وابن بطوطة الرحالة المسلم المعروف، الذي جاب العالم الإسلامي، وترك لنا في رحلته وصفا طيبا له وللحضارة الإسلامية على اختلاف ألوانها، لم يذكر في رحلته هذه كلمة عن الفلسفة. وفي هذا شاهد قوي على ركود الفلسفة في العالم الإسلامي حينذاك، لا على ضعف أو انعدام أثر ابن رشد وحده.
وإذن فليس لنا أن نبحث في الإسلام عن مذهب ابن رشد وأثره، بل يجب أن نتجه في هذا إلى اليهود في الأندلس بصفة خاصة، وإلى أوروبا عامة فيما بعد. (2) في أوروبا
هنا نجد مجال القول ذا سعة، ونجد الحديث مما يسر روح ابن رشد في سمائه العليا، حيث يقيم في أمن من الله ورضوان.
لقد كان اليهود هم الخلف الحقيقي لابن رشد في تلكم العصور الوسطى، وكان في مدرسة ابن ميمون الاستمرار المباشر للفلسفة الإسلامية، ولفلسفة ابن رشد خاصة، كما يقول رينان، وبفضل اليهود بقي لنا جانب غير قليل من كتابات ابن رشد وإخوانه الفلاسفة، مترجمة إلى العبرية، أو بلغتها العربية الأصلية، لكنها مرسومة بحروف عبرية.
بذلك وجدت هذه المؤلفات لديهم معاذا رد عنها عاديات الدهر، وعدوان المتعصبين ضد الفلسفة ورجالها، من أسرة الموحدين وغير الموحدين الذين تداولوا ملك الأندلس.
وهكذا احتضن اليهود في الأندلس الفلسفة الإسلامية، وأقبلوا على دراستها، فانتفعوا بها أيما انتفاع، حتى إن رينان يقول في ذلك بحق: «إن كل الثقافة الأدبية والعلمية لليهود في العصور الوسطى إن هي إلا انعكاس الثقافة الإسلامية.»
وقد كان القرن الرابع عشر الميلادي هو العصر الذي بلغ فيه فيلسوف قرطبة وفلسفته الذروة في الحظوة والسيادة لدى اليهود: لقد صار عندهم الفيلسوف الذي حل محل المعلم الأول؛ فمؤلفاته صارت موضع الشرح والتفسير، والتلخيص والاقتباس، تبعا لحاجات التعليم المتعددة.
واستمر فيلسوف قرطبة في مكانة المعلم الأول لدى اليهود في تلكم العصور، حتى إذا أدت الفلسفة اليهودية رسالتها، وجاء دور انحطاطها في القرن الخامس عشر، كان ابن رشد أيضا هو الذي تدرس مؤلفاته، ويتناولها المفكرون والمتفلسفون بالبحث والدراسة من نواحيها المختلفة، وآية ذلك أن الجانب الأكبر من المخطوطات العبرية التي بقيت لنا من مؤلفاته ترجع في تاريخها إلى ذلك العصر.
وابن رشد لم يأخذ مكانه ونفوذه لدى اليهود فحسب ؛ فقد نفذت الفلسفة الإسلامية عامة إلى أوروبا وهي في أشد الحاجة إليها، وانتشرت في معاهد التعليم على اختلافها، وكان لكل من رجالاتها مؤيدون ومعارضون، حتى إذا كان القرن الرابع عشر كان لابن سينا وابن رشد، وبخاصة هذا، المكان الأول بأوروبا، حتى أخملا ذكر الآخرين من فلاسفة الإسلام.
أما في القرن الخامس عشر، فقد كان ابن رشد وحده هو ممثل الفلسفة الإسلامية في أوروبا، وواحدها الذي يعتمد عليه، ويعتبر رأيه هو المعبر عن هذه الفلسفة، بل إن بعض مفكري تلك العصور كانوا - كما يذكر رينان - يرون فيه أبا الفلسفة المدرسية، والشارح الوحيد الذي عرفته القرون الوسطى.
صفحه نامشخص