وبعد هذا نراه يعنى بمحل النزاع فيجلوه ويجعله واضحا؛ إذ يذهب إلى «أن الحدوث الذي صرح به الشرع في هذا العالم هو الذي يكون في صور الموجودات، وهذا الحدوث إنما يكون من شيء آخر.
2
ويدل لذلك قوله تعالى:
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي ، وقوله:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
وبعد ذلك كله يقرر أنه ليس من خير للدين في بحث هذه المسألة المشكلة وأمثالها التي رأت الشريعة السكوت عنها؛ ولذا جاء في الحديث أنه لا يزال الناس يتفكرون حتى يقولوا: هذا خلق الله، فمن خلق الله؟! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا وجد ذلك أحدكم فليقرأ: قل هو الله أحد.»
ويريد فيلسوف قرطبة من هذا أن يصل إلى أن القول بقدم العالم على النحو الذي ذهب إليه الفلاسفة ليس مما يكفر به إنسان، وأن الشريعة قد تعضد هذا الرأي، وأن من الخير عدم الفحص عن هذه المسألة ونحوها. وإذن فالغزالي مخطئ أشد الخطأ على الحكمة والشريعة ببحثه هذه المسألة، وبرميه الفلاسفة بالكفر للرأي الذي رأوه فيها. (ج)
وفي مسألة البعث والجزاء وكيفيته، نراه يلف ويدور في طرق متعرجة ملتوية ليصل إلى إثبات أن الفلاسفة القدامى لم يتعرضوا بقول مثبت أو مبطل في مبادئ الشريعة العامة، ومن هذه المبادئ كيفية السعادة أو الشقاء الأخروي، كما يقول في «تهافت التهافت»، كما يلف ويدور ليقيم الحجة على الغزالي فيما قرر من أن أحدا من المسلمين لم يقل بالجزاء الروحاني وحده؛ لأن الصوفية - فيما قال
3 - تقول به، وعلى هذا فلا يكفر بالإجماع من أنكر الجزاء الجسماني، ويكون الغزالي أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة.
على أن فيلسوفنا وإن خال أنه أقنع قارئيه برأيه، فإنه - فيما أرى - لا يمكن أن نسلم له بأن نصوص القرآن التي وصف الله بها السعادة والشقاء في الدار الأخرى وصفا يجعلهما للجسم والروح معا، من الممكن تأويلها جميعا.
صفحه نامشخص