كانت أم مصطفى والقط جلجل «عائلة»، كلاهما ينظر إلى الآخر في عطف وحنان وذكريات، وكان بينهما، من وقت لآخر، أحاديث وبكاء ومواء، ولقمة مبللة وجرعة من الماء.
وكان الجيران يسمعون الأحاديث بينهما فيتحسر بعضهم ويتنهد، ويقول بعض آخر إن العجوز تخرف، وكان الصبيان يقفون عند الكوة الصغيرة التي تتصل منها أضواء النهار إلى غرفتها ويستمعون إليها وهي تهذي أو تتحدث إلى جلجل، فيضحكون ويسخرون.
ومضت الأيام والموت يدب في جسم أم مصطفى، فيثقل ساقيها، ثم يغشي عينيها بالعمى، ثم يفكك خلايا مخها، حتى صارت تخلط أحلام النوم بأفكار اليقظة ولا تميز بينهما.
ولم يعد الجيران يسمعون إلا الهمسات من القبر الذي كانت تعيش فيه أم مصطفى، ثم انقطع الهمس وماتت، وبقي القط جلجل، وكان يموء في الليل أكثر، كأنه كان يبكي، ثم مات جلجل، وانقرضت عائلة كانت تعيش في بدروم في مدينة القاهرة.
الفصل الحادي عشر
تجربة علمية
يرى النور ولا يحس النار، ويجد المعنى ولا يجد الجسم، وينظر إلى اللؤلؤ في الأعماق البعيدة، ولكنه لا يمس الماء القريب منه!
كان نجيب طالبا في معهد الفنون الجميلة، وكان يدرس الجسم البشري دراسة الفنان الذي يحاول أن ينقل إلى المتفرج ملامح النفس إلى جنب ملامح الجسم، بل هو لم يكن يبالي بملامح الجسم كثيرا؛ فقد كنت أتأمل بعض رسومه فأجد المعنى المستتر أكثر مما أجد الصورة الواضحة، وأحس بالدلالة أكثر مما أحس بالتقاطيع، وأذكر أني نظرت إلى إحدى صوره فسرت في ظهري قشعريرة وقلت له: كأن هذا الرجل يحس ارتعاشا في نفسه.
فقال: هذا هو ما قصدت؛ إني أرسم النفس لا الجسم.
وكنت أراه يرافق إحدى الطالبات، فقلت له: يا نجيب، احذر فتنة الجمال وأنت في هذه السن؛ لأنك في الأغلب تشتهي أكثر مما تحب، وشبابك يحملك على الإعجاب بكل فتاة، ولكن بعد سنين سوف تجد أن الحب يبعث في نفسك ضروبا أخرى من الإعجاب لن تجدها فيمن تعجب بهن في الوقت الحاضر.
صفحه نامشخص