فبغت حسن وامتلأ قلبه رعبا وفزعا، وكذلك كان شأن أمه، وكل من في المنزل من الخدم والجواري. ثم ازداد فزعهم؛ إذ سمعوا صوت مقذوف ناري أطلقه أحد المماليك الهاجمين على المنزل، وأعقبه صوت مطارق تهوي على الباب لتحطيمه واقتحام المنزل بالقوة، فلم يجد حسن بدا من فتح الباب واستقبال القادمين لعل في ذلك ما يخفف من حدتهم وشرهم. فما كاد الخدم يفتحون الباب حتى تدفقت منه جموع العساكر شاهرين السيوف والخناجر والعصي والمسدسات، وأخذوا في نهب كل ما فيه، وشد وثاق من يصادفهم من الرجال والنساء مع الضرب والإهانة.
ولم تمض ساعة حتى كان المنزل قد أقفر وساده الخراب، وساق المماليك حسنا وأمه ومن معهما من الخدم والجواري إلى القلعة موثقين مهانين، كما حملوا كل ما كان فيه من الأمتعة والآنية وغيرها إلى هناك بعد أن استبقوا لأنفسهم ما وجدوه من المال والحلي وما إليهما من الأشياء الثمينة النادرة.
وهناك في القلعة سيق الجميع إلى مجلس علي بك في القصر الذي اتخذه مقرا لمجلسه منذ عزل الباشا، فلما وقعت عينه عليهم وهم يبكون ويستجيرون به مما لحقهم من العدوان، صرخ فيهم غاضبا وقال: «هكذا يجب أن يكون جزاء الخونة والأنذال، وإذا كان كبيرهم قد فر هاربا من المعسكر بعد أن رأفنا به وقبلناه في الحملة بدلا من ولده، فعما قريب يقبض عليه وينال ما يستحقه من القتل بعد أن ننزل به أشد العذاب!»
ثم أمر ببيع الجواري والأمتعة والآنية بالمزاد، وبأخذ الخدم إلى السجن ريثما يبت في أمرهم، وأشار إلى حسن وسالمة وقال لأعوانه المحيطين به: «أما هذان فجزاؤهما بعد الضرب والإهانة وبيع ممتلكاتهما على مشهد منهما، أن يؤخذ هذا الولد الخائن فيوضع في كيس ومعه حجر ثقيل فيه ثم يلقى في النيل ليهلك غرقا. وأما أمه هذه فتؤخذ لتسند إليها أحقر أنواع الخدمة وأقساها، كي تقضي بقية حياتها في تعب وشقاء!»
وهنا ضجت سالمة والجواري بالندب والعويل، وجثا حسن وأمه بين يدي علي بك، وهما بتقبيل قدميه، وهما يستغيثان به ويتضرعان إليه أن يرثي لحالهما ويشفق عليهما من ذلك المصير الرهيب؛ لأنهما لا ذنب لهما في فرار السيد عبد الرحمن من المعسكر. فلم يكن من علي بك إلا أن نظر إليهما وعلى فمه ابتسامة التشفي والغبطة بالانتقام، ثم أعرض بوجهه المخيف عنهما، وأمر أعوانه بأن ينفذوا ما أمر به. فبادروا إلى تنفيذه في الحال.
الفصل الخامس
الحرب بين روسيا وتركيا
خرجت الحملة التي أعدها علي بك الكبير من القلعة، يتقدمها البكوات أمراء المماليك على جيادهم المطهمة وهم في أزيائهم الفخمة، وعلى رأسهم محمد بك أبو الذهب قائد الحملة وصهر علي بك. وخلف هؤلاء الفرسان المماليك الجنود بأسلحتهم الكاملة. وعددهم حوالي خمسة آلاف، وفي ركاب كل منهم تابعان يرتديان السراويل القصيرة، وفي يد كل منهما عصا. ووراءه جموع غفيرة من الجنود غير النظاميين بين مصريين وأتراك وهنود وشوام وسودانيين وأحباش ويمنيين وغيرهم من مختلف الأجناس والألوان، تتبعهم أرتال من الجمال والبغال والحمير تحمل المؤن والذخائر والمدافع والخيام.
وضمت الحملة غير هؤلاء جميعا حوالي ألفين من السراجين الذين يقومون بتدبير شئون خيل البكوات المماليك، كما ضمت مئات من باعة الأطعمة والطبالين والزمارين، والمرتزقة.
وودعها علي بك باحتفال ليلي كبير، دعا إليه كبراء البلاد وعلماؤها، وعرضها فيه أمامهم بين دق الطبول والنفخ في الأبواق، وإضاءة المشاعل، وما إلى ذلك من ضروب الزينة والتكريم.
صفحه نامشخص