وليس لدينا علم دقيق عن أصل هذه الجماعة، وإنما نعرف أن بعض الفلاسفة، في أواسط القرن الرابع من الهجرة، حين أشرفت خلافة بغداد على الأفول، اجتمعوا بالبصرة في مكان بعيد من مركز الدولة المفتوح لمؤثرات مختلفة، صالح ليكون مركزا للدراسة النظرية الحرة وللدعاية الجريئة. ومما لوحظ أن هذا النظام لجمعية مغلقة لم يكن بدعا في الإسلام، فقد كان الشاعر بشار بن برد ومؤسس فرقة المعتزلة، واصل بن عطاء، ينتسبان - قبل ذلك - إلى جماعة مماثلة،
19
وكان فلاسفة البصرة يدعون حلفاء الصفاء، وندماء الصفاء، وإخوان الصفاء على العموم.
20
ولم تكن هذه الجماعة سياسية فقط، بل كانت شيئا أكثر من هذا. ومن الصعب أن يقال ماذا كان ذلك تماما، ويحوم حولها بعض الغموض، فلا يدع هذا ما يماز به غرضها ولا شعائرها ولا وسائل عملها ضبطا.
ولا مراء في أنه كان لدى إخوان الصفا أدوات للدعاية غير كتبهم، حتى إن هذه الكتب لم تقل كل شيء، ولا ماذا كانوا، ولا ماذا أرادوا، وإنما كان لهم عمل سياسي، وكانوا يؤلفون في المدن التي يقيمون بها أنواعا من المنازل لا يستطيع دخولها أحد غيرهم،
21
وفضلا عن ذلك، فإنهم كانوا لا يقتصرون على قبول الفلاسفة بينهم حصرا؛ فقد كان يمكن جميع الناس أن يقبلوا في المنظمة مبدئيا، ولكل دوره وفق أهلياته؛ وذلك أن بعض الناس يلقي دروسا، وآخرين يعطون نقودا، ومن لم يكن من ذوي القرائح أو الغنى كان يقوم بأعمال وضيعة. والخلاصة أن هذه كانت جماعة عامة مؤلفة من عناصر متفاوتة، تربط ما بينها إدارة لا نعرف نوابضها، وروح لا نعلم عنه غير قليل، وليس من العسير أن نجد في زماننا مثل هذه الجماعة.
ومن ينظر إلى دعاية إخوان الصفا يعتقد - أول وهلة - أنهم علماء أخلاق، فما يعرضون على مريديهم هو وسائل تطهير نفوسهم. وكانت هذه هي الحقيقة الدينية، وكان هذا هو العلم، ضمن المعنى الخلقي - الصوفي تقريبا - للكلمة؛ أي الذي يبشر بالنجاة. وإذا كانت قد وجدت جمعية تبيح لنفسها في الإسلام أن تعظ بإنجيل للنجاة، مستندة إلى نفوذها الخاص، فاجتذبت النفوس إليها بوسائل سرية، دل هذا على كون مذهبها يبتعد عن الإسلام لا ريب. وإذا ما نظر إلى هذا المذهب في مجموعه - كما نعرفه من رسائل الإخوان - وجد أنه لا يختلف عن مذهب الفلاسفة إلا قليلا جدا على كل حال. أجل، يمكن أن يبدو إخوان الصفا بجانب الفلاسفة مثل موطئين لأثر الفلاسفة، وناشرين له في الأوساط الشعبية، بيد أن الفلسفة، بتوطئتها في هذه الأوساط، تعرض - بالنسبة إلى الوجه الذي تتجلى به عند الفلاسفة المحترفين - فروقا في المنظر، نرى من المفيد أن نشير إليها.
يكون المذهب الفلسفي في الجماعة أقل رسوخا مما في ممثليها المستقلين، وكذلك يكون أكثر توحيدا بين الآراء، ويكون أكثر انجذابا إلى الأساطير، ويكون أسهل دفقا في التصوف، وتستدعى الأفكار الصوفية فيه كل لحظة، على حين لا تظهر هذه الأفكار إلا مثل تكملة ومثل حد في الفلسفة العلمية، ويكون العلم ممزوجا بالعاطفة الدينية. وكان إخوان الصفا يسلمون بكتب موسى وغيره من الأنبياء مع تسليمهم بكتب الفلاسفة. ويجب أن تفسر كلمة «وغيره» هذه بأوسع معنى. ومجمل القول أن العامل الخلقي سائد لتعليمهم، ففي كل عشر سنين كان كل من يثبت هذه المدة يوعد خيرا، فإذا ثبت خمسين عاما فاز بالعقل الملائكي.
صفحه نامشخص