ومن الحنث
17
العظيم عند الفريسيين أن نقل شيوخ الزنادقة التوراة إلى لسان المشركين، فاطلع هؤلاء على عهد الله لشعبه المختار . ومما يجهر به الفريسيون في مدارسهم أن من يقرأ كتاب إشراك يحرم السعادة في الدار الآخرة، وأن اليونانية هي لغة العبيد لا الأحرار، وأن دور الانحطاط الثاني بدئ بتلك الترجمة، وأن يهود اليوم إذا كانوا عبيدا لا سادة، فلما أنزله الله من العقاب على اليهود بسبب تلك الترجمة، وأن أولئك الطلقاء أدخلوا إلى أرض الميعاد، حتى درج الهيكل، عاداتهم وطبائعهم الخطرة.
ومما يعلنه الفريسيون قولهم: آلروح؟ لنا مذهب في الروح أيضا، وأما كبح جماح الشهوات الجسدية وإماتة البدن بذلك، فمما يضعف قوة شعبنا، ومما لا ريب فيه أن هؤلاء الأجانب ذوو أجسام منفوخة، ولم يكن لهم غير أبناء ضعفاء ملحدين بأوامر الأنبياء، فقصر كل وحي على الروح وحدها يعني جحودا بالعالم الحسي، وإنكارا لماضي بني إسرائيل الجليل، ومستقبلهم المجيد، مع أنه يجب علينا تجاه العدوان الذي نضام به أن نبذل أنفسنا في الدفاع عن روح أجدادنا، ومذهبنا وشريعتنا التي لن تقدر رومة على نزعها منا!
ألم يسر آباؤنا على هذا النهج؟ حتى إن بومبي نفسه لم يسطع أن يفتح أورشليم إلا لأن اليهود لم يريدوا أن يعدوا في السبت فيردوا عادية الغزاة بالسلاح. وفي ذلك الحين كان اليهود شعبا واحدا تسري فيه روح المكابيين، فأطفأ هيرودس جذوة تلك الروح فيما بعد.
يتكلم ذانك الشائبان الجالسان القرفصاء في زاوية من ذلك الفندق في شأن الملك هيرودس الكبير، الذي أدركا آخر عهده أيام صباهم، فكان أدوميا ظالما آثما ملحدا خائنا لبلاده، فسلمها إلى القنصل سيسرون، وأتى ببومبي وكراسوس ليحاصرا أورشليم. وهيرودس هذا كان ابن رقيق، فسم أباه وإخوته، فاشترى من أفاقي الرومان عرش الملك بالذهب والكنوز، ثم خسر هذا العرش في آخر الأمر، وما الذي ناله بنو إسرائيل في زمن حكمه الطويل؟
حقا أنه وسع رقعة مملكته إلى حدود سورية وجزيرة العرب فجدد مملكة داود، ولكنه لم يصنع ذلك بإيمان داود، بل بحيل أبشالوم ومكايده، وذلك بأن قدم إلى رومة ألوف الهدايا، وبأن أنشأ للمشركين، حتى منطقة فنيقية، معابد وحمامات ودور تمثيل ، وبأن نظم حتى أبواب الهيكل مباريات لمصارعي الرومان، وبأن تذرع بالظلم والقسوة لينزع من العالم مجدا واسما لنفسه، وإن استحق ازدراء بني قومه له، وحقا أنه أنفق ملايين الدراهم لإعادة الهيكل، وذهب أبراج هذا الهيكل، وفرش صحونه
18
بالرخام، وصفح أبوابه بنحاس من كورنتوس، وستر قدس الأقداس بحجاب من الديباج، ولكنه لم يسطع أن يكتم بالذهب والستار ما جنته يداه، وحقا أنه قرب للهيكل ثلاثمائة ثور، ولكن ذكرى الخمسة والأربعين فريسيا الذين حمل المجمع اليهودي الكبير على إعدامهم لم تفتأ تحوم حول ذلك الهيكل، وحقا أنه أنزل الراية الرومانية بعد أن رفعها فوق الباب الأكبر، ولكنه كان لنصب تلك الراية من الأثر ما لم يقدر على إزالته صدأ نصف قرن ومطره.
وهو لأنه أقام الهيكل وملك عدة نسوة، ظن نفسه سليمان الثاني، وهو لأن كليوباطرة أرسلت إليه أربعمائة رماح، ولأن حرسه من الدروز والجرمان، رأى نفسه قيصر الثاني، وهو لأنه كان لديه خصيان وعرافون وعيون وندامى كثيرون، ولأنه انتحل صفة الخطيب، ولأنه سمى أولاده بأسماء رومانية، ولأنه تزوج عشر مرات فولدن له اثني عشر ولدا؛ اعتقد أنه أبو الوطن!
صفحه نامشخص