فتذكر ما كان يسمعه عن الأوضه باشي الذي تعود المماليك أن يرسلوه إلى الباشا الذي يقررون عزله، لتبليغه هذا القرار. وكان العامة يسمونه أبا طبق، نظرا إلى أن عمامته متخذة من لبادة سوداء تنتهي عند حافتها بدائرة واسعة مصنوعة من نسيج من الأسلاك الرفيعة، تجعلها أشبه بالقبعات الإفرنجية الواسعة الحوافي. ولم يكن يذهب لأداء مهمته هذه إلا راكبا على حمار، ومن خلفه بعض أمراء المماليك.
فقلق السيد عبد الرحمن، وأوجس في نفسه خيفة من أن يكون الرجل قادما لإعلان الباشا بعزله، فتحبط مساعيه لإطلاق سراح ولده. وبقي واقفا حتى مر عليه الموكب فاختلط به، وعاد معه إلى قصر الباشا ليرى ما يكون.
فلما وصل الأوضه باشي أو أبو طبق إلى باب القصر، ترجل عن حماره، وهم بالدخول فتنحى كل من كانوا خلفه في الموكب، ولم يدخل معه إلا بعض أمراء المماليك. فدخل السيد عبد الرحمن في أثرهم، ولم يمنعه الحراس لأنهم رأوه في القصر منذ قليل.
ووقف الأوضه باشي أمام قاعة كبيرة أدرك السيد عبد الرحمن من ضخامة بابها وفخامة الستارة المرفوعة عليه أنها غرفة الباشا، فأصلح الأوضه باشي وضع عمامته الغريبة وجلبابه الفضفاض المزرر من الأمام، ثم دخل دون استئذان وخلفه أتباعه، فدخل معهم وأدار عينيه في القاعة فإذا الباشا قد جلس مطرقا في صدرها على سجادة ثمينة وعلى رأسه عمامة فوق القاووق، وعلى جبته فرو سمور، وبيده مذبة من ليف النخل. فلما شعر بدخولهم رفع وجهه وبدت الدهشة في نظراته وبقي ساكنا. بينما اقترب منه الأوضه باشي، ثم هم بيديه فقبلهما ، ثم تأخر قليلا وثنى طرف السجادة التي يجلس الباشا عليها، ورفع صوته وهو ينظر إليه قائلا: «انزل يا باشا.»
ثم مد يده فأخرج من ثوبه كتابا أخذ يقرؤه، فإذا هو قرار أصدره المماليك بعزل الباشا، وبأن يكون قصره بما فيه وكل حراسه تحت إمرتهم منذ ذلك الحين!
ولم ينبس الباشا ببنت شفة، ولكن وجهه بدا شديد الصفرة كوجوه الأموات، وكادت المذبة تسقط من يده؛ لما اعتراه على أثر سماعه نبأ عزله من الرعدة والارتجاف.
وانصرف الأوضه باشي على أثر ذلك مزهرا بأداء مهمته، فركب حماره وانطلق بموكبه عائدا من حيث أتى. ولم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء أسفا على حبوط مساعيه بسبب ذلك العزل المفاجئ، ثم تجلد وغادر القلعة آخذا طريقه إلى دار السيد المحروقي عسى القدر الذي كتب له الفشل هنا، يكتب له التوفيق هناك ...
الفصل الثالث
السيد المحروقي
وصل السيد عبد الرحمن إلى دار السيد المحروقي وهو يدعو الله أن يأتيه بالفرج على يديه، فوجد باب الدار مغلقا، والسكون يخيم عليها على غير العادة. وكان يعهدها حافلة بالقصاد. فتشاءم، وبحث عن البواب فيما جاور الدار فلم يجد له أثرا، فعاد إلى الباب وطرقه هائبا، فسمع صوتا من الداخل يسأل: «من الطارق؟» فتشجع ورد على صاحب الصوت وهو لا يراه ذاكرا اسمه وأنه جاء لمقابلة السيد في شأن خاص.
صفحه نامشخص