وذلك أن: «تركيب القياس قد يكون موصولا، وهو أن لا تطوى فيه النتائج، بل تذكر مرة بالفعل، ومرة مقدمة كقولك: كل «ج» «ب»، وكل «ب» «ه»، فكل «ج» «ه»، وكل «ج» «ه»، وكل «ه» «د»، فكل «ج» «د»، (وقد يكون تركيب القياس مفصولا، وهو أن تطوى فيه النتائج، كقولك كل «ج» «ب»، وكل «ب» «ه»، وكل «ه» «د»، فكل «ج» «د»). والقياس الذي زاده المحدثون في الشرطيات الاستثنائية هو قياس مركب، وأخذوه على أنه مفرد، كقولك: كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود، وإن كان النهار موجودا فالأعشى يبصر والشمس طالعة؛ فإذن الأعشى يبصر.»
وجميع ما استشهدنا به وما قلناه يكفيان للإشعار بسمة منطق ابن سينا الواضحة الوجيزة الدقيقة الثابتة، حيث يتبع المؤلف أرسطو وشارحيه بكل استقلال، وذلك من غير أن يبدو عبدا لرسمهم ولا لتعليمهم، وإنما كان يكملهم ويكافحهم ويقومهم في بعض الأحيان. ومع ذلك فإننا نخشى أن يفرغ صبر القارئ، وأن تفوته أهمية هذا التقدم التفصيلي الذي حققه ابن سينا في المنطق اليوناني. فترانا نبادر إلى إيصاله إلى قسم هذا المنطق، الذي ظل حيا، والذي موضوعه فن التصديق على العموم ونظرية العلم.
وقد رأينا في تعريف المنطق أن العلم تصور وتصديق. وقد بين ابن سينا - الذي لم يكن عالما نفسيا نفاذا أقل منه عالما منطقيا دقيقا، وذلك في منطقه - أن هذين العنصرين متحدان اتحادا وثيقا، وأنهما يتعاونان تعاونا شديدا في جميع درجات العمل الذهني. «وكل تصديق وتصور فإما مكتسب ببحث ما، وإما واقع ابتداء.»
10
ويكتسب التصديق بالقياس، ويكتسب التصور بالحد، ولا يمكن وقوع القياس بلا تصور، «وللقياس أجزاء مصدق بها ومتصورة»، ويقوم الحد على تصورات أيضا، غير أن هذه التصديقات والتصورات التي يستخدمها الذهن في وقت ما من أوقات دراسة العلم تقوم نفسها على تصديقات وتصورات سابقة، ولا يمكن ذهاب سلسلة ذلك إلى غير نهاية، كما لا تذهب سلسلة المعلولات والعلل؛ ولذا فلا بد من أن تنتهي الأمور إلى «مصدقات ومتصورات بلا واسطة، ولنعد المصدق بها بلا واسطة»، وهذا الحد الذي ينطلق المنطق منه يلقى - كما هو واضح - في تجارب الحواس الأولى وفي مبادئ الذهن الأولى.
وفي المنطق يتناول ابن سينا بالتدريج شأن الإحساس كمبدأ للمعرفة، فيتاح له الكلام عنه فيما بعد، ومع ذلك فإن الكلمات القليلة التي تكلم بها عنه هنا ذات فائدة، وذلك كما أنه لاحظ عدم وجود قياس بلا تصور وكد عدم وجود محسوس بلا قياس. «فالمحسوسات هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس»؛ ومن ثم يرى أنه يريد بالمحسوسات مجربات الحواس، وهو يوضح الدور الذي تمثله الذاكرة في هذه التجربة، فيقول: «إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء، مثل الإسهال للسقمونيا، والحركات المرصودة للسماويات، تكرر ذلك منا في الذكر، وإذا تكرر منا ذلك في الذكر حدثت لنا منه تجربة بسبب قياس اقترن بالذكر، وهو أنه لو كان هذا الأمر كالإسهال مثلا عن السقمونيا اتفاقيا عرضيا، لا عن مقتضى طبيعته، لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف، حتى إنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة، فطلبت سببا لما عرض من أنه لم يوجد. وإذا اجتمع هذا الإحساس وهذا الذكر مع هذا القياس أذعنت النفس بسبب ذلك التصديق بأن السقمونيا من شأنها إذا شربت، أن تسهل صاحبها.»
وفضلا عن الذاكرة، فإن الوهم يمثل عند ابن سينا دورا مهما في مبادئ قياساتنا، «فالعقل يبتدئ من مقدمات، يساعده عليها الوهم»، وتنطوي هذه المقدمات على حقائق متفاوتة، فبعضها ما هو من الإيمان، «والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول إما لأمر سماوي يختص به، أو لرأي وفكر قوي تميز به، مثل اعتقادنا أمورا قبلناها عن أئمة الشرائع»، وأخرى مقدمات حس كلي . «فالذائعات مقدمات وآراء مشهورة محمودة، أوجب التصديق بها، إما شهادة الكل - مثل أن العدل جميل - وإما شهادة الأكثر، وإما شهادة العلماء أو شهادة أكثرهم أو الأفاضل منهم فيما لا يخالف فيه الجمهور». ومثل هذا النوع من المقدمات - أيضا - المبادئ التي تقوم على العادات المكتسبة منذ الصبا، أو القائمة على أهواء يكون الإنسان عرضة لها، أو على «الاستقراء الكثير»، فليست حقيقة مثل هذه المقدمات مطلقة، ثم توجد مبادئ العقل (الأوليات)؛ «فالأوليات، هي قضايا ومقدمات تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب يوجب التصديق بها إلا ذواتها ... فوجب أن يصدق بها الذهن ابتداء ومن غير أن يشعر»، ومن هذه الأوليات - مثلا - كون الكل أعظم من الجزء.
أجل، إن للحس نصيبه - أيضا - في تكوين هذا النوع من المقدمات، ولكن ليس النصيب الرئيس. «نعم، قد يمكن أن يفيده الحس تصورا للكل وللأعظم وللجزء. وأما التصديق بهذه القضية فهو من جبلته (أي العقل).»
وللعلوم موضوعات ومسائل ومقدمات،
11
صفحه نامشخص