أبطال الرواية
1 - في وكالة الصابون
2 - في قلعة القاهرة
3 - السيد المحروقي
4 - في مجلس علي بك الكبير
5 - الحرب بين روسيا وتركيا
6 - الست نفيسة المملوكية
7 - الشيخ المجذوب
8 - رسول من عكا
9 - في الإسكندرية
صفحه نامشخص
10 - في جبل لبنان
11 - حصار بيروت
12 - فتح بيروت
13 - فتح دمشق
14 - أثر الحبيب
15 - خروج علي بك من مصر
16 - اجتماع الشمل
أبطال الرواية
1 - في وكالة الصابون
2 - في قلعة القاهرة
صفحه نامشخص
3 - السيد المحروقي
4 - في مجلس علي بك الكبير
5 - الحرب بين روسيا وتركيا
6 - الست نفيسة المملوكية
7 - الشيخ المجذوب
8 - رسول من عكا
9 - في الإسكندرية
10 - في جبل لبنان
11 - حصار بيروت
12 - فتح بيروت
صفحه نامشخص
13 - فتح دمشق
14 - أثر الحبيب
15 - خروج علي بك من مصر
16 - اجتماع الشمل
استبداد المماليك
استبداد المماليك
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
علي بك الكبير:
صفحه نامشخص
شيخ البلد في مصر.
عثمان باشا:
والي مصر التركي.
محمد بك أبو الذهب:
خليفة علي بك وصهره.
الأمير يوسف شهاب:
حاكم لبنان.
الشيخ ضاهر الزيداني:
حاكم عكا.
الأمير أورلوف:
صفحه نامشخص
قائد الأسطول الروسي.
السيدة نفيسة المملوكية:
زوجة علي بك.
السيد المحروقي:
من السادة الأشراف بمصر.
السيد عبد الرحمن:
تاجر مصري كبير.
حسن:
ابن السيد عبد الرحمن.
سالمة:
صفحه نامشخص
زوجة السيد عبد الرحمن.
علي:
خادم الأسرة.
عماد الدين:
رسول الشيخ ضاهر.
الفصل الأول
في وكالة الصابون
استولى على مصر بعد الخلفاء الفاطميين كثير من السلاطين، ظلت تحكم باسمهم إلى أن آل أمرها إلى المماليك، فاستبدوا في أحكامهم، وضج أهلها بالشكوى منهم. واستمر الحال على هذا المنوال حتى غزاها الخليفة التركي السلطان سليم، في عهد سلطانها الغوري، فتم له فتحها ودخلها بعد قتله في وقعة مرج دابق، حيث شنق خليفته طومان باي، فصارت مصر منذ ذلك الحين تابعة لتركيا.
ونظرا إلى بعدها من دار الخلافة، رأى السلطان سليم أن يجعل في إدارتها انقساما يأمن معه خروجها من طاعته، فجعل حكومتها مؤلفة من ثلاث سلطات:
أولا:
صفحه نامشخص
سلطة الباشا: وهو الوالي الذي يرسله من الآستانة، ومقره في قلعة القاهرة، ويختص بتلقي أوامر السلطنة وتبليغها ومراقبة تنفيذها.
ثانيا:
سلطة البكوات: وهم بقية الحكام المماليك، وقد عهد إليهم في إدارة المديريات وحفظ الأمن والنظام في البلاد، كما هو شأن المديرين الآن.
ثالثا:
سلطة الوجاقات: وهي القوة العسكرية. وكانت مؤلفة من الإنكشارية، والمتفرقة، والدلاتية (جند المغاربة)، وغيرهم. وعليها جباية الضرائب والإعانات والغرامات وما إليها من الأموال التي تؤخذ لخزانة الدولة، كما أن عليها الدفاع عن البلاد عند الحاجة إلى ذلك.
على أن البكوات المماليك لم يقنعوا بالسلطة الكبيرة التي منحت لهم، فما لبثوا قليلا حتى عادوا إلى الاستبداد.
وكان من بينهم «شيخ البلد» المنوط به حكم القاهرة والسهر على استتباب الأمن والنظام فيها كما هو شأن محافظها الآن. غير أنه لم يكن يقنع بما دون السلطة المطلقة، ولم يكن للباشا التركي بجانبه من السلطة إلا مظاهر جوفاء، لا أثر لها على الإطلاق.
فلما كانت سنة 1763، وآلت مشيخة البلد إلى علي بك الكبير، كان أكثر المماليك شهامة وأعظمهم همة وأشدهم بطشا. ولكنه طمع في الاستقلال بمصر، وحدثته نفسه بافتتاح البلاد المجاورة لها أيضا.
ولم تكن القاهرة في تلك الأيام على ما هي عليه الآن من اتساع العمران وكثرة السكان. فالأحياء المعمورة فيها حينذاك لم تكن تزيد على أحياء: الحمزاوي والغورية والجمالية والنحاسين وما جاورها. أما الفجالة وشبرا والعباسية والإسماعيلية والجزيرة وغيرها من الأحياء الحديثة فلم تكن قد أنشئت بعد.
وكان للمدينة سور منيع به أبواب عدة ضخمة تغلق عقب غروب الشمس كل يوم، فلا يستطيع أحد بعد ذلك أن يدخل المدينة أو يخرج منها إلا بإذن خاص، وما زالت بعض هذه الأبواب وآثار السور باقية حتى اليوم.
صفحه نامشخص
أما أغنى هذه الأحياء كلها وأكثرها سكانا وروادا، فكانت هي الأحياء الواقعة في منطقة الجمالية وما جاورها من الغورية وخان الخليلي؛ حيث تقوم مختلف المتاجر وقصور الأغنياء.
وهناك في الجمالية كانت توجد وكالة الصابون، وهي يومئذ مجتمع كبار التجار وأصحاب الثروة، فلا تخلو ساحتها الرحيبة من مئات منهم طول النهار، بين بائعين ومشترين ومتفرجين.
وكان من بين تجار تلك الوكالة، في العهد الذي جرت فيه وقائع روايتنا هذه، تاجر يقال له «السيد عبد الرحمن». اشتهر رغم ضخامة ثروته واتساع تجارته بالتواضع الجم والاستقامة والبر بالفقراء، مع رجاحة العقل والاتزان. وقد تعود أن يقضي نهاره في الوكالة يشرف على حركة البيع والشراء في متجره الكبير، فإذا جاء المساء عاد إلى منزله في شارع الكعكيين في الغورية، حيث زوجته وولده الوحيد منها، وبعض السراري الشركسيات والحبشيات.
ولولا ما كان يقاسيه هو وغيره من استبداد المماليك وجورهم، وكثرة الضرائب التي يطلبونها من وقت لآخر لكان له من ثروته الضخمة وتجارته الرابحة وحياته المنزلية الهادئة ما يجعله أسعد السعداء، ولاسيما أن ولده الوحيد السالف الذكر، واسمه حسن، كان قد أتم تعليمه في الجامع الأزهر، ثم التحق بالبيمارستان المنصوري القائم في شارع النحاسين أمام الطريق المؤدي إلى بيت القاضي؛ حيث أبدى تفوقا في دراسة الطب على يد أستاذ مغربي فيه، واشتهر بين زملائه وعارفيه بالاستقامة والذكاء والاتزان كأبيه. فلم يكن يغشى مكانا غير البيت والمدرسة، ولا يمل المطالعة للاستزادة من المعارف والعلوم. •••
أمضى السيد عبد الرحمن نهاره حتى العصر مشرفا على العمل في متجره بوكالة الصابون كعادته. وكان ذلك في يوم من أيام سنة 1770. فلما سمع أذان العصر، أشار إلى خادمه فجاء بسجادة فرشها على دكة في ركن من المتجر ليصلي عليها العصر بعد أن توضأ لهذا الغرض.
ولم يكد السيد عبد الرحمن يبلغ الدكة وهو يتمتم ببعض الأدعية ويحمد الله على ما أولاه إياه من النعم والخيرات، حتى لحق به أحد الكتبة في المتجر، وأنبأه بأن بعض موظفي الحكومة جاءوا يطلبون مقابلته. فاستعاذ بالله من ذلك، لعلمه بأن هؤلاء الموظفين لا يأتون إلا لطلب ضريبة أو إعانة أو توقيع عقوبة مالية بغير ذنب ولا جريرة.
وحدثته نفسه بأن يرجئ مقابلتهم حتى يصلي، لكنه خشي أن يهيج ذلك غضبهم وانتقامهم، فرفع طرفه إلى السماء وتنهد، ثم عاد أدراجه إلى مجلسه المعتاد في المتجر ليستقبلهم هناك ويرى ما وراء هذه الزيارة.
وكان هؤلاء الموظفون ثلاثة: أحدهم الجابي، وهو في زي المماليك المؤلف من السراويل الفضفاضة الطويلة المشدودة فوق الكعبين، والعمامة فوق القاووق، وحول وسطه منطقة عريضة علق بها خنجر من الأمام، وعلى منكبيه جبة تدلى على جانبها الأيمن سيف معقوف، وقد تغضن وجهه وشاب شعر رأسه. والثاني جندي يحمل في يده دفترا كبير الحجم كتبت فيه أسماء التجار وغيرهم من الملاك والعمال، وبيانات عن الضرائب المطلوبة من كل منهم. أما الثالث فهو الكاتب، وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي منطقته دواة مستطيلة من النحاس.
فلما دخل عليهم السيد عبد الرحمن، بالغ في تحيتهم والترحيب بهم. وأسرع في مشيته للقائهم متكلفا البشاشة والابتسام، ثم أمر لهم بالقهوة والغليون - أداة تدخين التبغ في ذلك العهد - ثم جلس بين أيديهم يكرر التحية والملاطفة اجتذابا لرضاهم عنه. وقلبه يخفق بين جوانحه مخافة أن يكون مجيئهم لأمر من ورائه خسارة له.
وضاعف من خشيته وريبته أن الجابي، لم يزده ذلك كله إلا غلظة وغطرسة، وبقي صامتا يرمقه شزرا في ازدراء ملحوظ، وقد جلس جلسة الكبرياء واضعا إحدى ساقيه فوق الأخرى. فلما جاء الخادم بالقهوة وبدأ بتقديمها له متأدبا. أشاح عنه بوجهه، والتفت إلى السيد عبد الرحمن. وقال له غاضبا: «إننا لم نأت لنشرب قهوتك، ولا حاجة لنا بها. وإنما جئنا نطلب حقوق الدولة!»
صفحه نامشخص
فأجفل السيد عبد الرحمن، وتحقق وقوع ما كان يحذره، لكنه كظم ما به متجلدا وقال متظاهرا بالبشاشة: «أهلا وسهلا ومرحبا بالسادة الأجلاء، مروا بما شئتم، فما نحن إلا عبيد مولانا علي بك ورهن أمره في كل وقت!»
فقال الجابي: «مطلوب منك أن تدفع ألف نصف، مساعدة للحملة الذاهبة لنجدة شريف مكة بعد أيام.»
فاستكثر عبد الرحمن هذا القدر المطلوب من ماله، رغم دفعه ضرائب باهظة منذ عهد قريب، لكنه لم يجرؤ على إظهار ذلك، واكتفى بأن قال: «هل هذا المال مطلوب دفعه فورا؟»
فنهض الجابي مغضبا حانقا وصاح به قائلا: «ما شاء الله! ومتى تظن أن تدفعه إذن؟ أتريد أن يكون ذلك بعد عودة الحملة أو هلاكها؟ أم لعلك استكثرت أن تدفع ألف نصف من الآلاف المؤلفة التي تحصل عليها عفوا بلا تعب من أموال الناس وأنت جالس على وسادتك في أمان واطمئنان، بينما نحن نتجشم الأخطار والأسفار لحماية بلادكم والدفاع عنها؟ كلا يا سيدي ثم كلا. يجب أن تدفع ألفين اثنين لا ألفا فقط. فهل فهمت؟!»
فندم عبد الرحمن على تعجله بإلقاء ذلك السؤال، ووقف وقد امتقع لونه وارتجفت أطرافه، وخشي أن يضاعف الجابي قيمة الضريبة المطلوبة مرة ثانية، فمد يديه نحوه إشارة التوسل والخضوع وقال: «العفو يا سيدي الجاويش، إني ليسرني أن أقوم بالواجب علي وزيادة، وإنما أردت بالاستفهام أن أعرف هل هناك فرصة لتأجيل الدفع أم لا، فالحالة التجارية كما تعلمون ليست في هذه الأيام على ما يرام، وسبق أن تفضل جناب الخازندار بمثل هذا التأجيل مراعاة لظروف مماثلة.»
فازداد غضب الجابي، وانتهر السيد عبد الرحمن بشدة، وقال: «أتشكو الفقر وأنت قد ابتلعت أموال الناس، وعشت من الأرباح الطائلة في رغد ونعيم، بينما نحن في شقاء دائم وتعب لا يطاق، ونلقي بأنفسنا إلى الهلاك دفاعا عنكم وعملا على راحتكم وطمأنينتكم؟ أم نسيت أن تظلمك للخازندار يعني أننا ظلمناك ولم نعدل في تقدير المال المطلوب منك؟!»
فأخذ السيد عبد الرحمن يستعطف الجابي ويحاول استرضاءه واتقاء غضبه بكل وسيلة. ثم نادى كاتب المتجر وأمره بأن يعد ألفي نصف ويحضرها فورا، فحنى الكاتب رأسه سمعا وطاعة ومضى لتنفيذ ما أمر به. ثم عاد بالمبلغ المطلوب بعد قليل فسلمه للسيد عبد الرحمن، وقدمه هذا للجابي فتناوله منه متظاهرا بعدم المبالاة، وسأله: «كم نصفا دفعت؟»
قال: «دفعت الألفين اللذين طلبتموهما.»
فقذف الجابي بالكيس الذي به النقود إلى الأرض، ثم نهض مغاضبا، وصاح بالسيد عبد الرحمن محتدا يقول: «لقد أبطرتكم النعمة. أإلى هذا الحد بلغ جهلكم وغروركم وقلة إنسانيتكم؟ أم حسبت أننا عبيد لك أو خدم عندك؟»
فارتعدت فرائصه، وازداد امتقاع وجهه، وابتلع ريقه بصعوبة لجفاف حلقه، ثم دنا من الجابي وقال في خشوع: «العفو يا سيدي ... لقد أطعت أمركم. ولي الشرف بهذه الطاعة الواجبة. فماذا أغضبكم؟»
صفحه نامشخص
فقال الجابي: «هل عميت عن حق الطريق؟»
ففطن التاجر إلى أنه لم يدفع للجابي بعض المال لنفسه فوق الضريبة كما هي العادة. وكان الخوف قد أنساه ذلك، فبادر بالاعتذار والاستغفار، مؤكدا أنه لا يمكن أن يغفل أداء مثل هذا الواجب المقدس، وإنما وقع ذلك سهوا منه ومن كاتبه. فقال الجابي: «حقا إنكم جهلة متأخرون، لا تحترمون موظفي حكومتكم وتتجاهلون حقوقهم. وكان يجب أن تدفع حق الطريق قبل دفع الإعانة نفسها.»
فأخذ السيد عبد الرحمن يتضرع إليهم أن يغفروا له ذلك الخطأ غير المقصود، مبديا استعداده لدفع ما يأمر به الجابي، فقال هذا: «لا تطل الكلام، ادفع مائة نصف.»
قال: «سمعا وطاعة.» ثم انطلق إلى خزانته وجاء بالمال المطلوب في إحدى يديه، وفي الأخرى مثله لكل من الكاتب والجندي حامل الدفتر، ثم سلم كلا منهم نصيبه من حق الطريق، وتنهد دلالة على الارتياح، ووقف بين أيديهم متأدبا، وفي نفسه أنه أرضاهم جميعا وتخلص من شرهم، ولا يلبثون قليلا حتى ينصرفوا فيعود إلى أداء صلاة العصر قبل أن يفوت وقتها.
وشد ما كان عجبه وجزعه حين رأى الجابي يشير إلى الكاتب الذي معه، ويأمره بمراجعة الدفتر لعل هناك ضرائب أخرى لم تسدد بعد. فنظر الكاتب في الدفتر قليلا ثم التفت إلى الجابي وقال: «إن له أرضا في الشرقية يدفع عنها كيسين كل سنة عشورا. والمطلوب أن يدفع الآن عشور ثلاث سنوات سلفا؛ لأن الديوان محتاج إلى نفقات كثيرة.»
فوجم السيد عبد الرحمن ثم تمالك نفسه وقال للجابي: «عفوا يا سيدي. إن هذه الأرض لم تعد ملكا لي؛ إذ إنني بعتها منذ سنة.»
وظن أن الجابي سيقتنع بهذه الحجة ويعفيه من العشور المطلوبة. ولكن هذا بدلا من الاقتناع وضع يده على مقبض سيفه ورد عليه بقوله: «أتريد اختلاس أموال الديوان بالكذب والبهتان؟ أم تريد أن نكذب دفتر الحكومة ونصدق دعواك ... لا بد من دفع العشور المطلوبة الآن وإلا كنت الجاني على نفسك.»
فتلعثم التاجر ولم يستطع جوابا؛ لعلمه أن ليس أسهل على الجابي من قتله ونهب كل ما في متجره. ثم نادى كاتب المتجر وسأله أمامهم: «هات ستة أكياس.» فقال الكاتب: «ليس في الخزانة الآن إلا كيسان اثنان، فهل آتي بهما؟»
وعبثا حاول السيد عبد الرحمن أن يستعطف الجابي ليمهله إلى اليوم التالي ريثما يدبر بقية المال المطلوب، فاستأذنه في الخروج لاقتراضه من أحد التجار، فلما أذن له خرج يطوف بمتاجر زملائه في الوكالة، حتى وفق إلى من أقرضه الأكياس الأربعة الباقية، فعاد بها إلى متجره يتنازعه عامل الأسف على ما تجشم من خسائر مالية فادحة، وعامل الشكر لله على أن نجاه من القتل بيد الجابي المتكبر الجبار.
وما بلغ المتجر حتى وجد كاتبه جالسا يبكي وينتحب بالباب، والدم يسيل من جرح في رأسه. فسأله: «ما هذا، وأين الجابي ومن معه؟»
صفحه نامشخص
قال: «لم تكد تخرج حتى نادوني وأخذوا الكيسين طالبين أن أحضر لهم الأكياس الباقية في الحال؛ لأنهم لا يستطيعون الانتظار أكثر مما انتظروا. فلما كررت لهم الاعتذار بخلو خزانة المتجر، اعتدوا علي بالضرب ونهبوا ما استطاعوا نهبه من السلع المعروضة في المتجر، ثم انصرفوا حانقين متوعدين!»
فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من ذلك الظلم المبين، وراح يندب سوء حظ مصر ونكبة أهلها بحكم المماليك المستبدين، وجلس في المتجر مطرقا مفكرا، ثم رفع رأسه بعد قليل، ومسح دمعة انحدرت من عينه على خده، وعزى نفسه قائلا: «الحمد لله على أن الخسارة لم تتعد الأموال، ولو أنهم قتلوني ما طالبهم بدمي أحد.»
ثم نهض ومشى إلى الدكة التي فرشت عليها السجادة للصلاة، فصلى في خشوع وإيمان، ودعا الله أن يقيه شر أولئك اللصوص الطغاة غلاظ القلوب والأكباد. •••
جلس السيد عبد الرحمن في متجره بعد أن أدى صلاة العصر، يفكر في الظلم الذي حاق به من الجابي وصاحبيه. وفيما هو في ذلك، دخل عليه رجلان في زي كتبة الديوان وفي يد كل منهما دفتر، فوقع الرعب في قلبه وعاد إليه اضطرابه أشد مما كان. على أنه جاهد نفسه حتى لا يظهر عليه شيء من ذلك، وخف إلى استقبالهما والترحيب بهما ودعاهما إلى الجلوس بجانبه. ثم أمر لهما بالقهوة والغليون، وأخذ يلاطفهما معربا عن اغتباطه بتشريفهما إياه بالزيارة.
ومع أنهما كانا أقل خشونة من الجابي وصاحبيه، وكان هو على يقين من أنه دفع أكثر من قيمة الضرائب التي يحصلانها باسم عوائد الوالي والأغا (رئيس الشرطة)، والمحتسب (ملاحظ المكاييل والموازين والأسعار). بقي خائفا يترقب شرا من وراء زيارتهما؛ لعلمه في الوقت نفسه بأنهما وأمثالهما ليس لهم رواتب من الحكومة، بل هم يفرضون لأنفسهم ضرائب شهرية على التجار وأصحاب الحرف، يقدرونها حسبما يتراءى لهم، وربما أخذوها مرتين أو ثلاثا في الشهر، بغير رحمة ولا شفقة.
ولم يطل به الانتظار حتى وقع ما كان يحذره، فنظر أحد الكاتبين في الدفتر الذي يحمله والتفت إليه قائلا: «مطلوب منذ الآن مائة نصف من عوائد الحسبة، ومثلها من عوائد الوالي والأغا.»
فقال: «إنني أذكر أني دفعت هاتين الضريبتين منذ بضعة أيام فقط.»
وهنا صاح الكاتب الآخر في وجهه قائلا: «كيف تقول مثل هذا الكلام وأنت تاجر كبير تربح الكثير؟ وهل جئنا إذن لنختلس أموالك؟ ... ها هو الدفتر أمامك، وقد سجل فيه ما دفعت وما يجب أن تدفعه. وهو مال الحكومة كما تعلم، ولا سبيل إلى التهرب من دفعه!»
فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر ذلك اليوم، وقال: «العفو سيدي. إني لم أقصد شيئا من ذلك، وإنما ذكرت ما اعتقدت أنه الحقيقة، ولعلي واهم. وجنابك أصدق على كل حال. فمعذرة.»
ثم نهض وقدم لهما المال المطلوب، وفوقه «حق الطريق» لكل منهما، وقال: «أرجو قبول معذرتي مع خالص احترامي وشكري على أن شرفتموني بهذه الزيارة الكريمة.»
صفحه نامشخص
فضحك الكاتب الأول متطرفا وقال له: «أنت رجل لطيف يا سيد عبد الرحمن.» ثم نظر إلى قطعة من الحرير الثمين كانت بين السلع المعروضة في المتجر وقال: «بكم تبيع هذه القطعة؟ ... إنها تصلح قباء (قفطانا) لي.»
فقال: «هي لك يا سيدي وقد وصل ثمنها.» ثم أمر بعض عمال المتجر بإحضار قطعة مماثلة، وقدم القطعتين للكاتبين متأدبا وهو يقول: «إنه لشرف عظيم أن تحوز بضاعتي إعجاب رجال الحكومة.» فأخذا القطعتين وانصرفا مشيعين بكل احترام.
وكانت الشمس قد أوشكت أن تغرب، فعجل السيد عبد الرحمن بإنجاز ما لديه من أعمال ضرورية مثل كتابة الخطابات للعملاء ومراجعة حساب البيع والشراء في ذلك اليوم. كما أعاد ترتيب السلع في المتجر. ثم هم بإغلاق المتجر والعودة إلى منزله قبل أن يسود الظلام، ويتعرض لأخطار الطريق؛ إذ كانت الطرقات والأسواق في ذلك الحين لا تضيئها سوى بعض المصابيح الضعيفة الخافتة الضوء، معلقة على أبواب الحارات وبعض المنازل.
وفيما هو يغلق المتجر، جاءه بواب الوكالة مهرولا يقول: «لقد عاد الجابي يا سيدي!»
فأجفل واستعاذ بالله من شر هذه العودة، وأخذ يلعن سوء الحظ الذي جعله يحترف التجارة وأطمع فيه أولئك الحكام الذين لا يرحمون.
وبعد قليل وصل الجابي، فإذا به يترنح من فرط سكره، وقد أمسك خنجره بيده. ومن خلفه رفيقاه في مثل حاله. فهم السيد عبد الرحمن بالفرار من وجوههم، لكنه خشي أن يدركوه ويقتلوه، فآثر البقاء وترامى على يد الجابي يهم بتقبيلها متذللا متضرعا، فدفعه هذا بقوة وانتهره قائلا: «أهكذا تهرب من دفع مال الميري يا خائن؟» وأخذ يكيل له أفحش ألفاظ الشتم والسباب، ويهدده بالخنجر الذي في يده.
فجثا السيد عبد الرحمن بين يديه، وهم بتقبيل قدميه وقال: «إني عبدكم يا سيدي، وهذا هو حانوتي بين أيديكم فخذوا منه كل ما تريدون، فأنا رهن إشارتكم.»
فقال الجابي وهو ما زال يترنح: «حسنا، إذن هيا ادفع المطلوب منك، وإياك أن تعود إلى مثل ذلك التهرب.»
فسارع إلى إحضار الأكياس الأربعة التي اقترضها، ودفعها له ومعها «حق الطريق» لكل منهم. وهو يدعو لهم بطول العز والبقاء.
فقهقه الجابي الثمل مغتبطا وقال: «حسنا. حسنا. يلوح لي أنك رجل عاقل حسن التصرف.» ثم أغمد الخنجر وأعاده إلى موضعه في منطقته، وهم بالانصراف.
صفحه نامشخص
وفيما كان التاجر يشيعه بكلمات الشكر والدعاء، دنا منه الجندي حامل الدفتر، وهمس في أذنه قائلا: «إن الديوان أمر بتجنيد ولدك وأخذه إلى الحرب في الحجاز مع الحملة الذاهبة إلى هناك بعد أيام؛ وذلك لأن جنود المماليك لا يكفون لهذا الغرض، ولا بد من إمدادهم بجنود آخرين من سكان البلاد المصريين والأتراك والمغاربة والشوام.»
فبغت السيد عبد الرحمن، وكاد قلبه يقف لهول هذا النبأ المرعب، وشعر بأن كل ما لحقه من الظلم والإهانة والخسائر المالية الجسام لا يعد شيئا يستحق الذكر بجانب أخذ ولده الوحيد إلى الحرب.
وأدرك الجندي ذلك منه، فاقترب منه وهمس إليه مرة أخرى قائلا: «اطمئن يا سيدي. واشكر الله على أن هيأ لك ولولدك مخرجا من هذا المأزق، فإن جناب الجابي - جزاه الله خيرا - قد رثي لحالكما، وأعمل نفوذه وحيلته لإعفاء ولدك من ذلك التجنيد. وأظن أنه استحق بذلك أن تشكره وتكافئه على معروفه هذا ببعض المال!»
فتنهد التاجر، وذهب عنه الروع، وشعر بأنه مدين بسعادته لمعروف ذلك الجابي المستبد السكران، فهم بيديه يقبلهما والدموع تطفر من عينيه. ثم نادى خادمه وأرسله إلى التاجر الذي اقترض منه الأكياس الأربعة في العصر، ليقترض له مثلها على أن يردها كلها في الغد. ثم جلس مع الجابي وصاحبيه في انتظار عودة الخادم، ولسانه يلهج بشكرهم والثناء على أريحيتهم ومروءتهم.
وانتهز ثلاثتهم هذه الفرصة، فأخذوا في انتقاء ما خف حمله وغلا ثمنه من السلع الموجودة في المتجر وأخذها لأنفسهم وهو لا يستطيع أن يمنعهم، بل كان يعرب لهم عن اغتباطه بذلك. فلما عاد خادمه بالأكياس الأربعة المقترضة، تناولها منه، وأعطى الجابي كيسين، وكلا من الجندي وكاتب الجابي كيسا. فأخذوها وانصرفوا بها وبما انتقوه من السلع.
وما كادوا يخرجون من الوكالة حتى سارع السيد عبد الرحمن إلى إغلاق المتجر، وغادرها هو الآخر عائدا إلى منزله، وقد سدل الليل نقابه. وفي يده مصباح من الورق يستعين به على تبين الطريق. •••
كان من عادة السيد عبد الرحمن أن يمر في طريق عودته إلى المنزل كل مساء بالبيمارستان المنصوري الذي يدرس فيه ابنه حسن، فيصطحبه من هناك إلى المنزل.
ولما وصل إلى البيمارستان، وجد أبوابه مغلقة، فأدرك أنه تأخر عن الموعد الذي تعود المرور به فيه لاصطحاب ابنه. وتذكر ما وقع له في متجره ذلك اليوم من الإهانات والخسائر. ولكنه حمد الله على أن نجى ولده الوحيد من خطر التجنيد. وواصل سيره حتى وصل إلى شارع النحاسين، فسمع وقع أقدام خلفه من بعيد، فأوجس في نفسه خيفة، وانزوى في منعطف هناك، حتى مر القادمون، وتبين من كلامهم أنهم جماعة من الجند، بينهم الجابي وصاحباه. فبالغ في الانزواء حتى بعدوا، وأمن شرهم، ثم عاد بمصباحه إلى الشارع، وواصل سيره، وهو لا يكاد يرى ما أمامه لضعف الضوء، وشدة قلقه واضطرابه.
ولما بلغ شارع الكعكيين، واقترب من الحارة التي بها منزله، لاحظ أن باب الحارة مفتوح على غير العادة؛ إذ كانت أبواب الحارات تغلق كلها عقب الغروب. فاشتدت وساوسه وأسرع في مشيته ليقف على سبب إبقاء الباب مفتوحا، وأخذ يدعو الله بقلبه ألا يكون السبب ما يسوء.
وقبل أن يبلغ الباب، سمع شخيرا عميقا بالقرب منه، ولمح على ضوء مصباحه الخافت جسم إنسان ممددا على الأرض، فدنا منه وقرب المصباح من وجهه فتبين أنه البواب، وأنه جريح يسيل الدم من رأسه ووجهه، وبجانبه الخشبة الغليظة التي توضع خلف باب الحارة من الداخل ويدخل بعضها في الحائط لتكون بمثابة المزلاج. وكانوا يطلقون عليها اسم «الدقر». وقد لوثت بالدم السائل من جرح المسكين.
صفحه نامشخص
وأخذ السيد عبد الرحمن ينادي البواب باسمه، فلم يستطع هذا جوابا، واستمر في شخيره وهو يئن أنينا خافتا متقطعا. فأدرك أنه في غيبوبة الموت، واشتد خفقان قلبه وارتعدت فرائصه لهول ذلك المنظر المروع. وحدثته نفسه بأن يبلغ الأمر إلى رجال الشرطة في مقرهم الخاص بالمنطقة. ثم خشي ما قد يجره عليه هذا من الظلم والإهانة. كما رأى أن بقاءه بجانب البواب الصريع قد يوقعه في تهمة قتله وهو بريء منها. فغادر المكان مسرعا ودخل الحارة ملتمسا الطريق إلى منزله فيها. وما كاد يخطو بضع خطوات حتى سمع وقع أقدام كثيرة خلفه، فالتفت فإذا برجلين كأنهما ماردان، يرتديان ملابس قصيرة وفي يد كل منهما عصا غليظة طويلة، وصاح به أحدهما قائلا : «قف مكانك يا مجرم، أتظن أن التخلص من جريمة القتل سهل إلى هذا الحد؟!»
فوقف السيد عبد الرحمن، وقد امتلأ قلبه رعبا، ولم تعد ساقاه المتخاذلتان المرتعدتان تقويان على حمله، ولاسيما بعد أن رأى أحد الرجلين رفع عصاه وهم بأن يهوي بها على رأسه. على أنه تحامل على نفسه متجلدا، وقال للرجلين في صوت متهدج: «لست والله مجرما، ولا أنا ممن يستطيعون قتل هرة.»
وكان جوابهما أن انقض عليه أحدهما وقبض على عنقه بيد من حديد حتى كاد يزهق روحه خنقا، بينما أطفأ الآخر المصباح، وراح يجرد التاجر من كل ما يحمله من نقود وثياب وأوراق وحلي وغيرها. ثم ألقياه بقوة على الأرض وتركاه ذاهلا يئن من فرط الألم ولاذا بالفرار، بعد أن هدداه بالقضاء على حياته إن هو فتح فمه بكلمة واحدة!
ولم يسعه إلا الامتثال، فبقي صامتا ساكنا حتى ابتعدا، ثم نهض ومشى إلى منزله بما بقي عليه من الملابس الداخلية، وهو عاري الرأس حافي القدمين. فلما اقترب من المنزل سمع فيه صراخا وعويلا فازداد اضطرابه. وطرق الباب طرقا شديدا، فأطل بعض الخدم من نافذة تشرف على الباب ولم يستطيعوا معرفته لتغير هيئته وملابسه ولضعف ضوء المصباح المعلق بالباب، وحسبوه لصا أو محتالا فانهالوا عليه بالشتائم والحجارة. لكنه صاح بهم مهددا متوعدا، وأخذ يدعوهم بأسمائهم حتى عرفوه ففتحوا له الباب واستقبلوه معتذرين باكين. ورأى الجواري محلولات الشعر يلطمن وجوههن نادبات معولات. وعلم منهن أن زوجته وحدها في غرفتها، وأنها تكاد تكون غائبة الوعي كأنما أصيبت بالذهول أو الجنون؛ وذلك لأن عساكر المماليك جاءوا إلى المنزل منذ قليل وهم سكارى، وقبضوا على ولدهما حسن وساقوه إلى الديوان تمهيدا لتجنيده وإرساله إلى الحرب!
الفصل الثاني
في قلعة القاهرة
أدرك السيد عبد الرحمن أن الجابي هو الذي اقتحم منزله وأخذ ولده، رغم الأكياس والسلع التي أخذها منه في المتجر هو ومن معه، فطفرت الدموع من عينيه حنقا وحزنا. ومضى إلى زوجته في غرفتها فوجدها قد حلت شعرها وشقت ثيابها وتورم خداها واحمرت عيناها من شدة اللطم والبكاء. وما وقع نظرها عليه حتى صاحت قائلة: «لقد أخذوه ... أخذوا حسنا إلى الحرب والقتل.» واستأنفت اللطم والعويل.
ولم يستطع مغالبة تأثره الشديد بهذا المنظر، فأخذ هو الآخر يلطم وجهه وأطلق لدموعه العنان. وشاركهما في ذلك كل من في المنزل من الخدم والجواري.
وأخيرا، اقتربت منه زوجته وهي على تلك الحال وقالت له: «ألا تخرج للبحث عن حسن والوقوف على ما تم في أمره، عسى أن توفق إلى إنقاذه بأي ثمن؟»
فقال: «لو قبلوا أن أفتديه بكل ما أملك، وفوقه حياتي نفسها ما أحجمت عن افتدائه. وقد بذلت للجابي كل ما طلب وزيادة، على أمل أنه أعفاه من التجنيد رحمة بنا. لكنه - لعنه الله - أبى إلا أن يفجعنا في مالنا وولدنا.»
صفحه نامشخص
فقالت: «سينتقم الله منه ومن كل ظالم عما قريب. لكن كيف نصبر على فراق وحيدنا وفلذة كبدنا، ونتركهم يأخذونه من الدار إلى النار؟»
فتنهد السيد عبد الرحمن، وصر بأسنانه غيظا من ذلك الظلم، ثم قال لزوجته: «وماذا أصنع وأنا لا أستطيع الخروج من المنزل الآن؟»
فأبدت دهشتها وقالت: «وما الذي يمنعك من الخروج؟»
قال: «يمنعني أن على باب الحارة قتيلا مضرجا بدمائه، وقد كادوا أن يقبضوا علي ويتهموني بقتله، لولا أن كتب الله لي النجاة من أيديهم بعد أن اعتدوا علي بالضرب وسلبوني ثيابي وكل ما كان معي.»
فبغتت كما بغت جميع الحاضرين، وأدركوا سبب مجيئه إلى المنزل عاري الرأس حافيا ليس عليه إلا الملابس الداخلية. ثم سألته زوجته: «ألم تعرف من ذلك القتيل؟»
قال: «عرفته. هو بواب الحارة المسكين!»
فقالت: «تبا لهم من ظلمة أشرار! ذهب المسكين ضحية الإخلاص والوفاء والدفاع عن الحق، فقد سمعته يستمهلهم حتى تحضر، وهم يهمون بأخذ حسن.» وعادت إلى البكاء قائلة: «ترى أين أنت الآن يا ولدي؟ وهل يقدر لنا أن نراك بعد الآن؟»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء معها، وأخذ يندب حظه وولده قائلا: «آه يا حسن! كيف نتركك تذهب إلى الموت وليس لنا في الحياة سواك؟»
فقالت له زوجته: «ألا نشكو أمرنا ونتظلم عسى أن ترق لنا قلوبهم أو يطلقوا سراح ولدنا بأية وسيلة؟»
فهز رأسه أسفا وحزنا وهو يتنهد، ثم قال: «ولمن نشتكي يا سالمة؟ هل نشتكي إلى المماليك وهم أنفسهم الذين ظلمونا ... ليس أمامنا إلا الله وحده نشكو إليه بثنا وحزننا، وهو القادر على أن يكشف عنا هذا البلاء الذي غطى كل ما سبقه من ويلات ونكبات.»
صفحه نامشخص
فقالت سالمة: «أليس من وسيلة إلى مقابلة الباشا واستعطافه، لكي يوصي علي بك برد ولدنا إلينا لأنه لا يستطيع الحرب؟»
فقال: «إن الباشا نفسه يشكو مثلنا ظلم المماليك، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا ... لا. ليس لنا إلا أن نشكو إلى الله.»
ثم رفع يديه ورأسه إلى السماء وأخذ يتضرع إلى الله قائلا: «يا رافع السموات وباسط الأرض، يا عالما بكل شيء، وقادرا على كل شيء، نسألك بحق ذلنا وانكسارنا، أن تلطف بنا فيما جرت به المقادير، وتنتقم لنا من الظلمة الغاشمين بجاه خاتم الأنبياء والمرسلين.» •••
لبث السيد عبد الرحمن وسالمة زوجته يبكيان ولدهما حسنا، ويشاركهما في البكاء كل من في منزلهما من الخدم والجواري حتى مضى الليل كله في ذلك دون نوم ولا طعام.
على أن السيد عبد الرحمن ما كاد يسمع أذان الفجر، حتى نهض وتوضأ وأدى ما عليه لله من فرائض للصلاة. وكان قد فاتته صلاة المغرب والعشاء بسبب ما تراكم عليه من الأحداث والأحزان.
ولما فرغ من الصلاة والدعاء إلى الله أن يكتب السلامة لولده العزيز الوحيد، جالت بخاطره فكرة رأى في تحقيقها ما قد يحقق رجاءه. فنهض ومضى إلى زوجته في غرفتها حيث كانت تواصل البكاء وقد خارت قواها واحمرت عيناها، وقال لها: «قد رأيت أن أمضي إلى السيد المحروقي في داره لأخاطبه في أمرنا، وهو من السادة الأشراف المقربين إلى علي بك، وما أظن أنه يرفض التوسط لنا عنده ليأمر بإطلاق سراح ولدنا.»
فقالت: «حسنا تفعل، وما أظن أن علي بك يرد مثل هذا الطلب لصديقه الشريف الكبير . فهيا عجل بتنفيذ هذه الفكرة، وعلى الله التوفيق.»
ثم رفعت يديها إلى السماء والدموع في عينيها ورفعت صوتها المتهدج قائلة: «يا رب، أنت أعلم بحالنا فارحمنا يا أرحم الراحمين.»
وبعد قليل، كان السيد عبد الرحمن قد استعد للخروج، فارتدى جبة وقباء (قفطانا) ووضع على رأسه العمامة، واحتذى نعلا جديدة بدل التي سلبه اللصوص إياها مع بقية ملابسه ودراهمه بالأمس. ثم هم بالنزول من دار الحريم في الطابق العلوي من المنزل، داعيا الله بقلبه ولسانه أن يوفق في مهمته.
وفيما هو كذلك إذا به يسمع ضجة كبيرة أمام المنزل، ثم طرقات عنيفة على الباب، فتسارعت دقات قلبه ووقف شعر رأسه وجحظت عيناه دهشة ورعبا، ثم خطر بباله أن الطارق ربما كان ولده أو رسوله أو بشيرا بقدومه، فعاودته همته وشهامته، وخف إلى نافذة قريبة فأطل منها على باب المنزل. وشد ما كانت خيبة آماله؛ إذ رأى جماعة من العساكر والإنكشاريين وبينهم رجال موثقون بالقيود والأغلال، فعاوده رعبه وفزعه وتخاذلت ساقاه فلم يعد يستطيع الوقوف فضلا عن المشي، فارتمى على مقعد بجانب النافذة حيث اعتمد رأسه بيديه وغرق في لجة من الوساوس والهموم.
صفحه نامشخص
وكان من في المنزل قد رأوا ما رآه فأخذهم ما أخذه من الخوف وتوقع الشر واجتمعوا حوله خافقة قلوبهم معقودة ألسنتهم، حتى سالمة زوجته إذ تحول صراخها إلى أنين خافت مكبوت.
ومضت لحظة رهيبة علت بعدها ضجة المزدحمين بباب المنزل، واشتدت الطرقات عليه، وصحب ذلك صوت معالجة فتح الباب بالعنف، فرفع السيد عبد الرحمن رأسه وأشار إلى بعض الخدم الملتفين حوله أن ينزلوا لفتح الباب وإدخال العساكر القادمين قاعة الاستقبال (المنظرة) في الطابق الأرضي لتقديم القهوة لهم وسؤالهم عما يريدون. ففعلوا ما أشار به.
وبعد قليل صعد إليه أحد أولئك الخدم وقد ازداد وجهه صفرة، وأنبأه بلسان متلعثم أن القادمين هم رجال الشرطة المنوط بهم حفظ الأمن والنظام بالمنطقة، وأنهم قبضوا على كثير من سكان الحارة وغيرهم للتحقيق معهم في أمر مصرع بواب الحارة، ويريدون أن يخرج معهم لسماع أقواله أمام الوالي (رئيس الشرطة) في القلعة.
ولا تسل عن فزع السيد عبد الرحمن بعد أن سمع هذا الكلام، على أنه خشي أن يكون في تأخره عن النزول إليهم والخروج معهم إلى القلعة ما لا تحمد عقباه، فتحامل على نفسه وودع أهل منزله ثم تزود بقدر كبير من الدراهم لعله يحتاج إليها في الطريق. وهبط من دار الحريم إلى المنظرة فحيا العساكر في أدب واحترام وقدم لهم نفسه، فسرعان ما أوثقوه ثم خرجوا به مع المقبوض عليهم الآخرين آخذين طريقهم إلى القلعة. •••
وصل السيد عبد الرحمن إلى القلعة وقد أنهكه التعب والحزن وما قاساه من إهانات العساكر في الطريق. وهناك أوقفوه مع بقية المتهمين أمام رئيس الشرطة، فأخذ يهددهم بالقتل ويسمعهم أفحش السباب، وكلما تراموا على قدميه مؤكدين براءتهم مما اتهموا به، لج في طغيانه وأصم أذنيه عن سماع توسلاتهم.
وأخيرا، أمر العساكر بأن يزجوا بهم في السجن ريثما ينظر في أمرهم، فهم هؤلاء بتنفيذ الأمر، وهمس جاويش منهم قائلا للمتهمين الموثقين: «إن جناب الوالي (رئيس الشرطة) لا يبالي تظلمكم، ولا تهمه دعواتكم له بطول العمر والسلامة، ولكن إذا دفع كل منكم نصف كيس مساهمة في دية القتيل، فقد يقبل إعادة النظر في أمركم ويعفو عنكم!»
فاستبشر السيد عبد الرحمن وقال في نفسه: «هذا طلب هين يسير.» ثم دفع للجاويش نصف كيس للوالي ونصف كيس له. واقتدى به من استطاع الدفع من المتهمين، فأخذ الجاويش ما دفعوه من المال وعاد إلى الوالي فتحدث معه هنيهة، ثم جاءهم يقول: «قد عفا جناب الوالي عنكم.» فصاحوا جميعا شاكرين داعين.
وحسب المتهمون - وفي مقدمتهم السيد عبد الرحمن - أن المسألة انتهت عند هذا الحد. ولكن العساكر ما لبثوا أن ساقوهم في قيودهم وأغلالهم إلى مقر الأغا (محافظ المدينة) في القلعة بحجة إتمام التحقيق!
وكان هذا الأغا إنكشاريا طويل القامة هائل الحجم، على رأسه عمامة بيضاء هرمية الشكل، وعلى كتفيه العريضتين فرو سمور، وهو كث اللحية عريضها، تدل نظراته الشزراء على أنه فظ غليظ القلب . فلما دخلوا عليه أمر بجلدهم قبل أن يسمع أي شيء عن أمرهم. فأخذوا يتضرعون إليه ويستعطفونه مترامين على قدميه يحاولون تقبيلهما، فركلهم وقال لهم محتدا: «إما أن تذكروا من القاتل وإما كنتم القاتلين وحق عليكم أشد العقاب!»
وبعد اللتيا والتي، كتب الله لهم الخلاص من شر الأغا. بعد أن جمعوا من بينهم ما تيسر من المال ودفعوه له ولمعاونيه، فأمر بحل وثاقهم وإطلاق سراحهم، فخرجوا من عنده وهم لا يكادون يصدقون أنهم نجوا.
صفحه نامشخص
ولاح للسيد عبد الرحمن أن ينتهز فرصة وجوده في القلعة فيذهب لمقابلة الباشا في مقره هناك، ويقص عليه حكايته، فإن لم يجد فائدة منه ذهب إلى السيد المحروقي كما قرر من قبل. ثم تردد في تنفيذ هذه لفكرة؛ لأنه لا يعرف اللغة التركية، والباشا لا يتكلم إلا بها ولا يعرف العربية. لكنه تذكر أن الباشا لا بد أن يكون لديه مترجم خاص أو أكثر، فزايله تردده ومشى في طرقات القلعة حتى وصل إلى قصر الباشا فهاله عظم بابه، وكثرة الحجاب الأتراك الواقفين به وعلى كل منهم سراويل قصيرة، وقد تقلد بندقية.
ودنا من أحد أولئك الحجاب واستأذنه في الدخول، فسأله الحاجب: «ما حاجتك؟» قال: «لي قضية مهمة أريد أن أعرضها على أفندينا الباشا.»
فقال الحاجب: «انتظر قليلا حتى نعرض أمرك على جناب الكتخدا نائب الباشا.»
ثم دخل الحاجب وغاب دقائق عاد بعدها وقال له: «قد أذن جناب الكتخدا بدخولك عليه فتعال نفتشك أولا لئلا يكون معك شيء من السلاح.» وبعد أن فتشه وتحقق أنه لا يحمل سلاحا، قاده إلى الداخل حيث مضى به إلى غرفة الكتخدا، وأزاح له الستارة الموضوعة على بابها فدخل وقلبه يخفق هيبة، فوجد الكتخدا جالسا في صدر القاعة بالملابس التركية، فحياه باحترام. وأشار إليه الكتخدا أن يجلس على مقعد بالقرب منه وكلم الحاجب بالتركية آمرا إياه بدعوة الترجمان إليه. فجلس السيد عبد الرحمن مطرقا ويداه على ركبتيه. وبعد هنيهة جاء الترجمان وسأله بالعربية عما يريد، فأخذ يقص عليه حكايته من أولها إلى آخرها ، وهذا يترجمها فقرة فقرة للكتخدا، فيهز رأسه مبديا دهشته وأسفه.
والتفت الكتخدا أخيرا إلى السيد عبد الرحمن وفي نظراته ما يدل على الرثاء له والرأفة به، ثم قال له بوساطة الترجمان: «قد فهمت قضيتك وأدركت أنك على حق فيما شكوته من الظلم. وسأذهب بنفسي لرفع هذا الظلم عنك ورد ولدك إليك.»
فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن الوقوف ودموع الاستبشار بقرب الفرج تطفر من عينيه، ثم هم بتقبيل يد الكتخدا، فمنعه من ذلك، وأشار إليه أن يجلس كما كان. فعاد إلى مقعده ولسانه ما زال يلهج بالشكر والدعاء.
وأخذ الكتخدا يتبسط في الحديث بوساطة الترجمان مع السيد عبد الرحمن، إلى أن استطلع رأيه فيما يقال من اعتزام علي بك الاستقلال بحكم مصر وإخراجها من يد الدولة العلية، فأجاب بقوله: «قد سمعت يا سيدي شيئا عن ذلك. وأكبر الظن أن الغرض الأول لعلي بك من إرسال الحملة إلى الحجاز ليس مساعدة شريف مكة ضد منافسه فقط، بل غرضه إخراج تلك البلاد من يد دولة الخلافة أيضا. ولهذا أكثر من الجنود في تلك الحملة حتى لم يبق أحد من الشبان المقيمين بمصر إلا ألحقه بها، لا فرق بين المصريين منهم والمغاربة والشوام والأتراك والأروام. وقد شاءت المقادير أن يكون ولدي الوحيد بين أولئك المجندين، مع أنه من المتخرجين في الأزهر ومدرسة السلطان حسن، ولم يكتف بما حصله من علوم الدين واللغة وغيرهما فالتحق بمدرسة البيمارستان المنصوري ليدرس الطب على يد أحد الأطباء المغاربة فيه.»
فقال الكتخدا: «إن هؤلاء المماليك قد أمعنوا في طغيانهم وتمردهم على مولانا السلطان، ولا شك في أن جلالته لا يقر هذه الأعمال، لما عرف عنه من الميل إلى العدل والحلم والبر برعاياه. ولا بد من وضع حد لهذه المظالم. فطب نفسا وقر عينا، وثق أن حاجتك مقضية، ولا يلبث ولدك أن يعود إليك سالما بإذن الله.»
فوقف السيد عبد الرحمن، وحاول مرة أخرى تقبيل يد الكتخدا ولكن هذا منعه أيضا، ثم ودعه مطيبا خاطره مكررا وعده بالسعي العاجل بنفسه في سبيل رد ولده إليه. فخرج من عنده وقد أنساه ذلك كل ما عاناه من نصب وعذاب. •••
ما كاد السيد عبد الرحمن يهم بالخروج من القلعة، حتى بصر بموكب قادم إلى قصر الباشا، يتقدمه شيخ ذو لحية طويلة راكبا على حمار، وعلى رأسه عمامة غريبة الشكل. فسأل بعض الجنود عمن يكون هذا الشيخ، فقال له أحدهم: «ألا تعرفه؟ إنه أبو طبق، لعنه الله ولعن من أرسلوه!»
صفحه نامشخص
فتذكر ما كان يسمعه عن الأوضه باشي الذي تعود المماليك أن يرسلوه إلى الباشا الذي يقررون عزله، لتبليغه هذا القرار. وكان العامة يسمونه أبا طبق، نظرا إلى أن عمامته متخذة من لبادة سوداء تنتهي عند حافتها بدائرة واسعة مصنوعة من نسيج من الأسلاك الرفيعة، تجعلها أشبه بالقبعات الإفرنجية الواسعة الحوافي. ولم يكن يذهب لأداء مهمته هذه إلا راكبا على حمار، ومن خلفه بعض أمراء المماليك.
فقلق السيد عبد الرحمن، وأوجس في نفسه خيفة من أن يكون الرجل قادما لإعلان الباشا بعزله، فتحبط مساعيه لإطلاق سراح ولده. وبقي واقفا حتى مر عليه الموكب فاختلط به، وعاد معه إلى قصر الباشا ليرى ما يكون.
فلما وصل الأوضه باشي أو أبو طبق إلى باب القصر، ترجل عن حماره، وهم بالدخول فتنحى كل من كانوا خلفه في الموكب، ولم يدخل معه إلا بعض أمراء المماليك. فدخل السيد عبد الرحمن في أثرهم، ولم يمنعه الحراس لأنهم رأوه في القصر منذ قليل.
ووقف الأوضه باشي أمام قاعة كبيرة أدرك السيد عبد الرحمن من ضخامة بابها وفخامة الستارة المرفوعة عليه أنها غرفة الباشا، فأصلح الأوضه باشي وضع عمامته الغريبة وجلبابه الفضفاض المزرر من الأمام، ثم دخل دون استئذان وخلفه أتباعه، فدخل معهم وأدار عينيه في القاعة فإذا الباشا قد جلس مطرقا في صدرها على سجادة ثمينة وعلى رأسه عمامة فوق القاووق، وعلى جبته فرو سمور، وبيده مذبة من ليف النخل. فلما شعر بدخولهم رفع وجهه وبدت الدهشة في نظراته وبقي ساكنا. بينما اقترب منه الأوضه باشي، ثم هم بيديه فقبلهما ، ثم تأخر قليلا وثنى طرف السجادة التي يجلس الباشا عليها، ورفع صوته وهو ينظر إليه قائلا: «انزل يا باشا.»
ثم مد يده فأخرج من ثوبه كتابا أخذ يقرؤه، فإذا هو قرار أصدره المماليك بعزل الباشا، وبأن يكون قصره بما فيه وكل حراسه تحت إمرتهم منذ ذلك الحين!
ولم ينبس الباشا ببنت شفة، ولكن وجهه بدا شديد الصفرة كوجوه الأموات، وكادت المذبة تسقط من يده؛ لما اعتراه على أثر سماعه نبأ عزله من الرعدة والارتجاف.
وانصرف الأوضه باشي على أثر ذلك مزهرا بأداء مهمته، فركب حماره وانطلق بموكبه عائدا من حيث أتى. ولم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء أسفا على حبوط مساعيه بسبب ذلك العزل المفاجئ، ثم تجلد وغادر القلعة آخذا طريقه إلى دار السيد المحروقي عسى القدر الذي كتب له الفشل هنا، يكتب له التوفيق هناك ...
الفصل الثالث
السيد المحروقي
وصل السيد عبد الرحمن إلى دار السيد المحروقي وهو يدعو الله أن يأتيه بالفرج على يديه، فوجد باب الدار مغلقا، والسكون يخيم عليها على غير العادة. وكان يعهدها حافلة بالقصاد. فتشاءم، وبحث عن البواب فيما جاور الدار فلم يجد له أثرا، فعاد إلى الباب وطرقه هائبا، فسمع صوتا من الداخل يسأل: «من الطارق؟» فتشجع ورد على صاحب الصوت وهو لا يراه ذاكرا اسمه وأنه جاء لمقابلة السيد في شأن خاص.
صفحه نامشخص