وما أتم السيد عبد الرحمن جولته الأولى حتى كان قد اطمأن إلى إتقان تنكره، ثم استمر يقوم بمثل هذه الجولة على السفينة مرات في اليوم والتجار والبحارة يزدادون تيمنا به ويتنافسون في العمل على مرضاته، حتى رست السفينة في ميناء بولاق، فغادرها وهو على تلك الهيئة، وانطلق يتجول في الأسواق والأزقة متظاهرا بالانجذاب، فلم تمض ساعة حتى كان يسير وخلفه جمهور كبير من الصبيان والمتعطلين والمارة على اختلافهم، وهم بين ساخر منه، ومتبرك به، وما زال سائرا حتى بلغ الحارة التي بها منزله، فجلس ببابها متظاهرا بالرغبة في الاستراحة، وهو إنما يريد صرف الجمهور السائر خلفه؛ ليتفرغ بعد ذلك لتفقد أهل منزله والوقوف على حقيقة حالهم.
ومر به أحد الفقهاء، فرثى لحاله وأمر الناس فانصرفوا عنه، ثم مد يده إليه ببعض الدراهم فلم يقبلها، وقال له متظاهرا بالبله والانجذاب: «لا حاجة بي إلى دراهم، ولا آخذها حتى لا تغضب أمي وتضربني!»
فابتسم الفقيه واعتقد أنه من أهل الصلاح والتقوى، فطلب إليه أن يرافقه إلى بيته، فهز رأسه إشارة الرفض.
وعرض عليه الفقيه أن يأتيه ببعض الطعام، فرفض أيضا، لكنه أشار إليه بوضع يده على فمه أنه يريد ماء، فانطلق الفقيه إلى أبواب الحارة، وجاءه من عنده بقلة ملأى بالماء، فاكتفى برشفات منها وأعادها إليه، ثم تظاهر بأنه يريد النوم، ولكنه خشي على طبله أن يخطفه الصبيان، فطلب الفقيه من البواب أن يخلي له مكانا بجانبه وراء الباب لينام فيه آمنا، وبادر البواب بإجابة الطلب وهو فرح فخور.
ومضت ساعات والسيد عبد الرحمن متظاهرا بالنوم خلف باب الحارة، وكلما سمع وقع أقدام خارجة أو داخلة اختلس النظر نحو الباب لعل القادم ابنه أو أحد خدم المنزل، فلما لم يمر به أحد منهم عاوده قلقه، ولم يطق صبرا بعد ذلك، فهب من مرقده فجأة، وأخذ يقفز ويتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم هم بطبله فعلقه على صدره فوق مرقعته، وأحكم وضع طرطوره الطويل على رأسه، وتناول عصاه الملونة، ومشى في الحارة وهو يقرع الطبل فيختلط دويه بصليل الأجراس والجلاجل التي في مرقعته، وما زال سائرا بهذه الحالة حتى وصل إلى منزله وقد أوشكت الشمس أن تغرب، فوجد الباب مغلقا، وسمع أصواتا منبعثة من الداخل لا عهد له بها، فاشتدت به الوساوس والهواجس، وهم بطرق الباب، لكنه آثر الانتظار بعض الوقت، فجلس بقربه مستمرا في قرع طبله والصلصلة بأجراسه، وأهل الحارة يمرون به ضاحكين منه متيمنين بوجوده فيها، وهم يحسبونه من المجاذيب أهل الكشف.
وبعد قليل فتح الباب وخرج منه شيخ وقور عرف السيد عبد الرحمن أنه زميل قديم له من التجار في وكالة الليمون، وهم بأن يناديه، فإذا بالتاجر يقصده من تلقاء نفسه ويحاول إعطاءه بعض الدراهم، فرفض أخذها متظاهرا بالغضب، وأفهمه بالإشارة أنه في حاجة إلى الطعام والنوم، فأخذ التاجر بيده وعاد به إلى المنزل حيث أدخله حجرة الجلوس في الطابق الأرضي، وأمر الخادم بأن يأتيه بالطعام ويهيئ له منامة، ثم استأذن في الخروج سائلا إياه أن يذكره بدعواته الطيبات، وانصرف بعد أن أوصى الخادم بالسهر على خدمة الشيخ المبارك وتلبية كل ما يطلبه. •••
ما كاد السيد عبد الرحمن يدخل منزله مع زميله التاجر الذي وجده ساكنا فيه حتى أدرك أن نظام المنزل قد تغير إلى حد كبير، ولم يجد في طريقه إلى حجرة الجلوس أي أثر لأحد من أهله أو خدمه، فتسارعت دقات قلبه، وكاد يجهش بالبكاء، لكنه تجلد حتى لا يفتضح أمره، وصبر إلى أن انصرف زميله التاجر، ثم جاءه الخادم بالطعام، فتظاهر بالغضب، وأمر بإعادته، ثم هم بحمل طبله وعصاه وطرطوره، ورفع صوته قائلا وهو يتظاهر بأنه يحدث نفسه: «لا. لا. هذا مستحيل.»
فوجم الخادم، وخشي أن يترك المجذوب يغادر المنزل فيغضب سيده، فاقترب من السيد عبد الرحمن وهم بتقبيل يده قائلا: «ما الذي أغضبك؟ اطلب ما شئت فإني في خدمتك.»
فقال له: «أنا لا آكل طعاما، ولا أنام في منزل خلا من أصحابه.»
ففهم الخادم أن الشيخ المجذوب عرف بالإلهام قصة الظلم الذي أوقعه المماليك بأصحاب المنزل الأولين، فمال على يده وقبلها في خشوع وإجلال وقال: «رحمهم الله يا سيدي، ورحمنا جميعا من الظلم والاضطهاد.» ثم تضرع إليه ألا يغادر المنزل، وأن يطلب الطعام الذي يريده فيحضره له في الحال؛ حتى لا يغضب سيده ويطرده.
صفحه نامشخص