الدولة، وينجز الأفاقون والوسطاء والمضللون والوشاة كل عمل ثم يفسدونه، ويختل في العهد الإمبراطوري ما كان في الدور الجمهوري من النظام، ويحوك الولاة الدسائس حول الحرس، ويحوك الحرس الدسائس حول المقربين، ويحوك المقربون الدسائس حول القيصر الغائب، وتلطم موجة البؤس مهددة نفائس القادة، وإن كان ذلك كلطم موج البحر للصخر. ويرى هؤلاء القادة أن الوقت لا يزال ملائما للاحتراز من أي طارئ، والوصول إلى ما فيه خير الدارين، وإن كان الصخر يهتز تحت قصورهم الفخمة. وكيف يعلم أن قدرة رب اليهود القديم أو أرباب السفسطائيين المعاصرين لا تكون في عجز الأبصار عن إدراكها لهم؟
واليهودي الغني، حين يكون في هودجه فيجوب شوارع بلد الرب، ينعم النظر في آراء أصدقائه من المشركين، وهو حين ينزل بفندقه يلاقي فيه، على ما يحتمل، صاحبا عميلا من الإسكندرية، فيخبره هذا الإسكندري بإفلاس ملك مخلوع، ويحدثه عن أنباء أبناء دينه بمصر، وعن مطالعاتهم ومناظراتهم، وعن الحد الذي يمزجون به الروح بالإيمان ويفصلون بينهما ...
والواقع أن اليهود استقروا بمصر منذ عهد بطليموس، فبلغ عددهم الآن مليون شخص، وأن نصف الأحرار في الإسكندرية منهم، وأن لهم في هذه المدينة حيين، وأنهم قابضون على زمام التجارة بين الشرق والغرب، وأنهم يديرون معظم أمور النقل في البحر منذ أن وثق بهم القيصر أغسطس، فعهد إليهم في مراقبة مستودعي الحبوب لرومة: النيل والدلتا.
والإسكندرية أصبحت عاصمة العالم الثقافية قبل أن تصبح رومة عاصمته السياسية بقرنين، ولم يعرض اليهود برومة عن الفن الإغريقي، الذي أدخل إلى عبر البحر المتوسط منذ زمن الإسكندر الأكبر، فلا يتخذونه في معبدهم المنافس لهيكل القدس زهاء ورقة؟ إذا كان اليهود يقرءون كتب أفلاطون وهوميروس؛ فلأن هذه الكتب روايات تعجز عن زلزلة حكم رجال الدين الرباني، وقد نقلت صحف موسى وسليمان وشريعة الشعب المختار وحكمته إلى اليونانية في زمن بطليموس الأول، فكان لها بذلك حظ الانتشار في العالم بأسره. وفي الأساطير أن اثنين وسبعين عالما من اثنتي عشرة قبيلة هاجروا إلى جزيرة، فترجموا في اثنين وسبعين يوما أسفار موسى الخمسة، فأسفر ذلك عن خروجهم من دائرتهم القبلية إلى الدائرة العالمية، وعن تمجيد اليوم الذي ذهبوا فيه إلى تلك الجزيرة بأمر ملك مصر المفضال بطليموس فيلادلفوس، فعلم الناس أن موسى أعظم من فيثاغورس.
واليوم، في الفندق، يسأل يهودي رومة يهودي الإسكندرية عن أنباء فيلو: أيذهب رسولا إلى القيصر؟ أليس كتابه الأخير عن الأحلام ذا مناح طليقة حرة؟ ألا يؤدي إلى ضعف الإيمان بالأنبياء؟
فيلو؛ ذلك اليهودي الذي هو قبس دين اليهود في الخارج، يبلغ الستين من عمره، فيجمع في كتبه العالمين المتقابلين على ضفاف النيل، وإن شئت فقل: تنطوي كتبه على الأفكار السائرة التي تختلط أمواجها في دلتا عصره، وفيلو؛ ذلك الحكيم الذي هو من أبناء الدولة الأولى في العالم ، والذي هو تلميذ حضارتين، يقطن بميناء تجلب السفن إليه سلعا وأفكارا، وفيلو؛ ذلك الفيلسوف، يتحرر من ربقة الخرافات فلا يداري بني قومه؛ فيضع الروح بعيدة من حدود اليونان وإسرائيل مستندا إلى تعاليم الأنبياء وآراء أفلاطون، فيرسم صورة لإله إنساني يعد الناس إخوة ما دام أبا لهم جميعهم، فيقيم بذلك على سدة المملكتين مملكة الروح للمرة الأولى.
يرى فيلو أن الإنسان سقط، وأن الله يريد أن يقيل عثرته بمعرفته لنفسه وبالتوبة. ومن قول فيلو: لا تقسموا بالله، وادعوا إلى الألفة والاتحاد وشيوع الأموال، واحترموا جميع الأمم على السواء، وأعينوا عدوكم إذا خانه الحظ فتضور جوعا، واعنوا بأسير الحرب، وداروا العبيد، وارفقوا بالحيوان والأشجار المثمرة، وابتعدوا عن المادة، واتركوا الملاهي، واطلبوا العزلة، وكفوا عن الشهوات؛ ففي ذلك كله قهر أجسامكم، وسمو أرواحكم إلى الله، واجتنبوا الخصومات، ورفع الدعاوى، ولا تترددوا إلى الأسواق والمجتمعات العامة، والتزموا جانب البساطة والحلم والدعة، وإياكم والتفاخر والغنى؛ فالدنيا هي المنفى، والسماء هي الوطن، فمن يعرف ذلك ويفعله، ومن يعمل الصالحات ويقف نفسه على الله؛ فهو ابن الله، كما في الشرع، فالله يحب الخاشعين وينجيهم، والله في عون من يؤمنون به قبل أن يولدوا، وروح الله تتجلى في نفوس الأولياء فتنير بصائرهم، فيرتقون من المنطقة البشرية إلى المملكة الإلهية. •••
لنفترض أن شيخين من الفريسيين جالسان في ناحية من الفندق، فيستمعان إلى ما يدور بين اليهودي الروماني واليهودي اليوناني من الحديث، لنعلم أنهما يعدان كل كلمة ينطقان بها إهانة لهما، كما تدل عليه نظراتهما، وإن اليهودي الروماني ليلبس ثوبا ثمينا ويبدو سمينا، حليقا، حسن المنظر، محاكيا المجتمع الذي يعيش فيه، وإن اليهودي اليوناني الإسكندري ليظهر طليق الوجه، لين العريكة، حلو العينين، وإن الفريسيين ليلوحان أعجفين
16
جائعين، متجهمين، مستطيلي الوجهين، أبيضي اللحيتين، مرسليهما، متميزين من الغيظ والحقد على ذينك الفاتري الإيمان أكثر مما على الكافرين.
صفحه نامشخص