كبار الإقطاعيين، وصار دفاعهم عن فكرة ثبات النظم الاجتماعية القائمة وأزليتها دفاعا عن مصالحهم الخاصة، لا عن مصالح حلفائهم فحسب. (6)
وأخيرا فإن تأثير هذه المصالح قد انعكس على التصور الديني لكثير من المجتمعات الإقطاعية في صورة أخرى، أسهمت بدورها في تشكيل عقول أفراد هذه المجتمعات بصورة مميزة، تلك هي إدخال نوع من التفاوت أو التسلسل في المراتب في المجال الروحي ذاته. فهناك مجتمعات تتصور الألوهية عالية مترفعة عن عالم البشر، وتقيم نوعا من تدرج المراتب بين هذه الألوهية وبين عامة الناس، فبعد الله يأتي الأنبياء والقديسون، ثم كبار الكهنة أو رجال الدين، ويتدرج الترتيب بعد ذلك حتى يصل آخر الأمر إلى الإنسان العادي. ولا بد للارتقاء إلى كل مرحلة من هذه المراحل من المرور بالمراحل السابقة، أي أن الإنسان العادي لا يستطيع مثلا أن يتقرب إلى الله، أو يحظى بشفاعة أحد القديسين، إلا عن طريق الكاهن الذي يتوسط بينه وبينهم.
والدليل على أن هذه النظرة إلى الدين انعكاس لنظام اجتماعي يتسم أيضا بالتدرج وتفاوت المراتب، هو أن هناك نظرات أخرى إلى الدين تختفي فيها هذه الحواجز، ويشيع فيها التقارب بين الله والإنسان، إذ يعد الله قريبا من البشر، مستجيبا ومعينا لهم، بل إن بعض المذاهب الدينية تؤكد حلول الله في العالم، وإمكان اتحاد الإنسان به إذا ارتقى إلى مستوى معين من الروحانية.
هذه الفكرة الأخيرة ترتبط بنظرة أكثر ديمقراطية إلى المجتمع البشري؛ لأنها لا ترتكز على تأكيد الفوارق في المرتبة بين الموجودات، ولأنها تعطي الإنسان العادي أملا في بلوغ أهداف العقيدة الدينية دون حاجة إلى واسطة. وبالفعل سادت هذه النظرة في العصور التي كانت أقرب إلى الروح الديمقراطية، على حين أن فكرة تسلسل المراتب من الأعلى إلى الأدنى كانت مقترنة بالتفاوت والفوارق التي هي أول خصائص المجتمع الإقطاعي.
صفحه نامشخص