هذا ناهيك عن ظهور الإله (بهيئة تشبه ما تحدثنا به الأساطير عن الجن) للبطاركة الأوائل، وحديثه معهم، وصراعه مع يعقوب، أو مثلما جاء في قصة لقائه بموسى وأتباعه وهو في هيئة أقرب إلى التماثيل. «ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو، وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل، وتحت رجليه شبه «صنعة من العقيق» الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل، فرأوا الله، وأكلوا وشربوا» (خروج، 24: 9-11). (والمعلوم أن العقيق الأزرق هو فيروز سيناء الذي صنع منه المصريون تماثيل آلهتهم.)
وغير ذلك كثير وكثيف، نشير إليه في عجالة، مثل: العصا الحية (خروج، 4: 1-5)، وضرب يهوه للمصريين بضربات أسطورية (خروج، 7)، أو فلق البحر (خروج، 14)، وانشقاق نهر الأردن (يشوع، 3: 16-17)، وسقوط مدينة أريحا بمجرد أن صرخ عليها الإسرائيليون مع طبول وزمور وأبواق (يشوع، 6)، وإيقاف يشوع للشمس والقمر حتى ينتهي من القضاء على أعدائه (يشوع، 10: 12-4)، وعكاز الملاك الذي يحرق اللحم (قضاة، 6: 21)، وتحضير الأرواح (صموئيل، 28: 11-20)، ومعجزات شمشون في سفر القضاة (14: 4؛ 14: 5؛ 15: 15؛ 16: 30)، وإحياء النبي إيليا للطفل الميت (ملوك، 17: 21-22)، والأمر الذي أصدره إيليا بهبوط نار من السماء تأكل جنود الأعداء (ملوك ثاني، 1: 10-12)، ثم صعوده إلى السماء (ملوك ثاني، 2: 1، 11)، وقيام رداء إيليا بعد ذلك بدور عصا موسى في فلق الماء (ملوك ثاني، 2: 8، 14)، أو حروب الله مع التنين لوايثان (إشعيا، 27: 1).
وعليه، فإن النص التوراتي من وجهة نظرنا ليس أكثر من وثيقة أسطورية، لكنه كأي وثيقة أسطورية أخرى، وحسب منهجنا الذي اتبعناه في أعمالنا، يمكن أن يقدم لنا - إذا تعاملنا معه عمليا - مادة تاريخية نادرة لم تسعفنا بها الكشوف الأركيولوجية، وأن يضيء لنا مساحات مظلمة من التاريخ لم يكشف عنها البحث الآثاري بعد، ولكن وفق أصول وقواعد ومنهج صارم، وهو ما سبق وأن قدمنا له نماذج في أعمالنا المنشورة، لكن في نفس الوقت، يمكن لباحث مغرض أن يقرأه قراءة أخرى، بأغراض بعينها، وفق أيديولوجيا خاصة، فينطق بأمور أبعد ما تكون عن الصدق والموضوعية والعملية، وهو ما سنجد له نموذجا مثاليا في الباب الثالث من هذا الكتاب. (4) الأنبياء في العهد القديم
من الجدير بالذكر هنا، منعا للالتباس، أن الآباء الأوائل أو البطاركة، من إبراهيم إلى موسى في التوراة، لا يحتسبون أنبياء بالمعنى المفهوم والسائد وفق الطروحات الإسلامية، وتبدأ النبوات فقط في العهد القديم بموسى. أما عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب ... إلخ؛ فهم مجرد أسلاف يجب الإعزاز بهم وبسيرتهم، رغم علاقتهم بالإله، ورغم أنهم أصحاب الوعد، فهم ليسوا أنبياء بالمعنى المفهوم في الإسلام؛ لأن النبوة في الفهم التوراتي هي التنبؤ، والقدرة على قراءة المغيبات. هذا بالطبع مع أمور أخرى تفصيلية تضع هؤلاء البطاركة الأوائل على المستوى الأخلاقي، في صف الأفراد العاديين، الذين يمكن أن يرتكبوا أمورا يمجها التذوق المبني على الفهم الإسلامي لمعنى النبوة، فالنبي إبراهيم مثلا يتاجر بشرف زوجته سارة في مصر، وفي جرار الفلسطينية، للحصول على الأموال، ويتم سرد ذلك دون أي تحرج (تكوين، 12: 11-20؛ وتكوين، 20: 1-7، 14)،
9
وهو الأمر الذي يكرره بعد ذلك ابنه إسحاق في جرار كما ورد في سفر التكوين (26: 7-10).
وفي قصة هلاك سدوم وعمورة، ينجو لوط مع ابنتيه الوحيدتين، ويسكن في مدينة «صوغر»، لكنه لسبب غير مفهوم يتركها إلى الصحراء وتحكي الرواية بعد ذلك:
وصعد لوط من صوغر وسكن في الجبل وابنتاه معه؛ لأنه خاف أن يسكن في صوغر (؟!)، فسكن في المغارة هو وابنتاه، وقالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض، هلم نسقي أبانا خمرا ونضطجع معه، فنحيي من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمرا الليلة أيضا، فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا، فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا، وقامت الصغيرة واضطجعت معه، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها، فحبلت ابنتا لوط من أبيهما، فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، والصغيرة ولدت ابنا ودعت اسمه بني عمي، وهو أبو بني عمون إلى اليوم. (تكوين، 19: 30-38)
وعليه فلن تصيبنا الدهشة إن وجدنا «يعقوب» ابن «إسحاق» الأصغر يحتال على أبيه ليسرق ميراث أخيه الأكبر «عيسو» (تكوين، 27)، أو حين نجد «راحيل» زوجة «يعقوب» تغادر بيت أبيها مع زوجها فتسرق الأصنام من أبيها عشقا في عبادتها (تكوين، 31: 19)، كما لن ندهش إذا وجدنا الأسباط المكرمين يلقون بأخيهم الأصغر «يوسف» في بئر للتخلص منه (تكوين، 37: 18-38)، ولا أن يتزوج «عمران» من عمته يوكابد (خروج، 6: 20)، ولا أن يوعز الرب لموسى بسرقة ذهب النساء المصريات (خروج، 3: 21-22 وخروج، 12: 35-36). وربما لا نصعق إذا ما علمنا أن الرب قرر موت موسى وهارون لأنهما قاما بخيانته (التثنية، 38: 50-50)، أو أن يتم اختيار «شاول» كأول ملك لإسرائيل، لا لميزة فيه سوى طوله وجماله (صموئيل الأول، 9: 2؛ 10: 23) أو اختيار «دواد» لأنه كان أشقر وحلو المنظر (صموئيل الأول، 16: 12؛ 17: 42)؛ ومن ثم فلا يجب أن ننزعج إذا أوعز لنا ذلك المقدس، بأمر علاقة شاذة تقوم بين «داود» وبين الصبي يوناثان بن شاول (صموئيل الثاني، 1: 26)، أو أن يبدأ «داود» حياته مطبلا للزار ومزمرا لإخراج العفاريت التي ركبت «شاول» كما في (صموئيل، 16: 23)، وربما يجب أن نقبل المبررات التي قدمها المقدس، والتي تم فيها تبخيس «نابال» وتصويره خسيسا، حتى يسوغ لداود أخذ امرأته، وهو ما جاء في سفر صموئيل الأول (25)، ولطرافته يمكن سرد نصه القائل:
واسم الرجل نابال، واسم امرأته أبيجايل، وكانت المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة وأما الرجل فكان قاسيا وردئ الأعمال ... وبعد نحو عشرة أيام ضرب الرب نابال فمات ... وأرسل داود وتكلم مع أبيجايل ليتخذها له امرأة ... وصارت له امرأة.
صفحه نامشخص