ثم جعلت تقص عليه كيف أن راجي كان نور البيت، وكان مصطفى يحمله معه إلى المقهى، ويربطه بالكرسي، ويشتري له الحلوى، ومات مصطفى فكانت أمه تحمله إلى المقهى أيضا، وتشتري له الكعك والبسكويت، ولما كان يعطش كانت تضع قطعة من السكر في الماء وتسقيه، وبعد أن ماتت أمه لم يجد أحدا يحمله إلى الشارع حتى يشم الهواء؛ لأنها هي عجوز عشواء ومقعدة، فكان طوال النهار معها بالغرفة، وكانت تلوك له اللقمة وتمضغها ثم تضعها في فمه كما تفعل مع جلجل.
ثم في يوم ما جعل راجي يصرخ، ويسهل، وكان يضع يده على بطنه، وحمله أحد الجيران إلى الطبيب، فقال إنها دوسنطاريا، وأعطاه الدواء بالمجان. - وتعرف يا جلجل، لما الدكتور فحص عن راجي قال: الطفل جميل، وكان جميل والله يا جلجل، كان جميل؛ كان أبيض في بياض مصطفى ابني، وكان سواد عينيه من سواد عيني أمه، وكان يضحك ويتكلم، وإنت عارف؟ الدكتور حضر عندنا هنا في اليوم الثاني وقال: فين الولد؟
حضر وحده من غير ما نطلبه، ولم يطلب منا قرشا! تعرف ليه؟ هو أحب الولد، أحب راجي، ولما حضر قال: اخرجي يا ولية من الغرفة دي واسكني غرفة فيها شمس، لئلا يموت الولد، الولد يموت.
أخرج أروح فين يا جلجل؟ أروح فين؟ أنا معي قرش؟
وعاد جسمها يتشنج بالبكاء.
وكأن جلجل قد أحس بهذا الحزن الهائج في صدرها، فصاح هو الآخر: ماو، ماو؛ وكأنه يبكي معها.
وارتاحت أم مصطفى إلى بكاء جلجل، ونظرت إليه وقالت: - أنا عارفه، إنت كنت حبيبه، كنت تنام معه كل ليلة.
ثم قصت تفصيلات موته، موت راجي؛ فقد هزل من الإسهال، وهمد، حتى لم يكن يقدر على القعود في فراشه، وكان طول الوقت يقول: ماما، ماما، ثم كان أمر الله ومات. - لما دفناه يا جلجل رجعت أنا للبيت، هنا، وقلت: يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني!
لكن الله لم يرحمها، فبقيت حية تذكر مصطفى ابنها، ثم فاطمة زوجته، ثم راجي؛ الطفل الحلو الذي كان يمكن أن يكبر ويشتد ويدفنها هو.
ثم مدت يدها إلى كومة من الملابس، فأخرجت قميص ابنها مصطفى فتشممته، وقبلته، ومسحت به دموعها، ووضعته في حجرها، ثم مدت يدها وأخرجت منديل الرأس الذي كانت تلبسه فاطمة، فجعلت تقبله، وتلحس قماشه، وتمضغه، كما لو كانت لقمة تؤكل، ثم نبشت الملابس وأخرجت قميصا صغيرا لا يكاد يملأ يدها، هو قميص راجي، فوضعته على صدرها وضمت يدها عليه وهي تقول: - مصطفى، فاطمة، راجي، يا ربي، أنا مت ثلاث مرات، خذني وارحمني!
صفحه نامشخص