ومتى تركت الأنفس الأبدان فإن هذا الاختلاف الأصلي، المضاف إلى اختلاف أزمنة حدوثها وانطلاقها خارج الأبدان، يحول دون اختلاطها، فتبقى ذوات منفصلة.
والحاصل،
33
أن كل حي يدرك بشعوره أنه لا يوجد فيه غير نفس واحدة، تحس وتعمل ببدنها، وتسيطر على البدن اختياريا، وما كان لنفس أخرى أن تحس بهذا البدن، ولا أن تعمل به، ولا أن تتجلى فيه على الإطلاق، فلا تعلق بينها وبين هذا البدن، وينتهي ابن سينا بوحدة النفس الفردية هذه إلى استحالة التناسخ.
34
ومن الواضح أن ابن سينا بذل وسعه بهذه البراهين الأخيرة، وذلك كما أعتقد مخلصا، في مكافحة مناحي وحدة الوجود، التي كان يمكن أن يجر إليه مذهبه، وهذا الجهد هو من الإمتاع البالغ؛ وذلك لأننا ندرك به الحد الذي يتغلب به - في ذهن الفيلسوف - نفوذ العقيدة على نفوذ الفلسفة، فعلى الفلسفة أن تنحني أمام علم الكلام فيما وراء هذا الحد، وعلى كل منهاج - في هذه الناحية - أن ينظم، عند امتداده إلى هذه النقطة، على وجه لا يصدم به العقيدة، ويجاوز ابن سينا هذا المجاز بلا عائق، فيثبت أنه وفق لإقامة اتصال بين العلم والاعتقاد، اللذين لحم أحدهما بالآخر، وإن شئت فقل: إنه قام بعمل السكلاسي.
الفصل التاسع
إلهيات ابن سينا
العالم العلوي - نظرية انبثاق الأفلاك - اختراع المسبب الأول - الموجود الأول والمسبب الأول - مبدأ العلة وتحليله عند ابن سينا - التوحيد بين العقل والعلة - نظرية الكليات المتفرعة عن نظرية العلل - واجب الوجود. ***
اعلم أن ما بعد الطبيعة، الذي يطلق عليه فلاسفة العرب اسم «الحكمة الأولى»، والذي يدعوه كتاب النجاة ب «الإلهيات» على الخصوص هو علم عالم الموجودات العلوية والله، وهو يؤلف في منهاج ابن سينا رسما كريما، تلقي سطوره الرئيسة شعاعا حول مذهبين كبيرين، وهما: انبثاق الموجودات، والسببية.
صفحه نامشخص