في مثل هذا المجتمع تتخذ أساليب الإنتاج ذاتها طابعا ثابتا، ولا توجد أية حوافز للتجديد. وينعكس ذلك مباشرة على العقول، فتكون النتيجة أن تتسم طرق الفكر بالثبات، وتتسم العادات الاجتماعية والقيم الأخلاقية بالجمود والتحجر. وإلى هذا العامل يرجع قدر كبير من النفور من التجديد في مجتمعاتنا الريفية، والاعتقاد بأن الأحوال السائدة في المجتمع المحلي هي أوضاع أزلية، كانت ولا تزال موجودة في كل مكان وزمان. ولا جدال في أن ضيق نطاق التجارب في المجتمع الريفي يقوم بدور هام في هذا الصدد؛ إذ إن الانفتاح على العالم الخارجي، وتبادل الخبرات مع الشعوب والمجتمعات الأخرى، ظل حتى عهد قريب أمرا عسيرا بالنسبة إلى معظم المجتمعات الريفية في العالم، وزاد تحجر نظام الإقطاع من إحكام هذه العزلة، فكانت النتيجة هي ما نلمسه في المجتمعات الريفية من ارتياب وتشكك في أي نمط من أنماط السلوك أو الاعتقاد يخالف النمط الشائع في المجتمع المحلي، والنظر إلى كل تجديد على أنه بدعة لا تشكل انحرافا فرديا فحسب، بل تمثل خروجا على تقاليد المجتمع ذاته وتحديا وإهانة له. (2)
ويرتبط بالسمة السابقة مباشرة تقديس الماضي على حساب الحاضر والمستقبل. ففي المجتمع الذي يسوده النزوع إلى الثبات، والنفور من التغير والتجديد، تعد عبادة الماضي ظاهرة لا مفر منها. وهذه بدورها ظاهرة نلمسها في كافة المجتمعات الريفية عامة، حيث لم تتغير أساليب الإنتاج إلا في عشرات السنين الأخيرة، بينما ظلت عشرات القرون تكاد تكون ثابتة. ولكن المجتمع الإقطاعي يضيف إلى هذا التعليل العام سببا آخر؛ ذلك لأن زمام السيطرة في هذا المجتمع يقع في قبضة أناس يتجهون، بحكم وضعهم الاجتماعي، إلى تكريم الأسلاف والإشادة بماضيهم. فالمالك الإقطاعي الكبير يدين بثروته ونفوذه - في معظم الأحيان - للوراثة، وكثيرا ما تكون ممتلكاته موروثة من أسلاف بعيدين، بل إن لقبه ذاته قد يكون موروثا من أجداد سبقوه بمئات من السنين. وهكذا فإن أمجاده كلها مرتبطة بالماضي، وكل قيمة للحاضر إنما تستمد في نظره من علاقته بهذا الماضي. ولما كان الأعيان الإقطاعيون هم المسيطرون في مثل هذا المجتمع، فإن طرق تفكيرهم وقيمهم الأخلاقية هي التي تنتشر وتطبع صورتها على المجتمع ككل، ومن هنا تتعلق الأذهان في مثل هذا المجتمع بالماضي، وتنظر إلى المستقبل - الذي يحمل في طياته دائما احتمالات التغيير - بعين الارتياب، بل إنها لا ترضى عن الحاضر ذاته إلا بقدر ما يكون انعكاسا للماضي، وترى أن القديم أفضل دائما من الجديد، وأن ما انقضى عهده لا يمكن أن يعوض. وحين تصبح هذه الطريقة في التفكير ظاهرة عامة، يؤمن بها الإقطاعيون والفلاحون على حد سواء، يكون معنى ذلك أن أصحاب المصلحة في التغيير يعملون - على غير وعي منهم - على محاربة التغيير، وعلى تأكيد حقوق الغاصبين الذين يعد التعلق بالماضي عاملا أساسيا من عوامل تثبيت سلطتهم وإحكام قبضتهم على المجتمع.
ويمكن القول إن كل إفراط في التعلق بالتراث الماضي، في مجتمع معين، إنما هو - في جانب من جوانبه - أثر من آثار هذه العقلية الإقطاعية التي تدين بمبدأ عبادة الأسلاف. صحيح أن من حق كل شعب، بل من واجبه، أن يتذكر أمجاده الماضية ويستمد منها قوة تعينه على النهوض بحاضره، ولكن حين يصل تقديس التراث الماضي إلى حد الإلحاح المريض على هذه الأمجاد مع نسيان الحاضر نسيانا تاما، وإلى حد الاعتقاد بأن تذكير الناس بماضيهم يكفي وحده لتعويض كل نقائص حاضرهم، فعندئذ لا تعود عبادة الماضي عاملا من عوامل نهضة الأمة، بل تصبح عائقا في وجه تقدمها.
وحسبنا أن نشير إلى أن هذا التعلق المفرط بالماضي ينطوي ضمنا على إنكار لمبدأ التقدم، بل على عدم إيمان بإمكان هذا التقدم؛ فمثل هذا المجتمع يرى أن كل علامات التقدم المحيطة به إنما هي مظاهر خادعة، ويعتقد أن مضي الزمن لا يؤدي إلا إلى زيادة تدهور البشرية، أو على أحسن الفروض يتركها على ما هي عليه، دون أن يخطو بها إلى الأمام خطوة واحدة. ولا جدال في أن هذه النظرة التشاؤمية مرتبطة أوثق الارتباط بالنزعة الرجعية السائدة في عصور الإقطاع، إذ إن بقاء الأوضاع على ما هي عليه، أو على ما كانت عليه في الماضي، هو خير ضمان للمحافظة على مكاسب الإقطاعيين واستمرار سيطرتهم على المجتمع.
هذه الظاهرة تتمثل في بعض المجتمعات التي ظلت خاضعة أمدا طويلا لسيطرة الإقطاع (فضلا عن أنها تنتشر أيضا في المجتمعات التي كان للنظام القبلي فيها دور هام في تحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية). وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على عجز عن التكيف مع الواقع، أو على رغبة لا شعورية في الهروب منه. وحين تتخذ عبادة الماضي طابعا متطرفا فإنها تصبح عاملا من عوامل تخدير المجتمع وصرف أنظاره عن مشاغله الحاضرة وعن واجباته في المستقبل. ولذلك كان لزاما على كل مجتمع يتطلع إلى إحداث تغير ثوري في حياته أن يجعل لتأثير ماضيه حدودا لا يتعداها. وأفضل ما يمكن عمله في هذا الصدد هو أن يتخذ من ماضيه قوة تعينه على السير قدما نحو مستقبل أفضل، وهذا أمر لا يصعب إنجازه، إذ إن قدرة الأمة على اكتشاف نفسها والاهتداء إلى هويتها الأصيلة، تعد من أهم العوامل التي تساعدها على النهوض في مستقبلها، بل إن البعض يرى أن تعمق الأمة في معرفة ماضيها وفهم أبعاد شخصيتها يعينها حتى في عمليات التنمية ذاتها، سواء كانت تلك تنمية اقتصادية أم اجتماعية. في هذا الإطار يعد التعلق بالماضي والسعي إلى استكشاف أبعاده أمرا مشروعا، أما الوقوف عند حدود هذا الماضي دون نظر إلى متطلبات الحاضر وأهداف المستقبل فمظهر من مظاهر عقلية معتلة ربما كان من أهم أسباب تكوينها انتشار عادات التفكير التي ترجع إلى العصور الإقطاعية. (3)
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا النمط الاجتماعي السكوني المتحجر، الذي يسود عصور الإقطاع، والذي يربط العقول بعجلة الماضي أكثر مما يوجهها نحو المستقبل، إلى شيوع التزمت وضيق الأفق في مجال الفكر. ففي مثل هذا المجتمع لا يوجد للشك مجال، ذلك لأن كل الأسئلة تجد إجابات معدة سلفا، متفقا عليها بما يشبه العرف، والمفروض أن تكون هذه الإجابات كافية، وألا يثار من الأسئلة إلا ما يوجد عنه مثل هذه الإجابات. أما حالة الشك العقلي، أو التردد أو عدم الجزم (وهي المعروفة فلسفيا باسم «اللا أدرية») فغير مقبولة في مجتمع كهذا. ذلك لأن الشك هو أول خطوات السعي إلى التغيير، الذي هو أكبر المحرمات في المجتمع الإقطاعي. وفي مثل هذا المجتمع لا يسمح لأحد بأن يظل معلقا بين الشك واليقين؛ لأن كل الحقائق التي يسمح بمعرفتها ينبغي أن تكون يقينية وأن تقبل بلا مناقشة.
أما الآراء المعارضة فإن التسامح معها يؤدي إلى انهيار أسس المجتمع الإقطاعي، ومن هنا كان مبدأ التسامح ذاته من المبادئ التي لا يعترف بها مجتمع كهذا. ويصدق ذلك على مجال العلم والفكر، مثلما يصدق على مجال السياسة. فكما أن الحريات الفردية لا يسمح بها في المجال السياسي، فكذلك لا تبدي السلطات المسيطرة على المجتمع تسامحا فكريا مع الرأي الذي يخالف العرف المتفق عليه، وتعمل على كبت روح النقد والتحليل العقلي.
على أننا لسنا بحاجة إلى جهد كبير لكي ندرك أن عددا هائلا من أعظم الكشوف التي توصلت إليها البشرية لم يظهر إلا لأن هناك عقولا سيطرت عليها - في البداية على الأقل - روح الشك في المعرفة القائمة، ولم تقتنع بالإجابات السهلة التي يرد بها على تساؤلات العقول، بل لم تكتف أصلا بالنسبة التي يشيع طرحها، وإنما طرحت أسئلة جديدة، وحاولت أن تهتدي بنفسها إلى الإجابة الصحيحة عنها. وهذا يعني أن التزمت الفكري الذي يسود هذه المجتمعات يساعد - بدوره - على بقائها في حالة الجمود والتحجر التي أشرنا إليها من قبل، بحيث يكون عدم التسامح وضيق الأفق سببا ونتيجة لهذا الجمود في آن واحد.
ولعل في هذا ما يكفي لتفسير ظاهرة انعقد عليها إجماع المؤرخين، وهي أن أي عصر من عصور الإقطاع لم يشهد تقدما علميا أو فكريا بالمعنى الصحيح، بل حدث هذا التقدم، جزئيا في بعض العصور السابقة على الإقطاع، ثم تحقق معظمه في العصور اللاحقة له. وكان العامل الأساسي الممهد لهذا التقدم هو التخلص من تزمت العقلية الإقطاعية، والاعتراف بمبدأ التسامح الفكري. فمنذ اللحظة التي أدرك فيها المجتمع أن الشك في المعرفة وفي الآراء السائدة ليس جريمة، وإنما هو دليل على حيوية الفكر، وقد يكون هو الخطوة الأولى نحو الوصول إلى كشف جديد - منذ هذه اللحظة أصبح التقدم مسألة وقت فحسب. ولكن لا بد للاعتراف بحق الغير في إبداء آراء مخالفة، ولإدراك قيمة المعارضة الفكرية في النهوض بالمعرفة البشرية في كافة مجالاتها، لا بد لذلك من التخلص من بقايا العقلية الإقطاعية بما تفترضه من مجتمع نمطي موحد التفكير. (4)
وإذا كان إنكار مبدأ الشك وعدم التسامح هو الوجه السلبي للعقلية السائدة في عصور الإقطاع، فإن الوجه الإيجابي لهذه الظاهرة نفسها هو الإيمان المفرط بالسلطة. ففي جميع مجالات الحياة توجد سلطة نهائية يرجع إليها، وتكون لها الكلمة الأخيرة في كل أمر يختلف عليه الناس.
صفحه نامشخص