المجلد الأول
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، الذي بعثه الله بالحنِيفِيّة الواضحة والدين القويم، فهدى الناس من الضلالة وبصَّرهم من العمى وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وعلى آله مصابيح الظلام وهُداة الأنام، وصَحْبه القادة المَغَاوير أولي الآراء الراجحة والحجج الواضحة والمنهاج المستقيم، وعلى من سلك طريقه واقتفى أثره وتبع سنّته إلى يوم الدين.
وأما بعد؛ فإني منذ أكثر من خمسة عشر عامًا كنت قد عُنِيتُ بتخريج كتاب"الإنصاف، في مسائل الخلاف، بين النحويين البصريين والكوفيين" الذي صنفه الإمام الحجة والعالم الثبت كمال الدين أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن أبي سعيد، الأنباري، النحوي، المولود في سنة ٥٣١، والمتوفى في سنة ٥٧٧ من الهجرة، بعد أن قرأت بعض مسائله لأبنائي من طلبة الدراسات العليا في كلية اللغة العربية إحدى كليات الجامع الأزهر، وعَلَّقت عليه تعليقات ذات شأن، ثم رأيت أن أذيع الكتاب مع شرحي عليه الذي أسميته "الانتصاف من الإنصاف" ليكون بين يَدَي قرّاء العربية "كتاب لطيف، يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويِّي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة"١، وكان أن قدّمت الكتاب للنشر، ولكن أزمة الورق في أعقاب الحرب العالمية الثانية وقفت حائلًا منيعًا بين نشر الكتاب مع شرحي عليه، وكنت بين اثنتين: إما أن أنشر الكتاب وحده وأترك شرحي الذي كَابَدْت فيه ما لا يعلمه إلا الله من الجهد والعناء، وإما أن أتركهما جميعًا حتى يأذن الله بنشرهما معًا، وترددت كثيرًا فيما عسى أن أختار من هاتين الخلّتين، وصحّ العزم آخر الأمر على أن أرضى بنشر كتاب "الإنصاف" غُفْلًا مما كتبته عليه؛ رغبة في أن يعرفه قرّاء العربية ويَرَوْا أنه من أفضل ما صنّف علماؤنا في فنون العربية، فيُقْبِلوا عليه ويرتاحوا له. وظهر الكتاب كما
_________
١ من كلام مؤلف "الإنصاف" في وصف كتابه.
1 / 5
أراد الناشرون، فإذا أماثل العلماء يَرْضَوْنَ عنه ويجدون فيه طلبة طالما تاقت إليها أنفسهم، وإذا هم يقبلون على قراءته ويستنجزون الوعد بإخراج "الانتصاف" معه.
وهأنذا أعود إلى أوراقي التي كنت كتبتها يومئذ فأختار منها ما لا أجد مناصًا من إذاعته مما يؤيّد رأيًا أو يدفع رأيًا، ومما يشرح شاهدًا أو يذكر شاهدًا من أشباه ما ذكره المؤلف وأمثاله، أو مما يقوي حجَّته ويؤيدها، أو مما يقع حجة للخصم الآخر عليه، أو مما يوجّه الشاهد على غير ما رآه، ونحو ذلك مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى، وقد تركت كثيرًا مما كنت أعددته وقت القراءة الأولى مخافة الملَال والسَّأم، ولعلِّي عائد إلى هذا الذي تركته اليوم فباسطٌ فيه القول وناشره، والله المسئول أن يوفّق إلى ذلك ويهيئ له أسبابه، ويدفع عنه موانعه، إنه ولي الإجابة، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
وقد وضعت لكل مسألة عنوانًا وجعلته بين قوسين معقوفين هكذا [] .
اللهم إنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء، ربّ اجعلني ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، ربّ اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، ربّ تقبل مني واقبلني، وتجاوز عني، إنك أنت البرّ الرءوف الرحيم؟
كتبه المعتز بالله
محمد محيي الدين عبد الحميد
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام، العالم، الزاهد، كما الدين عبد الرحمن بن أبي سعيد الأنباري وفّقه الله:
الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة [والسلام] على صفوته النبي العربي المبعوث بالدين المتين، وعلى آله وأصحابه وعِتْرَتِه البررة المتقين.
وبعد؛ فإن جماعة من الفقهاء المتأدّبين، والأدباء المتفقّهين، المشتغلين عليّ بعلم العربية، بالمدرسة النِّظامية – عَمَرَ الله مبانيها! ورحم الله بانيها! سألوني أن ألخص لهم كتابًا لطيفًا، يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة؛ ليكون أول كتاب١ صُنّف في علم العربية على هذا الترتيب، وأُلِّف على هذا الأسلوب؛ لأنه ترتيب لم يصنف عليه أحد من السلف، ولا ألف عليه أحد من الخلف.
فتوَخَّيْتُ٢ إجابتهم على وَفْقِ مسألتهم، وتَحَرَّيت إسعافهم لتحقيق طَلِبَتِهم؛ وفتحت في ذلك الطرق، وذكرت من مذهب كل فريق ما اعتمد عليه أهل التحقيق، واعتمدت في النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة أو البصرة على سبيل الإنصاف، لا التّعصّب والإسراف، مستجيرًا بالله، مستخيرًا له فيما قصدتُ إليه؛ فالله تعالى ينفع به؛ إنه قريب مجيب.
_________
١ يذكر لنا التاريخ أن أبا جعفر النحاس المصري، تلميذ الأخفش الصغير وأبي العباس المبرد والزجاج، والمتوفى سنة ٣٣٨ "أي قبل مولد المؤلف بنحو ١٦٥ عامًا" قد ألف كتابًا في اختلاف البصريين والكوفيين، وسماه" المبهج" ولعل المؤلف لم يطلع عليه، ولم يسمع به.
٢ توخيت: قصدت.
1 / 7
١- مسألة: [الاختلاف في أصل اشتقاق الاسم] ١
ذهب الكوفيون إلى أن الاسم مشتق من الوَسْم وهو العلامة وذهب البصريون إلى أنه مشتق من السُّمُوِّ وهو العُلُوّ.
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مشتق من الوَسْم لأن الوَسْم في اللغة هو العلامة، والاسم وَسْمٌ على المسمى، فصار كالوسم عليه؟ فلهذا قلنا: إنه مشتق من الوَسْمِ، ولذلك قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الاسم سمةٌ تُوضَع على الشيء يعرف بها. والأصل في اسم وسم، إلا أنه حذفت منه الفاء التي هي الواو في وَسْم، وزيدت الهمزة في أوله عِوَضًا عن المحذوف، ووزنه إِعْلٌ؛ لحذف الفاء منه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إنه مشتق من السُّمُوِّ لأن السُّمُوَّ في اللغة هو العلو، يقال: سما يَسْمُو سُمُوًّا، إذا علا، ومنه سمّيت السماء سماء لعلوّها، والاسم يَعْلُو على المسمّى، ويدل على ما تحته من المعنى، ولذلك قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرِّد: الاسم ما دلَّ على مسمّى تحته، وهذا القول كافٍ في الاشتقاق، لا في التّحديد، فلمّا سَمَا الاسم على مُسمّاه وعَلَا على ما تحته من معناه دلَّ على أنه مشتقُّ من السُّمُوِّ، لا من الوَسْمِ.
ومنهم من تمسك بأن قال: إنما قلنا إنه مشتق من السمو وذلك لأن هذه الثلاثَةَ أقسام٢، التي هي الاسم والفعل والحرف لها ثلاثُ مراتب؛ فمنها ما
_________
١ انظر في هذه المسألة: لسان العرب "س م و" وشرح موفق الدين بن يعيش على مفصل الزمخشري "ص٢٦ ط أوروبة" وكتاب "أسرار العربية" لصاحب الإنصاف "ص٣ ليدن" وأوضح المسالك لابن هشام "شرح الشاهد رقم ٥ بتحقيقنا".
٢ اقرأ كلمة "الثلاثة" بالنصب على أنها بدل من اسم الإشارة، واقرأ كلمة "الأقسام" بالنصب أيضًا على أنها بدل من الثلاثة، ولا تضف الثلاثة إلى الأقسام كما كنت تضيف لو قلت "ثلاثة الأقسام" فإن إضافة اسم العدد المقترن بأل إلى المعدود المقترن بها أيضًا مذهب كوفي يرى المحققون من النحاة أنه بمعزل عن السماع والقياس.
1 / 8
يُخْبَر به ويُخْبَر عنه وهو الاسم نحو" اللهُ ربُّنا، ومحمدٌ نبيُّنا" وما أشبه ذلك، فأخبرتَ بالاسم وعنه، ومنها ما يُخْبَر به ولا يُخْبَر عنه، وهو الفعل، نحو "ذهب زيد، وانطلق عمرو" وما أشبه ذلك، فأخبرت بالفعل، ولو أخبرت عنه فقلت "ذهب ضرب، وانطلق كتب" لم يكن كلامًا؛ ومنها ما لا يخبر به ولا يخبر عنه، وهو الحرف، نحو "من، ولن، وبل" وما أشبه ذلك؛ فلما كان الاسم يخبر به ويخبر عنه، والفعل يخبر به ولا يخبر عنه، والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه، فقد سما [الاسم] على الفعل والحرف: أي عَلَا، فدلَّ على أنه من السُّمُوِّ والأصل فيه سِمْوٌ على وزن فِعْلٍ١ – بكسر الفاء سكون العين– فحذف اللام التي هي الواو وجعلت الهمزة عوضًا عنها، ووزنه إِفْعٌ؛ لحذف اللام منه.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: قولهم "إنما قلنا إنه مشتق من الوَسْم لأن الوَسْم في اللغة العلامة، والاسم وَسْمٌ على المسمَّى وعلامة عليه يعرف به" قلنا: هذا وكان صحيحًا من جهة المعنى إلا أنه فاسد من جهة اللفظ، وهذه الصناعة لفظية، فلا بدَّ فيها من مراعاة اللفظ. ووجه فساده من جهة اللفظ من خمسة أوجه:
الوجه الأول: أنَّا أجمعنا على أن الهمزة في أوله همزة التعويض، وهمزة التعويض إنما تقع تعويضًا عن حذف اللام، لا عن حذف الفاء٢، ألا ترى أنهم
_________
١ اعلم أولًا أن العرب قد قالوا "اسم" بكسر همزة الوصل وبضمها أيضًا، وقالوا "سم" بكسر السين وضمها أيضًا وجعل حركات الإعراب على الميم، وقالوا "سما" مقصورًا على مثال هدى وتقى وضحى، وستأتي هذه اللغات مع الشواهد التي ساقها المؤلف، ثم اعلم أن النحاة قد اختلفوا في وزن "سمو" على مذهب البصريين؛ فمنهم من قال: أصله سمو -بكسر السين وسكون الميم- ونظيره من الصحيح حمل وجذع، ومن المعتلّ قنو، فمن حذف الواو ولم يعوّض من المحذوف شيئًا أبقى السين على كسرتها التي كانت لها، ومن حذف الواو وعوّض من المحذوف همزة الوصل ألقى كسرة السين على الهمزة فصارت السين ساكنة، ومنهم من قال: أصله سمو-بضم السين وسكون الميم- ونظيره من الصحيح قُفْل وقُرْط، ومن المعتل عُضْو، فمن حذف الواو ولم يعوّض أبقى ضمه السين على حالها، ومن حذف الواو وعوض منها همزة الوصل ألقى ضمة السين على الهمزة، ثم اعلم أن جمع الاسم على "أسماء" لا يقوي أحد هذين الرأيين ولا يرشحه، وذلك لأن أفعالًا من أوزان الجموع يكون لفعل المكسور أوله الساكن ثانيه كما يكون لفعل المضموم أوله الساكن ثانيه الصحيح والمعتل في ذلك سواء، فأنت تقول: أحمال، وأجذاع، وأقناء، وأقفال، وأقراط، وأعضاء.
٢ اعلم أولًا أن العرب قد حذفوا فاء الكلمة أحيانًا، وحذفوا لام الكلمة أحيانا أخرى، وأن هذا الحذف قد يكون لعلّة تصريفية، وقد يكون اعتباطًا لا لعلّة تصريفية اقتضته ولا لسبب أوجبه إلا مجرد التخفيف، وأنهم قد يحذفون ويعوضون من المحذوف شيئًا، وقد يحذفون ولا يعوضون من المحذوف شيئًا أصلًا، فأما المحذوف لعلّة تصريفية فلا نريد أن نتعرض له لأنه مبين في كتب التصريف بعلله وأسبابه التي اقتضته، وأما الحذف لغير علّة تصريفية استوجبته فهو موضوع حديثنا =
1 / 9
لما حذفوا اللام التي هي الواو من بَنَوٍ عوَّضوا عنها الهمزة في أوله فقالوا: ابْنٌ، ولما حذفوا الفاء التي هي الواو من وِعْدٍ لم يعوِّضوا عنها الهمزة في أوله فلم يقولوا إِعْدٌ، وإنما عوضوا عنها الهاء في آخره فقالوا: عِدَة؛ لأن القياس فيما حُذِفَ منه لامُه أن يُعَوَّض بالهمزة في أوله، وفيما حذف منه فاؤه أن يعوض بالهاء في آخره، والذي يدل على صحة ذلك أنه لا يوجد في كلامهم ما حذف فاؤه وعوِّض بالهمزة في أوله، كما لا يوجد في كلامهم ما حذف لامه وعُوِّض بالهاء في آخره١، فلما وجدنا في أول "اسم" همزة التعويض علمنا أنه محذوف اللام، لا محذوف الفاء؛ لأن حمله على ما له نظير أولى من حمله على ما ليس له نظير؛ فدلَّ على أنه مشتق من السُّمُوِّ لا من الوَسْم.
_________
= الآن؛ إذ كانت كلمة "اسم" من هذا النوع، فنقول: أما حذف الفاء لغير علة مع عدم التعويض عنها فنحو "سم" على مذهب الكوفيين الذين يقولون إن أصله "وسم" فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة بدون علة اقتضت هذا الحذف ولم يعوض من هذا المحذوف شيء أصلًا، وأما حذف الفاء من غير علّة تصريفيّة مع التعويض عنها فنحو "اسم" على مذهب الكوفيين أيضًا، فقد حذفت الواو التي هي فاء الكلمة وعوض عنها همزة الوصل في مكانها، ونحو "لدة" للترب المساوي في السن فإن أصله ولد بدليل أنه من الولادة، و"حشة" اسم للأرض الموحشة التي لا أنيس فيها فإن أصله من الوحش، و"رقة" اسم للفضة فإن أصله واوي الفاء بدليل الورق بفتح الواو وكسر الراء بمعناه، ونحوه "جهة" اسم للمكان الذي تتوجه إليه، فإن الاشتقاق يدل على أن أصله من واوي الفاء نحو الوجهة والتوجه وتوجهت تلقاء كذا، وما أشبه ذلك. وأما ما حذفت لامه اعتباطًا ولم يعوض منها شيء فنحو غد، ويد، ودم، وأب، وأخ، وحم، ومنه "سم" عند البصريين الذين يقولون: إن أصله "سمو" فحذفت الواو ولم يعوض منها شيء، وأما ما حذفت لامه اعتباطًا وعوض منها شيء فنحو "اسم" عند البصريين أيضًا؛ فقد حذفت لامه وهو الواو وعوض منها همزة الوصل، ونظيره "ابن" فإن أصله "بنو" فحذفت لامه اعتباطًا وعوض منها همزة الوصل، ومن ذلك "سنة" و"شفة" و"عزة" و"ثبة" و"كرة" و"عضة" و"ثبة" و"إرة" وأخواتها، فقد حذفت لامات هذه الكلمات وعوض من هذه اللام تاء التأنيث في مكان المحذوف. وإنما بسطنا لك هذا الموضوع لتعلم أنه ليس هناك ضابط لا ينخرم للحذف والتعويض، ثم نقول: حاصل الوجه الأول مما رد به المؤلف على ما ذهب إليه الكوفيون أنه إذا عوض حرف من حرف لزم أن يكون حرف العوض في غير مكان الحرف المعوض منه، وللكوفيين أن يمنعوا ذلك، وأن يقولوا: لا، بل يجوز الأمران جميعًا: أن يكون العوض في مكان المعوض منه، وأن يكون حرف العوض في غير مكان الحرف المعوض منه، وقد عرفت أمثلة ذلك في محذوف الفاء وفي محذوف اللام، كما عرفت فساد قول المؤلف "كما لا يوجد في كلامهم ما حذف لامه وعوض بالهاء في آخره".
١ قد علمت أنه وجد في كلامهم ما حذف لامه وعوض بالهاء في آخره، وذلك مثل: عزة، وعضة، وإرة بكسر أوائلهنَّ وفتح ثانيهنَّ مخففًا ومثل: كرة، وقلة، وثبة بضم أوئلهنَّ وفتح ثانيهنَّ مخففًا ومثل: سنة، وشفة بفتح أولهما وثانيهما كما وجد في كلامهم ما حذفت فاؤه وعوض منها التاء في آخره نحو لدة ورقة وحشة وجهة من أسماء الأعيان، ونحو عدة وزنه وهبة وصفة وجدة من المصادر.
1 / 10
والوجه الثاني: أنك تقول "أسْمَيتُه" ولو كان مشتقًّا من الوَسْم لوجب أن تقول "وَسَمْتُه" فلما لم تقل إلا "أسميت" دلَّ على أنه من السُّمُوِّ، وكان الأصل فيه "أَسْمَوتُ"١، إلا أن الواو التي هي اللام لما وقعت رابعة قلبت ياء، كما قالوا: أَعْلَيْتُ، وأدعيت، والأصل: أعلوت، وأدعوت، إلا أنه لما وقعت الواو رابعة قلبت ياء، فكذلك ها هنا.
وإنما وجب أن تُقْلَب الواو ياء رابعة من هذا النحو حَمْلًا للماضي على المضارع، والمضارع يجب قلب الواو فيه ياء نحو "يُعْلِي، ويُدْعِي، ويُمْسِي" والأصل فيه "يُعْلِوْ، ويُدْعِوْ، ويُسْمِوْ" وإنما وجب قلبها ياءً في المضارع لوقوعها ساكنة مكسورًا٢ ما قبلها؛ لأن الواو متى وقعت ساكنة مكسورًا ما قبلها وجب قلبها ياء، ألا ترى أنهم قالوا: ميقات، وميعاد، وميزان، والأصل: مِوْقَات، ومِوْعَاد، ومِوْزَان؛ لأنه من الوَقْت، والوَعْد، والوَزْن؛ إلا أنه لما وقعت الواو ساكنة مكسورًا ما قبلها وجب قلبها ياء؛ فكذلك ها هنا. وإنما حملوا الماضي على المضارع مراعاة لما بَنَوْا عليه كلامهم من اعتبار حكم المشاكلة، والمحافظة على أن تجري الأبواب على سَنَن واحدة، ألا ترى أنهم حملوا المضارع على الماضي إذا اتصل به ضمير جماعة النسوة نحو
_________
١ للكوفيين أن يدعوا أن هذه الكلمة قد حصل فيها قلب مكاني، وأنهم قالوا أول الأمر "أوسمت" على وزن أفعلت، ثم نقلوا الواو التي هي فاء الكلمة إلى موضع اللام فقالوا "أسموت" على وزن أعلفت، ثم قلبوا هذه الواو -بعد أن صارت في آخر الكلمة- ياء فصارت "أسميت" وبهذه الطريقة نفسها يجيبون عن الوجوه الآتية الثالث والرابع والخامس، وقد تنبه موفق الدين بن يعيش إلى ذلك فقال "فإن أدعى القلب فليس ذلك بالسهل؛ فلا يصار إليه وعنه مندوحة" ا. هـ.
٢ في كلام المؤلف ما يدل على أنه يشترط لقلب الواو ياء أن تكون هذه الواو ساكنة، وليس ذلك بمستقيم على إطلاقه؛ فإن الواو المتطرفة -أي الواقعة في آخر الكلمة- تنقلب ياء إذا انكسر ما قبلها، مطلقًا، أي سواء أكانت ساكنة أم متحركة بل هي لا تكون ساكنة في آخر الكلمة إلا لعارض لا دخل له في قلبها؛ وذلك، من قبل أن آخر الكلم المتمكنة هو محل الإعراب، وانظر إلى قولهم "رضي" وهو فعل ماضٍ من الرضوان، فإن أصل يائه واو مفتوحة، وانظر إلى قولهم "غزى" و"دعى" بالبناء للمفعول؛ فإن أصل يائهما الواو، بدليل قولهم: دعاه يدعوه، وغزاه يغزوه، وقد انقلبت واوهما ياء لمجرد كونها طرفًا مكسورًا ما قبلها، ثم انظر بعد ذلك إلى قولهم "الداعي، والغازي، والراضي" فإنك ستجد أن أصل هذه الياءات واو، بدليل الاشتقاق الذي أشرنا إليه، وقد انقلبت الواو في الكلمات الثلاث ياء لوقوعها في آخر الكلمة وكسر ما قبلها وأما سكون هذه الكلمات في حالة الرفع وحالة الجر فلعله أخرى، وهي استثقال الضمة والكسرة على الواو والياء، والذي يؤكد لك ذلك أن هذه الواوات تقلب ياء في حالة النصب أيضًا مع ظهور الفتحة على الواو، وعلى الياء.
وإنما يشترط سكون الواو مع انكسار ما قبلها لقلبها ياء إذا كانت في وسط الكلمة نحو ميعاد وميقات وميزان، وقد بين المؤلف أصل هذه الكلمات.
1 / 11
"تَضْرِبْنَ" وحذفوا الهمزة من أخوات "أُكْرِمُ" نحو "نُكْرِم، وتُكْرِم، ويُكْرِم" والأصل فيه "نُؤَكْرِم، وتُؤَكْرِم، ويُؤَكْرِم" كما قال:
[١]
فإنه أهل لأن يُؤَكْرَما
حملًا على أُكْرِم وإنما حذفت إحدى الهمزتين من"أُكرم" لأن الأصل فيه "أُأَكْرِم" فلما اجتمع فيه همزتان كرهوا اجتماعهما؛ فحذفوا إحداهما تخفيفًا، ثم حملوا سائر أخواتها عليها في الحذف، وكذلك حذفوا الواو من أخوات يَعِدُ، نحو "أَعِدُ، ونَعِدُ، وتَعِدُ" والأصل فيها: "أَوْعِد، ونَوْعِد، وتَوْعِد، حملًا على يَعِد، وإنما حذفت الواو من"يعد" لوقوعها بين١ ياء وكسرة ثم حملوا سائر أخواتها عليها
_________
[١] هذا البيت من الرجز المشطور، وهو لأبي حيّان الفقعسي، ومع كثرة ترديد النحاة وأهل اللغة لهذا الشاهد فإني لم أقف له على سوابق أو لواحق، وقد استشهد به ابن هشام في أوضحه"رقم ٥٨٠" والأشموني "رقم ١٢٥٢" وأنظره في اللسان أيضًا "ك ر م" وقوله "أهل" معناه مستحق وذو أهلية، و"يؤكرم" بالبناء للمجهول، وأراد يكرم. والشاهد فيه قوله "يؤكرم" فإن هذه الكلمة قد جاءت على الأصل الأصيل، لكنها مخالفة للاستعمال المُتْلَئِب، لأنهم يحذفون الهمزة من مضارع أفعل كأكرم وأورد وأوفى وذلك لأنهم استثقلوا وجود همزتين متواليتين في أول الكلمة في قولهم "أأكرم" وحملوا "نؤكرم" و"تؤكرم" و"يؤكرم" على المبدوء بهمزة المضارعة قصدًا إلى التجانس ومعاملة للأشباه معاملة واحدة، وإن لم يكن في المبدوء بالنون والياء والتاء من الثقل مثل ما في المبدوء بالهمزة، وقد عاود هذا الراجز الأصل المهجور حين اضطر لإقامة الوزن، ونظيره قول خطام المجاشعي، وانظره في اللسان "ث ف ى":
لم يبقَ منْ آي بها يُحَلَّيْن" ... غيرُ خِطَامٍ ورمادٍ كِنْفَيْنِ
وصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْن
_________
١ جملة ما يشترط لحذف الواو التي هي فاء الفعل من المضارع ثلاثة شروط:
الأول: أن تكون ياء المضارعة مفتوحة، فلو كانت الياء مضمومة كما في نحو يوافق ويوائم وكما في نحو يوعد ويولد ويوزن -بالبناء للمجهول- لم تحذف الواو؛ لأن ضمة الياء تجانس الواو فتشدّ أزرها وتمنعها من تسلّط الياء عليها.
والشرط الثاني: أن تكون عين الفعل مكسورة، فلو كانت العين مضمومة نحو يوجه ويوضؤ، أو كانت مفتوحة نحو يوهل، ونحو يوصل ويوعد ويوفى -بالبناء للمجهول- لم تحذف الواو؛ لأن الفتحة التي بعدها لا تجانس الياء التي قبلها فلا تتقوى بها الياء.
والشرط الثالث: أن يكون وقوع الواو بين ياء مفتوحة وكسرة في فعل، فلو كان وقوع ذلك في اسم نحو يوعيد –على مثال يقطين من الوعد لم تحذف الواو.
1 / 12
في الحذف، كلُّ ذلك لتحصيل التشاكل والفرار من نَفْرة الاختلاف، فكذلك ههنا حملوا الماضي على المضارع، وبل أولى، وذلك لأن مراعاة المشاكلة بالقلب أَقْيَسُ من مراعاة المشاكلة بالحذف؛ لأن القلب تغيير يعرض في نفس الحرف، والحذف إسقاط لأصل الحرف، والإسقاط في باب التغيير أتمُّ من القلب، فإذا جاز أن يُرَاعُوا المشاكلة بالحذف فبالقلب أولى.
وأما قلب الواو ياء في الماضي في نحو "تغازَيْتُ، وترجَّيبت" وإن لم تقلب ياء في المضارع لأن الأصل في تغازيت: غازيت، وفي ترجَّيت: رجَّيت، فزيدت التاء فيهما لتدلَّ على المطاوعة، وغازيت ورجَّيت يجب قلب الواو فيهما ياء في المضارع، ألا ترى أنك تقول في المضارع: أُغَازِي، وأُرَجِّي، فكذلك في الماضي، وإذا لزم هذا القلب قبل الزيادة في "غازيت أغازي، ورجَّيت أرجِّي" فكذلك بعد الزيادة في تغازيت وترجَّيتُ، حملًا لتغازيت على غازيت، وترجَّيتُ على رجَّيت، مراعاة للتشاكل، وفرارًا من نفرة الاختلاف.
والوجه الثالث: أنك تقول في تصغيره "سُمَيّ" ولو كان مشتقّا من الوَسْم لكان يجب أن تقول في تصغيره "وُسَيْم" كما يجب أن تقول في تصغير زِنَة: وُزَيْنَة، وفي تصغير عِدَة: وُعَيْدَة؛ لأن التصغير يردُّ الأشياء إلى أصولها، فلما لم يجز أن يقال إلا سُمَي دلَّ على أنه مشتق من السُّمُوّ، لا من الوَسْمِ.
والأصل في سُمَيّ: سُمَيْو، إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشدّدة، كما قالوا: سيِّد وجيِّد وهيِّن وميِّت. والأصل فيه: سَيْود وجَيْود وهَيْون ومَيْوِت؛ لأنه من السودد والجودة والهوان والموت، إلا أنه لما اجتمعت الياء والواو والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشددة، وكذلك أيضًا قالوا: طَوَيْتُ طَيًّا، ولَوَيَتُ لَيًّا، وشَوَيَتُ شَيًّا، والأصل فيه: طَوْيًا ولَوْيًا وشَوْيًا، إلا أنه لما اجتمعت الواو والياء والسابق منهما ساكن قلبوا الواو ياء، وجعلوهما ياء مشددة، وإنما وجب قلب الواو إلى الياء دون قلب الياء إلى الواو لأن الياء أَخْفُّ من الواو؛ فلما وجب قلب أحدهما إلى الآخر كان قلبُ الأثْقَلِ إلى الأخفِّ من قلب الأخَفِّ إلى الأثقل.
والوجه الرابع: أنك تقول في تكسير "أَسْمَاء١" ولو كان مشتقًّا من الوَسْمِ
_________
١ وقد جمعوا "أسماء" على "أساميّ" بتشديد الياء وأصله على مذهب البصريين "أساميو" مثل قراطيس وعصافير، أما الياء فهي منقلبة عن حرف اللين الذي هو الألف في أسماء وقرطاس والواو في عصفور، وما الواو فهي لام الكلمة على مذهبهم، فلما اجتمعت الواو والياء في كلمة واحدة وكان السابق منهما ساكنًا قلبوا الواو ياء ثم أدغموا الياء في الياء، وربما حذفوا الياء المنقلبة عن حرف اللين وأبقوا الواو فانقلبت ياء لتطرفها إثر كسرة فقالوا "الأسامي" وتحذف هذه الياء الخفيفة في حالتي الرفع والجر، ومن ذلك قول الشاعر:
ولنا أسام ما تليق بغيرنا ... ومشاهد تهتل حين ترانا
1 / 13
لوجب أن تقول: أوسام، وأواسيم؛ فلما لم يجز أن يقال إلا أسماء دلَّ على أنه مشتقّ من السُّمُوِّ، لا من الوَسْمِ.
والأصل في أسْمَاء أسْمَاو، إلا أنه لما وقعت الواو طرفًا وقبلها ألف زائد قلبت همزة كما قالوا: سَمَاء، وكَسَاء، ورَجَاء، ونَجَاء. والأصل فيه: سماو، وكساو، ورجاو، ونجاو؛ لقولهم: سَمَوْت وكَسَوْت ورَجَوْت ونَجَوْت، إلا أنه لما وقعت الواو طرفًا وقبلها ألف زائدة قلبت همزة.
ومنهم من قال١: إنما قلبت ألفًا لأن الألف التي قبلها لما كانت ساكنة خفية زائدة -والحرف الساكن حاجزٌ غيرُ حصين- لم يعتدُّوا بها، فقدُّروا أن الفتحة التي قبل الألف قد وليت الواو٢ وهي متحركة، والواو متى تحركت وانفتح ما قبلها وجب أن تقلب ألفًا، ألا ترى أنهم قالوا: سَمَا، وعَلَا، ودَعَا، وغَزَا، والأصل فيها سَمَوَ وعَلَوَ ودَعَوَ وغَزَوَ؛ لقولهم: سَمَوْت وعَلَوْت ودَعَوْت وغَزَوْت، إلا أنه لمَّا تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفًا، فكذلك ههنا قلبوا الواو في أسْمَاوٍ ألفًا، فاجتمع فيه ألفان: ألف زائدة، وألف منقلبة عن لام الكلمة، والألفان ساكنان، وهما لا يجتمعان، فقلبت الألف الثانية المنقلبة عن لام الكلمة همزة لالتقاء الساكنين، وإنما قلبت إلى الهمزة دون غيرها من الحروف لأنها أقربُ الحروف إليها؛ لأن الهمزة هَوَائية، كما أن الألف هَوَائية، فلما كانت أَقْرَبَ الحروف إليها؛ كان قلبها إليها أولى من قلبها إلى غيرها.
والوجه الخامس: أنه قد جاء عن العرب أنهم قالوا في اسم: سُمًى، على مثال عُلًى، والأصل فيه سُمَوٌ، إلا أنهم قلبوا الواو منه ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار سُمًى، قال الشاعر:
[٢]
واللهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبَارَكًا ... آثرَكَ الله به إيثَارَكَا
_________
[٢] هذا بيت من الرجز المشطور يقوله ابن خالد القناني نسبة إلى القنان بفتح القاف هو جبل لبني أسد فيه ماء يُسَمّى العسيلة – وقد أنشده في اللسان "س م و" وأنشده ابن يعيش، وابن هشام في أوضح المسالك "رقم ٥ بتحقيقنا" و"أسماك" أراد ألهم آلك أن يسموك، و"سما" =
_________
١ ينسب العلامة رضي الدين في شرح الشافية هذا الرأي إلى حذاق الصرفيين.
٢ الصواب أن يقال "قد وليتها الواو".
1 / 14
وفيه خمس لغات: اسم بكسر الهمزة، واسم بضمها، وسِمٌ بكسر السّين وسُمٌ بضمها. قال الشاعر:
[٣]
وعامنا أَعْجَبَنَا مُقَدَّمُه ... يُدْعَى أَبَا السَّمح وقِرْضَابٌ سُمُه
مُبْتَرِكًا لِكُلِّ عظم يَلْحُمُه
وقال:
[٤]
باسم الذي في كل سورة سِمُه ... قد وردت على طريق تَعْلَمُه
_________
= أي اسما "مباركًا" أي ذا بركة "آثرك" ميزك واختصك، و"إيثارك" هو مصدر مضاف إلى ضمير المخاطب، ويجوز أن يكون هذا الضمير فاعل المصدر، كم يجوز أن يكون مفعوله؛ فعلى الأول يكون المعنى: آثرك الله بهذا الاسم المبارك إيثارًا مثل إيثارك أنت الناس بالمعروف والعطاء وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: آثرك الله بالاسم المبارك إيثارًا مثل إيثاره إيَّاك بالفضل ومكارم الأخلاق. والاستشهاد به في قوله "سما" فقد زعم المؤلف أن هذه الكلمة مقصورة مثل هُدَى وتُقَى وضحى، وعلى هذا يكون نصبها بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، كما تقول: استيقظت ضحى، واتقيت تقى، واتبعت هدى، ولكن هذا الذي ذكره المؤلف ليس بمتعين، فإنه يجوز أن تكون كلمة "سما" في هذا البيت قد جاءت على لغة من يقول "سم" بكسر السين أو ضمها وآخره صحيح مثل غد ويد ودم وأب وأخ، ويكون منصوبًا منونًا كما تقول: أزورك غدًا، واتخذت عندك يدًا، وقد أرقت دمًا، وما أشبه ذلك، ومتى جاز في هذا الشاهد هذان الوجهان لم يصلح أن يكون دليلًا على إحدى اللغتين بعينها؛ لأن الدليل متى تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، كما يقولون، ونظير هذا البيت في احتمال اللغتين ما أنشده أبو العباس:
فدعْ عنك ذكر اللهو، واعمدْ بمدحه ... لخير معد كلها حيثما انتمى
لأعظمها قدرًا، وأكرمها أبًا، ... وأحسنها وجهًا، وأعلنها سما
والذي يتعين أن يكون مقصورًا ما حكاه صاحب الإفصاح من قول بعضهم "ما سماك" فإنه قد أثبت الألف مع الإضافة، وذلك يفيد كونه مقصورًا؛ إذ لو كان عنده صحيح الآخر كيد وغد لقال "ما سمك" بضم الميم، فتأمل ذلك.
[٣] هذه ثلاثة أبيات من الرجز المشطور أنشدها كلها صاحب اللسان "ق ر ض ب -برك- س م و" من غير عزو، وأنشد موفق الدين بن يعيش أولهما وثانيها من غير عزو أيضًا، وأنشدهما ابن جني في شرح تصريف المازني "١/ ٦٠" وتقول "قرضب الرجل فهو قرضاب" إذا أكل شيئًا يابسًا، وتقول "رجل مبترك" إذا كان معتمدًا على الشيء ملحًا فيه، يريد أنهم ظنوا في مقدم العام أنه سيكون عام رخاء، فإذا هو يكون عام شدة وجدب، يلح على أموالهم بالإفناء حتى يأتي عليها، والاستشهاد فيه بقوله "سمه" وهو يروى بكسر السين وضمها، فيكون دليلًا على أن من العرب من يقول في الاسم "سم" بحذف لامه من غير تعويض ومعاملته معاملة الصحيح الآخر كغد ويد ودم وأخ وأب، وذلك ظاهر.
[٤] هذان بيتان من الرجز المشطور أنشدهما ابن منظور في اللسان "س م و"، وأنشدهما موفق =
1 / 15
ويروى سُمُهْ بضم السّين، وسُمًى على وزن عُلًى، على ما بيّنّا. والله أعلم.
_________
= الدين بن يعيش من غير عزو، وأنشدهما ابن جني في شرح تصريف المازني "١/ ٦٠" وحكي في اللسان روايتهما عن ابن بري عن أبي زيد، وقال: إنهما لرجل من كلب، لكن الرواية هناك هكذا:
أَرْسَلَ فيها بازلًا يُقَرِّمُهْ ... وهو به ينحو طريقًا يعلمُهْ
باسم الذي في كل سورة سُمُهْ
والاستشهاد به في قوله "سمه" وهو نظير ما ذكرناه في الشاهد السابق.
1 / 16
٢- مسألة: [الاختلاف في إعراب الأسماء الستة] ١
ذهب الكوفيّون إلى أن الأسماء الستة المعتلّة وهي: أبُوكَ، وأخُوكَ وحَمُوكَ، وهَنُوكَ، وفُوكَ، وذو مال مُعْرَبَة من مكانين. وذهب البصريون إلى أنها معربة من مكان واحد، والواو والألف والياء هي حروف الإعراب. وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش في أحد القولين. وذهب في القول الثاني إلى أنها ليست بحروف إعراب، ولكنها دلائلُ الإعرابِ، كالواو والألف والياء في التثنية والجمع، وليست بلام الفعل. وذهب علي بن عيسي الرَّبَعِي إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب، وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل، وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب. وذهب أبو عثمان المازني إلى أن الباء٢ حرف الإعراب، وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات.
وقد يحكى عن بعض العرب أنهم يقولون: هذا أَبُك، ورأيت أَبَك، ومررت بِأَبِك -من غير واو ولا ألف ولا ياء- كما يقولون في حالة الإفراد من غير إضافة٣.
وقد يحكى أيضًا عن بعض العرب أنهم يقولون: هذا أَبَاك، ورأيت
_________
١ انظر في هذه المسألة: شرح الأشموني "١/ ٣٦-٤٣ بتحقيقنا" وأوضح المسالك "الشواهد ٦-٩ بتحقيقنا" وشرح التوضيح للشيخ خالد "١/ ٧٢-٧٧ بولاق" وشرح موفق الدين بن يعيش على مفصل الزمخشري "ص٦٠-٦٣ أوروبة" وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب "١/ ٢٣ وما بعدها".
٢ الباء: أراد الباء التي في قولك "جاء أبوك" ومعنى كونها حرف الإعراب أن الإعراب واقع عليها، يعني أنها مرفوعة بالضمة الظاهرة التي على الباء والواو للإشباع.
٣ وقد جاء على هذه اللغة قول الشاعر:
بأبه اقتدى عدي في الكرم ... ومن يشابه أبه فما ظلم
وقوله الآخر:
سوى أبك الأعلى وأن محمدًا ... علا على كل عالٍ يا ابن عمّ محمد
1 / 17
أبَاكَ، ومررت بأبَاكَ -بالألف في حالة الرفع والنصب والجر- فيجعلونه اسمًا مقصورًا، قال الشاعر:
[٥]
إن أَبَاهَا وأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا في المَجْدِ غَايَتَاهَا
ويحكى عن الإمام أبي حنيفة أنه سئل عن إنسان رَمَى إنسانًا بحجر فقتله: هل يجب عليه القَوَدُ؟ فقال: لا، ولو رماه بِأَبَا قُبَيْسٍ -بالألف، على هذه اللغة- لأن أصله أبَوٌ، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبوها ألفًا بعد إسكانها إضعافًا لها، كما قالوا: عَصًا، وقَفًا، وأصله عَصَو وقَفَوا، فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبوها ألفًا، فكذلك ههنا.
والذي يعتمد عليه في النُّصْرَة أهل الكوفة والبصرة القولان الأولان؛ فهذا منتهى القول في تفصيل المذاهب واللغات؛ فلنبدأ بذكر الحجَجِ والاستدلالات:
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا: أجمعنا على أن هذه الحركات -التي هي الضمة والفتحة والكسرة- تكون إعرابًا لهذه الأسماء في حال الإفراد، نحو قولك: هذا أبٌ لك، ورأيت أبًا لك، ومررت بأبٍ لك، وما أشبه ذلك، والأصل فيه أبَوٌ، فاستثقلوا الإعراب على الواو، فأوقَعُوه على الباء وأسقطوا الواو؛ فكانت الضمة علامة للرفع، والفتحة علامة للنصب، والكسرة علامة للجر، فإذا قلت في الإضافة: هذا أبوك، وفي النصب: رأيت أبَاكَ، وفي الجر: مررت بِأَبِيك، والإضافة طارئة على الإفراد كانت الضمة والفتحة والكسرة باقية على ما كانت عليه في حال الإفراد؛ لأن الحركة التي تكون إعرابًا للمفرد في حال الإفراد هي بعينها تكون إعرابًا له في حال الإضافة، ألا ترى أنك تقول: هذا غلام، ورأيت غلامًا، ومررت بغلام، فإذا أضفته قلت: هذا غلامك، ورأيت غلامك، ومررت
_________
[٥] هذان بيتان من الرجز المشطور ينسبهما قوم إلى أبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، وينسبهما قوم آخرون إلى رؤبة بن العجاج، وهما من شواهد الأشموني "رقم ١٦" وابن هشام في أوضح المسالك "رقم ٩" وابن عقيل "رقم ٦" وابن يعيش "ص٦٢" ولاشاهد فيه قوله "أباها" وأنت ترى أنه قد ذكر الأب بالألف ثلاث مرات في البيت الأول فأما في المرتين الأولى والثانية فلا تتعين في واحدة منهما لغة من يجيء بالأسماء الستة بالألف في الأحوال كلها، بل يجوز أن يكون الراجز قد جاء بالكلمتين على هذه اللغة، ويجوز أن يكون قد جاء بهما على اللغة المشهورة عند جمهرة العرب، وذلك لأن الكلمتين في موضع النصب لكون الأولى اسم إن والثانية معطوفة على اسم إن، وفي حالة النصب تستوي لغة التمام ولغة القصر، أما الكلمة الثالثة فتتعين فيها لغة القصر بسبب كونها في موضع الجر وقد أتي بها بالألف، والأولى أن تحمل الأولى والثانية على لغة القصر بقرينة الكلمة الثالثة؛ ليكو الكلام جاريًا على مهيع واحد.
1 / 18
بغلامِكَ؛ فتكون الضمة والفتحة والكسرة التي كانت إعرابًا له في حال الإفراد هي بعينها إعرابًا له في حال الإضافة، فكذلك ههنا، والذي يدلُّ على صحة هذا تغيُّر الحركات على الباء في حال الرفع والنصب والجر، وكذلك الواو والألف والياء بعد هذه الحركات تجري مجرى الحركات في كونها إعرابًا؛ بدليل أنها تتغير في حال الرفع والنصب والجر؛ فدلّ على أن الضمة والواو علامة للرفع، والفتحة والألف علامة للنصب، والكسرة والياء علامة للجر، فدلّ على أنه معرب من مكانين١.
ومنهم من تمسّك بأن قال: إنما أعربت هذه الأسماء الستة من مكانين لقلّة حروفها، تكثيرًا لها، وليزيدوا بالإعراب في الإيضاح والبيان؛ فوجَبَ أن تكون معربة من مكانين على ما ذهبنا إليه.
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا "إنه معرب من مكان واحد" لأن الإعراب إنما دخل الكلام في الأصل لمعنًى وهو الفَصْل، وإزالة اللَّبْسِ، والفَرْقُ بين المعاني المختلفة بعضها من بعض، من الفاعلية والمفعولية إلى غير ذلك وهذا المعنى يحصل بإعراب واحد؛ فلا حاجة إلى أن يجمعوا بين إعرابين؛ لأن أحد الإعرابين يقوم مقام الآخر، فلا حاجة إلى أن يجمع بينهما في كلمة واحدة.
ألا ترى أنهم لا يجمعون بين علامتي تأنيث في كلمة واحدة نحو مسلمات وصالحات، وإن كان الأصل فيه مسلمتات وصالحتات؛ لأن كل واحدة من التاءين تدلّ على ما تدلّ عليه الأخرى من التأنيث، وتقوم مقامَهَا، فلم يجمعوا بينهما؛ فكذلك ههنا.
والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه أن ما ذهبنا إليه له نظير في كلام العرب؛ فإن كل معرب في كلامهم ليس له إلا إعراب واحد، وما ذهبوا إليه لا نظير له في كلامهم؛ فإنه ليس في كلامهم معرب له إعرابان٢، فَبَانَ
_________
١ ونظير هذا ما قالوه في امرئ وابنم؛ فإنه يقال "جاء امرؤ" بضم كل من الراء والهمزة، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ ويقال"رأيت امرأ" بفتح كل من الراء والهمزة، ومنه قول الله تعالى: ﴿مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ﴾ وقول الشاعر:
إن امرأ غرّه منكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
ويقال "مررت بامرئ" بكسر كل من الراء والهمزة، ومنه قول الله جلّ ذكره: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ وكذلك يصنعون مع "ابنم".
٢ قد حدثناك حديث صنيع العرب في "امرئ" و"ابنم" وأنهم -في ظاهر الأمر- يعربونهما من مكانين: الحرف الآخر، والحرف الذي قبل الآخر، فللكوفيين أن يقولوا: لن نسلّم أن هذا لا نظير له في كلام العرب، بل له نظير من الصحيح الآخر وهو امرؤ وابنم، فإنا رأينا العرب تعربهما من مكانين
1 / 19
أن ما ذهبنا إليه له نظير في كلامهم، وما ذهبوا إليه لا نظير له في كلامهم، والمصِيرُ إلى ما له نظِيرُ أولى من المصير إلى ما ليس له نظير.
ومنهم من تمسّك بأن قال: لو جاز أن يجتمع في اسم واحد إعرابان مختلفان لجاز أن يجتمع فيه إعرابان مختلفان؛ فكما يمتنع أن يجتمع فيه إعرابان مختلفان فكذلك يمتنع أن يجتمع فيه إعرابان متفقان؛ لامتناع اجتماع إعرابين في كلمة واحدة.
والاعتمادُ على الاستدلال الأول، وهذا الاستدلال عندي فاسدٌ؛ لأن الإعراب في الأصل إنما دخل للفَصْل بين المعاني بعضها من بعض من الفاعلية والمفعولية على ما بَيَّنَّا؛ فلو جوَّزنا أن يُجْمَع في اسم واحد إعرابان مختلفان لأدَّي ذلك إلى التناقض؛ لأن كل واحد من الإعرابين يدلُّ على نقيض ما يدلُّ عليه الآخر؛ ألا ترى أنَّا لو قدَّرنا الرفع والنصب في اسم واحد لدلَّ الرفع على الفاعلية والنصب على المفعولية، وكل منهما نقيض الآخر، بخلاف ما لو قدرنا إعرابين متفقين فإنه لا يدلُّ أحد الإعرابين على نقيض ما يدل عليه الآخر؛ فبان الفرق بينهما، وأن الاعتماد على الاستدلال الأول.
وأما من ذهب إلى أنها ليست بحروف إعراب١، ولكنها دلائل الإعراب، فقال: لأنها لو كانت حروفَ إعرابٍ كالدال من "زيد" والراء من "عمرو" لما كان فيها دلالة على الإعراب، ألا ترى أنك إذا قلت: "ذهب زيد، وانطلق عمرو" لم يكن في نفس الدال والراء دلالة على الإعراب، فلما كان ههنا هذه الأحرف تدلُّ على الإعراب دلَّ على أنها دلائل الإعراب، وليست بحروف إعراب.
وهذا القول فساد؛ لأنّا نقول: لا يخلو أن تكون هذه الأحرفُ دلائلَ الإعراب في الكلمة أو في غيرها؛ فإن كانت تدل على الإعراب في الكلمة فوجَبَ أن يكون الإعراب فيها؛ لأنها آخر الكلمة، فيئُول هذا القول إلى قول الأكثرين، وإن كانت تدل على إعراب في غير الكلمة فيؤدي إلى أن تكون الكلمة مبنية، وليس من مذهب هذا القائل أنها مبنية، فسنبيّن فساد مذهبه أن الواو والألف والياء في التثنية والجمع ليست بحروف إعراب، ولكنها دلائل الإعراب، مستقصًى في موضعه، إن شاء الله تعالى.
_________
١ قد حكى المؤلف هذا القول أحد قولين لأبي الحسن الأخفش، والعلامة أبو الحسن الأشموني يحكي القولين وينسبهما إلى هشام، وهو هشام بن معاوية أحد أصحاب الكسائي كما سماه المؤلف ابن الأنباري في المسألة الحادية عشرة من هذا الكتاب.
1 / 20
فأما من ذهب إلى أنها إذا كانت مرفوعة ففيها نقل بلا قلب، وإذا كانت منصوبة ففيها قلب بلا نقل، وإذا كانت مجرورة ففيها نقل وقلب؛ فقال: لأن الأصل في قولك هذا أبوه "هذا أبَوُهُ" فاستثقلت الضمة على الواو، فنقلت إلى ما قبلها١، وبقيت الواو على حالها، فكان فيه نقل بلا قلب، والأصل في قولك رأيت أباه "رأيت أبَوَهُ" فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفًا؛ فكان فيه قلب بلا نقل، والأصل في قولك مررت بأبيك "مررت بِأَبَوِك" فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى ما قبلها٢، فقلبت الواو ياء لسكونها٣ وانكسار ما قبلها، فكان فيه نقل وقلب.
وأما مَنْ ذهب إلى أن الباء حرف الإعراب، وإنما الواو والألف والياء نشأت عن إشباع الحركات؛ فقال: لأن الباء تختلف عليها الحركات في حالة الرفع والنصب والجر كما تختلف حركات الإعراب على سائر حروف الإعراب؛ فدلّ على أن الباء حرف الإعراب، وأن هذه الحركات -التي هي الضمة والفتحة والكسرة- حركات إعراب، وإنما أشبعت فنشأت عنها هذه الحروف -التي هي الواو والألف والياء- فالواو عن إشباع الضمة، والألف عن إشباع الفتحة، والياء عن إشباع الكسرة، وقد جاء ذلك كثيرًا في استعمالهم، قال الشاعر في إشباع الضمة:
[٦]
الله يعلم أنَّا في تَلَفُّتِنَا ... يوم الفِرَاقِ إلى إخواننا صُوَرُ
_________
[٦] أنشد ابن منظور هذين البيتين في اللسان "ش ر ى" وأنشد أولهما في "ص ور" من غير عزو، وأنشدهما ابن جني في سر الصناعة "١/ ٢٩" من غير عزو أيضًا وأنشدهما الرضي، وقد شرحهما البغداديّ في الخزانة "١/ ٥٨ بولاق" ولم يعزهما، وكلهم يروي البيتين ببعض اختلاف في بعض ألفاظهما، وسننبّه عليه، وصور: جمع أصور، وهو وصف فعله صور يصور صورًا -على مثال فرح يفرح فرحًا- ومعناه المائل العين، وروى ابن منظور "وأنني حوثما يشرى الهوى بصري" وحوثما: لغة في حيثما، و"يشرى" مضارع أشراه إلى ناحية كذا بمعنى أماله، وهو بمعنى "يثني" في رواية المؤلف، يريد أنه كان دائم التلفت إلى أحبابه يوم الفراق، وأنه كان يتجه في التفاته إلى الجهة التي يسلكها أحبته، ومحلّ الاستشهاد قوله "فأنظور" فإنه أراد "فأنظر" لكنه لما كان محتاجًا إلى الواو في القافية أشبع الضمة التي على الظاء فنشأت الواو.
وأقول: قال أبو الطيب المتنبي:
ويطعمه التوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل
=
_________
١، ٢ حكى العلامة ابن مالك في شرح التسهيل أنك إذا قلت "هذا أبو زيد" فأصله "أبو زيد" بفتح الباء وضم الواو للإعراب، ثم أتبعت الباء للواو فضمت، فصار الباء والواو جميعًا مضمومين، ثم استثقلت الضمة على الواو فحذفت، وهذا أدق مما ذكره المؤلف؛ قالوا: لأن نقل الحركة إلى حرف متحرك غير معهود، ويقال مثل ذلك في حالة الجر.
٣ انظر الهامش ٢ في ص١١.
1 / 21
وأنني حيثما يَثْنِي الهوى بصري ... من حيثما سلكوا أدنو فَأَنْظُورُ
أراد "فَأَنْظُرُ" فأشبع الضمّ، فنشأت الواو، وقال الآخر:
[٧]
هجَوْتَ زَبَّان ثمَّ جِئْتَ معتذرا ... من هَجْوِ زِبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
أراد "لم تَهْجُ"، وقال الآخر:
[٨]
كأنَّ في أنيابها القَرَنْفُولُ
_________
= وضبط الشرّاح قوله "التوراب" بفتح التاء وسكون الواو، ثم راحوا ينددون بها ويقولون: إنه يخترع لكلام العرب أوزانًا لم يقولوها، ولو أنهم ضبطوا الكلمة بضم التاء لوجدوا لها مساغًا ونظائر في كلام من يحتجون بكلامه ويخرجونه، فإن العرب يقولون "التراب" بضم التاء ... الغراب، ثم إذا أشبعت التاء نشأت واو مثل واو "أنظور".
[٧] نسب جماعة هذا البيت إلى أبي عمرو بن العلاء، يقوله للفرزدق الشاعر، وكان الفرزدق قد هجاه ثم اعتذر له، والبيت من شواهد الأشموني "رقم ٤٤" و"زبان" بفتح الزاي وتشديد الباء اسم رجل، وقد ذكر المجد في القاموس جماعة ممن تسموا بهذا الاسم منهم أبو عمرو بن العلاء المازني النحوي اللغوي المقرئ قيل، هذا اسمه، وقيل: بل لقبه واسمه العريان أو يحيى، والاسشتهاد به في قوله "لم تهجو" فإن حق العربية عليه أن يقول" لم تهج" بحذف الواو التي هي لام الفعل، لأن الفعل المضارع المعتل اللام يجزم بحذف لامه، وللعلماء في تخريج مثل ذلك رأيان: أولهما أن هذه الواو هي لام الفعل التي يحذفها جمهرة العرب من المضارع في حالة الجزم، ولم يحذفها هذا الشاعر اكتفاء بحذف الحركة كما يصنع في الفعل الصحيح الآخر، والرأي الثاني هو الذي ذكره المؤلف هنا، وتلخيصه من الواو التي هي لام الكلمة قد حذفت، وأما هذه الواو فإنها واو أخرى نشأت عن إشباع ضمة الجيم، نظير الواو في "أنظور" في الشاهد السابق، وانظر الشاهدين ١١ و١٧.
[٨] هذا بيت من الرجز المشطور، وقد أنشد ابن منظور في اللسان "ق ر ن ف ل" رجزين كل واحد منهما يشتمل على هذا البيت مع مغايرة طفيفة، أما أول الرجزين فقول الراجز:
وا، بأبي ثغرك ذاك المعسول ... كأن في أنيابه القرنفول
وأما الثاني فقول الآخر:
خود أناة كالمهاة عطبول ... كأن في أنيابها القرنفول
و"القرنفول" هو القرنفل الذي ورد في قول امرئ القيس:
إذا التفت نحوي تضوَّع ريحها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
يريد الراجز أن يصف ثغر هذه الجارية الناعمة التي يتغزل فيها بأنه طيب الريح جميل النكهة، ومحل الاستشهاد فيه قوله "القرنفول" فإن أصل الكلمة "القرنفل" فلما اضطر إلى الواو لإقامة الوزن الذي بنى عليه رجزه أشبع ضمة الفاء فنشأت الواو عن هذا الإشباع.
1 / 22
أراد"القَرَنْفُلْ" وقال الشاعر في إشباع الفتحة:
[٩]
وأنتِ من الغوائل حين تُرْمَى ... ومِنْ ذَمِّ الرجال بِمُنْتَزَاح
أراد "بِمُنْتَزَح" فأشبع الفتحة فنشأت الألف، وقال الآخر:
[١٠]
أقول إذا خرَّت على الْكَلْكَالِ ... يا نَاقَتَا ما جُلْتِ من مَجَالٍ
أراد" الكَلْكَلَ"، وقال الآخر:
[١١]
إذا العجوز غضبت فَطَلِّقِ ... ولا تَرَضَّاهَا ولا تمَلَّقِ
_________
[٩] هذا البيت من كلام ابن هرمة، واسمه إبراهيم بن علي، شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وهو من كلمة يرثي فيها ابنه، وقد أنشده ابن منظور "ن ز ح" ونسبه إليه، وأنشده ابن جني في سر الصناعة "١/ ٢٩" وقال قبل إنشاده "وأنشدنا أبو علي لابن هرمة يرثي ابنه" ا. هـ، و"منتزاح" مصدر ميمي فعله "انتزح ينتزح" أي بعد وتقول "أنت بمنتزح من كذا" تريد أنت ببعد منه، أو أنت في مكان بعيد منه، والاستشهاد بالبيت في قوله "بمنتزاح" فإن أصله "بمنتزح" لكنه لما اضطر لإقامة وزن البيت أشبع فتحة الزاي فنشأت من هذا الإشباع ألف.
[١٠] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ك ل ل" من غير عزو. و"الكلكال" والكلكل: الصدر من كل شيء، وقيل: هو باطن الزور، وقيل: هو ما بين الترقوتين، وقوله "يا ناقتا" هو ناقة مضاف لياء المتكلم، وقد قلب الكسرة التي قبل الياء فتحة ثم قلب الياء ألفًا، وقد جاء في لسان العرب "يا ناقتي" على الأصل، والاستشهاد بالبيت في قوله "الكلكال" فإن أصله "الكلكل" كما هو الوارد في قول امرئ القيس:
فقلت له لما تمطي بصلبه ... وأردف أعجازًا وناء بكلكل
لكن الراجز لما اضطر أشبع فتحة الكاف الثانية فنشأت عن هذا الإشباع ألف، كما أن راجزًا آخر -وهو منظور بن مرثد الأسدي- اضطر إلى تضعيف اللام الأخيرة فقال:
كأن مهواها على الكلكل ... موضع كفي راهب يصلي
[١١] هذان بيتان من الرجز المشطور، وقد أنشدهما ابن منظور "ر ض ى" من غير عزو، وقوله "لا ترضاها" معناه لا تتطلب رضاها، وقوله "لا تملق" أصله لا تتملق، فحذف إحدى التاءين، ومعناه لا تتكلف الملق بها، والاستشهاد به في قوله "ولا ترضاها" فقد كان من حق العربية عليه أن يقول "ولا ترضها" فيكون الفعل المضارع مجزومًا بلا الناهية، وعلامة جزمه حذف الألف، وللعلماء في هذه الألف قولان: أحدهما: أن هذه الألف هي لام الكلمة التي كان يجب عليه حذفها للجازم، لكنه اكتفي بحذف الحركة كما يكتفي بحذف الحركة في الفعل الصحيح الآخر، والقول الثاني: أن لام الفعل قد حذفت كما هو مقتضى الجزم، وهذه الألف ناشئة عن إشباع فتحة الضاد، فالفعل مجزوم بحذف الألف والفتحة قبلها دليل عليها، وقد ذكرنا هذين الرأيين في شرح الشاهد "رقم ٧" وانظر أيضًا الشاهد١٧.
ونظير هذين البيتين قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي:
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم تري قبلي أسيرًا يمانيًا
=
1 / 23
أراد "ولا ترضها"، وقال عنترة:
[١٢]
يَنْبَاع مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مثل الفَنِيقِ المُكْدَمِ
أراد "يَنْبَع". وقال الشاعر في إشباع الكسرة:
[١٣]
تَنْفِي يداها الحصى في كلِّ هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ
_________
= فإن قوله "كأن لم تري" يجري فيه الرأيان اللذان ذكرناهما، ويزيد هذا البيت وجهًا ثالثًا، وحاصله أن قوله "تري" بفتح التاء والراء وسكون الياء، وهذه الياء هي ياء المؤنثة المخاطب، وليست لام الكلمة ولا ألف إشباع، وكأنه بعد أن ذكر ضحكها منه التفت إليها فقال مخاطبًا لها: كأنك لم تري قبل هذه المرة أسيرًا يمانيًا.
[١٢] هذا البيت -كما قال المؤلف- لعنترة بن شداد العبسي، من قصيدته المعلقة المشهورة، وهو من شواهد الرضي، وقد شرحه البغدادي في الخزانة "١/ ٥٩" وقوله "ينباع" معناه ينبع، تقول "نبع الماء، والعرق، ونحوهما، ينبع" من باب فتح يفتح، ويأتي أيضًا من بابي نصر وضرب -إذا خرج، والذفرى بكسر الذال سكون الفاء- العظم الذي خلف الأذن، و"غضوب" هي الناقة و"جسرة" الطويلة العظيمة الجسم، و"زيافة" هي السريعة السير، و"الفنيق" الفحل المكرم الذي لا يؤذي لكرامته على أهله، و"المكدم" الفحل القوي، وقالوا "بعير مكدم" يريدون أنه غليظ شديد، وقالوا أيضًا "قدح مكدم" يريدون أن زجاجه غليظ، والاستشهاد به في قوله "ينباع" فإن أصله -على ما قال المؤلف- ينبع، مثل يقطع ويفتح، فلما اضطر لإقامة الوزن أشبع فتحة الباء فنشأت عن هذا الإشباع ألف، وعلى هذا يكون وزن ينباع يفعال، وهذا أحد وجهين للنحاة في هذه الكلمة، والثاني أن الياء ياء المضارعة كما في الرأي الأول، لكن النون التي بعدها ليست أصلًا، ولكنها زائدة، والحروف الأصلية هي الباء وما بعدها، وأصل هذه الألف ياء، فقلبت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فوزن ينباع على هذا ينفعل، مثل ينقاد وينداح، وهذا بعيد لا يقره الاشتقاق ولا المعنى المراد
ونظير هذه الشواهد التي أثرها المؤلف لإشباع الفتحة حتى تنشأ ألف قول الراجز:
أعوذ بالله من العقراب ... الشائلات عقد الأذناب
أراد "العقرب" فأشبع فتحة الراء فنشأت ألف، ومثله قول الراجز الآخر وأنشده ابن منظور "د ر هـ م".
لو أن عندي مائتي درهام ... لجاز في آفاقها خاتامي
أراد "مائتي درهم" فأشبع فتحه الهاء فنشأت ألف، ومثل ذلك في قوله "خاتامي" فإنه أراد "خاتمي" فأشبع فتحة التاء فتولدت ألف، ونظيره قول الراجز الآخر، وأنشده ابن منظور أيضًا "خ ت م" لبعض بني عقيل:
لئن كان ما حدثته اليوم صادقًا ... صم في نهار القيظ للشمس باديا
أوأركب حمارًا بين سرج وفروة ... وأعر من الخاتام صغرى شماليا
أراد أن يقول "وأعر من الخاتم" فأشبع فتحة التاء فتولدت من ذلك الإشباع ألف.
[١٣] هذا البيت من كلام الفرزدق همام بن غالب، وقد أنشد ابن منظور "ص ر ف - د ر هـ م" =
1 / 24