قالوا: ولا يجوز أن يقال أن المبتدأ يرتفع بالابتداء، لأنا نقول: الابتداء لا يخلو: إما أن يكون شيئًا من كلام العرب عند إظهاره، أو غير شيء؛ فإن كان شيئًا فلا يخلو من أن يكون اسمًا أو فعلًا أو أداة من حروف المعاني؛ فإن كان اسمًا فينبغي أن يكون قبله اسم يرفعه، وكذلك ما قبله إلى ما لا غاية له، وذلك محال، وإن كان فعلًا فينبغي أن يقال زيد قائمًا كما يقال "حضر زيد قائمًا" وإن كان أداة فالأدوات لا ترفع الأسماء على هذا الحد. وإن كان غير شيء فالاسم لا يرفعه إلا رافع موجود غير معدوم، ومتى كان غير هذه الأقسام الثلاثة التي قدمناها فهو غير معروف.
قالوا: ولا يجوز أن يقال إنا نعني بالابتداء التَّعَرِّي من العوامل اللفظية، لأنا نقول: إذا كان معنى الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية فهو إذًا عبارة عن عدم العوامل، وعدم العوامل لا يكون عاملًا. والذي يدل على أن الابتداء لا يوجب الرفع أنَّا نجدهم يبتدئون بالمنصوبات والمسكنات والحروف، ولو كان ذلك مُوجبًا للرفع لوجب أن تكون مرفوعة، فلما لم يجب ذلك دلّ على أن الابتداء لا يكون موجبًا للرفع.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعري من العوامل اللفظية لأن العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثرة حسية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف، وإنما هي أمارات ودلالات، وإذا كانت العوامل في محلّ الإجماع إنما هي أمارات ودلالات فالأمارة والدلالة تكون بعدم شيء كما تكون بوجود شيء، ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان وأردت أن تميز أحدهما من الآخر فصبغْتَ أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان تَرْكُ صبغ أحدهما في التمييز بمنزله صبغ الآخر؟ فكذلك ههنا. وإذا ثبت أنه عامل في المبتدأ وجب أن يعمل في خبره، قياسًا على غيره من العوامل، نحو "كان" وأخواتها و"إن وأخواتها" و"ظننت" وأخواتها فإنها لما عملت في المبتدأ عملت في خبره فكذلك ههنا.
وأما من ذهب إلى أن الابتداء والمبتدأ جميعا يعملان في الخبر فقالوا: لأنا وجدنا الخبر لا يقع إلا بعد الابتداء والمبتدأ؛ فوجب أن يكونا هما العاملين فيه، غير أن هذا القول وإن كان عليه كثير من البصريين إلا أنه لا يخلو من ضعف، وذلك لأن المبتدأ اسم، والأصل في الأسماء أن لا تعمل، وإذا لم يكن له تأثير في العمل، والابتداء له تأثير، فإضافة ما لا تأثير له إلى ما له تأثير لا تأثير له.
والتحقيق فيه عندي أن يقال: إن الابتداء هو العامل في الخبر بواسطة
1 / 39