وأما ما ذكره الإمام الرازي في المحصل والقاضي العضد في المواقف من أن تعلق الإرادة القديمة لذاتها لا يمنع من كونها متعلقة ببعض الأشياء على وجه وبعضها على وجه آخر، كما لا يمنع أن تتعلق بالبعض دون البعض، فلا يخفى ما فيه؛ لأنه مبني على أن ذاتها -أي الإرادة القديمة- على التعلق بمعنى أنها بذاتها كافية في ثبوته، وإذا كان كذلك وهي قديمة فنسبتها إلى جميع ما يصح أن تتعلق به على الشيء بلا خصوصية لشيء دون شيء، وإلا لم تكن ذاتها كافية في ثبوت التعلق، بل تحتاج إلى صميمة تحصل في حق بعض الأشياء دون بعض، فاتضح بهذا أنها إذا كانت متعلقة لذاتها كان تعلقها قديما لقدم ذاتها، وكانت نسبتها إلى جميع ما يصح أن تتعلق به بالسوية ، فلا يصح تعلقها بالبعض دون البعض فضلا عن تعلقها لمخالفة بعض وموافقة بعض، وهذا مما ينبهك على فساد مذهب المجبرة من الأشاعرة وغيرهم من القائلين بأن أفعال العباد كلها طاعاتها ومعاصيها بإرادة الله تعالى وقدرته القدمية المؤثرة فيها على حسب تعلق إرادته القديمةن، فليكن منك على ذكره وقس على ما ذكرناه في فساد قوله: من موافق ومعاند ما يتجه على قوله: من منكر وجاحد، فإن مجراهما واحد، وسيأتي بهذا المقام كمزيد توضيح في المبحث الأول في المباحث الثلاثة الآتية قريبا إن شاء الله تعالى.
ومنها قوله: أحدث ما يشاء على الاستقلال، فإنه باطل من وجوه:
الأول: أنه لا إحداث عندهم من العبد لا بالاستقلال، ولا بدونه، هذا إن كان أراد باحداث معناه اللغوي الحقيقي، وإن أراد به الكسب فباطل معناه أو لأنه يقتضي أن العبد غير مستقل بالكسب، وفساده مما لا يخفى:
أما أولا: فلأن مرجع الكسب إلى المحلية وإن كان غير مستقل به لكان للباري تعالى نصيب في المحلية، وهو محال قطعا وإجماعا.
أما ثانيا: فلأن العبد لم يستقل بكسبه لزمه رجوع القائلين به إلى مذهب الجهمية والخالصين من الجبرية؛ لأنه هو الذي جعلوه مناطا للفرق بينهم، وبين هؤلاء[14]، فإذا كان غير واقع من قبل العبد استقلالا لم يبق فرق بينه وبين الفعل، بمعنى التأثير الذي هو عندهم واقع لمحض القدرة القديمة -أي قدرة الله تعالى-، فإنهم يقولون: أنه واقع بخلق الله وبكسب العبد، فالعبد غير مستقل به فإذا كان هذا الاعتبار جاريا في نفس الكسب لزمه إما كسب الكسب أو عدم الكسب، وهو الظاهر فلا يبقى فرق بينهم وبين الجهمية وإخوانهم الخلص من الجبرية.
صفحه ۳۸