كان ذلك كله بعد أن فهم اللاتين هذه الفلسفة بحسب وسعهم حينذاك، وبعد أن ترجمت كل مؤلفات ابن رشد المهمة تقريبا من اللغة العربية إلى اللاتينية، وكان هذا نحو منتصف القرن الثالث عشر كما يقول رينان.
ولم تقف مكانة ابن رشد لدى اللاتين في أوروبا عند هذه المنزلة، بل ظلت تزداد علوا وسموا في نظر هؤلاء حتى اختصموا من أجله، وصار منهم متعصبون له ومتعصبون آخرون عليه من أساطين فلسفة القرون الوسطى.
كما كان من بين هؤلاء وأولئك، من ذوي العقول الممتازة الجبارة، من كان يحترمه ويقدره قدره بوصفه أكبر أستاذ ومعلم لهم، ومن كان يرى فيه في الوقت نفسه أكبر زنديق وملحد بمذهبه وفلسفته!
ليت شعري أين ابن رشد فيرى من يعدون أنفسهم اليوم سادة التفكير في العالم يحلون فلسفته المكان العلي، ويجعلون منه المعلم والأستاذ، ويختصمون من أجله، ويكبر الواحد منهم نفسه بالتعصب له أو عليه!
من له فيرى كل هذا من الذين غلوا في تقدير أنفسهم غلوا كبيرا، فاخترعوا أسطورة العقلية السامية والعقلية الآرية، وتوهموا علو هذه على تلك علوا يرجع إلى الفطرة والطبيعة وأصل التكوين!
إنه لو كان في المقدور أن ينزل ابن رشد من عليائه إلى حياتنا الدنيا، ويرى كل هذا، لاغتبط أيما اغتباط، ولرجع إلى مستقره في جنة الخلد مطمئن البال، مرتاح الضمير؛ بسبب ما قدم للإنسانية من خير .
هل نجح ابن رشد في رسالته؟
إذا نجح امرؤ في الوصول إلى غاية رسمها لنفسه، فيجب أن نتساءل: ما عوامل هذا النجاح؟ وماذا يرجع منها إلى جهوده الخاصة؟ وماذا يرجع إلى الظروف التي وجد فيها فجعلت هذه الغاية سهلة المنال يسيرة الحصول؟ وإن لم يقدر له النجاح، فيجب كذلك أن نتساءل: أهذا الإخفاق لأنه رام أمرا غير مروم، أو هو مروم، لكنه عسير المنال دونه عقاب وأهوال؟
على أن تعرف نجاح ابن رشد أو عدم نجاحه أشد عسرا - في رأينا - من أن نتبينه باللحظة الخاطفة، أو النظرة العاجلة، أو التفكير الفطير، ما دام الأمر يتعلق برسالة فكرية فلسفية يرجع النجاح والإخفاق فيها إلى عوامل متداخلة شديدة التعقيد والتركيب. إن ذلك يتصل بالفكرة نفسها، وبالمنهج الذي رسمه للوصول إلى تحقيقها، وبالدين الذي يدين به، والبيئة التي كان يعيش فيها، والعقليات التي كان يكتب لها، والعصور التي جاءت بعده وأحوالها، وبغير هذا كله من العوامل التي قد يصعب استقصاؤها.
بعد ذلك نبدأ الحديث بالقول بأن فيلسوف قرطبة لم ينجح عند الناس فيما أراد من الجمع بين الحكمة والشريعة، وبيان أنهما أختان رضيعتا لبان واحد، وأنه لا غنى لإحداهما عن الأخرى.
صفحه نامشخص