عصره وأسرته
نشأته
عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة
عمله في نظرية المعرفة
ابن رشد والغزالي
خاتمة المطاف
ابن رشد وأثره من بعده
هل نجح ابن رشد في رسالته؟
كلمة أخيرة
ثبت المراجع
عصره وأسرته
نشأته
عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة
عمله في نظرية المعرفة
ابن رشد والغزالي
خاتمة المطاف
ابن رشد وأثره من بعده
هل نجح ابن رشد في رسالته؟
كلمة أخيرة
ثبت المراجع
ابن رشد الفيلسوف
ابن رشد الفيلسوف
تأليف
محمد يوسف موسى
عصره وأسرته
الأصل تتبعه الفروع، كما يقول المعتمد على الله بن عباد في شعر له - سنلم به بعد حين - أو أن الأصول عليها ينبت الشجر، كما يقول غيره. وهما تعبيران متقاربان يلخصان قانونا من قوانين الوراثة؛ إحدى سنن الله في خلقه، يظهر أثره بوضوح - تساعده البيئة؛ قانون الطبيعة الآخر - في ابن رشد الحفيد والبيت الذي نبت فيه؛ سواء في ذلك ما يتصل بالصفات النفسية الخلقية، أو الصفات العقلية.
وأسرة ابن رشد من أكبر الأسر الأندلسية، وتعتبر بوجه خاص من مفاخر قرطبة؛ شغلت زمنا طويلا مركزا ممتازا في الفقه والقضاء والسياسة، وكانت موضع إجلال دولة المرابطين، ثم دولة الموحدين، على اختلاف هاتين الدولتين في النزعات والميول من ناحية العلم والعلماء وحرية التفكير. •••
لقد أسس عبد الرحمن الداخل ملكا لبني أمية بالأندلس استمر من عام 138ه إلى عام 427ه، ولما ذهبت هذه الدولة تقاسم الأمراء أقاليم البلاد؛ فكان ملوك الطوائف الذين عرفهم التاريخ، وكان أشهرهم أمرا، وأنبههم ذكرا المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن عباد ملك إشبيلية؛ فقد انتظم له في ملكه من بلاد الأندلس ما لم ينتظم لملك قبله؛ أعني من المتغلبين كما يقول المراكشي.
لكن الحذر قد يؤتى من مأمنه! فقد كان بين المعتمد والفرنجة حروب وغزوات يصيب منها ويصاب، فرأى أن يستنصر بيوسف بن تاشفين، ملك البربر بمراكش، فكان ساعيا إلى حتفه بظلفه، وكان ذلك سبب ضياع دولته.
ذلك بأن ابن تاشفين صغر ملكه في عينه بعد أن رأى الأندلس وعظمتها، فعاد إلى بلاده وهو في الأندلس طامع، وأخذ هو ومستشاروه يعملون الحيلة لامتلاكها؛ فبدأ باستئذان المعتمد في أن يسمح لجماعة انتخبهم من خيرة أصحابه بالإقامة في بعض الحصون مرابطين في سبيل الله، بينما هم دعاة وأنصار انتهزوا الفرصة عندما سنحت، وهبوا لقيادة الثورة على ابن عباد، حتى أسر بعد أن أبلى أحسن البلاء سنة 484ه، واستقر أمر الأندلس بعد هذا لابن تاشفين، وعد يومئذ - كما يذكر المراكشي - في «جملة الملوك، واستحق اسم السلطنة، وتسمى هو وأصحابه بالمرابطين».
ولما تم أسر المعتمد، وأجازوا به البحر إلى طنجة، قال يعبر عن بعض ما يحس به:
قالوا الخضوع سياسة
فليبد منك لهم خضوع
وألذ من طعم الخضو
ع على فمي السم النقيع
إن تستلب مني الدنى
ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه
لم تسلم القلب الضلوع
لم أستلب شرف الطبا
ع، أيسلب الشرف الرفيع؟
شيم الألى أنا منهم
والأصل تتبعه الفروع
على أن المرابطين لم يهنئوا طويلا بالدولة والملك؛ فقد أرسل الله عليهم الموحدين بزعامة محمد بن عبد الله بن تومرت المهدي، وخليفة عبد المؤمن بن علي، فثلوا عرشهم، وأقاموا لهم دولة على أنقاضهم، وتم لهم بالاستيلاء على قرطبة وغرناطة فتح الأندلس كلها.
وفي سنة 558ه، توفي عبد المؤمن، وولي الأمر ابنه أبو يعقوب يوسف، الملقب بالمنصور، وهو الذي آزر ابن رشد وشجعه على التفلسف، ثم ولي بعده ابنه أبو يوسف يعقوب «580-595ه»، وفي عهده كانت نكبة ابن رشد وأصحابه بعد محاكمة لا ظل للعدل فيها.
وقد قلنا: إن أسرة ابن رشد كانت موضع إجلال وتقدير هاتين الدولتين من ناحية العلم وحرية الفكر. وهذا حق تؤيده وقائع التاريخ.
لقد كان المرابطون من أبعد الناس عن العلم والمدنية وسماحة الإسلام، وكان مؤسس دولتهم لا يتأخر عن سحق الذين لا يتلقون بقبول تعاليمه كلها متى وجد إلى ذلك الوسيلة، وكان من ضيق صدور رجالاتهم بما لا يعرفون من العلم والمعارف أن استولى الفقهاء على رأي يوسف بن تاشفين؛ فكان لا يقطع أمرا دونهم، وانتهزوها فرصة فقبحوا عنده علم الكلام حتى استحكم في نفسه بغضه وبغض أهله، وحذر منه وشدد في نبذه، ثم تمادى الفقهاء فأفتوه بأن كتب الغزالي - وقد وجدت طريقها إلى بلاد المغرب، ومنها «الإحياء» - فيها غير قليل من الإلحاد، وأن صاحبها قد كفر بخروجه فيما ذهب إليه عن مذهب أهل السنة، فكان أن استمع لهم وأمر بإحراقها، كما يروي المراكشي في كتابه «المعجب»، والمؤرخ الألماني يوسف أشباخ في كتابه «تاريخ الأندلس».
وكان من ذلك أن أخذت معاهد العلم والمكتبات العامة تتناقص شيئا فشيئا، وأن صار العلماء ينزوون ويستخفون.
أما الموحدون، فقد كانوا على الضد من هذا كله: إيثار للعلماء، وبخاصة أهل النظر منهم، واستقدامهم ليكونوا بجوارهم في حضرتهم حتى ليتخذون منهم جلاسا وأصدقاء، بل كان منهم الخليفة أبو يعقوب يوسف، الذي دفعه شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة، وجمع كتبها من مختلف النواحي والأقطار.
1
من أجل ذلك نجدهم يبيحون قراءة مؤلفات الغزالي ونحوها من كتب علم الكلام والفلسفة، ويشجعون على دراستها، وكان من سعة صدورهم أن علماء من اليهود وصلوا إلى مركز العمادة لبعض معاهد العلم في قرطبة وإشبيلية وغرناطة وبلنسية ومرسية بالأندلس، كما يذكر المؤرخ أشباخ، في ظل أمراء يعرفون للعلم قدره، ويدفعون إليه، ويثيبون عليه.
لهذا سارع العلماء إلى خذلان المرابطين أبناء الصحراء الجافة القاسية، وشد أزر الموحدين رعاة العلم، وأولي البصر به؛ مجازاة لهم إحسانا بإحسان، وحق لهم ذلك؛ فقد كان هؤلاء يشترطون فيمن يتولون المناصب العامة، كما يذكر أشباخ، «توافر نوع من الثقافة العامة، والإلمام بمعظم العلوم الإسلامية المعروفة».
وهناك مفارقة أخرى بين هاتين الدولتين، اللتين شهد أيامهما ابن رشد وبيته، ترجع إلى البيئة الأولى الطبيعية والاجتماعية لكل منهما.
لقد كان المرابطون - إلى ما ذكرنا - قساة غلاظ الأكباد، وبعيدين إلى حد ملحوظ عما يوجبه الإسلام من الوفاء ولين الجانب والرحمة بمن هان بعد عز؛ فهذا يوسف بن تاشفين استنجد به - كما قدمنا - ابن عباد ضد الفرنجة، فلم يتركه حتى سلبه ملكه، وأنزله وآله منزلة الهون في الأسر والضيق والذل حتى جاءهم الموت، كما يذكر المراكشي. أما الموحدون، وقد أشربوا تعاليم الدين السمحة، فقد كان من أول أمير لهم؛ وهو عبد المؤمن بن علي، أن غلب يحيى بن عبد العزيز الصنهاجي على ملكه - بجاية وأعمالها - ورجع به وبأعيان دولته إلى مراكش، وأمر لهم جميعا، كما يذكر المؤرخ السابق نفسه، «بالمنازل المتسعة، والمراكب النبيلة، والكسى الفاخرة، والأموال الوافرة، وخص يحيى من ذلك بأجزله وأسناه وأحفله، ونال يحيى هذا عنده رتبة عالية، وجاها ضخما، وأظهر عبد المؤمن عناية به لا مزيد عليها».
هذه مفارقة أخرى واضحة بين المسلكين، سببها الفرق الكبير بين البيئتين والمنشأين، وما يكون عن ذلك من شيم وخلال. •••
هذا، وابن رشد يذكره بعض المستشرقين بأنه فيلسوف قرطبة؛ إذ كانت تلك المدينة من مدائن الأندلس موطن بيته ومنبته ومغداه ومراحه، وفيها يقول بعض شعراء الأندلس:
بأربع فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها
ولا عجب! فهي كما يقول ابن بسام في «الذخيرة»: «قرارة أهل الفضل والتقى، ووطن أولى العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم.»
ونعتقد أن ابن بسام لم يبالغ فيما وصف به هذه الحاضرة؛ ففي «نفح الطيب» وغيره من المراجع الأصيلة التي أرخت الأندلس وعظمتها وأهلها على ذلك دليل، وأي دليل!
هذا المقري يروي عن علي بن سعيد، عن والده، أن أهل قرطبة أشد الناس عناية بالكتب، وأن أعيانها كان من مفاخرهم أن يقال: إن فلانا عنده هذا الكتاب النادر، وإن ذلك الكتاب عنده دون الناس جميعا.
وهذا خبر نأتي به، على طول فيه، يبين لنا كيف يكون الكلف بشراء الكتب وتحصيلها حتى عند الجاهلين، قال الحضرمي: «أقمت مدة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح، وتفسير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع المنادي بالزيادة علي، إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا، أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوى! قال : فأراني شخصا عليه لباس رياسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه! إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك؛ فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده، فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكن أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط، جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير! قال الحضرمي: فأحرجني وحملني على أن قلت له: نعم، لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك! يعطى الجوز من لا له أسنان! وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلا، وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه!»
وإذا كان الشيء يذكر بالشيء؛ فإن حديث هذا الحضرمي وسوق قرطبة يذكرنا بمناظرة كانت بين ابن رشد نفسه والرئيس أبي بكر بن زهر في المفاضلة بين قرطبة وإشبيلية، قال فيها فيلسوفنا لزميله: ما أدري ما تقول! غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة لتباع فيها، ونقول: وكفى بذلك فضلا لها عما سواها من مدائن الأندلس وحواضرها!
تلك قرطبة منبت ابن رشد ووطنه الأصغر. أما وطنه الأكبر؛ أي الأندلس عامة، فبلغ من حب أهلها للعلم أن كانوا ينبعثون إلى طلبه بباعث قوي من أنفسهم، وكانوا يعنون بالعلوم كلها إلا الفلسفة والتنجيم، فكانا موضوع عناية الخاصة، ولا يتظاهر بهما مخافة العامة، كما يروي المقري، اللهم إلا إن كان أميرا أو خليفة يحب النظر الحر ويدعو إليه.
تلك كلمة عن قرطبة والأندلس عامة: أمرائها وأهلها، وعن العصر الذي عاش فيه ابن رشد وكان سجلا وعى ما ترك من علم وفلسفة، ومنها عرفنا أن تلك البيئة وذلك العصر كانا يدفعان إلى العلم - بصفة عامة - دفعا شديدا، ويشجعان على النظر الحر والفلسفة أحيانا.
ولنتكلم الآن عن ابن رشد في بيته قبل أن نتكلم عنه في نفسه وفلسفته .
نشأته
ابن رشد الجد أو الفقيه
هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد. ولد في قرطبة في منتصف القرن الخامس، وبرز في الفقه حتى صار كما يقول الضبي في «بغية الملتمس»: «أوحد زمانه فيه.» ونبت نباتا حسنا، فعرف له المرابطون - والموحدون من بعد - فضله في الفقه والدين مع الخلق الكامل، فصار صاحب الصلاة بالمسجد الجامع بقرطبة، وقاضي الجماعة بها، كما يذكر ابن بشكوال، صاحب كتاب «الصلة»، معاصره وأحد مؤرخي أئمة الأندلس وعلمائها ومحدثيها وفقهائها وأدبائها.
وكان لتقدمه في الفقه على جميع معاصريه مفخرة من مفاخر الأندلس، ونجعة رائدي التفقه من جميع أقطارها، والمرجع في المشكلات وعظائم الأمور طيلة حياته، كما كان مشاركا في علوم أخرى كثيرة، «مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن والهدي الصالح».
وبعد أن ذكر هذا المؤرخ الأندلسي قدرا من مؤلفاته، ومنها كتاب «المقدمات» المشهور الذي عرفه المستشرقون أكثر من المسلمين، أشار إلى أنه سار في القضاء بأحسن سيرة، وأقوم طريقة، ثم رأى الخير في أن يستعفي منه فأجيب إلى طلبه، وعمل على نشر كتبه وتواليفه، كما أشار إلى أنه كان محببا إلى الناس، لحسن خلقه، وسهولة لقائه، وكثرة نفعه للمتصلين به، فكان الناس يلجئون إليه ويعولون في مهماتهم عليه، واستمر كذلك حتى توفي عام 520ه، بعد أن اكتحلت عيناه بمرأى حفيده فيلسوفنا العتيد، وأنس به عدة أشهر.
ويكاد مؤرخو الأندلس وعلماؤها، ومنهم الضبي وابن بشكوال وابن الأبار، ثم قاضي القضاة ابن فرحون في كتابه «الديباج المذهب»، يجمعون على وصف ابن رشد الجد هذا بما عرفنا في نفسه وخلقه وعلمه، وحب الناس له، وإكبارهم إياه، وفي ذلك ما يستدعي أن نقف قليلا.
هذا الثناء الذي لا تعقيب عليه ممن أرخه من العلماء المعاصرين له، أو الذين تأخروا عنه قليلا، يؤكد لنا بحق حسن خلقه، وجميل عشرته للناس، وكثرة بره لهم، حتى غلب ذلك ما يكاد يكون طبيعة من تحاسد النظراء، وتعادي الأكفاء المعاصرين.
ابن رشد الأب
هذا ابن رشد الفقيه أو الجد. أما ابن رشد الأب؛ فقد يكفي أن يقال فيه: حسبه أن يكون ابن الجد وأبا الحفيد، ولكنه مع هذا كان ابن أبيه في الفقه والعلم، فأخذ عنه وتفقه به، وولي كذلك قضاء الجماعة، كما ذكر ابن الأبار المحدث الفقيه في كتابه «المعجم»، كما ورث عنه الخير والفضل، فكان محببا إلى الناس بارا بهم، كما يروي ابن بشكوال. وكانت وفاته في عام 563ه في شهر رمضان.
ابن رشد الحفيد أو الفيلسوف
تحدر ابن رشد الطفل من هذا البيت، الذي له - كما عرفنا - المركز العالي المرموق في العلم والقضاء، والمنزلة الرفيعة لدى الأمراء، ورأى الحياة عام 520ه بمدينة قرطبة، وهي سوق العلم ومركز العلماء في ذلك الحين.
ونشأ وهو فتى في هذه البيئة العلمية؛ فدرس ما يدرس أمثاله من الفقه والأصول وعلم اللغة والكلام والأدب، وأخذ عن أبيه أبي القاسم في الفقه ونحوه من علوم الدين، فاستظهر عليه موطأ الإمام مالك، وأخذ أيضا عن غيره من جلة الفقهاء: أمثال أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وأبي بكر سمحون، كما يذكر ابن الأبار في كتابه «التكملة».
وفي اللغة والأدب كان - كما حكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان - يحفظ ما أثر من شعر أبي تمام والمتنبي، ويكثر التمثل به في مجلسه، ويورد ذلك أحسن إيراد.
ولم يكتف فتانا أو رجلنا بعلوم الدين واللغة التي حذقها، بل سمت به همته، ودفعه عقله الطلعة إلى دراسة التعاليم «الرياضيات»، والطب، وغير ذلك من علوم الحكمة على أبي جعفر بن هارون الترجاني. وأبو جعفر هذا كان «محققا للعلوم الحكمية، متقنا لها، معتنيا بكتب أرسطوطاليس وغيره من الحكماء المتقدمين، فاضلا في صناعة الطب متميزا فيها.» كما يذكر صاحب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء».
وهكذا درس أبو الوليد أو الحفيد العلم من معينه، وأخذه عن أعلامه، وابتدأ في العناية به منذ حداثته، واستمر على هذه العناية به، حتى ليروي ابن الأبار عنه «أنه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب نحوا من عشرة آلاف ورقة.» ولعمر الحق، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
علمه وفضله وخلقه
وقد أعانته تلك الدراسة الجادة العالمة على أن صار علما من أعلام عصره البارزين، حتى صار «يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه.» وحتى كان في علوم الأوائل «الفلسفة» «له الإمامة فيها دون أهل عصره.» مع الحظ الموفور من الإعراب والآداب، ومع صحة النظر، وجودة التأليف، والبصر الدقيق الألمعي بالأصول والفروع. وقصارى القول: فإن الذين ترجموا له من العلماء المعاصرين، أو الذين تأخر بهم الزمن عنه، يكادون يجمعون على أنه لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا.
كذلك يصور لنا هؤلاء المؤرخون الثقات ابن رشد الحفيد في دراساته وعلمه.
أما في صفاته النفسية وخلاله وأخلاقه، فيكفينا أن نورد حكم ابن الأبار؛ إذ يقول: «وكان على شرفه أشد الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا»، وأنه «تأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة، فلم يصرفها في ترفيع حال ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة، ومنافع أهل الأندلس عامة». •••
وهنا مواضع يصح أن نقف فيها وقفات قصيرة.
لقد كان ابن رشد إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة، وكان مع ذلك أشد الناس تواضعا، وأخفضهم جناحا، فهل هذا علة لذاك، أو الأمر بالعكس؟ أي إنه كان كبيرا في علمه فكان كبيرا في تواضعه! نعتقد أن هذا هو الصحيح المعقول الذي يتفق مع طبائع الأمور والأشياء.
إن الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم ولو كانت هينة؛ تاه بها، وانتفخت أوداجه، وظن أنه أوتي ما لم يؤت غيره، مثله في هذا مثل المحروم، المحدود الأفق، والمضيق عليه في الرزق، يمشي مصعرا خده للناس إن كسب في يده أكثر مما كان يرجو، وأكثر مما يحتاجه ليومه.
أما الغني فلا يمكن أن يستطيره الفرح أو يزدهيه ربح لم يكن في مرجوه مهما كان كبيرا؛ لأنه حين يقيس نفسه بغيره من أصحاب الملايين لا يجد نفسه بتليد ماله وطريفه شيئا مذكورا، فلم الزهو والكبرياء إذن؟!
وكذلك العالم الذي يتنقل من لون من ألوان المعرفة إلى لون آخر، وكلما انتقل من حل مشكلة علمية تبدت له أخرى، هو دائما في كد عقلي، وتعب فكري. وخاتمة المطاف أو الطواف تكون شعوره بقلة العلم، وصغر النفس، وعجز العقل عن أن يحيط بالكون كله، أرضيه وسمواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك كله من مقام الألوهية الذي جل عن أن يحيط به عقل أو إدراك، والنتيجة الطبيعية والنفسية أن يغدو كلما عمق علمه، كلما اشتد تواضعه، ولان جانبه.
والوقفة الثانية هي أن فيلسوفنا كان ذا حظوة وجاه عظيمين عند الملوك والخلفاء، فلم يفد من ذلك لنفسه، بل قصر هذا على خير أهل بلده خاصة، والأندلس عامة، والأمر في نظري جد طبيعي.
إنه قد وهب نفسه للعلم، وجعل غايته التي يهدف لها معرفة الحقيقة، ولذته هي في أن يدرك من هذه الحقيقة حلقة بعد حلقة، أو طرفا بعد طرف، وهذه اللذات العميقة المتصلة أو المتجددة تستهويه، وتعلو جدا في نظره حتى لا يوازن بينها وبين لذات جمع المال، ورفاهة العيش، وطيب الحياة.
من ثم فهو لا يبالي هذه اللذات ونحوها، ما دام قد جعل همه ووكده المعرفة الحقة، وما يكون في إدراكها من لذة عقلية روحية هي أسمى ضروب اللذات؛ ومن ثم كانت نزعته الاجتماعية وحبه لخير الناس جميعا، فهو يجد لذة أخرى في أن ينفق من جاهه وماله - أو يقصر جاهه وماله - على المحرومين من اللذات العقلية التي جعله الله أهلا لها بما ينفق من عقله وتفكيره.
وهناك وقفة ثالثة بعد هاتين: إن الذين ترجموا لفيلسوف قرطبة وصفوه بأن الدراية كانت أغلب عليه من الرواية،
1
وهذا الوصف يتيح لنا أن نقول: إن نزعته إلى الفلسفة بدت أول ما بدت في الفقه.
ذلك بأن الذي يعتد برأيه وتفكيره، ويحاول أن يدري ويبحث بعقله، لا أن يروي ويصدق ما يرويه كله فحسب، ويجتهد في تعرف علل الأحكام الشرعية على اختلافها، باختلاف الأئمة والفقهاء، ويوازن بين هذه الآراء بعقله ونظره. ذلك الذي يكون هذا حاله في الفقه لا يكون بعيدا عن الفلسفة، بل يكون قد دخل فيها من بعض نواحيها، ما دامت الفلسفة هي البحث عن العلل، ومحاولة فهم العالم وقوانينه.
وإذن، فمن الممكن، بل من السهل الميسور، أن نرى في ابن رشد الفقيه الآن ابن رشد الفيلسوف فيما يأتي من الزمان.
وأخيرا، نقف وقفة رابعة وأخيرة تتصل برأيه في الفقه، وننتقل بعدها إلى حياته العملية.
إنه لا يرى شعائر الدين وأوامره أمورا تعبد الله بها عباده ليكون لهم ما يتطلعون إليه في الدار الآخرة من حور وولدان وجنات فيها من اللذات والمتع ما لا يخطر على قلب بشر. إن الدين - في رأيه - يرمي بشعائره وأوامره إلى غايات خلقية واجتماعية بها صلاح المجتمع وسعادته. وهذه النظرة السامية نجدها واضحة تمام الوضوح في خاتمة كتابه القيم «بداية المجتهد ونهاية المقتصد».
لقد بين في هذا الموضع أن من أوامر الدين وأحكامه ما يرجع إلى تربية الفضائل النفسية المعروفة، ومنها ما يعود الغرض منه إلى تثبيت العدالة الخاصة والعدالة العامة في الأموال وغير الأموال، ومنها ما هو سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان، وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة؛ ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين.
وهكذا نلمح هذه النظرة في آرائه الفقهية في هذا الموضع، وفي مواضع أخرى كثيرة من هذا الكتاب.
عمله في القضاء
إن رجلا هذا شأنه في الفقه والعلم بصفة عامة، وتلك أخلاقه وخلاله النفسية العالية، كان لا بد من أن يتصل بالخليفة، ومن أن يعرف له هذا قدره، ومقدار ما يفيده العلم وتفيده الأمة منه.
لهذا نراه سنة «548ه/1153م» بمدينة مراكش؛ حيث خليفة الموحدين أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وصفيه ابن طفيل الفيلسوف المعروف؛ فقد كان الخليفة شديد الشغف به، والحب له، حتى ربما كان يقيم عند الخليفة بقصره أياما ليلا ونهارا، كما كان ينوه بالعلماء ويستقدمهم إلى حضرته، ويحضه على إكرامهم، كما يحدثنا المراكشي .
وفي هذه المدينة وجد ابن طفيل الفرصة سانحة لتقديم ابن رشد الفقيه للخليفة المتفلسف، بعد أن دبر أمر هذا التقديم بينه وبين الخليفة، فكان ذلك كما يقصه بنفسه رجلنا؛ إذ يقول:
لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبا بكر ابن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي، ويضم إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين، بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي، أن قال لي: ما رأيهم في السماء؛ أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلي ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي في ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.
وقد كان لهذه المقابلة أو هذا الاختبار الناجح أثره العاجل؛ فإن أبا الوليد نفسه يتم الحديث فيقول:
استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي: سمعت أمير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطوطاليس، أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس؛ فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل. وإني لأرجو أن تفي به لما أعلمه من جودة ذهنك، وصفاء قريحتك، وشدة نزوعك إلى هذه الصناعة. وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.
وبرغم ثقل التبعة التي حملها ابن رشد، فقد كان عليه واجب آخر يجب أن يقوم به، وهو ولاية القضاء كما كان أبواه من قبل.
ولي القضاء إذن، والقضاء في الأندلس وفي غيرها من البلاد الإسلامية في ذلك العصر منصب له خطره وجلالته، وحسبنا من منصب يجعل لصاحبه - كما يقول المقري - أن يستقدم الخليفة لمجلس القضاء إن ادعي عليه حق من الحقوق!
وأوجب عليه هذا العمل أن يتنقل بين أفريقية والأندلس؛ فقد ولي أولا قضاء إشبيلية سنة 565ه، ثم ولي القضاء بقرطبة سنة 567ه، وبعد هذا في العام التالي صار قاضي القضاة، أو قاضي الجماعة، فالتسميتان واردتان لمنصب واحد. ومن هذا اليوم اقتعد كرسي جده وأبيه من قبل، وتمت نعمة الله عليه؛ إذ ولي مع قضاء الجماعة منصب الطبيب الخاص للخليفة.
وفي كل هذه الفترة من حياته التي كان إليه القضاء فيها، نجده - كما يروي الذين ترجموا له - محمود السيرة عند العامة والخاصة، وعند الخليفة أيضا، وينفق من نفسه وماله وجاهه ليكون خيرا لأهل بلده خاصة، ولأهل الأندلس عامة، كما ذكرنا من قبل.
شعوره برسالته
حينما قرب ابن طفيل ابن رشد الحفيد من الخليفة وقدمه إليه، وحينما ندبه لتلخيص كتب المعلم الأول وشرحها، لم يفعل ذلك اعتباطا، أو عن هوى، أو ميل خاص، بل لنقل: إنه فعل ما فعل عن ميل خاص لأبي الوليد يرجع إلى عرفانه به، وباستعداده وحبه للعمل الذي ندبه له، وقدرته على الاضطلاع بالرسالة التي كلف بها.
إنه فكر وقدر، وأطال التفكير والتقدير، فلم ير غير الحفيد حريا بما رغب فيه الخليفة أبو يعقوب، من فهم كتب أرسطوطاليس فهما جيدا، ثم تقريبها إلى الناس؛ لما يعلمه فيه من استعداده لهذا العمل العظيم. وكان أبو الوليد جديرا بما حمله وصادف هوى في نفسه واتفاقا مع نزعتها الفلسفية.
وكان من ذلك أن لم يقل - وقد نال من جاه الخليفة والحظوة لديه حتى صار قاضي القضاة وطبيبه الخاص: الآن ألقت عصاها واستقر بها النوى! ولم يقنع بشيء مما نال، أو بما نال كله، كما يقنع من همه جاه يستطيل به على الإخوان والنظراء، ومنصب يركب به الرقاب، وينيله ما يشاء ويرضى من هناءة الحياة ومتعها ولذاتها.
إن همه كان شيئا آخر، وإن غايته كانت غاية أخرى، وإنه ليشعر شعورا عميقا بتلك المهمة أو الرسالة التي نيطت به، وبالغاية التي يجب أن يسعى إليها، ويعمل لها. وإن هذا الشعور أو الإحساس ليظهر منه واضحا ملموسا في مناسبات عديدة مختلفة وهو يحمل تكاليف منصب القاضي الأكبر.
إنه وهو في القضاء كتب الجزء الأكبر من كتبه التي خلدت اسمه وجعلته علما من الأعلام، كما أنه عني بتسجيل بعض تواريخ ما كتب بضروب مختلفة من التسجيل.
ففي آخر شرحه لكتاب الحيوان يذكر أنه انتهى منه في شهر صفر سنة 565ه في مدينة إشبيلية وهو قاض بها، بعد أن انتقل إليها من قرطبة. وفي آخر شرحه الوسيط لكتاب «الطبيعة» يبين أنه أتمه هذا العام بإشبيلية أيضا بعيدا عن كتبه ومستنداته العلمية، وفي شروحه لكتاب «الآثار العلوية
Les Méteorolagiques » ذكر لنا أنه لم يشهد الزلزال العظيم الذي حصل بقرطبة سنة 566ه؛ لأنه كان بإشبيلية في ذلك الوقت، وإن كان قد عاد إلى قرطبة بعد ذلك بقليل.
ونرى إحساسه القوي برسالته، وبأن حياته قد لا تتسع لها، مع رغبته في القيام بها بقدر وسعه، يتجلى واضحا في أنه في آخر الكتاب الأول لمختصر «المجسطي» يذكر أنه أوجب على نفسه أن يقصر جهده على القضايا التي لا غنى عنها، كما يرى نفسه شبيها برجل اندلعت النار في داره فجأة؛ فهو لا يجد من الوقت إلا ما يتسع لإنقاذ أعز الأشياء عنده، وآثرها لديه، وأشدها ضرورة للحياة.
وأخيرا، نحس هذا الإحساس أقوى مما أحسسناه من قبل، إذا عرفنا أنه أتم شروحه المتوسطة على الخطابة والبلاغة وعلى ما بعد الطبيعة سنة 570ه، وهو مضنى الجسم منهوك من التعب، ومن مرض خطير ألح عليه في ذلك الحين، وأنه أسرع بكتابة السطور الأخيرة من كتاب ما بعد الطبيعة وهو مريض هذا المرض الشديد؛ خشية أن يترك هذا العمل غير تام، وفي مرجوه - إذا مد الله في عمره - أن يكتب على هذا الكتاب وغيره من كتب المعلم الأول شروحا أطول وأوفى. وكان من حسن حظ العلم والفلسفة أن أناله الله ما رجاه، وقد أعانه عليه أنه بعد أن تقدمت سنه اعتزل أعماله الرسمية ليتوفر على إتمام تلك الأعمال الفلسفية الكبيرة.
فيما ذكرنا، بل في بعضه، دلالة أو دلالات على أن ابن طفيل بتوجهه لابن رشد برغبة الخليفة في شرح أرسطوطاليس وتقريبه للأفهام صادف نفسا راغبة، وفكرا نافذا، وشعورا بالرسالة مرهفا، وإرادة قوية مسعفة؛ ولذلك كله تم لهم جميعا ما رجوه من شرح المعلم الأول، كما تم لفيلسوف قرطبة ما عمل له دهرا طويلا من عمره؛ وهو التوفيق بين الدين والفلسفة، والانتصاف لهذه بعد ما كاله لها الغزالي من ضربات.
هذه الرسالة ما هي؟
لا يكفي لتعرف منزلة علم من أعلام الفلسفة أو الفقه أو الأدب أو الفن مثلا، أن نزن ما برع فيه من هذا اللون أو غيره من ألوان المعرفة، بل لا بد مع هذا من التساؤل عن البواعث التي وجهته التوجيه الذي اختص به في دراسته، والهدف أو الرسالة التي ملكت عليه أمره، وعمل لها طول حياته، والتي تعتبر إلى حد كبير مفتاحا لفهم نزعاته واتجاهاته.
فإذا كان الأمر كذلك، فما البواعث أو العوامل التي دفعت فيلسوف قرطبة إلى الفلسفة وبحث صلاتها بالشريعة؟ وما الرسالة التي ملكت عليه أمره، واتخذ الوسيلة وسيلة لها، وعمل جاهدا على الوصول إليها؟
هذه الرسالة على ما نعتقد كانت الانتصاف للفلسفة، ورد اعتبارها لها، وإحياءها بعد ما لقيت من الغزالي، والتوفيق بينها وبين الدين أو الشريعة. وتلك الرسالة أسمى الرسالات التي يندب لها نفسه فيلسوف متدين، وهي مع هذا رسالة جعلتها أمرا لازما الظروف التي اجتازها التفكير الإسلامي قبل ابن رشد، وكان يجتازها في عصره أيضا.
ذلك بأن الإمام الغزالي ندب نفسه للرد على الفلاسفة فيما رآه منافيا للدين، حين لم ير - كما يقول - أحدا من رجال الإسلام صرف عنايته لذلك، كما ذكر لنا في «المنقذ من الضلال»، وكان من هذا أن شهر عليهم حربا لا هوادة فيها، واستعمل فيها كل ما قدر عليه من سلاح، وانتهى بالحكم عليهم بأنهم مبتدعون ملاحدة في كثير مما ذهبوا إليه، وكفرة مارقون من الدين في بعض ما أداهم إليه تفكيرهم الذي تأثروا فيه أيما تأثر بفلاسفة الإغريق. وهنا يجب أن نقف قليلا لنعرف ماذا قصد إليه الغزالي من تلك الحرب.
لقد كان من غرض حجة الإسلام من هذه الحرب التي أوقد نارها بشدة أن يصرف الناس عن الفلسفة، ببيان أنها لا تتفق والدين، وعن الفلاسفة بدمغهم بميسم الإلحاد والكفر. ونحن جميعا ندرك ما في اتهام مفكر بأنه يعنى بالفلسفة في ذلك الزمن، فكيف إذا اتهم بعنف من حجة الإسلام الغزالي بأنه كافر! لا ريب يكون جزاؤه تبرؤ المسلمين منه، واستحلال دمه، وإعدام مؤلفاته.
وقصد كذلك نزع الثقة من الفلاسفة من ناحية التفكير، بعد أن طعنهم في عاطفتهم الدينية، حتى لا يخدع أحد بتعاليمهم، وقد ظهر هذا القصد منه ظهورا واضحا.
نراه يصرح بأن الرياضيات من العلوم الفلسفية، وإن كان لا سبيل لإنكارها، ولكن من ينظر فيها «يحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة؛ فيحسب أن جميع علومهم في الوضوح كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم ما تتداوله الألسنة، فيكفر بالتقليد المحض.» ولهذا «يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم ... فقل من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين.» كما ينهى لمثل هذا السبب عن قراءة كتبهم في الأخلاق، حتى لا يغتر أحد بما مزجوه بها من الحكم النبوية والكلمات الصوفية.
2
بل إن هذا القصد ظهر منه أول ما شرع في كتابه «تهافت الفلاسفة»، فنراه يذكر في المقدمة أنه ألفه للرد على الفلاسفة الأغبياء الذين تجملوا بالكفر تقليدا؛ لظنهم أن ذلك يدل على حسن الرأي، ويشعر بالذكاء؛ «فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.»
وأخيرا، كان من غرضه في حربه تلك أن يشير إلى أنه هناك بعد الوحي طريق آكد من العقل في معرفة الحقيقة وآمن، وأكثر رحابة منه، وذلك هو التصوف. وقد كان طبيعيا ومنطقيا من الغزالي ، بعد أن بين قصور العقل الذي عليه وحده يعتمد الفلاسفة في الوصول إلى الحقيقة، أن يدلنا على طريق آخر للوصول إليها.
بهذا الطريق، أو بالتصوف، انكشفت له الحقائق، ولم يكن ذلك - كما يقول - بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة؛ فقد ضيق رحمة الله الواسعة، ولذلك نجده يوقن أن الصوفية هم الذين أحسنوا اختيار الطريق إلى الله وإلى الحقيقة؛ «فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.»
هكذا هاجم الغزالي الفلسفة والفلاسفة من هذه الطرق، مريدا الحط من الفلسفة، وصرف الناس عنها وعن رجالاتها، ونعتقد أنه نجح فيما أراد إلى حد كبير.
إنه من الحق القول بأنه - بعد الغزالي - عدم العالم الإسلامي في الشرق فيلسوفا من طراز الفارابي وابن سينا، بل صارت الدراسات الفلسفية تكاد تنحصر في اقتباس ما يتفق والعقائد الدينية من مذهب المعلم الأول، أو الشيخ الرئيس، أو غيرهما، كما فترت العناية بمسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة، وزادت بالعلوم العملية كالأخلاق والسياسة، كما يذكر المستشرق دي بور في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»، وجاء ما يمكن أن يسمى بعصر الشروح والحواشي والتعليقات والمختصرات.
فإذا تركنا المشرق إلى المغرب، وجدنا ابن باجه وابن طفيل، وهما من معاصري ابن رشد، قد عملا - كل بقدر وسعه وعلى طريقته - على إحياء الفلسفة، كما ترك الثاني بصفة خاصة أثرا يدل بوضوح على رأيه في التوفيق بين الفلسفة والشريعة، وعلى ما بذل من جهد في هذا السبيل، ونعني بهذا الأثر القيم «قصة حي بن يقظان»؛ ففي هذه القصة الفلسفية نرى أنه حينما التقى حي بن يقظان الذي انتهى إلى الحقيقة بالنظر والتفكير بالبطل الآخر «آسال» الذي عرفها من الدين، وروى كل منهما للآخر قصته، عرفا أن الحقائق التي عرفت بالدين والفلسفة متطابقة تطابقا تاما؛ ولهذا نرى المراكشي والمقري يصفان ابن طفيل باجتهاده في التوفيق بين الحكمة والدين.
حالة كهذه، التي وجد فيها فيلسوفنا، كانت تتطلب بلا ريب من يعمل بقوة على الانتصاف للفلسفة وإحيائها، والتوفيق بينها وبين الشريعة، وقد كان ابن رشد هو المرجى لهذه الرسالة؛ فقد جمع بين الاستعداد لها، والحظوة لدى أمير يشجع على الفلسفة ويقرب رجالها.
وإذا كانت محاولة ابن رشد التوفيق بين الحكمة والشريعة هي أهم الوسائل التي رآها لتحقيق الرسالة التي ندب نفسه لها، وإذا كان هذا التوفيق في نفسه غاية جليلة صرف فيها كثيرا من جهوده، وإذا كانت هذه المحاولة منه ومن أسلافه فلاسفة الإسلام بصفة عامة هي معقد الطرافة في الفلسفة الإسلامية، كما يقول المستشرق الفرنسي «ليون جوتيين
Lèon Gauthier »، إذا كان الأمر كذلك، فإننا سنتناول أولا الحديث عن عمله في هذه الناحية وما يتصل بها، ثم نسوق الحديث إلى جهده في الرد على الغزالي وهدم تهافته، وبذلك نكون تناولنا - بالقدر الذي يسمح لنا به نطاق هذا الكتاب الضيق - أهم جوانب فلسفة ابن رشد العظيم.
عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة
تمهيد
الإحساس بالحاجة إلى التوفيق بين الفلسفة أو الحكمة والشريعة عاطفة طبيعية يحس بها كل من عني بالبحث في هاتين الناحيتين. ومحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حد ما واجبا لازم الأداء، وأمرا ينساق إليه الفيلسوف المتدين صاحب العقيدة التي لها قداستها في رأيه؛ وذلك لأكثر من عامل واحد:
أولا:
ليحقق الانسجام بين ما وصل إليه بعقله وبين معتقده الموروث عن الآباء والأجداد، العامر به قلبه، والذي يراه فوق كل شك، وإن عز عليه أحيانا أن يفهم بعض ما جاء به، أو بعض ما يستلزمه.
وثانيا:
ليتجنب غضب الفقهاء الذين يرون كل تفكير عقلي حر ضربة موجهة للدين الذي لم يأت عن طريق العقل، بل عن طريق الوحي الإلهي، وليكون كذلك بمأمن من غضب الشعب وتعصبه؛ الشعب الذي يشعر بميل طبيعي للثورة على الممتازين بأي نوع من أنواع التمييز، وبخاصة إن دفع لذلك التعصب من رجال الدين الذين يرون لأنفسهم فضلا في العقل والتفكير، ويزعمون أنهم قادرون على فهم ما تحسبه العامة أسرارا وأمورا فوق طاقة الإنسان إدراكها.
وإذا كانت محاولة التوفيق بين الوحي والعقل مما لا يجد منه بدا كل من يشتغل بالفلسفة بصفة عامة؛ فهي كذلك بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام للأسباب المتقدمة، ولأسباب أخرى سنشير بعد قليل بإيجاز إلى أهمها وأحقها بالذكر والتقدير.
من أجل ذلك نرى اليونان عرفوا ما يجب أن يكون من علاقة بين الفلسفة والتقاليد أو الأساطير الدينية، كما نجد للمسائل الدينية حظا لدى كل المدارس الفلسفية ورجالها، وبالأخص سقراط وأفلاطون والرواقيين وفلاسفة الإسكندرية، فإنهم جميعا يحرمون تقويض الدين الذي يعرفون له جدواه الأخلاقية والاجتماعية. ومن الطبيعي أن نرى هذا الاتجاه يزيد ويقوى عند «فيلون
» اليهودي وعند بعض آباء الكنيسة المسيحية.
أما بالنسبة للمسلمين؛ فإن الذي يفهم الإسلام وروحه وتعاليمه التي تدعو للأخذ بالوسط في كل الأمور، وتوجب الإصلاح بين المتخاصمين، والتوفيق بين المتناقرين، والذي درس تاريخ الإسلام، ولا سيما الناحية العلمية تقول: إن من كان هذا حاله يرى أن روح التوفيق بصفة عامة كانت طابعا للمسلمين في كل النواحي النظرية تقريبا، فكلما وجدت مذاهب مختلفة أو متعارضة، كانت توجد مذاهب تحاول التوفيق بينها باتخاذها موقفا وسطا، تؤلف به بين أطرافها. والتاريخ، قديمه وحديثه، شاهد صدق يؤيد هذا الذي نقول.
نجد هذه الظاهرة في علم الكلام تتمثل في مذهب الأشعري، الذي هو وسط بين مذهب السلف القائم على التسليم بالنصوص، ومذهب المعتزلة الذي أعطى للعقل الحرية في فهم نصوص القرآن وتأويلها بما يتفق والعقل.
بل نرى المعتزلة أنفسهم يقررون أن العقل والوحي من الله فلا يتناقضان، وأن الأنبياء لم يكشفوا شيئا لا يقدر العقل على الوصول إليه؛ ولهذا يجب أن يكون ما يجيء به الوحي معقولا، وإلا وجب تأويله عقليا.
وفي التشريع، نجد مذهب مالك يعتمد على الحديث، والمذهب الحنفي يعتمد على الرأي والقياس العقلي، ونرى المذهب الشافعي وسطا أو جامعا بين هذين الطرفين المتعارضين.
فإذا كانت نزعة التوفيق من النزعات الغالبة على مفكري الإسلام بصفة عامة في جميع نواحي التفكير، فأولى ثم أولى للفلاسفة أن يعملوا على التوفيق بين الدين الذي يعتقدون صحته، والفلسفة التي عمادها النظر الصحيح والمنطق السليم.
على أنه كانت هناك عوامل أخرى تجعل لزاما عليهم أن يحاولوا - ما استطاعوا - الوصول للتوفيق بينهما؛ وهذه العوامل ترجع في رأينا إلى ثلاثة: (1)
بعد الشقة بين الدين وفلسفة أرسطو في كثير من المسائل؛ كمسألة الألوهية، وتحديد صفات الله وخصائصه، وخلق العالم، وقدمه وحدوثه، والصلة بينه وبين الله، والنفس وخلودها. (2)
مهاجمة كثير من رجال الدين للبحوث العقلية الحرة التي لا تتقيد في نتائجها بأية عقيدة مقررة سابقا، ويضاف إلى هذا تعصب الشعب والأمراء أحيانا ضد المفكرين الأحرار مدفوعين بدوافع مختلفة لا تتصل بالدين في الحقيقة في أكثر الأحيان. (3)
وأخيرا، الرغبة في أن يكونوا بنجوة من هذا التعصب وآثاره؛ ليستطيعوا العمل في هدوء؛ ولئلا يتحاماهم الناس حين يرون أو يظنون أنهم على غير وفاق مع الشريعة والدين.
من أجل ذلك كله، نجد فلاسفة الإسلام جميعا - كغيرهم من المتكلمين والمفكرين - حاولوا هذا التوفيق، سواء منهم من تقدم به الزمن ومن تأخر؛ مع اختلاف في المناهج التي اصطنعوها، والجهود التي خصصوها لبلوغ الغاية المرجوة منهم جميعا، ومع تفاوت في مبلغ ما قدر لهم من نجاح.
جال في هذا الشوط أبو إسحاق الكندي؛ ولذا يؤكد عنه ظهير الدين البيهقي أنه «قد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات».
وجال فيه كذلك الحسين بن الفضل الراغب؛ فقد جمع بين الشريعة والحكمة في تصانيفه، وكان يقول: «بين العقل والشرع تظاهر، ويفتقر أحدهما إلى الآخر.»
والفارابي وابن سينا جريا في هذا الشوط أيضا خطوات واسعة، لما رسخ عندهما من أن الحقيقة واحدة، وإن عبر عنها بطرق وأساليب مختلفة؛ فلم يهملا العقل أو الوحي، بل جذبا كلا منهما إلى الآخر.
أما فيلسوف قرطبة، فقد كان مضطرا - لمحو الأثر الذي أحدثه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة» أو إضعافه على الأقل - إلى محاولة للتوفيق لها أسسها ودعاماتها؛ محاولة يضع فيها الحدود الواضحة للصلة بين الدين أو الشريعة والحكمة، حتى لا يقوم بينهما بعث عداء أو نزاع.
لقد خصص لهذه الغاية رسالته «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وعرض أيضا لها في كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة»، فضلا عن تناولها في مناسبات مختلفة وعديدة في كتابه «تهافت التهافت»، وقد وضع لهذه الغاية طريقا تؤدي في رأيه إليها، ومبادئ وأصولا تقوم عليها، وهي: (1)
الاستدلال بالقرآن على وجوب النظر العقلي والانتفاع بما في تراث الإغريق من خير. (2)
بيان أن الناس مختلفون في العقول والاستعدادات؛ ولذلك انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن لكل أهله. (3)
وضع قواعد عامة لتأويل ما يجب تأويله من نصوص الشرع؛ لبيان متى يكون التأويل، ولمن يكون، ولمن يصرح به. (4)
بيان الطريقة المثلى للاستدلال لعقائد الدين، ولما اختلف فيه من المسائل بين المتكلمين والفلاسفة. (5)
بيان الوحي وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وبيان الحاجة إلى الشريعة.
وفيما يلي تفصيل هذا الإجمال كما يسمح به المقام.
1
الشريعة توجب الفلسفة
ساق ابن رشد، في كتابه «فصل المقال»، دليلا لهذا قوله تعالى:
فاعتبروا يا أولي الأبصار ، موهما أن الاعتبار هنا هو استنباط المجهول من المعلوم. وذلك هو القياس. وهذا فيما نرى استدلال مجتلب؛ لأن المراد بالاعتبار في هذا الموضع الاتعاظ لا القياس؛ الاعتبار بما حصل لليهود حين أعلنوا النبي
صلى الله عليه وسلم
والمسلمين بالعداء، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، لكن الله قذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا للرسول وحكم بإجلائهم إلى الشام.
على أن هذه الآية وإن لم تصلح للاستدلال لما يرى؛ فهناك آيات أخرى تشهد له بما يريد، هناك قوله تعالى:
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ؛ وقوله:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؛ وقوله:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ؛ فضلا عن قول الرسول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها.»
وإذا كان النظر الفلسفي واجبا، فمن الخير أن نستعين بالرواد الذين كشفوا الطريق، وأناروا لمن أتى بعدهم من الباحثين والمتفلسفين السبيل . وإذن فلنقرأ - كما يقول - كتب من تقدمنا من أولئك الرواد والفلاسفة القدامى، فما وجدنا من حق «قبلناه منهم، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهناهم عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم.» وحق لنا أن نعذرهم؛ فالطريق وعر شائك مظلم، والخطوات الأولى هي التي تكلف ما تكلف من عناء ونصب، فيعذر فيها من تعثر.
ومنع المستعد للتفلسف، بفطرته المواتية وخلقه الكامل، جريمة - في رأيه - في الدين؛ لأنه صد عن الباب الذي نصل منه إلى معرفة الله حق معرفته، وذلك جهل أي جهل، كما يذكر في «فصل المقال».
وليس يمنع من النظر في تراث الإغريق أن ضل بالنظر فيه قوم لم يكونوا أهلا لمعرفته، كما ليس لنا أن نمنع العطشان من ورود الماء العذب البارد؛ لأن غيره شرب منه فمات؛ فإن هذا الضرر أمر عرض، ومثل هذا يكون في الفقه؛ فقد يعرض أن تكون دراسة الفقه سببا لضرر يعرض من قبلها؛ كم من فقيه - كما يذكر - كان تبحره في الفقه ومعرفة المخارج من المحرمات والشبهات «سببا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا، بل أكثر الفقهاء هكذا نجدهم، وصناعتهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية.»
ومتى كان هذا القياس العقلي والنظر الفلسفي مما يحث عليه الشرع ويوجبه، كان لا بد من أخذ العدة لعلاج ما يظهر من تعارض واختلاف بين النص ونظر العقل. هذه العدة تقوم على أنه من المقطوع به - كما يؤكد فيلسوفنا - أن كل ما أدى إليه البرهان الصحيح لا يمكن أن يخالف ما أتى به الشرع؛ فإن الحق لا يضاد الحق، بل يشهد له.
وإذن؛ فإن وجد هذا التعارض والاختلاف، كان لا بد من تأويل النص تأويلا يتفق وما نعرف من قواعد اللغة، وذلك مثلا بإخراجه عن دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية. بهذا لا يصطدم العقل والشرع، ولا تترك واحدا منهما لأجل الآخر، بل نجعل لكل منهما اعتباره، ونوفق بينهما بما لا تأباه اللغة وأصولها، فتزول عقبة يظنها البعض كأداء - وهي تعارض نص الوحي ونظر العقل - كانت تقف في سبيل هذا الجمع والتوفيق.
انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن
ولم هذه الظاهرة؛ وهي وجود آيات وأحاديث لا بد من صرفها عن ظاهرها وتأويلها لنتعرف المعاني الخفية المرادة منها؟ سبب هذه الظاهرة، أو بعبارة أخرى سبب انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن لكل منهما أهله،
2
هو أن الناس مختلفون في الفطر والعقول.
إنهم لهذا تختلف حالاتهم في فهم النصوص وإدراك ما يراد بها، كما تختلف وسائلهم في التصديق بما يجب التصديق به من أمور هذا العالم الحاضر والعالم الآخر، ومن وجود الله وما يتصل به من سائر ما جاء به الدين من معتقدات.
ومن أجل ذلك، يقسم فيلسوف قرطبة الناس إلى ثلاث طوائف: الخطابيون، وهم الكثرة الغالبة السهلة الاقتناع التي تصدق بالأدلة الخطابية؛ وأهل الجدل - ومنهم المتكلمون - الذين ارتفعوا حقا عن العامة، ولكنهم لم يصلوا لمرتبة أهل البرهان الحقيقي؛ والبرهانيون بطبائعهم المواتية وبالحكمة التي راضوا عقولهم عليها، وأخذوا أنفسهم بها.
ولما كان الله خلق الناس على هذا التفاوت الملحوظ في الفطر والعقول، وكان من الحكمة أن يكون هذا التفاوت لدواع نقر بها جميعا، وكان من الواجب أن يجد كل في الدين المشرب الذي يناسبه، لما كان الأمر كذلك، كان لا بد أن تختلف التعاليم الدينية التي يؤخذ بها كل فريق؛ فللجمهور وأمثاله من الجدليين الإيمان بظواهر النصوص الدينية وما ضرب الله ورسوله لهم من رموز وأمثال، ما داموا لا يقدرون على الوصول إلى التآويل الصحيحة، وللعلماء أهل البرهان الإيمان بما خفي من المعاني التي ضربت لها تلك الرموز والأمثال لتقربها للعقول، وذلك بتأويل هذه النصوص.
ولكي لا يكون ضرر من هذا التقسيم الذي أريد به الخير، يجب أن نحافظ على أن يكون كل ضرب من هذه التعاليم لطائفته الخاصة لا يعدوها إلى غيرها، وألا يختلط أحدهما بالآخر؛ ولذلك يقول الرسول: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونخاطبهم على قدر عقولهم.» لأن جعل الناس جميعا ضربا واحدا في التعليم خلاف المحسوس والمعقول.
3
وقد كان فيلسوفنا عمليا فيما رأى؛ فهو يتبع ما يقرر من مبادئ؛ ولهذا نراه في كلامه على إثبات العلم لله - على النحو الذي يراه الفلاسفة - يحرم أن يتكلم مع الجمهور على هذا النحو، وإلا كان ذلك - كما يذكر في تهافت التهافت - بمنزلة إعطائهم طعاما هو سم لهم، وإن كان غذاء لآخرين.
التأويل وقانونه
ولم يدع ابن رشد الأمر فوضى؛ فيؤول كل ما يريد من النصوص، ويثبت التآويل في أي كتاب يريد، ويصرح بها لمن يشاء، بل جعل لكل ذلك قانونا يعلم منه ما يجوز تأويله وما لا يجوز، وما جاز تأويله فلمن؟ هذا التأويل، الذي جعل - في رأيه - كل شيء في موضعه، ختم به كتابه: «الكشف عن مناهج الأدلة»، فليرجع إليه من يريد البسطة في هذه المسألة.
إنما نذكر أنه أراد بهذا القانون أن يضع حدا للتآويل التي كثرت وذاعت وتناولها الجميع حتى حدثت عنها اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة، ووجد بسببها في الإسلام فرق متباينة يكفر بعضها بعضا. وهذا كله جهل بمقصد الشرع وتعد عليه كما يقول.
ومن أجل ذلك، أي لكي نتقي أمثال هذه النتائج السيئة، وننفي العداوة بين الحكمة والتربية، يجب بصفة عامة - كما يرى - ألا يصرح بالتآويل، وبخاصة ما يحتاج منها إلى برهان لغير أهلها، وهم القادرون على البرهان والاستدلال بالمنطق، كما يجب ألا نثبت شيئا منها في الكتب الخطابية والجدلية الموضوعة للعامة ومن إليهم من الجدليين. إننا إن فعلنا غير هذا أثمنا، وكنا سببا في إضلال كثير من الناس.
ونظرة فيلسوف قرطبة هذه نظرة عملية صادقة؛ فإن تمثيل نعيم الجنة للعامة بأنه مادي من جنة فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وفيها مع هذا كله من كل الثمرات - هذا التمثيل يدفع للخير ويحث على الفضيلة، وإنه خير لهم من تشكيكهم في هذا الجزاء المادي المحس، ومن محاولة تفهيمهم أن ما جاء به القرآن والحديث دالا على مادية الثواب إنما هو رموز وأمثال، وأن هذا الثواب الذي وعد به الفضلاء الأخيار لن يكون إلا معنويا للنفوس وحدها التي ليس لها إلى التنعم بتلك اللذات المادية من سبيل.
من السهل بعد هذا أن نفهم أن فيلسوفنا لا يرى أن في النصوص الدينية - من القرآن والحديث - نصوصا متشابهات، لا بالنسبة للعلماء الذين يعلمون مع الله تأويلها، ولا بالنسبة للجمهور الذي لا يطلب منه إلا أن يؤمن بما يفهم من ظواهرها دون البحث عن تأويلها وبيان معانيها الخفية. أما أهل الجدل والمتكلمون، فهم الذين يوجد في حقهم التشابه في بعض هذه النصوص. إنهم وقد ارتفعوا عن العامة، ولم يصلوا إلى مرتبة الخاصة، عرضت لهم شكوك وشبه لا يقدرون على حلها، ولكنهم تعلقوا بها، فحاولوا عبثا تأويلها، فضلوا في أنفسهم، وأضلوا من اتبعهم؛ لهذا ذمهم الله بأن في قلوبهم زيغا ومرضا، فهم يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما هم ببالغيه؛ إذ لا يعلم هذا التأويل إلا الله والراسخون في العلم، وهم ليسوا منهم في شيء.
وقد بلغ اعتقاد فيلسوف قرطبة بقوة تأثير هذا الذي ذهب إليه، من جعل تعليم للعامة وآخر للخاصة، في التوفيق بين الوحي والعقل مبلغا كبيرا؛ لهذا نراه يتشدد في ذلك إلى درجة أن يرى أن من النصوص ما يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياها على ظواهرها كفر، كما يجب على العامة حملها على هذه الظواهر، وتأويلهم لها كفر. ومن هذه النصوص قوله تعالى:
الرحمن على العرش استوى ، ونحوه من الأحاديث التي توهم أن الله جسم تجوز عليه النقلة من مكان إلى آخر.
بل إنه، إرادة تثبيت مذهبه، يصوغ مما تقدم مبدأ عاما، فيقول في فصل المقال: «إن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر؛ لأنه يؤدي إليه.» وغني عن البيان أن من كان فرضه التأويل؛ لأنه من ذوي البرهان، وحمل النص على ظاهره، كان كافرا إن كان هذا في أصول الدين، أو مبتدعا إن كان في الفروع.
كما أنه يتشدد في وجوب تطبيق ما وضع من مبادئ وقواعد تتعلق بالتأويل، وتحريم أن يذاع لغير أهله؛ ولهذا لام الغزالي - وسائر المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة - لإثباتهم التآويل في مؤلفاتهم، فذاعت لذلك بين العامة ومن ليس أهلا لها.
إن حجة الغزالي في رأيه «أخطأ على الشريعة والحكمة» بإثباته تآويل النصوص التي يجب تأويلها في غير كتب البرهان، فذاعت بين الجمهور، وكان من هذا أن عاب قوم الأولى وآخرون الثانية. وإن المتكلمين، وبخاصة المعتزلة، بتآويلهم التي صرحوا بها لمن ليس من أهلها «أوقعوا الناس في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع.» كما يذكر في «فصل المقال».
ولم ينس ابن رشد حين لام هؤلاء وأولئك على ما فعلوا، أنه وقع في مثل صنيعهم؛ لذلك تراه يعتذر عما فعل بأن الجمهور عرف من هؤلاء الذين يلومهم هذه التآويل، فكان لا بد له من أن يتكلم فيها لبيان الحق من جهة، ولدفع الأذى عن الجمهور من جهة أخرى، كما يفعل الطبيب الحاذق لشفاء المريض إذا تعدى الجاهل المتطبب وسقاه السم على أنه غذاء.
وما أجمل اعتذاره الذي يسوقه في هذه العبارات من كتابه «فصل المقال»:
فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الجنس من النظر، أعني التكلم بين الشريعة والحكمة، وأحكام التأويل في الشريعة. ولولا شهرة ذلك عند الناس، وشهرة هذه المسائل التي ذكرناها، لما استجزنا أن نكتب في ذلك حرفا، ولا أن نعتذر في ذلك لأهل التأويل بعذر؛ لأن شأن هذه المسائل أن تذكر في كتب البرهان.
وهذا الاعتذار الحق، الذي له أسبابه ومبرراته، يشبه اعتذار سلفه ابن طفيل - في مثل حالته - عن مخالفة طريق السلف الصالح في الضن بالحكمة على غير أهلها، بأنه حاول إصلاح الذي أفسده سابقوه الذين صرحوا بآراء مفسدة، وتآويل ضالة تلقفها غير أهلها فعم لذلك ضررها.
الاستدلال لعقائد الدين
ولكي يكون ابن رشد منطقيا وإيجابيا، أي لكي يكون عمليا يراعي ما وضع من قواعد وأصول لوضع العلاقة بين الحكمة والشريعة على أسس تضمن السلام بينهما، نجده - بعد أن نقد طرائق رجال علم الكلام لعقائد الدين - يبين الطريقة المثلى - في رأيه - للاستدلال على ما يجب الاستدلال عليه من هذه العقائد.
تناول تلك العقائد والمسائل وطبق عليها، في بيانها وإثباتها ، ما سبق أن قرره من ضرورة ملاحظة اختلاف العقول والاستعدادات وما يستتبعه من اختلاف التعاليم. وهو في كل ذلك يعتمد على القرآن وحده، ويفسره وفق منحى خاص له تفسيرا يختلف باختلاف من يتوجه إليهم الخطاب. (1)
وقد بدأ في هذه الناحية - التي احتفل لها لما لها من خطر - بتأكيد أن الطرق التي ارتضتها الشريعة لإثبات تلك العقائد ليست هي طرق الأشاعرة والمعتزلة من المتكلمين، بل هي الطرق التي جاءت في القرآن وحده «قال الكتاب العزيز - كما يقول في «فصل المقال» - إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس.» العامة، والمتكلمين أهل الجدل، والخاصة أولي العلم والبرهان.
هذه الطرق سعد بها الناس دهرا طويلا، وتسعد كذلك بها الإنسانية إن اتبعتها، ودليل ذلك الصدر الأول من المسلمين ومن سار على هديهم من الذين لم يؤولوا القرآن إلا إذا كان التأويل ظاهرا واضحا بنفسه للجميع، واكتفوا باقتناع القلب وبرد اليقين. ولما أخذ المسلمون في التأويل في العصور الأخرى تفرقوا فرقا مختلفة، ومهدوا بأنفسهم لحالة من الشك والقلق لا تكون معها سعادة أو راحة واطمئنان.
ولا عجب في ضرورة القناعة بطرق القرآن وعدم تجاوزها! إنها أتم الطرق إقناعا، وأبعثها على التصديق، وهي بنفسها مقبولة من الجميع، وفيها بعد هذا أو ذاك تنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. وهذه الخواص لا توجد، كما يقول: «لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة» جميعا.
لا عجب في ذلك، بل العجب كما يرى هو في صنيع الأشاعرة - أو فرقة منهم على الأصح - الذين خطوا طرقا خاصة لمعرفة الله، وكفروا من لم يعرف وجوده بها، مع أنها لا تصلح للناس جميعا، ولا تصل بمن يصطنعها إلى ما يريد! (2)
وبعد هذا التعميم يجب التفصيل.
ففي مسألة وجود الله، يرى ابن رشد أن الطريقة التي ترضاها الشريعة ونبه عليها القرآن، ودعا بها الناس كافة - عامتهم وخاصتهم - إلى الإقرار بوجود إله، تنحصر فيما سماه دليل العناية ، ودليل الاختراع. ولا علينا إن أطلنا في عرضها قليلا كما فعل؛ فلعل في ذلك خيرا للذين غمرتهم موجة الإلحاد، أو أصابهم شيء من رذاذها أو رشاشها. هذه الموجة التي لفت العالم منذ سنين، ولا نزال نشهد من آثارها السيئة ما يتمثل في فريق يزين أو يتظرف أو يتعالم باصطناع الإلحاد.
يريد بذلك أن من نظر أدنى نظر في هذا الوجود، عرف يقينا أن كل شيء من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وحيوان ونبات، وغير ذلك كله من الموجودات المختلفة، كل ذلك خلق موافقا لوجود الإنسان وحياته سعيدا. وفي هذا دليل - أي دليل! - على أن هذا العالم لم يكن عن صدفة أو اتفاق، بل هو صنع إله حكيم يعنى بما خلق؛ فهو قاصد لذلك مريد.
وإذن؛ فهذا الدليل قائم على أصلين سهل إدراكهما بالحس وأدنى نظر؛ وهما: موافقة كل الموجودات للإنسان وحياته وسعادته، وأن هذا لا يكون إلا عن فاعل مريد؛ إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة العجيبة بالاتفاق كما يقول في «كشف الأدلة».
وإذا كان دليل العناية يقوم - كما رأينا - على هذين الأصلين اللذين يدركهما الحس والفكر في أدنى درجاته، فدليل الاختراع يقوم على أصلين كذلك؛ هما: أن هذه الموجودات مخترعة لم توجد من نفسها، وأن المخترع لا بد له من مخترع، والنتيجة الضرورية لهذين الأصلين أن لهذا العالم على اختلاف أنواعه وضروبه وألوانه فاعلا مخترعا له.
وفي القرآن آيات تدل على عناية الله بالإنسان، وعلى أنه سبحانه خالق كل موجود، من ذلك قوله في سورة النبأ:
ألم نجعل الأرض مهادا * والجبال أوتادا * وخلقناكم أزواجا * وجعلنا نومكم سباتا * وجعلنا الليل لباسا * وجعلنا النهار معاشا * وبنينا فوقكم سبعا شدادا * وجعلنا سراجا وهاجا * وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا * لنخرج به حبا ونباتا * وجنات ألفافا ، وقوله في سورة الفرقان:
تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، وقوله في سورة عبس:
فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم ، ومن ذلك أيضا قوله في سورة الغاشية:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت .
وأخيرا، من ذلك قوله في سورة البقرة:
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون .
ونستطيع نحن أن نضم إلى ما ذكر فيلسوفنا قوله تعالى في سورة النازعات:
أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولأنعامكم .
وهكذا، كما يذكر فيلسوف قرطبة، نجد في القرآن وحده ما يدل بالحس وأدنى النظر على خلق الله للعالم واختراعه له، وعلى عنايته بالإنسان، فخلق ما خلق ليكون موافقا لوجوده وحياته، وذلك كله يدل من ناحية العناية والاختراع على حدوث العالم ووجود الله خالقه. يدرك هذا العامة والخاصة جميعا.
وفي هذا يقول في «الكشف»:
فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع أنها منحصرة في هذين الجنسين: دليل العناية، ودليل الاختراع، وتبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص - وأعني بالخواص العلماء - وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل ... فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب.
وفي مسألة أن الله واحد أو الوحدانية، يكتفي بالاستدلال بقوله تعالى:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، وقوله:
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ، وقوله:
قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ، ويرى أن هذه الآيات الثلاث تدل بشهادة الفطرة السليمة والطبع المستقيم على نفي الألوهية عمن سواه، وعلى أنه واحد لا شريك له، وعليه فيكون الدليل الذي يؤخذ منها هو الدليل الذي يقره الطبع والشرع لمعرفة الوحدانية لله تعالى.
وهكذا، استرسل فيلسوف الأندلس في بيان الطريقة الطبيعية والشرعية التي يراها ناجعة في إثبات ما يجب لله من صفات الكمال، وفي نفي ما يجب نفيه عنه من صفات النقص، ناقدا في ذلك كله طرق المتكلمين التي لا تفيد العامة أو الخاصة، مما يقصر المقام عن متابعته فيه. (3)
بقي بعد ما تقدم كله أن يبين لنا رأيه في الاستدلال لأمهات المسائل التي اختلف فيها المتكلمون والفلاسفة، وهي ثلاث: علم الله، وقدم العالم، وكيفية الجزاء في الدار الأخرى.
والكلام في هذه المسائل - ونحوها مما يتصل بها - من الناحية الموضوعية، مكانه القسم الخاص بعمل ابن رشد في الرد على الغزالي وكتابه «تهافت الفلاسفة»، وإذن نكتفي هنا فيها بكلمات موجزة من ناحية ما يتصل بالتوفيق بين الحكمة والشريعة فحسب.
ففي صفة العلم يرى أن الله خلق العالم لغاية خاصة؛ ولهذا جعله على ترتيب يحقق تلك الغاية، فيجب أن يكون عالما به وبأحواله كلها؛ بدليل قوله: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير! وهذا ما يجب أن يعتقد، وهذا طريقه من القرآن، يقتنع ويوقن به العامة والخاصة والمتكلم وأولو العلم والبرهان، ولهؤلاء وحدهم أن يبحثوا - فلسفيا - الفرق بين علم الله وعلم الإنسان، وأن الله لا يصح أن يوصف علمه بأنه كلي أو جزئي، وإن كان
وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
وفي مسألة قدم العالم أو حدوثه، لا يرى أنها مشكلة يكفر بسببها جماعة ويؤمن آخرون، بل إن الخلاف فيها بين المتكلمين والفلاسفة لفظي لا حقيقي؛ فهو خلاف في غير موضع للخلاف.
القرآن صرح في آيات عديدات بأن العالم مخلوق مصنوع، وهو بما فيه من نظام عجيب، وتركيب محكم، وموافقة تامة لما خلق له يحمل الدلائل القاطعة على أنه محدث؛ إذ ليس يمكن - كما ذكرنا من قبل - أن تكون هذه الموافقة وذلك النظام والترتيب عن صدفة واتفاق، بل لا بد أن يكون ذلك كله «من قاصد قصده، ومريد أراده، وهو الله عز وجل.»
وما أبلغ ما يذكره ابن رشد في بيان مبلغ الترتيب والموافقة في لفظ «مهاد» في الآية:
ألم نجعل الأرض مهادا ! إنه يقول: وذلك أن المهاد يجمع الموافقة في الشكل والسكون والوضع، وزائدا إلى هذا معنى الوثارة واللين؛ فما أعجب هذا الإعجاز، وأفضل هذه السعادة، وأغرب هذا الجمع! وذلك بأنه قد جمع في لفظ «مهاد» جميع ما في الأرض من موافقتها لكون الإنسان عليها، وذلك شيء قد تبين على التمام للعلماء في ترتيب من الكلام طويل، وقدر من الزمان غير يسير، والله يختص برحمته من يشاء.
إلا أن العالم بعد هذا كله، فيه - كما يقول فيلسوف قرطبة - شبه من الله الموجود بحق، وهو أنه لا أول لوجوده مع احتياجه لله في هذا الوجود؛ فهو لهذا قديم من جهة الزمن ما دام هو معلولا عن الله تعالى. وإذن فمن قال بقدمه لاحظ هذا المعنى؛ فكان غير كافر بوصفه بالقدم مع الإقرار بأنه مخلوق لله تعالى.
وأخيرا، فيما يختص بالبعث للحساب: أهو بالروح فقط أو بالجسد أيضا، والجزاء: أهو معنوي أو مادي؟ يقرر في «كشف الأدلة» و«تهافت التهافت» أن الشرائع جميعا، ومنها شريعة الإسلام، متفقة على أن للنفوس بعد الموت أحوالا من السعادة والشقاء، وإن اختلفت في تمثيل هذه الأحوال للناس، وفي بيان حقائقها.
وشريعتنا - كما يقول - مثلت هذه الحالات من النعيم والعذاب، أو السعادة والشقاء، بمثل مادية جسمانية؛ لتكون أكثر تحريكا لنفوس الجمهور، ودفعا لها إلى العمل الطيب. والنصوص التي تناولت وصف هذا الجزاء من الممكن أن تؤول لناس دون ناس.
إذن فرض كل امرئ في هذه المسألة هو الاعتراف بأصل البعث والجزاء الثابت بكل أنواع الأدلة؛ وفيما يختص بالكيفية والصفة يجب أن يعتقد بما أداه إليه نظره واجتهاده.
ولكي يؤكد لنا ابن رشد أن العقل أو الفلسفة لا تجافي الدين في هذه المسألة، نراه يذكر في «تهافت التهافت» أن الفلاسفة القدماء - ويريد بهم الإغريق - يرون أنه لا يصح أن يتعرض بقول مثبت أو مبطل لمبادئ الشريعة وأصولها العامة التي لا بد منها لسعادة الإنسان. ومن هذه المبادئ البعث وكيف يكون.
الوحي والمعجزات
الآن وصلنا إلى أهم مسألة أو مشكلة يتعرض لها من يحاول التوفيق بين الدين والعقل، نعني مسألة الوحي والنبوة؛ فهي مشكلة يجب حلها، وعقبة يجب اجتيازها للوصول إلى ما يراد من تآخي الشريعة التي تقوم على الوحي والمعجزات، والفلسفة التي لا تعترف بغير العقل والنظر المنطقي.
لا بد إذن من أن يقول ابن رشد في هذه المشكلة كلمة، ومن أن يبين صراحة رأيه الخاص في الوحي، وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وفي المعجزات والنبوة، وفي الحاجة إلى الشريعة بجانب العقل.
ونعتقد أن الأمر خطير، وأن اللحظة حاسمة بالنسبة إلى فيلسوف قرطبة الأرسطوطاليسي العقل؛ الفيلسوف الذي نعرف اعتداده بالنظر إلى درجة أن يجيز أن يخالف في نتائجه الإجماع في الأمور النظرية، وأن يقطع بوجوب تأويل ما يخالف نتائج النظر المنطقي الصحيح من ظواهر النصوص.
نعم! الأمر جد خطير، واللحظة حاسمة، ولكن فيلسوفنا أخذ يسوس المشكلة سياسة لبقة حكيمة، ويعالج الأمر بتسامح وبعد نظر، حتى نجح أو صار قريبا من النجاح الذي أراد.
ها هو ذا، ونحن نعلم كم أشاد بالنظر العقلي، وكم أشار به، نراه يصرح بأن هناك أمورا يعجز العقل عن معرفتها، وإذن فلا مناص من الرجوع فيها إلى الوحي. ولا عجب؛ فقد جاء الوحي - كما يقول - متمما لعلوم العقل؛ لأن «كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسان من قبل الوحي».
وهذه الأمور التي يعجز العقل عن إدراكها سيجيء عما قريب بيانها وذكر مثل لها، ولكنا نذكر الآن أنها - كما يقول في كتابه «تهافت التهافت» - أمور من «الضروري علمها لحياة الإنسان ووجوده» وسعادته. وقد كرر هذه الحقيقة وأكدها في موضع آخر، حين رأى أن الفلسفة تعنى بفحص ما يجيء به الشرع؛ فإن أدركته كان ذلك أتم في المعرفة، وإلا «نادت بقصور العقل الإنساني، وأن ذلك مما يدركه الشرع وحده».
هذه الأمور التي يحتاج فيها إلى الشريعة، ولا يكفي العقل في معرفتها، تتلخص - كما يرى ابن رشد - في معرفة الله معرفة تامة بالقدر الممكن في هذه الحياة، وفي السعادة والشقاء الإنساني في هذه الحياة الدنيا وما بعدها، وفي وسائل هذه السعادة وأسباب هذا الشقاء.
ذلك بأن الفلاسفة يرون أن الإنسان لا تقوم حياته وسعادته إلا بالفضائل النظرية والخلقية. وهذه تعتمد معرفة الله وتعظيمه بالعبادات المشروعة وفق الملل المختلفة، مثل القرابين والأدعية والصلوات ونحو ذلك مما لا يعرف إلا من الشرع الموحى به، كما يذكر في «تهافت التهافت»، أو على الأقل - كما يذكر في «كشف الأدلة» - هذه الأمور «لا تعرف كلها أو معظمها إلا بوحي، أو يكون معرفتها بوحي أفضل».
ولا عجب في هذا؛ فإن «الفلسفة - كما يذكر في التهافت - تنحو نحو تعريف بعض الناس سعادتهم، وهم من عندهم استعداد لتعلمها، أما الشرائع فتقصد تعليم الجمهور عامة.» ولذلك كان العلم الذي يأتي به الوحي رحمة لجميع الناس.
وهذا الرأي الذي ذهب إليه ابن رشد في الوحي، وأنه ضروري، وتحديد الصلة بينه وبين العقل بجعله لكل منهما مكانا عليا على ما يؤخذ من نصوص الكشف والتهافت. هذا الرأي قد يظن متعارضا وما جاء في كتابه الآخر «فصل المقال» خاصا بعلو النظر العقلي، وأن العقل قادر على الوصول لكل ما تجيء به الشريعة من حقائق وتعاليم، وأن قصارى الوحي أن يبين للجمهور - في صور ورموز - الحقائق التي يكشفها عقل الفيلسوف خالصة مما يكسوها في الوحي من تلك الرموز والأمثال، وأنه من أجل ذلك قد «انقسم الشرع إلى ظاهر: هو تلك الأمثال المضروبة لتلك الحقائق والمعاني الخفية، وباطن: وهو هذه الحقائق والمعاني التي لا يصل إليها إلا ذوو البرهان.» كما يقول في «فصل المقال».
قد يظن التعارض بين ما ذهب إليه هنا وما ذهب إليه هناك كما قلنا؛ ولهذا أساء بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية فهم موقفه، فبعضهم معتمدا على نصوص الكشف والتهافت وحدهما جعله «غير عقلي
Antirationalirte »، وبعضهم معتمدا على نصوص فصل المقال وحده جعله عقليا، بإطلاق، لا يتردد في تأويل ما لا يتفق والعقل من نصوص الدين.
هكذا اختلف مؤرخو الفلسفة الإسلامية في بيان نزعة ابن رشد، ولعل الصواب أن نقول للأستاذ «جوتييه
Ganthier » المستشرق الفرنسي المعروف: إن فيلسوف قرطبة ليس من الحق أن يوصف بأنه عقلي أو غير عقلي دائما وبإطلاق.
إن الحق - فيما نرى - هو أن يحكم عليه بأنه غير عقلي إذا ما تعلق الأمر بالعامة الذين لا يطيقون النظر والأدلة البرهانية، وأنه عقلي إذا تعلق الأمر بأولي النظر العقلي والفلسفة؛ ذلك بأنه - فيما يذهب إليه - بالتعبير عن الحقيقة الواحدة بلغتين «مرة بالرموز والأمثال ليفهمها الجمهور، وأخرى بذكرها مجردة كما هي لذوي البرهان» يتم التفاهم بين الشريعة والحكمة، ولا تصطدم إحداهما بالأخرى، ما دام لكل منهما نفوذ خاص، وصنف معين من الناس تتجه لخيره وسعادته.
عمله في نظرية المعرفة
لعل هذه الناحية من نواحي نشاط ابن رشد الفلسفي كانت حرية أن تكون ضمن البحوث التي انطوى عليها مذهبه في التوفيق بين الحكمة والشريعة؛ فإن فيها ضربا من التوفيق بين العقل والحاجة إلى عون الله وإلهامه حتى تتم للإنسان المعرفة الكاملة.
كان من الممكن أن يكون هذا، إلا أننا أفردناها ببحث مستقل؛ لأنه لم يقصد بها التوفيق فقط، بل عنى بها ما يجب أن يعنى به كل فيلسوف، وهو بيان المعرفة وبم تكون؟ وكيف تكون؟ معتمدا تقريبا على رسالة النفس لأرسطوطاليس وحدها. هذه الرسالة التي تعتبر أساسا لعلم النفس عند الإغريق وعند المسلمين حتى في كثير من التفاصيل.
ومما لا ريب فيه أن الحدود التي رسمناها لهذا العمل الصغير، لا تتسع لشرح نظرية العقل والمعرفة في كل تفاصيلها، كما جاءت عن أرسطوطاليس وشراحه، وعن الفلاسفة المسلمين الذين سبقوا ابن رشد؛ لذلك سنعنى فقط بما يختص بفيلسوفنا من هذه النظرية، لنرى ما قد يكون له من تعديل أو ابتكار وطرافة. (1)
تكون المعرفة عند الفلاسفة بعمل العقل الإنساني الذي ينتزع الحقائق المختلفة من موادها ويدركها، إلا أنه لا بد له - ليؤدي وظيفته - من معين آخر خارج عنه. وهذا المعين هو العقل الفعال الإلهي الخالد الذي يشرق على العقل الإنساني ويلهمه الحقائق المختلفة متى كان مستعدا وأهلا لها، والذي يعتبر الاتصال به - عند فلاسفة الإسلام - هو الطريق الأمين للمعرفة الحقة.
لذلك نرى أن مسألة اتصال الإنسان بهذا العقل الفعال تشغل جانبا كبيرا من تفكير الفلاسفة المسلمين، لحسبانهم هذا الاتصال أسمى غرض يجب أن يعنى الإنسان بالوصول إليه، وأنه إذا تم فقد وصل المرء إلى السعادة الكاملة.
وأي سعادة تقارب سعادة من طهرت نفسه وصفت، فصارت مرآة مجلوة ترتسم عليها الحقائق العالية، ووصل إلى مشاهدة النور الإلهي، وانفتح له ما كان مغلقا أمامه من المعارف والعلوم من غير حاجة إلى ترتيب دليل أو نظر فكر!
هذه السعادة يشاهد من وصل إليها، كما يقول ابن طفيل، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أو كما يقول حجة الإسلام - في كتابه «المنقذ من الضلال» - بأن من وصل إلى هذه الحال يترقى إلى درجات يضيق عنها النطق، ويخطئ من يحاول التعبير عنها، ثم ينتهي به الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول! (2)
والآن، بم يكون الاتصال بالعقل الفعال؟ وكيف يكون في رأي ابن رشد؟ إننا ننتظر منه، إذا كانت رسالته حقا الانتصاف للتفكير الفلسفي ورد اعتبار الفلسفة إليها، أن يعالج هذه المسألة علاجا يبين فيه الارتكاز على العقل والعلم والتفكير، وأن يبعد من وسائل الاتصال ما أدخله أسلافه في الشرق والغرب «من الفارابي إلى ابن طفيل»، مما يقوم على الزهد والتصوف، وإصلاح الجزء العملي من النفس بالأخلاق الفاضلة والرياضات الصوفية، حتى يصير المرء كلما زاد من الارتياض - كما يقول ابن سينا في «الإشارات» - زاد نصيبه من هذا الإشراق الإلهي.
هذا ما يجب أن نترقبه من ابن رشد إذا كان مجدا في العمل على تحقيق رسالته، فهل حقق ما ترقبناه؟ نعم! وإلى القارئ في شيء من الإيجاز.
لقد عني بهذه المسألة عناية كبيرة، فخصص لها ثلاث رسائل من مؤلفاته، وكلها تدور حول النفس وسعادتها، والعقل الإنساني وإمكان اتحاده أو اتصاله بالعقل الفعال. وهذه الرسائل توجد بالعبرية، وقد أفاد منها مونك ورينان، المستشرقان الفرنسيان المعروفان. هذا فضلا عن تناولها استطرادا في مناسبات عديدة في شرحه للمقالة الثالثة من رسالة النفس التي خصصها المعلم الأول لهذا الموضوع.
إلا أنه مما يملأ النفس ألما أن لم يبق لنا شيء من هذه الكتابات باللغة العبرية، بل ليس لدي ساعة كتابة هذه السطور إلا التلخيص الذي أعطانا إياه مونك لإحدى هذه الرسائل، وإلا ما ذكره استطرادا في شرحه للمقالة الثالثة من رسالة النفس - كما ذكرنا - حسب ما جاء في مونك ورينان. (3)
ورأي فيلسوف قرطبة في هذه المسألة أو المشكلة يتلخص في نقطتين؛ الأولى: الطريق الذي يتم به اتصال العقل الإنساني بالعقل الفعال، والثانية: بم يتم الاتصال؟
ففي النقطة الأولى؛ يرى أن المرء - بما فيه من عقل - يتشوف حتما للاتصال بالعقل الفعال، وهذا يعمل من ناحيته على جذب العقل الإنساني فيرتفع إليه، وذلك يكون بالانتقال من القوة إلى الفعل، وإدراك ما يمكن إدراكه من الحقائق المختلفة، وبهذا التفكير يمرن العقل على الفهم، ويكون أكثر استعدادا وأهلية للاتصال والأخذ مباشرة بطريق الفيض العلوي عن العقل الفعال.
أما الاتصال وبماذا يكون، وتلك هي النقطة الثانية من المسألة؛ أي أيكون بالزهد والتصوف ورياضة النفس؟ أم بالدرس والتفكير والعلم وحده؟ أم بوسائل تجمع هذا كله؟ يجيب فيلسوفنا عن ذلك بأن وصول العقل الإنساني إلى الدرجة العليا من الكمال، نعني إلى الاتحاد أو الاتصال بالعقل الفعال أو الله تعالى ذاته، ليست وسائله واحدة للناس جميعا، على أنه لا بد من توفر ثلاثة أمور فيمن يسعد بهذه النعمة؛ أي نعمة الوصول. هذه الأمور هي: قوة العقل الأصلية، وكمال العقل بالفكر أو التفكير السليم، وعون وإلهام غير طبيعي من الله. (4)
بذلك ابتعد ابن رشد عن مجاهدات الصوفية التي يرونها شرطا ضروريا للكشف والوصول، فهو لهذا أقل الفلاسفة الأندلسيين، بل المسلمين تصوفا، إنه يقول - فيما نقل عنه: «إنه لا يصل الإنسان إلى الكمال العقلي النهائي إلا بالدرس والتفكير النظري .» كما يذكر مونك في كتابه «أمشاج من الفلسفات العبرية والعربية»، كما يقول: «إن المرء يصل إلى الله تعالى حينما يقدر بالتأمل والتفكير أن يخترق الحجب، ويجد نفسه وجها لوجه أمام الحقيقة العليا.» كما ذكر عنه رينان في كتابه «ابن رشد ومذهبه».
وحقيقة، إن الحفيد لم ينس أن يطلب ممن يتشوف إلى الوصول أن يهجر الشهوات، إلا أنه لم يجعل هذا كافيا وحده فيما يريد من الوصول، كما هو رأي جمهرة الصوفية، وكذلك لم ينس دور الأخلاق - لتطهير النفس - في هذه الناحية، إلا أنه جعله دورا ثانويا جدا؛ ما دام يصرح بصوت عال بأنه بالعلم نستطيع أن نصل إلى ما نرجو من الكشف والاتصال والسعادة القصوى بعون الله وإلهامه.
هذه هي نظرية الاتصال، الأساس لعلم النفس كله، وتاج نظرية المعرفة لدى فلاسفة الإسلام، والتي كانت الشاغل لهم جميعا، وبالرجوع إلى أقوال ابن رشد وآرائه التي ذكرناها أو أشرنا إليها، وإلى مؤلفات من كتبوا عنه وعن غيره من فلاسفة الإسلام، نعلم مبلغ مقاومته للتصوف الذي كان قد انتشر واشتد أمره بعد الغزالي، الذي يراه أقوم الطرق إلى الله وآكدها، كما نعلم كيف عمل على الانتصاف للعقل والفلسفة بجعل التفكير الفلسفي وحده هو سبب المعرفة والسعادة الكاملة بالاتصال بالعقل الفعال، أو بالله العليم الحكيم.
ابن رشد والغزالي
1
يقول البارون «كارا دي فو
Carra de Vaux » في كتابه عن الغزالي:
عادة المتكلمين في قتال الفلاسفة ترجع إلى بدء عهد المدرسة الفلسفية بالوجود. هذا الكفاح بدا في رأيهم ضروريا ضد الفلاسفة، كما هو ضروري أيضا ضد المعتزلة. إنه مهما يكن إخلاص الفلاسفة شخصيا كمؤمنين؛ فإن مذاهبهم في نظر حماة الدين والعقيدة كانت تعتبر خطرة؛ لأنهم حكموا - وإن لم يصرحوا - بأن مذهب الفلاسفة يعتد بالعقل أكثر مما ينبغي، ويجعل الفلسفة القديمة تسير في معرفة الحقيقة بجانب الوحي أعلى منه قليلا.
وهذا حق كله؛ فإن سوء تقبل رجال الدين للفلسفة معروف، لا فرق بين المتقدم منهم والمتأخر في الزمن، وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعض أسباب هذا ومظاهره.
إلا أن حجة الإسلام هو الذي كان فارس الميدان في الرد على الفلاسفة بكتابه الذي خلد على الزمن، وهو «تهافت الفلاسفة»؛ فقد قدم له بكتاب سماه «مقاصد الفلاسفة» عرض فيه مذاهب الفلاسفة التي أراد أن يبين تهافتها؛ إذ «رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه رد في عماية.» كما يقول، وكذلك يكون الأمر إن كان الرد على المذهب قبل عرضه للناس عرضا واضحا شافيا.
ثم دفعه لصرف الهمة لتعلم الفلسفة، والرد على ما رآه مجانبا للحق في رأيه منها، ما يذكره في «المنقذ من الضلال» أيضا، من أنه «لم ير أحدا من علماء الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك».
ولا نناقش هنا دعوى الغزالي هذه التي قد توهم أنه كان الأول الذي عني بالرد على الفلاسفة، ولكنا نذكر أنه عرف ابن جزم الأندلسي صاحب كتاب «الفصل»، الذي يتضمن مجهودا طيبا له في الرد على الفرق المخالفة للإسلام وعلى الفلاسفة أيضا، كما نذكر أستاذ الغزالي نفسه وشيخه إمام الحرمين؛ عبد الله بن محمد الجويني، الذي له مثل هذا المجهود في مؤلفاته الكلامية، مثل: «البرهان في أصول الدين» و«الإرشاد في قواعد الاعتقاد».
على أن الغزالي هو الذي انتفع بجهود أسلافه جميعا في هذا السبيل، سبيل الرد على الفلاسفة، وزادها وقواها، وضرب بذلك الفلسفة ضربة لم تنهض بعد منها في الشرق، كما يقول مونك، وإن كانت وجدت في الغرب من انتصف لها، وهو ابن رشد، بعد دفاعه عنها دفاعا مبينا.
وكان الهدف الذي يرمي إليه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة» إبطال ما يدعون، وبيان ضعف عقيدتهم، واختلاف آرائهم وتناقضها، وبخاصة فيما يتعلق منها بالمسائل الإلهية.
ولم يقصد إلى إثبات الحق في المسائل التي كانت مثار النزاع والخصومة بين المتكلمين والفلاسفة؛ فقد كان في نيته تخصيص كتاب لهذه الغاية، ولذلك نجده يقول في مسألة قدم العالم: «وأما إثبات الحق في نفسه، فسنصنف فيه كتابا بعد الفراغ من هذا «تهافت الفلاسفة» ... ونعتني فيه بالإثبات كما اعتنينا في هذا الكتاب بالهدم.»
وكان منهاج أبي حامد في هذا الكتاب ، الذي أراد به الهدم، العمل على نزع الثقة بالفلاسفة؛ فجعلهم أغبياء وزائغين عن سبيل الله ، وناكبين عن طريق الهدى، وظانين بالله ظن السوء، ومغرورين بعقولهم، زاعمين أن فيها غنية لهم عن تقليد الرسل واتباعهم!
كما كان من منهاجه أيضا التشويش عليهم ومغالطتهم، ومحاولة إفحامهم بإلزامهم جميعا مذهب واحد منهم، وإن كان ظاهرا خطؤه، ولا يتفق وما ذهب إليه أساطين الفلسفة الإغريقية.
وأخيرا، كان من منهاجه في الرد على الفلاسفة بيان قصور العقل وعدم قدرته على معرفة الأمور الإلهية بنظره وحده، وأن معرفة هذه الأمور على حقائقها لا ينالها إلا المصطفون الأخيار من أنبياء الله ورسله.
وهكذا قصد الغزالي لما أراد كل سبيل، ولجأ إلى كل سلاح يجد فيه عونا على طلبته، فماذا كان من ابن رشد لهذا الخصم اللدود القوي؟ الخصم الذي لم يلجأ إلى المنطق وحده، ولم يرد بيان الحق في نفسه؛ ولهذا - فيما يقول - لم يسم كتابه «تمهيد الحق»، بل سماه «تهافت الفلاسفة»!
2
أراد فيلسوف قرطبة أن يدفع عن الفلسفة أو الحكمة ما رآه عدوانا من الغزالي وأمثاله، وأن ينافح عنها وينتصف لها، وقد فعل، لكنه لم يكن في خصومته مجادلا بالحق والباطل، بل لم ينس في هذه الخصومة العنيفة أنه قاض؛ فهو يزن ما يدلى به إليه، ويدفع الحجة بالحجة، ولا يأبى أن يعترف بالحق لصاحبه.
ويبدأ ببيان أن غرضه من الرد على «تهافت الفلاسفة» للغزالي ليس بيان الحق في كل المسائل المناقش فيها، بل أن يبين أن للسفسطة في هذا الكتاب نصيبا كبيرا، وأن أكثر ما فيه من أقاويل قاصر عن مرتبة اليقين والبرهان.
وليس مما يعيب ابن رشد ألا يقصد في كتابه «تهافت التهافت» إلى بيان الحق فيما استحر فيه الخلاف بين الفلاسفة والمتكلمين؛ فإنه أمين على ما وضع من قواعد للتوفيق بين الحكمة والشريعة، ومن ذلك تقسيم الناس إلى طبقات، ومخاطبة كل طبقة بما هي أهل له، وإذن فليس من الخير في رأيه أن يجعل في كتابه - وهو عرضة للذيوع بين الخاصة والعامة - ما يكون ضررا لطائفة من الناس لا تطيق النظر الصحيح.
وهو وإن كان حريصا على الاعتراف لخصمه العنيد بما يصيب فيه، وعلى التزام القصد والترفع عن المهاترة في الخصومة؛ فإنه وهو الذي شاهد في القضاء ألوانا من الخصومات والأسلحة التي استخدمت فيها، لم ير بدا من أن يرد أحيانا على حجة الإسلام بعض ما رمى به الفلاسفة من سباب.
لقد رماه بالقصور في فهم الحكمة؛ لأنه قنع فيها بكتب ابن سينا، فلحقه القصور من هذه الجهة، كما يقول ابن رشد في «تهافت التهافت»، وعاب عليه ما قصد إليه من التشويش على الفلاسفة ودعاويهم، وكان لومه له رفيقا. إنه يكتفي بالقول بأن هذا الغرض لا يليق به، والقصد إليه هفوة من هفوات العالم؛ لأن العالم يجب أن يكون قصده طلب الحق لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول.
وما أقومه درسا يلقيه فيلسوفنا على الغزالي وأمثاله! إذ يقول في موضع آخر من تهافته:
وأما قوله: إن قصده ها هنا ليس هو معرفة الحق، وإنما قصده إبطال أقاويلهم، وإظهار دعاويهم الباطلة، فقصد لا يليق به، بل بالذين في غاية الشر، وكيف لا يكون ذلك كذلك ومعظم ما استفاد هذا الرجل من النباهة، وفاق الناس فيما وضع من الكتب التي وضعت [لعله: وضعها] فيها، إنما استفادها من كتب الفلاسفة ومن تعليمهم.
وهبهم أخطئوا في شيء؛ فليس من الواجب أن ينكر فضلهم في النظر وما راضوا به عقولنا، ولو لم يكن لهم إلا صناعة المنطق لكان واجبا عليه وعلى جميع من عرف مقدار هذه الصناعة شكرهم عليها ... أفيجوز لمن استفاد من كتبهم وتعاليمهم مقدار ما استفاد هو منها، حتى فاق أهل زمانه، وعظم في ملة الإسلام صيته وذكره، أن يقول فيهم هذا القول، وأن يصرح بذمهم على الإطلاق وذم علومهم؟!
وإذن وضعنا [أي: سلمنا] أنهم يخطئون في أشياء من العلوم الإلهية، فإنا إنما نحتج على خطئهم من القوانين التي علمونا إياها في علومهم المنطقية، ونعتقد أنهم لا يلوموننا على التوقيف على خطأ إن كان في آرائهم؛ فإن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن لهم إلا هذا القصد لكان ذلك كافيا في مدحهم، مع أنه لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء، فلا أدري ما حمل هذا الرجل على مثل هذه الأقوال! أسأل الله العصمة والمغفرة من الزلل في القول والعمل.
هذه كلمة طويلة، لكنها درس قصد منه فيلسوف قرطبة الحث بقوة على معرفة الحق لصاحبه، وشكره من أجله، وعلى وجوب نبذ الهوى والتعصب بغير حق؛ فذلك أجمل بالإنسان، وأدعى للإنصاف.
وفي مواضع أخرى من كتابه «تهافت التهافت» نفسه، نجده يرى أن خصمه العنيف أحق إنسان بالخزي والافتضاح، كما يصفه بأنه لا يخلو من الشرارة أو الجهل، وإن كان جهله أقرب إلى الشر، ويصف أيضا جميع ما تضمنه الفصل، الذي خصصه الغزالي لبيان عجز الفلاسفة عن إقامة الدليل على أن الله يعرف ذاته، بأنه تمويه وتهافت من أبي حامد، ويقول: «فإنا لله وإنا إليه راجعون على زلل العلماء ومسامحتهم لطلب الذكر في أمثال هذه الأشياء!» ويختم هذه الفقرة بقوله: «أسأل الله ألا يجعلنا ممن حجب بالدنيا عن الأخرى، وبالأدنى عن الأعلى.»
وأخيرا، يرى ابن رشد أن الغزالي اضطر إلى مصانعة أهل عصره، فكان هذا سببا في أنه لم يصدع بالحق دائما، وشنع على الفلاسفة أحيانا بما هم منه براء.
إنه يقول في «تهافت التهافت»، في رده على الغزالي فيما شنع به على آراء الفلاسفة في النفوس الإنسانية:
فإتيانه بمثل هذه الأقاويل السفسطائية قبيح؛ فإنه يظن به أنه ممن لا يذهب عليه ذلك، وإنما أراد به مداهنة أهل زمانه، وهو بعيد عن خلق القاصدين لإظهار الحق، ولعل الرجل معذور بحسب وقته ومكانه؛ فإن هذا الرجل امتحن في كتبه.
ثم يقول بعد هذا:
فتعرض أبي حامد إلى مثل هذه الأشياء هذا النحو من التعرض لا يليق بمثله؛ فإنه لا يخلو من أمرين: إما أنه فهم هذه الأشياء على حقائقها فساقها ها هنا على غير حقائقها، وذلك من فعل الشرار، وإما أنه لم يفهمها على حقيقتها فتعرض إلى القول فيما لم يحط به علما، وذلك من فعل الجهال. والرجل يجل عندنا عن هذين الوصفين، ولكن لا بد للجواد من كبوة، فكبوة أبي حامد هي في وضعه هذا الكتاب - أي تهافت الفلاسفة - ولعله اضطر إلى ذلك من أجل زمانه ومكانه.
ونعتقد أنه يريد بهذا الكلام أن حجة الإسلام كان في رده على الفلاسفة وتشنيعه عليهم بما شنع به كان مرائيا مداهنا مصانعا!
3
ولم يكتف فيلسوف قرطبة بهذا، بل تناول المسائل المختلف فيها بين المتكلمين والفلاسفة، والتي رمى الغزالي هؤلاء بالكفر في بعضها، والابتداع في بعضها الآخر، تناول هذه المسائل واحدة بعد أخرى بالشرح، وتجلية رأي فلاسفة الإغريق فيها، وبيان أنه لا شيء على فلاسفة الإسلام في ذهابهم لرأي أرسطوطاليس المعلم الأول. إن أرسطوطاليس - في رأيه - هو الذي كمل الحق عنده، وهو من الذين عناهم الله بقوله:
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب . وهذه مبالغة بلا ريب من فيلسوف الأندلس، غير أن حبك الشيء يعمي ويصم. والقياس مع الفارق الكبير طبعا، ولكن الأمثال لا تغير!
والكلام في هذه المسائل فيه لذة عقلية لو وجد القول مجالا، ولكن أمره يطول، ونحن في نطاق محدود من الورق؛ لذلك لا نجد بدا من الاكتفاء - من هذه المسائل - بالحديث عن مسائل معدودات نجد فيها غناء، وفيها بيان لمنهج فيلسوفنا في الدفاع عن رأيه، والذب عن الفلسفة والمنافحة عنها. (أ)
أولى هذه المسائل أهمية وخطرا - في رأيي - هي مسألة العقل ومدى قدرته على الوصول للحقائق التي يتطلع الإنسان الباحث إلى معرفتها. وقد سبق أن مسسنا هذه المسألة مسا رفيقا عند الحديث عن التوفيق بين الدين والفلسفة، ومع هذا فمن الخير أن نزيدها هنا بيانا.
إن الدين يغرس في قلب المتدين أن الإنسان ليس شيئا في جانب الله، وأنه عاجز العجز كله عن فهم نفسه، بله هذا العالم والسموات وما فيهن وما بينهن! هذا هو شأن الدين. أما الفلسفة فشأنها محاولة معرفة هذا كله معتمدة على العقل، وعلى العقل وحده؛ ومن أجل ذلك كثر رمي الغزالي الفلاسفة بالحمق والغرور والجهل والادعاء، وظنهم القدرة على معرفة ما استأثر الله بعلمه.
ولعل سقراط نظر إلى هذا ونحوه حين رأى لنفسه أن يكون فيلسوفا يعنى بالمسائل الإنسانية لا بعلم الطبيعة، وحين اعتبر هذا العلم لا خير فيه ولا جدوى منه؛ لأن هؤلاء المعنيين به لو عرفوا ما يقوم عليه العالم من قوانين تحدث بها ظواهره لما استطاعوا يوما ما أن يحدثوا الرياح والمياه والفصول! ولأن هؤلاء المتفلسفين، حين عنوا بهذا الضرب من ضروب المعرفة، وأهملوا العلوم أو الفلسفة الإنسانية، قد قلبوا النظام الإلهي، باحتقارهم ما منحوا القدرة على معرفته، وتطلعهم إلى معرفة ما احتفظ به الآلهة لأنفسهم.
1
والغزالي - وغير الغزالي من رجال الدين - يرى أن للعقل حدا يقف عنده في المعرفة؛ ولذلك جاء الأنبياء والرسل بما يعز على العقل إدراكه.
وابن رشد كان يستطيع في مقام الجدل أن يرد على حجة الإسلام، بأن العقل في قدرته أن يصل بالنظر الصحيح، والفطرة المواتية إلى إدراك ما يظنه الفقهاء والمتكلمون مما استأثر بعلمه الله والمصطفون من أنبيائه ورسله، لكن المقام مختلف، والأمر أخطر من هذا.
يجب إذن ليدفع عن الفلسفة ولا ينفر الناس منها أن يسلم في كتابه «تهافت التهافت» - الذي خصصه للرد على خصمه اللدود، وتهدئة الثائرين على الفلسفة، وكسب قلوبهم - بأن الفلسفة «تفحص عن كل ما جاء به الشرع؛ فإن أدركته استوى الإدراكان، وكان ذلك أتم في المعرفة، وإن لم تدركه أعلنت بقصور العقل الإنساني، وأن مدركه الشرع فقط.» كما يوافق كذلك على أن العقل قد يعجز عن درك كثير من الحقائق، فواجب أن نرجع فيها إلى الشرع؛ لأن العلم الذي مرجعه الوحي إنما جاء متمما لعلوم العقل، وإذن يكون الوحي رحمة من الله لجميع الناس. (ب)
ثم مسألة قدم العالم أو حدوثه كان لها من الخطورة أن كفر الغزالي ومن جاء بعده من المتكلمين من أجلها؛ إذ كان من العقائد الدينية أن العالم بجميع أجزائه محدث؛ لأنه لا قديم إلا الله وحده، فكيف يذهب الفلاسفة إلى أن شيئا يشارك الله في صفة القدم التي ينفرد بها؟
هنا نرى فيلسوفنا ماهرا كل المهارة؛ فيحاول أن يكون منطقيا يحيل أن يخلق شيء من لا شيء، ومؤمنا يعتقد أن الله خالق كل شيء وموجده من العدم إلى الوجود، ورأى أن سبيله في هذا أن يفرق بين القدم الذي يقول به المتكلمون، والقدم الذي ذهب إليه الفلاسفة، وأن يفرق كذلك بين الحدوث على رأي هؤلاء وأولئك.
إنه يقرر أن الفلاسفة وصلوا بالتفكير والنظر العقلي إلى أن العالم لا أول له، كما أن خالقه - وهو الله - وهو علة تامة له لا أول له أيضا؛ لكنه مع هذا محتاج في وجوده إلى الله، فلا وجود له إلا به، ولولاه لما كان. وعلى هذا، كما يقول في «تهافت التهافت»:
فالعالم محدث لله سبحانه، واسم الحدوث أولى به من اسم القدم، وإنما سمت الحكماء العالم قديما تحفظا من المحدث الذي هو من شيء، وفي زمان، وبعد العدم.
وبعد هذا نراه يعنى بمحل النزاع فيجلوه ويجعله واضحا؛ إذ يذهب إلى «أن الحدوث الذي صرح به الشرع في هذا العالم هو الذي يكون في صور الموجودات، وهذا الحدوث إنما يكون من شيء آخر.
2
ويدل لذلك قوله تعالى:
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ، وقوله:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
وبعد ذلك كله يقرر أنه ليس من خير للدين في بحث هذه المسألة المشكلة وأمثالها التي رأت الشريعة السكوت عنها؛ ولذا جاء في الحديث أنه لا يزال الناس يتفكرون حتى يقولوا: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا وجد ذلك أحدكم فليقرأ: قل هو الله أحد.»
ويريد فيلسوف قرطبة من هذا أن يصل إلى أن القول بقدم العالم على النحو الذي ذهب إليه الفلاسفة ليس مما يكفر به إنسان، وأن الشريعة قد تعضد هذا الرأي، وأن من الخير عدم الفحص عن هذه المسألة ونحوها. وإذن فالغزالي مخطئ أشد الخطأ على الحكمة والشريعة ببحثه هذه المسألة، وبرميه الفلاسفة بالكفر للرأي الذي رأوه فيها. (ج)
وفي مسألة البعث والجزاء وكيفيته، نراه يلف ويدور في طرق متعرجة ملتوية ليصل إلى إثبات أن الفلاسفة القدامى لم يتعرضوا بقول مثبت أو مبطل في مبادئ الشريعة العامة، ومن هذه المبادئ كيفية السعادة أو الشقاء الأخروي، كما يقول في «تهافت التهافت»، كما يلف ويدور ليقيم الحجة على الغزالي فيما قرر من أن أحدا من المسلمين لم يقل بالجزاء الروحاني وحده؛ لأن الصوفية - فيما قال
3 - تقول به، وعلى هذا فلا يكفر بالإجماع من أنكر الجزاء الجسماني، ويكون الغزالي أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة.
على أن فيلسوفنا وإن خال أنه أقنع قارئيه برأيه، فإنه - فيما أرى - لا يمكن أن نسلم له بأن نصوص القرآن التي وصف الله بها السعادة والشقاء في الدار الأخرى وصفا يجعلهما للجسم والروح معا، من الممكن تأويلها جميعا.
هذه النصوص صريحة في أن بعض ما أعد للأشقياء والسعداء من عذاب ونعيم لا يمكن أن يتناول الأجسام؛ وإلا فكيف نؤول العذاب بالنار التي تأكل الجلود فيبدل الله جلودا غيرها ليدوم العذاب؟! وكيف لا يكون التمتع بالحور والولدان، والفاكهة المختلفة الضروب والألوان، والأنهار المترعة باللبن والخمر والعسل المصفى، وكلها لذة للشاربين، كيف لا يكون هذا كله نعيما للجسم والروح معا، وللجسم أولا؟! (د)
وأخيرا، نصل إلى مسألة السببية التي أثارها الغزالي واختلف فيها مع الفلاسفة اختلافا كبيرا.
ظن الغزالي أن القول بالسببية، أي بوجود علاقة ضرورية بين الظاهرة وما يراه الفلاسفة سببا لها لا يتفق والدين، الذي يرد كل ظاهرة أو فعل لله وحده، والقادر على أن يخلق الظاهرة من غير ما يراه الفلاسفة سببا لها لولاه لم تكن.
ونراه يقول في هذا: «الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وبين ما يعتقد مسببا ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ، ولا ذاك هذا؛ ولا إثبات أحدهما متضمن لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر؛ فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، وذلك مثل: الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار ... إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف. وإن اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه لخلقها على التساوق، لا لكونه ضروريا في نفسه، بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل ... وإدامة الحياة مع جز الرقبة، إلى جميع المقترنات، وأنكر الفلاسفة إمكانه وادعوا استحالته.»
هكذا وضع حجة الإسلام المسألة محاولا جعل المتكلمين في طرف، والفلاسفة في طرف، وزاعما أن في رأي الفلاسفة حدا من قدرة الله المطلقة!
ولم يسع ابن رشد، في سبيل الرد على الغزالي وأمثاله، إلا أن يلجأ إلى المشاهدة والحس وقوة ما فيهما من دلالة؛ فيقرر أن إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تشاهد في المحسوسات سفسطة، وأن من يتكلم بذلك إما أن يكون مخالفا لما يعتقد، أو عجز عن التخلص من شبهة سفسطائية عرضت له. ثم يذهب إلى أن الفصل في أن هذه الأسباب تكتفي بنفسها في خلق ما يصدر عنها من أفعال، أو تحتاج في ذلك إلى سبب أعلى، أمر ليس بديهيا، بل يحتاج إلى بحث وفحص كثير، كما يقرر في تهافته.
وبعد استعانته بالحس، نراه يستعين بالمنطق الذي يؤكد أن العقل ليس شيئا أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها، وأن الذهاب إلى نفي الرابطة الضرورية بين الأشياء وأسبابها رفع للعقل، ومبطل له.
على أن القول بقانون السببية هذا ليس معناه إثبات خالقين متعددين بجانب الله، وذلك ما خافه المتكلمون.
ذلك بأن القول بأن النار سبب أو علة للإحراق - وهذا مثل من الأمثلة - لا ينفي أنها لا تفعل ذلك من نفسها، بل من قبل مبدأ أعلى هو شرط في وجودها، فضلا عن إحراقها، فضلا عما في الذهاب مذهب السببية وقانونها من الإقرار لله بالحكمة البالغة، التي تجعل لكل شيء سببا، وترتب كل أثر على مؤثر، مع الاعتراف بأن كل هذه الأسباب والمؤثرات من صنع إله عالم قادر حكيم، وأن كل شيء يرجع في آخر الأمر إليه وحده.
ذلك ما كان من الغزالي ضد الفلاسفة، ومن ابن رشد ردا عليه، وقد أطلنا في عرضه قليلا؛ لأن في ذلك عرضا موجزا لقضية حرية الفكر والتقليد، والعقل والوحي، والحكمة أو الفلسفة والشريعة من أهم نواحيها: ناحية الهجوم وناحية الدفاع.
ولعل من الخير أن نذكر هنا - بعد ما تقدم - أن الأستاذ الشيخ محمد عبده، في ردوده على الأستاذ فرح أنطون، صاحب مجلة الجامعة، انتهى إلى أنه «ليس من الممكن لمسلم أن يذهب إلى ارتفاع ما بين حوادث الكون من الترتيب في السببية والمسببية، إلا إذا كفر بدينه قبل أن يكفر بعقله».
ويعلل هذا بأن ما يحصل في الكون لا يكون عن صدفة واتفاق، بل عن نظام قدره الله في علمه الأزلي، والأسباب والمسببات بعض ما انتظم هذا العلم، فهي تصدر عنه على حسب ترتيبها فيه، ثم ينتهي بأن «الفلاسفة وجمهور المتكلمين واللاهوتيين على وفاق في حقيقة المسألة، وإن اختلفت العبارات، فابن رشد - رحمه الله - لم يخرج بآرائه عن المليين.» ونقول: إن المتكلمين، الذين هم على وفاق في هذه المسألة مع الفلاسفة كما يقول الشيخ، ليسوا هم الأشاعرة وأهل السنة، وفيما قدمناه عن الغزالي دليل على هذا أي دليل.
ومهما يكن، فقد ختم فيلسوف قرطبة كتابه «تهافت التهافت»، الذي خصصه للرد على الغزالي وهدم كتابه «تهافت الفلاسفة»، بقوله:
وهذا الرجل - يعني الغزالي - كفر الفلاسفة بثلاث مسائل: إحداها هذه؛ أي إنكارهم لبعث الأجساد، وقد قلنا كيف رأي الفلاسفة في هذه المسألة، وأنها عندهم من المسائل النظرية؛ والمسألة الثانية قولهم إنه - أي الله تعالى - لا يعلم الجزئيات، وقد قلنا: إن هذا القول ليس من قولهم، والثالثة قولهم بقدم العالم، وقد قلنا: إن الذي يعنون بهذا الاسم ليس هو المعنى الذي كفرهم به المتكلمون.
ثم قال في النهاية:
وقد رأيت أن أقطع ها هنا القول في هذه الأشياء، والاستغفار من التكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله - وهو كما يقول جالينوس: رجل واحد من ألف - والتصدي إلى أن يتكلم فيه من ليس من أهله، ما تكلمت في ذلك - علم الله - بحرف، وعسى أن يقبل العذر في ذلك، ويقيل العثرة بمنه وكرمه وفضله، لا رب غيره.
وما أحسن ما ختم به رده عدوان الغزالي على الفلسفة ودفاعه عنها!
خاتمة المطاف
على أنه برغم هذا كله، بل كان من أجل هذا كله، لم تخل حياة ابن رشد - مثله مثل غيره من الموهوبين المجدودين - من متاعب وآلام، حسدا وبغيا من جماعة لم يهبهم الله ما وهبه، ولم ينالوا من الخير ما ناله.
لقد توفي الخليفة يوسف أبو يعقوب، فولي بعده سنة 580ه ابنه يعقوب، الذي لقب بالمنصور، فنال لديه فيلسوفنا ما كان له من المكان العلي لدى أبيه، إلا أن القدر كان له بالمرصاد، فابتدأ يظهر سوء الظن به وبعقيدته، وكان هذا مقدمة لنكبته والحكم بنفيه.
لقد بلغ من المنزلة والحظوة لدى الخليفة المنصور درجة ارتفعت فيها الكلفة أو كادت، فلم يكن يلزم نفسه رعاية ما تراعيه حاشية الملوك من الملق والأدب الزائد المصنوع، وكان - كما يرويه لنا القاضي أبو مروان الباجي - متى حضر مجلس المنصور وتكلم معه، أو بحث عنده في شيء من العلم، يخاطب المنصور فيقول: تسمع يا أخي! وربما قربه هذا الخليفة في مجلسه على كل أصحابه.
وفي سنة 591ه، أراد المنصور غزو الفونس، ملك كاستيلا وليون، فجاء إلى قرطبة واستدعى ابن رشد إلى مجلسه، فلما حضر أجلسه بجانبه، وقربه إليه أكثر من المعتاد، وجاوز به مكان أقرب الناس إليه، وغمره بعطفه الكبير حتى قال - وقد خرج من لدنه - لمهنئيه من تلاميذه وأصحابه بهذا العطف، بعد أن أرجف الأعداء بأن أمير المؤمنين قد أمر بقتله: «والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء؛ فإن أمير المؤمنين قد قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمله فيه، أو يصل رجائي إليه.»
على أن الأيام السود في حياة ابن رشد قد جاءته تسعى؛ فإن المراكشي يذكر أن المنصور أخذ عليه أنه في شرحه لكتاب «الحيوان» لأرسطوطاليس قال عند ذكره للزرافة: «وقد رأيتها عند ملك البربر - يريد المنصور.» فرأى هذا في ذلك إهانة له ولأسرته المالكة، إلا أنه أسرها في نفسه ولم يبدها له، ولم يشفع له عنده، كما يذكر ابن أبي أصيبعة، ما اعتذر به من أنه كتب «ملك البرين»؛ أي أفريقية والأندلس، فغلط الكاتب لتقارب الكلمتين في الحروف.
كذلك يروي نفس المؤرخ أن جماعة من أهل قرطبة، من الذين كانوا ينازعونه الشرف والمجد، أخذوا يتلمسون الوسائل لإيغار صدر الخليفة عليه كما يحدث عادة بين النظراء إلا من عصم الله، وأسعدهم الحظ بأن رأوه كتب بخطه في بعض تلاخيصه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة: «فقد ظهر أن الزهرة إحدى الآلهة.» فطاروا بهذه الكلمات فرحا إلى المنصور، وأوهموه أنها من كلام ابن رشد لا حكاية لقول بعض القدماء.
كان من هذا وذاك أن استدعى المنصور ابن رشد في حفل ضم رجال الدين والرؤساء والأعيان بالمسجد الجامع الأعظم بقرطبة، وكانت محاكمة لا ظل للعدالة فيها للقاضي الأكبر أو لشيخ القضاة، الذي كان مثلا أعلى في قضائه وتحري العدل التام.
ذلك بأن الحسدة والدساسين قد أجمعوا أمرهم، وخيلوا للناس أن الأمر ليس إلا الاختيار بين الدين والفلسفة؛ ولهذا لم يمكن - كما يقول الأنصاري - عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام، وكان بعد هذا أن أمر المنصور بلعنه وطرده ونفيه، ونفي من كان معروفا على مذهبه، وبإحراق كتب الفلسفة كلها، اللهم إلا الطب والحساب وما يكون وسيلة من علم النجوم إلى معرفة أوقات الصلاة واتجاه القبلة، وأمر بكتابة منشور عام للبلاد كلها بفضيحة هؤلاء ومروقهم من الدين، ووجوب الاعتبار بهم وبمصيرهم.
على أن الأنصاري بعد روايته مسألة الاتهام والحكم بالنفي وسياقة المنشور، نقل عن أحد رجال الدين، الذين اتصلوا بابن رشد أيام توليه قضاء قرطبة، أنه برغم رعاية أبي الوليد رعاية تامة شعائر الدين، زل زلة لا جابر لها تبعد صاحبها عن الدين.
ذلك أنه شاع أن ريحا عاتية تجري بالشؤم ستهب يوم كذا ، واشتد جزع الناس لهذا حتى اتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض، ولما سار ذكر هذه الريح في كل الجهات جمع والي قرطبة طلاب العلم والفقهاء، وفيهم القاضي ابن رشد وصديقه ابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي قلت: إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله بها قوم عاد، فلم يتمالك ابن رشد نفسه أن التفت إلي وقال: «والله وجود قوم عاد ما كان حقا، فكيف سبب هلاكهم؟!» فوجم الحاضرون، وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن كافر مكذب للقرآن.
ونرى من الخير أن ننقل عن الأنصاري نفسه تلك الوثيقة الرسمية الدالة على روح ذلك العصر، أي المنشور الذي أمر الخليفة كاتبه أبا عبد الله بن عياش بكتابته إلى مراكش وغيرها؛ لنرى كيف تفكر العقول إذا غلبتها الأساطير، وكيف تنفث القلوب سما إذا ملأها الحقد والكيد. وها هو ذا:
قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بتفوق عليهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلا - لعل الصحيح: إلى - الحي القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلدوا في العالم صحفا ما لها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقا، ويسيرون فيها شواكل وطرقا! ذلك بأن الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون؛ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم. ألا ساء ما يزرون!
ونشأ منهم في هذه السمحة البيضا شياطين إنس يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون! يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون؛ فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب، وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب؛ لأن الكتابي يجتهد في ضلال، ويجد في كلال، وهؤلاء جهدهم التعطيل، وقصاراهم التمويه والتخبيل.
دبت عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قد أملى لهم على شدة حروبهم، وأعفى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم، وما أملي لهم إلا ليزدادوا إثما، وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شيء علما.
وما زلنا - وصل الله كرامتكم - نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم إلى الله سبحانه ويدنيهم، فلما أراد الله فضيحة عمايتهم، وكشف غوايتهم؟ وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ صاحبها بالشمال، ظاهرها موشح بكتاب الله، وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لبس منها الإيمان بالظلم، وجيء منها بالحرب الزبون في صورة السلم، مزلة للأقدام، وهم يدب في باطن الإسلام، أسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة؛ فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم.
فلما وقفنا منهم على ما هو قذى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأبغضناهم في الله كما أننا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم إن دينك هو الحق اليقين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعد أسفارهم، وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم، ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام بالسيف في مجال ألسنتهم، والإيقاظ بحده من غفلتهم وسنتهم، ولكنهم وقفوا موقف الخزي والهون، ثم طردوا من رحمة الله، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون.
فاحذروا - وفقكم الله - هذه الشرذمة على الإيمان حذركم من السموم السارية في الأبدان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم؛ فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عثر منهم على مجد في غلوائه، عم عن سبيل استقامته واهتدائه، فليعاجل بالتثقيف والتعريف.
ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ،
أولئك الذين حبطت أعمالهم ،
أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون .
والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم. إنه منعم كريم!
هذا هو المنشور الذي كتبه الحقد والحسد والهوى والتعصب، والذي كان له - وقد ذاع في طول البلاد وعرضها - أثر كبير في تنفير الخاصة والعامة من ابن رشد وصحبه الذين نفوا بسببه، حتى إن أبا الحسن بن قطرال يروى عنه أنه قال: أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه!
والشعر أيضا كان له دوره في هذه النكبة التي جعلت ما في الصدر يظهر على اللسان، فنسمع أبا الحسن بن جبير يقول:
لم تلزم الرشد يا ابن رشد
لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جدك
ويقول:
نفذ القضاء بأخذ كل مموه
متفلسف في دينه متزندق
بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة
إن البلاء موكل بالمنطق
ويقول:
بلغت أمير المؤمنين مدى المنى
لأنك قد بلغتنا ما نؤمل
قصدت إلى الإسلام تعلي مناره
ومقصدك الأسنى لدى الله يقبل
تداركت دين الله في أخذ فرقة
بمنطقهم كان البلاء الموكل
أثاروا على الدين الحقيقي فتنة
لها نار غي في العقايد تشعل
أقمتهم للناس يبرأ منهم
ووجه الهدى من خزيهم يتهلل
وأوعزت للأقطار بالبحث عنهم
وعن كتبهم، والسعي في ذاك أجمل
وقد كان للسيف اشتياق إليهم
ولكن مقام الخزي للناس أقتل
وآثرت درء الحد عنهم بشبهة
لظاهر إسلام، وحكمك أعدل
وله - أي لابن جبير - في الفيلسوف المنكوب فترة قليلة غير ذلك مما يطول إيراده، كما يقول الأنصاري.
ونظن أن من السهل أن نتمثل حال هذا الشاعر وغيره من الذين ظاهروا على أبي الوليد في محنته. وقد فاء المنصور إلى نفسه ورجع في فيلسوفنا إلى جميل رأيه فيه، فعفا عنه وقربه بعد قليل من هذه المحنة!
تلك هي نكبة ابن رشد ومظاهرها، وما تقدم هو جماع ما ذكره مؤرخو المغرب والأندلس من أسبابها. فهل هي الأسباب الحقيقية التي تكفي لتفسير هذه النكبة وإيضاح عواملها؟ أو هناك سبب آخر أهم من تلك الأسباب جميعا يجب أن يعتبر أو يضاف إليها؟
نظن أن من الخير تحقيق هذه المسألة، وإن لم نكن بصدد رسالة عن ابن رشد من جميع نواحيه، بل بصدد بحث عن رسالته التي اضطلع بها، وحياته وما كان فيها من أحداث.
يرى المستشرق الفرنسي «مونك
Munk » أن تعصب الموحدين يكفي وحده لتفسير تعصب الخليفة المنصور ضد ابن رشد، ويستشهد لما يرى بأن ابن أبي أصيبعة ذكر في حياة أبي بكر بن زهر، أن المنصور أمره بتعقب الذين يدرسون الفلسفة الإغريقية، وبمصادرة الكتب الخاصة بها وإحراقها.
وكذلك «رينان
Renan » يذهب إلى هذا الرأي أو قريب منه؛ إذ يرى أن تعصب الموحدين وكراهة الفلسفة هما السبب الحقيقي لهذه النكبة التي عاناها ابن رشد، وللاضطهادات التي كان أمثاله عرضة لها، ويعلل ما يراه بأن الموحدين يتصلون مباشرة بمدرسة الغزالي، وأن مؤسس دولتهم - وهو المهدي - في أفريقية كان تلميذا من تلاميذ حجة الإسلام، وعدو الفلسفة.
ولكن للباحث أن يتساءل عما إذا كان تعصب الموحدين كما يرى مونك، أو هذا التعصب وكراهة الفلسفة كما يرى رينان، هما وحدهما السبب الحقيقي لمحنة ابن رشد وصحبه وتلاميذه؟ نعتقد أن الجواب هو: لا.
لقد ساق مونك دليلا لرأيه - كما قدمنا - تكليف المنصور الحفيد أبا بكر بن زهر إعدام كتب الفلسفة، وأخذ المشتغلين بها بالعقاب الشديد، ولكن فاته أن يذكر أن المؤرخ الذي أورد هذا الخبر - وهو صاحب طبقات الأطباء - أردفه بأن المنصور نفسه خص الحفيد بذلك حتى «إن كان عنده شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر ولا يقال عنه: إنه يشتغل بها ولا يناله مكروه بسببها.» وذلك لما اتهمه بعض أعدائه بأنه يشتغل بالحكمة وعنده الكثير من كتبها، وشهد معه كثيرون بما قال، كان جزاؤه - أي الشاكي - السجن ورد قوله لما يعرفه المنصور - كما قال - في ابن زهر: «من متانة دينه وعقله .»
كذلك ساق نفس المؤرخ بعد ما تقدم مباشرة أن الحفيد هذا كان له تلميذان يدرسان عليه الطب ، فأتياه يوما ومعهما كتاب في المنطق، فلما عرفه رمى به وهم بضربهما لولا أنهما فاتاه عدوا، وبعد بضعة أيام حضروا معتذرين بعذر تظاهر بقبوله، ثم أمرهم بحفظ القرآن والاشتغال بالتفسير والحديث والفقه، والمواظبة على رعاية الأمور الدينية، فلما امتثلوا وصارت تلك الأمور عادة لهم، أخرج كتاب الفقه وقال: «الآن صلحتم لأن تقرءوا هذا الكتاب وأمثاله علي، وأشغلهم فيه.»
يظهر لنا إذن أن بعض من عنوا بدراسة الفلسفة كانوا غير أهل لها، فكانوا يخرجون بسببها عن بعض ما جاء به الدين، ويكونون بذلك سببا لإثارة العامة، ولاضطهاد الفلسفة وأهلها بصفة عامة.
هذا فرض قريب من الحق، على ما يلوح لنا، إذا لاحظنا أن القرآن حض في كثير من آياته على الدراسة العلمية الفلسفية.
نحن لا ننكر أن الفلسفة كانت في بعض العهود علما ممقوتا في الأندلس لا يسلم المشتغل بها من اضطهاد، ولا أن بعض الذين عنوا بها قتلوا في سبيلها، أو كانت حياتهم في خطر بسببها، ذلك حق لا شبهة فيه، وقد حفلت كتب التاريخ بالمثل والأدلة عليه، ولكن نرى أن من الحق أن نذهب إلى أن اضطهاد الفلاسفة بصفة عامة، وابن رشد بصفة خاصة، كان من أسبابه الهامة الخروج في شيء من آرائهم عن الدين؛ إما في الواقع، وإما لأن الجهل يخيل ذلك للعامة وللفقهاء، فيندفعون للتعصب ضدهم، ويجاريهم الولاة والخلفاء أحيانا كسبا لقلوبهم، واستدامة لسلطانهم.
وإلا يكن هذا صحيحا، فكيف لم ير المنصور نفسه بأسا في أن يشتغل ابن زهر بالفلسفة، التي حرم الاشتغال بها، لثقته بدينه وعقله! وكيف أن ابن زهر هذا أبى على بعض تلاميذه أن يشتغلوا بشيء منها قبل إتقان علوم الدين، واعتيادهم القيام بالشعائر الدينية كما سبق أن بيناه!
فإن صح ما ذكره الأنصاري من حادث الريح، يكن من الواجب أن يدخل في أسباب النقمة على ابن رشد ما كان منه في هذا الحادث؛ مما يعتبر تكذيبا لبعض ما جاء به القرآن، حين أنكر الريح التي هلك بها قوم عاد.
وقد يدل لهذا أيضا ، أن نفس هذا الخليفة الذي نكب فيلسوفنا، وهو يعقوب المنصور، كان قد ساءه كثيرا تشعب الآراء في الفقه، فعمل على محو مذهب مالك - رضوان الله عليه - وحمل الناس على القرآن والحديث أو السيف، كما يذكر المراكشي.
إذن فما كان من نكبة ابن رشد وتشريد أصحابه يرجع، فيما يرجع إليه من أسباب، إلى الرغبة في الحجر على العقل والتفكير في بعض الحالات، سواء أكان ذلك في الفقه أو الفلسفة؛ وذلك حتى لا يحدث في الدين من آراء الفقهاء ما ليس منه، وحتى لا يكون من ناحية الفلسفة ما قد يؤخذ منه المعارضة لبعض ما جاء به القرآن أو الدين بصفة عامة، فيثور الفقهاء وتتبعهم العامة، وذلك ما لا يرضاه ملك يحرص على جمع الكلمة والأعداء منه بمرصد، وبخاصة وقد كان المنصور، كما يذكر ابن خلكان والمقري، رجلا يحفظ القرآن والحديث، ومجددا للدين معليا لسلطانه، ومتمسكا عمليا به، ومشورا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القول والعمل، كما كان محبوبا من الشعب حبا شديدا. •••
ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى نكبة ابن رشد؛ فإنه كما يقول رينان بحق في كتابه «ابن رشد ومذهبه»، في تلك الفترة من الزمن، قد نجح الحزب الديني ضد الحزب الفلسفي؛ إذ نفي مع أبي الوليد أربعة آخرون ذكرهم صاحب «طبقات الأطباء».
أما هو فقد كان منفاه «أليسانه»، وهو بلد قريب من قرطبة، وكان لليهود خاصة، وفي هذا غمز له في نسبه كما يروي الأنصاري، وأنه ينتسب إلى بني إسرائيل، وأما رفقاؤه الأربعة في المحنة فقد أمروا أن يكونوا في مواضع أخر.
وقاسى ابن رشد في محنته هذه كثيرا من الشدائد، وكان آلمها طرده هو وابنه من المسجد يوما ما في قرطبة؛ مشرقه وموطن مجده، وقد هما بدخوله لأداء صلاة العصر، كما ذكرنا قبل. وهذا معناه أن نكبته ذاع أمرها، وعلم بها الناس حتى العامة، وأنها صادفت هوى في نفوسهم ، وهو الذي كان ينفق جاهه وماله في سبيل سعادتهم، كما أن تلاميذه تفرق شملهم وتباعدوا عنه.
على أن زمن المحنة لم يطل، كما أن شمسه آذنت بعد ذلك للمغيب، فقد تغيرت نفس المنصور بعد عودته إلى مراكش، ومال من جديد إلى تعلم الفلسفة، فألغى مراسيمه بتحريمها واضطهاد أهلها، وشهد لديه جماعة بحسن دين ابن رشد وعقيدته، وأنه على غير ما نسب إليه، فعفا عنه وعن صحبه سنة 595ه، واستدعاه إلى مراكش ليكون بحضرته.
إلا أنه لم يلبث طويلا، فمات في هذه السنة بمراكش قبل وفاة الخليفة المنصور بيسير، عن اثنين وسبعين عاما وبضعة أشهر، ثم حمل رفاته إلى قرطبة بعد ثلاثة أشهر؛ حيث دفن بمقبرة أسرته.
تلك حياة ابن رشد وأحداثها ومظاهرها، ولم يبق في هذه الناحية إلا أن نسجل أن أبا الوليد مر بالمحنة، أو مرت به موفور الكرامة. إنه لم يطلب العطف أو يعتذر ويلح في الاعتذار توقيا مما كان يتوقع من ظلم وشدائد، بل احتمل ذلك كله ساكن النفس صابرا ما دام ذلك لا يثنيه عن غايته، وعن أداء رسالته التي وهب نفسه لها.
لقد كان من أجل هذا حريا بحكم ابن الأبار، في كتابه «التكملة»، حين قرر - كما قدمنا - أنه لم ينشأ بالأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا.
ابن رشد وأثره من بعده
للعظمة معالم ومظاهر، قد تكون في الخلق، وقد تكون في الفن، وقد تكون في العلم، وقد تكون في هذا كله وأكثر منه معا، وفي كل ضرب من هذه الضروب ألوان مختلفة، وصور متعددة.
وابن رشد - كما عرفنا - كان عظيما في خلقه، وعظيما في علمه، وعظيما في نظرته إلى الحياة وغايته منها، كما كان عظيما في فلسفته، وفي الفكرة التي حركته إلى هذه الفلسفة. وعلى كل هذا، فيما مر من أمره، شواهد ودلائل.
ومن سمات العظيم ألا يمر في حياته غير ملحوظ، كما هو شأن عامة الناس وأوساطهم؛ إنه في الأعم الأغلب من الحالات يحدث حول نفسه دويا وهو حي، ويكون له أثر خالد بعد أن ينتقل إلى الحياة الأخرى.
وقد توفرت هذه السمة لفيلسوفنا، فقد عرفنا كيف اصطفاه الخلفاء، ثم كيف عقدت المجالس لمحاكمته، ثم كيف انتهى هذا بالحكم عليه بالإلحاد والكفر حينا من الزمن، ثم كيف يثوب الخليفة إلى رشده فيعفو عنه ويستدنيه إليه قبل وفاته.
أما أثره فيمن بعده، فقد خصصنا هذا الفصل لبيانه، إلا أنه من الخير أن نذكر كلمة عن تأثره في فلسفته بمن سبقه من أسلافه مفكري المسلمين وفلاسفتهم.
إنه لا يمكن أن يقول باحث عن مفكر من المفكرين: إنه اخترع علما كاملا أو فلسفة من نفسه، غير مقيد أو متأثر بمن تقدمه في هذا السبيل، مهما كان عبقريا ألمعيا أو ملهما، فابن رشد إذن لا بد أن يكون قد أفاد، وأفاد كثيرا من أسلافه، وبخاصة الفيلسوفين الكبيرين: الفارابي وابن سينا.
ولسنا بسبيل كتابة رسالة خاصة عن ابن رشد وفلسفته، فنستقصي مواطن تأثره بغيره من الفلاسفة المسلمين؛ لذلك نكتفي في هذه الناحية ببيان ذلك بإيجاز في مسألة التوفيق بين الحكمة والشريعة؛ إذ كانت هذه المسألة معقد الطرافة في الفلسفة الإسلامية.
لم يكن فيلسوف الأندلس مبتكرا في هذه الناحية، فالتفكير فيها حري أن ينال نصيبا كبيرا من كل فيلسوف يريد أن يعيش آمنا إلى حد ما بين الفقهاء ورجال الدين الذين أشربوا بغض الفلسفة والفلاسفة، بل أكاد أزعم أنه لم يكن له فيها زيادات كبيرة عن المعلم الثاني والشيخ الرئيس.
ذلك بأن قوام مذهب ابن رشد في التوفيق يرتكز - كما عرفنا - على ثلاث دعامات: (1)
تقسيم الناس طبقات مختلفة في استعداداتهم العقلية، وتنويع التعاليم التي يجب أن تكون لكل من هذه الطبقات. (2)
تفسير المعجزات والنبوة تفسيرا يجعلها على وفاق مع العقل والقوانين الطبيعية العامة، وبيان الصلة التي يجب أن تكون بين العقل والوحي في مسألة المعرفة. (3)
وضع قواعد عامة لتأويل ما يجب تأويله من نصوص القرآن والحديث؛ لبيان متى يكون التأويل، ولمن يكون، ولمن يصرح به من الناس.
ففي النقطة الأولى نراه مسبوقا بالفارابي في المشرق، وابن طفيل في المغرب. لقد عرف الأول ما في بعض الذي جاءت به الشريعة من عقائد
1
من صعوبة في فهمها والاقتناع بها، فجعل الناس لذلك: عامة، ومتكلمين، وفلاسفة، ورأى عرض هذه العقائد على كل طائفة حسب مقدرتها على تصورها وفهمها: إما بذكر حقائقها مجردة، وإما بذكر محاكياتها من رموز وأمثال.
وكذلك نرى ابن طفيل ينتهي في قصته الفلسفية «حي بن يقظان» إلى مثل هذا؛ أي إن من الناس طائفة ارتفعت عن العامة فهي تطيق المكاشفة بالحقائق عارية بذاتها، ومنهم من هم دون ذلك، فالخير لهم اللجوء إلى الشريعة، والاكتفاء بما ضربته لهذه الحقائق من رموز.
وفي النقطة الثانية نجد تأثره بالفارابي وابن سينا أيضا واضحا؛ وكذلك في الثالثة الخاصة بالتأويل وقانونه وما يتصل به؛ فتأثره بهذين وبالغزالي أيضا ظاهر ملحوظ.
من أجل ذلك كله، يكون من الحق ما يؤكده الأستاذ «جوتييه
Ganthier » من «أن مذهب ابن رشد في التوفيق بين الدين والفلسفة مشترك بين جميع الفلاسفة.» أي الفلاسفة المسلمين.
غاية الأمر أن فيلسوفنا يمتاز - كما رأينا - بالوضوح وكثرة التفاصيل، والحرية في العرض والتوسع فيه، والإلحاح في رعاية التفرقة بين طبقات الناس والتعاليم المختلفة، وبيان موطن النفوذ لكل من الوحي والعقل، أو بعبارة أخرى بين الشريعة والحكمة، حتى يظلا في سلام ووئام دائمين.
ولعلنا حريون - إن استعرضنا سائر آرائه ونظرياته الفلسفية، وقارناها بأمثالها لدى من تقدمه من الفلاسفة - أن نجد الأمر قريبا من هذا، أي إنه لم يستطع إلا أن يتأثر بأسلافه هؤلاء قليلا أو كثيرا.
ولا عجب؛ فالمفكر الحق الذي ينشد الحق لنفسه هو من لا يأبى أن يفيد من غيره، ومن يضع لبنة في الصرح الذي يعمل الجميع لتشييده وإعلائه.
وإذن فلنترك تأثره بسلفه إلى بيان أثره في خلفه. (1) في الإسلام
يألم الباحث ويحس بخجل شديد حين يفكر في أثر ابن رشد وتعاليمه في الإسلام، شرقه وغربه؛ إذ كان حظه في ذلك إهمالا مزريا له ولفلسفته، ولجهوده في الانتصار لها، والتوفيق بينها وبين الشريعة.
حقا، لقد كان له شهرة كبيرة في أيامه، ومركز ممتاز مرموق بين معاصريه، حتى كان يعد من مفاخر الأندلس حين يقع التفاضل بينها وبين المغرب، ولكن - وقد ران الظلام على العقول في عصر الانحطاط - صارت الفلسفة التي قامت عليها شهرته هي السبب في إخمال اسمه وذكره.
وقد كان من ذلك أن التاريخ لا يعرف - كما يقول رينان - له تلميذا وصل إلى شيء من الشهرة في الإسلام، وأن تعاليمه لم تجد من يأخذ بها إلى الأمام حتى تبقى سائرة ممتدة مع الأيام، وأن مؤلفاته التي أنفق حياته في كتابتها لم يكن لها إلا القليل من القراء.
وفي هذا يقول الأستاذ «دي بور
De Boer »، في كتابه «تاريخ الفلسفة في الإسلام»:
لم يكن لفلسفة ابن رشد ولا لشروحه على مذهب أرسطو سوى أثر قليل جدا في العالم الإسلامي، وقد ضاعت أصول الكثير من مؤلفاته، وإنما وصلت إلينا مترجمة إلى اللغة العبرية أو اللاتينية.
2
ولم يكن له تلاميذ ولا أتباع يواصلون فلسفته ... ولم تستطع الفلسفة أن تؤثر في الثقافة العامة أو مجرى الحوادث.
كما يذكر «مونك
Munk » أنه من أول القرن الثالث عشر الميلادي - كانت وفاة ابن رشد عام 595ه/1198م - لم نعد نرى فلاسفة مشائين خالصين، بل مفكرين يفكرون فلسفيا في الدين، مثل الإيجي صاحب «المواقف». وانحطاط الفلسفة يعزي، فيما يعزي، للنفوذ الذي جد للأشاعرة.
وفي الحق كما يقول رينان: إن الفلسفة الإسلامية فقدت، بموت فيلسوف الأندلس، آخر ممثليها في الإسلام، وصار انتصار القرآن
3
على التفكير الحر مؤكدا مدة ستة قرون على الأقل.
ليس من العجيب إذن أن نجد مؤرخي الحركة الفكرية والعلمية من المسلمين يهملون ابن رشد إهمالا مؤلما، أو لا يذكرونه إلا عرضا؛ أمثال جمال الدين القفطي على قرب عهده به، وابن خلكان، وحاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون». وهذا الأخير ذكر اسمه حقا، ولكن ذكرا عرضيا بمناسبة الحديث عن مؤلفات الغزالي التي عمل ابن رشد على نقضها وبيان تهافتها.
وابن بطوطة الرحالة المسلم المعروف، الذي جاب العالم الإسلامي، وترك لنا في رحلته وصفا طيبا له وللحضارة الإسلامية على اختلاف ألوانها، لم يذكر في رحلته هذه كلمة عن الفلسفة. وفي هذا شاهد قوي على ركود الفلسفة في العالم الإسلامي حينذاك، لا على ضعف أو انعدام أثر ابن رشد وحده.
وإذن فليس لنا أن نبحث في الإسلام عن مذهب ابن رشد وأثره، بل يجب أن نتجه في هذا إلى اليهود في الأندلس بصفة خاصة، وإلى أوروبا عامة فيما بعد. (2) في أوروبا
هنا نجد مجال القول ذا سعة، ونجد الحديث مما يسر روح ابن رشد في سمائه العليا، حيث يقيم في أمن من الله ورضوان.
لقد كان اليهود هم الخلف الحقيقي لابن رشد في تلكم العصور الوسطى، وكان في مدرسة ابن ميمون الاستمرار المباشر للفلسفة الإسلامية، ولفلسفة ابن رشد خاصة، كما يقول رينان، وبفضل اليهود بقي لنا جانب غير قليل من كتابات ابن رشد وإخوانه الفلاسفة، مترجمة إلى العبرية، أو بلغتها العربية الأصلية، لكنها مرسومة بحروف عبرية.
بذلك وجدت هذه المؤلفات لديهم معاذا رد عنها عاديات الدهر، وعدوان المتعصبين ضد الفلسفة ورجالها، من أسرة الموحدين وغير الموحدين الذين تداولوا ملك الأندلس.
وهكذا احتضن اليهود في الأندلس الفلسفة الإسلامية، وأقبلوا على دراستها، فانتفعوا بها أيما انتفاع، حتى إن رينان يقول في ذلك بحق: «إن كل الثقافة الأدبية والعلمية لليهود في العصور الوسطى إن هي إلا انعكاس الثقافة الإسلامية.»
وقد كان القرن الرابع عشر الميلادي هو العصر الذي بلغ فيه فيلسوف قرطبة وفلسفته الذروة في الحظوة والسيادة لدى اليهود: لقد صار عندهم الفيلسوف الذي حل محل المعلم الأول؛ فمؤلفاته صارت موضع الشرح والتفسير، والتلخيص والاقتباس، تبعا لحاجات التعليم المتعددة.
واستمر فيلسوف قرطبة في مكانة المعلم الأول لدى اليهود في تلكم العصور، حتى إذا أدت الفلسفة اليهودية رسالتها، وجاء دور انحطاطها في القرن الخامس عشر، كان ابن رشد أيضا هو الذي تدرس مؤلفاته، ويتناولها المفكرون والمتفلسفون بالبحث والدراسة من نواحيها المختلفة، وآية ذلك أن الجانب الأكبر من المخطوطات العبرية التي بقيت لنا من مؤلفاته ترجع في تاريخها إلى ذلك العصر.
وابن رشد لم يأخذ مكانه ونفوذه لدى اليهود فحسب ؛ فقد نفذت الفلسفة الإسلامية عامة إلى أوروبا وهي في أشد الحاجة إليها، وانتشرت في معاهد التعليم على اختلافها، وكان لكل من رجالاتها مؤيدون ومعارضون، حتى إذا كان القرن الرابع عشر كان لابن سينا وابن رشد، وبخاصة هذا، المكان الأول بأوروبا، حتى أخملا ذكر الآخرين من فلاسفة الإسلام.
أما في القرن الخامس عشر، فقد كان ابن رشد وحده هو ممثل الفلسفة الإسلامية في أوروبا، وواحدها الذي يعتمد عليه، ويعتبر رأيه هو المعبر عن هذه الفلسفة، بل إن بعض مفكري تلك العصور كانوا - كما يذكر رينان - يرون فيه أبا الفلسفة المدرسية، والشارح الوحيد الذي عرفته القرون الوسطى.
كان ذلك كله بعد أن فهم اللاتين هذه الفلسفة بحسب وسعهم حينذاك، وبعد أن ترجمت كل مؤلفات ابن رشد المهمة تقريبا من اللغة العربية إلى اللاتينية، وكان هذا نحو منتصف القرن الثالث عشر كما يقول رينان.
ولم تقف مكانة ابن رشد لدى اللاتين في أوروبا عند هذه المنزلة، بل ظلت تزداد علوا وسموا في نظر هؤلاء حتى اختصموا من أجله، وصار منهم متعصبون له ومتعصبون آخرون عليه من أساطين فلسفة القرون الوسطى.
كما كان من بين هؤلاء وأولئك، من ذوي العقول الممتازة الجبارة، من كان يحترمه ويقدره قدره بوصفه أكبر أستاذ ومعلم لهم، ومن كان يرى فيه في الوقت نفسه أكبر زنديق وملحد بمذهبه وفلسفته!
ليت شعري أين ابن رشد فيرى من يعدون أنفسهم اليوم سادة التفكير في العالم يحلون فلسفته المكان العلي، ويجعلون منه المعلم والأستاذ، ويختصمون من أجله، ويكبر الواحد منهم نفسه بالتعصب له أو عليه!
من له فيرى كل هذا من الذين غلوا في تقدير أنفسهم غلوا كبيرا، فاخترعوا أسطورة العقلية السامية والعقلية الآرية، وتوهموا علو هذه على تلك علوا يرجع إلى الفطرة والطبيعة وأصل التكوين!
إنه لو كان في المقدور أن ينزل ابن رشد من عليائه إلى حياتنا الدنيا، ويرى كل هذا، لاغتبط أيما اغتباط، ولرجع إلى مستقره في جنة الخلد مطمئن البال، مرتاح الضمير؛ بسبب ما قدم للإنسانية من خير .
هل نجح ابن رشد في رسالته؟
إذا نجح امرؤ في الوصول إلى غاية رسمها لنفسه، فيجب أن نتساءل: ما عوامل هذا النجاح؟ وماذا يرجع منها إلى جهوده الخاصة؟ وماذا يرجع إلى الظروف التي وجد فيها فجعلت هذه الغاية سهلة المنال يسيرة الحصول؟ وإن لم يقدر له النجاح، فيجب كذلك أن نتساءل: أهذا الإخفاق لأنه رام أمرا غير مروم، أو هو مروم، لكنه عسير المنال دونه عقاب وأهوال؟
على أن تعرف نجاح ابن رشد أو عدم نجاحه أشد عسرا - في رأينا - من أن نتبينه باللحظة الخاطفة، أو النظرة العاجلة، أو التفكير الفطير، ما دام الأمر يتعلق برسالة فكرية فلسفية يرجع النجاح والإخفاق فيها إلى عوامل متداخلة شديدة التعقيد والتركيب. إن ذلك يتصل بالفكرة نفسها، وبالمنهج الذي رسمه للوصول إلى تحقيقها، وبالدين الذي يدين به، والبيئة التي كان يعيش فيها، والعقليات التي كان يكتب لها، والعصور التي جاءت بعده وأحوالها، وبغير هذا كله من العوامل التي قد يصعب استقصاؤها.
بعد ذلك نبدأ الحديث بالقول بأن فيلسوف قرطبة لم ينجح عند الناس فيما أراد من الجمع بين الحكمة والشريعة، وبيان أنهما أختان رضيعتا لبان واحد، وأنه لا غنى لإحداهما عن الأخرى.
لم ينجح عند الناس كما نقول؛ لأنه لا يزال في رأي جمهرة المسلمين أن الفلاسفة كفروا أو ألحدوا في دين الله ببعض ما ذهبوا إليه في فلسفاتهم متأثرين في ذلك بفلاسفة الإغريق.
لن تغني عن ابن رشد شيئا في نظر المسلمين المتدينين التفرقة بين قدم العالم قدما ذاتيا يستغني به عن الله في وجوده. وهذا ما ينكره الفلاسفة أيضا، وبين ما يرونه من قدمه قدما زمانيا مع احتياجه لله في وجوده وبقائه. هذا لا يغنيه شيئا ما دام المحدث عند الفقهاء والمتكلمين هو الكائن بعد أن لم يكن، أو هو المسبوق بالعدم. وهذا ما لا يرضى الفلاسفة أن يتصوروه في العالم الذي لا أول لوجوده ولم يسبق بالعدم، في رأيهم.
وكذلك في علم الله، لن يقبل رجال الدين أن يقصره الفلاسفة على الأمور والكليات العامة وهم يقرءون قول الله العليم الحكيم:
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
وأيضا في مسألة البعث والجزاء، أنى للفلاسفة أن يؤمن لهم رجال الدين بما يقولون والله تعالى يفصل ويؤكد في آيات كثيرات أن المؤمنين سيكونون في جنات عرضها السموات والأرض، وهم:
على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون ! •••
ولكن إذا حكمنا بأن ابن رشد لم ينجح في رسالته بالنظر إلى العامة والفقهاء والمتكلمين، فهل من الحق أن نحكم بهذا إذا راعينا من يأخذ المسألة من ناحية البحث الحق؛ فلا يحكم إلا بعد أن يقرأ ويوازن ثم يصدر حكمه أخيرا؟
لن أستطيع أن أبت الرأي في هذا؛ فلست أزعم لنفسي أني من الذين يستطيعون أن ينظروا للأمر من الناحية المنطقية الفلسفية البحتة، ثم يرون من الحق أن يؤولوا نصوص القرآن والحديث إن تعارضت - في رأيهم - مع ما يؤدي إليه النظر الفلسفي.
ثم هناك ما حال دون ذيوع فلسفة ابن رشد ومذهبه في التوفيق أو الجمع بين الحكمة والشريعة؛ أعني ذهاب ريح المسلمين وفقدانهم الاستقلال السياسي، وتبعيتهم لأمة أو أمم تضيق صدورها بالبحث الحر، وما جر هذا كله من جهل ران على العقول والبصائر، ولا نزال نعاني من عقابيله وآثاره حتى هذه الأيام.
كل ذلك عفى على الدراسات الفلسفية، وجعل النفوس ترى فيها إلحادا وكفرا، كما ترى في رجالها ملاحدة وكفرة بالله واليوم الآخر، جزاؤهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو ينفوا من الأرض!
من أجل هذا ذهبت صرخة ابن رشد، آخر نصير أو ممثل للفلسفة الإسلامية، فلم يقدر له أن يسمع أولئك الذين اعتقدوا هذه الفلسفة كفرا؛ فأصموا آذانهم، ولم يأذنوا لعقولهم أن تسمع لهذا الصوت القوي الذي هز أوروبا وأحدث فيها ثورة فكرية، والذي أراد فيلسوف قرطبة أن يصل للناس جميعا لعلهم يجدون عليه هدى، ويقبسون منه ما يهديهم سواء السبيل في التوفيق بين الحكمة والشريعة.
لم يكن إذن من الممكن أن ينجح ابن رشد في رسالته لسبب خارج عن نفسه وإرادته، وهو جهل الأمة وعقلية العصور التي تلت العصور الذي عاش فيه.
هذا الإمام المحدث الفقيه أبو عمر تقي الدين الشهرزوري، المعروف بابن الصلاح، والمتوفى عام 643ه، يصدر فتوى بتحريم المنطق والفلسفة؛ فيكون لهذه الفتوى خطر وسلطان ظل قويا دهرا طويلا. إنه - غفر الله له - وقد سئل عن حكم الله فيمن يشتغل بكتب ابن سينا وتصانيفه، يقول: «من فعل ذلك فقد غدر بدينه وتعرض للفتنة العظمى»؛ لأن ابن سينا «لم يكن من العلماء، بل كان من شياطين الإنس.»
وفي فتوى أخرى له في هذه الناحية أيضا يقول: «إن الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان.» وانتهى أخيرا بأن أكد أن الواجب على السلطان أن «يعرض من ظهر منه اعتقاد الفلاسفة على السيف أو الإسلام؛ لتخمد نارهم، وتمحى آثارهم!»
وقد بلغ من عنف أثر هذه الفتوى ومن قوة سلطان صاحبها، أن الإمام السيوطي جلال الدين، كما يذكر في مقدمة كتابه «طبقات المفسرين»، مال في مبادئ الطلب إلى علم المنطق، ثم تركه حين علم أن ابن الصلاح أفتى بتحريمه!
وأخيرا، نجد طاش كبرى زاده، المتوفى عام 962ه، يذكر في كتابه «مفتاح السعادة»، أنه لا يصح أن نطلق اسم العلم على «الحكمة المموهة التي اخترعها الفارابي وابن سينا.» كما يرى أن حكماء الإسلام أعداء الله وأنبيائه ورسله، وأن الاشتغال بحكمتهم حرام في شريعتنا، وأن هؤلاء الفلاسفة أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى؛ لأنهم يتسترون بزي أهل الإسلام.
ليس من العجيب، والحال كما نرى، ألا يكون لابن رشد وأمثاله ممن تقدمه من فلاسفة الإسلام أثر طيب في العالم الإسلامي، وألا ينجحوا في رسالتهم التي عملوا على الاضطلاع بها، وأنفقوا حياتهم في سبيل الوصول إليها، إنما كان يكون عجيبا حقا لو أن كان لهم هذا الأثر الطيب المحمود، ولو أنهم نجحوا فيما أرادوه!
هذا، وكما كان ذلك العداء أو تلك الخصومة بين رجال الدين والفلسفة في تلك العصور شرا على الدراسات الفلسفية، كذلك كانت شرا على الدين.
لقد صغر هذا الخلاف العنيف بين الفريقين هوة ظلت فاصلة بينهما دهرا طويلا، وأساء كل من المعسكرين بالآخر الظنون، فرمى رجال الدين الفلاسفة بالإلحاد والكفر، وناصبوهم العداء، وجازاهم هؤلاء شرا بشر، فرموهم بالجهل والجمود وعدم الفهم للدين!
وكان من نتائج تلك الخصومة الحادة أن حرم الدين الانتفاع بجهود كثير من أبنائه المفكرين، وأن تحامى العامة وأشباه العامة الفلاسفة في كثير من الأحيان، فغدا بعض هؤلاء غريبا أو كالغريب في بيئته، وغدا الفكر الحر عديم النصراء، فأخذ في الانكماش شيئا فشيئا في عجلة تارة، وفي ريث أخرى، وأخلي الطريق للجهل والتقليد في عصور الانحطاط!
وفي الحق، لقد أكرهت عوامل مختلفة الفكر الحر على إخلاء الطريق للتقليد، وصارت الفلسفة في خدمة علم الكلام تسير في ركابه؛ للتدليل على العقائد الدينية، وللرد على الخصوم والمخالفين، كما أصبح طابع مؤلفات تلك العصور هو الاختصار والشرح والتحشية والتعليق، بدل الاستقلال والابتكار.
وقد ظل الحال كذلك تقريبا إلى هذا العصر الذي نعيش فيه، هذا العصر الذي أخذت فيه الدراسات الفلسفية في الحياة بعد أن طال بها الركود المميت؛ وذلك بفضل السيد جمال الدين الأفغاني ومدرسته في مصر، وفضل التفات الجامعة والأزهر لها التفاتة طيبة، نرجو منها المزيد ليكون لها ما نرجوه من ثمرات.
كلمة أخيرة
وبعد؛ فها هو ذا ابن رشد في أسرته ونفسه وخلقه وعلمه وفلسفته، بل ها هو ذا عصر ابن رشد يتمثل فيه بما وعى من علم وفلسفة وصراع بين التقليد والحرية في الرأي، ونضال عن الحقيقة التي يراها الفيلسوف ضد من يحاولون طمسها مكتفين بما كان يعتقد الآباء والأجداد، بل ذلك صفحة من تاريخ التفكير الإسلامي القوي الذي عرفت له أوروبا قدره، فأحلته المكانة العليا، ووجدت فيه نورا تهتدي به.
وكنا نود أن نعثر لابن رشد القاضي على بعض الواقعات التي عرضت له فأصدر فيها حكمه، لنعرف كيف كان قضاؤه ومبلغ الاستقلال فيه. كنا نود هذا، ولكنا لم نظفر به مع الرغبة القوية في البحث، والاستقصاء في المراجع وشدة التنقيب.
على أنه، إن أعوزنا قضاؤه أو أقضيته فيما يختصم الناس فيه من نوازل وحوادث لا تتعدى شيئا من متاع هذه الحياة، فقد رأينا قضاءه في أخطر ما يطلب الحكم فيه؛ نعني العلاقة بين الله والعالم، والوحي والعقل، والصلة بين الشريعة والحكمة.
عرفنا فيه في هذه القضية الكبرى قاضيا رزينا، وحجة ثبتا، ينشد الحق فيما ثار من مشاكل ومسائل بين المتكلمين ويمثلهم حجة الإسلام الغزالي، والفلاسفة الذين يمثلهم الفارابي وابن سينا وهو نفسه، ومن ثم كان موقفه دقيقا.
وقد زاد في دقة موقفه أن الغزالي لم يكن - كما صرح مرارا بنفسه - يطلب الحق نفسه في خصومته العنيفة للفلاسفة، بل كان قصده - كما يقول - التشويش على الفلاسفة، وتأليب المسلمين عليهم جميعا، ونزع الثقة منهم، وأخيرا بيان أنهم أغبياء مغرورون ضلوا وأضلوا، فصاروا إلى الإلحاد والكفر.
على أنه مع هذا، ومع أسلوب خصمه العنيف وتهكمه اللاذع المؤلم، استطاع كبير قضاة الأندلس أن يضبط نفسه، وأن يسقط من الحساب ما لا يمت للموضوع بصلة، وأن يعترف بالحق لخصمه متى أصاب، وأن يرد على كل حجة لا يراها حقا، حتى انتهى أخيرا - في رأيه - بالحكم للفلسفة، والذود عنها، والانتصاف لها ممن نال منها نيلا كبيرا.
فرحمه الله من علم في الطب، وعلم في الفقه، وعلم في القضاء، وعلم في الفلسفة، وعلم في الأخلاق والجدل بالتي هي أحسن.
ثبت المراجع
أولا: باللغة العربية
1 (1)
المعجب في تلخيص أخبار المغرب، للمراكشي، نشر دوزي. (2)
تاريخ الأندلس، للمستشرق يوسف أشباخ، وتعريب الأستاذ عبد الله عنان. (3)
نفح الطيب، للمقري، ج1، ج2. (4)
الصلة، لابن بشكوال، طبع مدينة مجريط. (5)
بغية الملتمس، للضبي، طبع مدينة مجريط. (6)
الديباج المذهب، لابن فرحون. (7)
المعجم، لابن الأبار، طبع مدينة مجريط. (8)
التكملة، لابن الأبار، طبع مدينة مجريط. (9)
عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة. (10)
المنقذ من الضلال، للغزالي، طبعة دمشق. (11)
تاريخ الفلسفة في الإسلام، للمستشرق دي بور، وتعريب الأستاذ عبد الهادي أبي ريدة. (12)
قصة حي بن يقظان، لابن طفيل، طبع دمشق. (13)
تهافت الفلاسفة، للغزالي. (14)
تهافت التهافت، لابن رشد، نشر الأب بويج. (15)
تتمة صوان الحكمة، للبيهقي، طبع الهند. (16)
فصل المقال والكشف عن مناهج الأدلة، لابن رشد، نشر المستشرق ميلير. (17)
آراء أهل المدينة الفاضلة، للفارابي، طبع ليدن. (18)
رسالة العقل، للفارابي، نشر الأب بويج. (19)
ابن رشد وفلسفته، للأستاذ فرح أنطون. (20)
الجمع بين رأيي الحكيمين، للفارابي، طبعة ليدن. (21)
فتاوى ابن الصلاح.
ثانيا: بالفرنسية (1)
Renan, Averroês et l’averroïsme . (2)
Munk, mélanges des philosophies juives et Arabes . (3)
Carra de Vaux, les penseurs de l’Islam, t. IV . (4)
Carra de Vaux, Gazali . (5)
Léon Gauthier, la theorie d’lbn Rochd . (6)
Léon Gauthier, introduction à l’étude de la philosophie Musulmane .
صفحه نامشخص