جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
وهو يعني: يحب فيها الطعام، فحذفت الهاء الراجعة على «اليوم»، إذ فيه اجتزاء بما ظهر من قوله: { واتقوا يوما لا تجزي نفس } الدال على المحذوف منه عما حذف، إذ كان معلوما معناه. وقد زعم قوم من أهل العربية أنه لا يجوز أن يكون المحذوف في هذا الموضع إلا الهاء. وقال آخرون: لا يجوز أن يكون المحذوف إلا «فيه». وقد دللنا فيما مضى على جواز حذف كل ما دل الظاهر عليه. وأما المعنى في قوله: { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } فإنه تحذير من الله تعالى ذكره عباده الذين خاطبهم بهذه الآية عقوبته أن تحل بهم يوم القيامة، وهو اليوم الذي لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، ولا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. وأما تأويل قوله: { لا تجزي نفس } فإنه يعني: لا تغني. كما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: { واتقوا يوما لا تجزي نفس } أما تجزي: فتغني. وأصل الجزاء في كلام العرب: القضاء والتعويض، يقال: جزيته قرضه ودينه أجزيه جزاء، بمعنى: قضيته دينه، ومن ذلك قيل: جزى الله فلانا عني خيرا أو شرا، بمعنى: أثابه عني وقضاه عني ما لزمني له بفعله الذي سلف منه إلي. وقد قال قوم من أهل العلم بلغة العرب: يقال: أجزيت عنه كذا: إذا أعنته عليه، وجزيت عنك فلانا: إذا كافأته. وقال آخرون منهم: بل جزيت عنك: قضيت عنك، وأجزيت: كفيت. وقال آخرون منهم: بل هما بمعنى واحد، يقال: جزت عنك شاة وأجزت، وجزى عنك درهم وأجزى، ولا تجزي عنك شاة ولا تجزي بمعنى واحد، إلا أنهم ذكروا أن جزت عنك ولا تجزي عنك من لغة أهل الحجاز، وأن أجزأ وتجزىء من لغة غيرهم. وزعموا أن تميما خاصة من بين قبائل العرب تقول: أجزأت عنك شاة، وهي تجزىء عنك. وزعم آخرون أن جزى بلا همز: قضى، وأجزأ بالهمز: كافأ. فمعنى الكلام إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا ولا تغني عنها غنى. فإن قال لنا قائل: وما معنى: لا تقضي نفس عن نفس، ولا تغني عنها غنى؟ قيل: هو أن أحدنا اليوم ربما قضى عن ولده أو والده أو ذي الصداقة والقرابة دينه وأما في الآخرة فإنه فيما أتتنا به الأخبار عنها يسر الرجل أن يبرد له على ولده أو والده حق، وذلك أن قضاء الحقوق في القيامة من الحسنات والسيئات.
كما: حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن أبي خالد الدولابي يزيد بن عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" رحم الله عبدا كانت عنده لأخيه مظلمة في عرض "
قال أبو بكر في حديثه:
" أو مال أو جاه، فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم، فإن كانت له حسنات أخذوا من حسناته، وإن لم تكن له حسنات حملوا عليه من سيئاتهم "
حدثنا أبو عثمان المقدمي، قال: حدثنا القروي، قال: حدثنا مالك، عن المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. حدثنا خلاد بن أسلم، قال: حدثنا أبو همام الأهوازي، قال: أخبرنا عبد الله بن سعيد، عن سعيد عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. حدثنا موسى بن سهل الرملي، قال: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يموتن أحدكم وعليه دين، فإنه ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يقتسمون هنالك الحسنات والسيئات "
وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يمينا وشمالا. حدثني محمد بن إسحاق، قال: قال: حدثنا سالم بن قادم، قال: حدثنا أبو معاوية هاشم بن عيسى، قال: أخبرني الحارث بن مسلم، عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي هريرة. قال أبو جعفر: فذلك معنى قوله جل ثناؤه: { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } يعني أنها لا تقضي عنها شيئا لزمها لغيرها لأن القضاء هنالك من الحسنات والسيئات على ما وصفنا. وكيف يقضي عن غيره ما لزمه من كان يسره أن يثبت له على ولده أو والده حق، فيأخذه منه ولا يتجافى له عنه؟. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى قوله: { لا تجزي نفس عن نفس شيئا }: لا تجزي منها أن تكون مكانها. وهذا قول يشهد ظاهر القرآن على فساده، وذلك أنه غير معقول في كلام العرب أن يقول القائل: ما أغنيت عني شيئا، بمعنى: ما أغنيت مني أن تكون مكاني، بل إذا أرادوا الخبر عن شيء أنه لا يجزي من شيء، قالوا: لا يجزي هذا من هذا، ولا يستجيزون أن يقولوا: لا يجزي هذا من هذا شيئا.
فلو كان تأويل قوله: { لا تجزي نفس عن نفس شيئا } ما قاله من حكينا قوله لقال: { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس } كما يقال: لا تجزي نفس من نفس، ولم يقل لا تجزي نفس عن نفس شيئا: وفي صحة التنزيل بقوله: لا تجزي نفس عن نفس شيئا أوضح الدلالة على صحة ما قلنا وفساد قول من ذكرنا قوله في ذلك. القول في تأويل قوله تعالى: { ولا يقبل منها شفعة }. قال أبو جعفر: والشفاعة مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة، وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع شفيع وشافع لأنه ثنى المستشفع به، فصار له شفعا، فكان ذو الحاجة قبل استشفاعه به في حاجته فردا، فصار صاحبه له فيها شافعا، وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض شفيعا لمصير البائع به شفعا. فتأويل الآية إذا: واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس حقا لزمها لله جل ثناؤه ولا لغيره، ولا يقبل الله منها شفاعة شافع، فيترك لها ما لزمها من حق. وقيل: إن الله عز وجل خاطب أهل هذه الآية بما خاطبهم به فيها لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل، وكانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه، وسيشفع لنا عنده آباؤنا. فأخبرهم الله جل وعز أن نفسا لا تجزي عن نفس شيئا في القيامة، ولا يقبل منها شفاعة أحد فيها حتى يستوفى لكل ذي حق منها حقه. كما: حدثني عباس ابن أبي طالب، قال: حدثنا حجاج بن نصير، عن شعبة، عن العوام بن مزاحم رجل من قيس بن ثعلبة، عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة، كما قال الله عز وجل { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا } الآية... "
صفحه نامشخص