محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
ژانرها
وهو العلم الذي فوق طور العقل وإدراكاته، وهو علم المتصوفة، أو العلم اللدني، وهو الحكمة التي يؤتيها الله من يشاء، وأساسها الفيض والنفث في الروع؛ ولذلك يتسارع إلى صاحبه الإنكار؛ لأنه من طريق الإلهام، وأكثر علوم الكمل من هذا القبيل، وهو صفة أساسية للنبي ومنحة وخلعة على الولي.
وهو نوعان: نوع منه يدرك بالعقل، وهي العلوم التي يمكن تحصيلها بالعقل والفكر، كالقسم الأول من هذه الأقسام، ولكن العلم به هنا لم يحصل عن نظر ولا عن تفكر، ولكنه ملازم لمرتبة العلم التي يعطاها.
والنوع الآخر من علوم الأسرار على ضربين: ضرب منه يلتحق بعلم الأحوال، ولكن على مقام أعلى وحالة أشرف، والضرب الآخر من علوم الأخبار، وهي التي يدخلها الصدق والكذب، إلا أن يكون المخبر به قد ثبت صدقه وعصمته فيما يخبر به ويقوله، كإخبار الأنبياء بالجنة وما فيها، فقوله: إن ثمة جنة مثلا من علم الخبر، وقوله في القيامة: إن فيها حوضا أحلى من العسل من علم الأحوال، وهو علم الذوق، وقوله: كان الله ولا شيء معه، وما يشابه ذلك، من علوم العقل المدركة بالنظر.
أما علم الأسرار، فالعالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات، وما بقي إلا أن يكون المخبر به صادقا معصوما، وعلى العاقل اللبيب الناصح لنفسه ألا يرمي ما يرد إليه من هذا العلم، ولكن يقول: هذا جائز عندي أن يكون صدقا أو كذبا.
وكذلك ينبغي للعاقل، إذا أتاه هذا العلم من غير المعصوم، وإن كان صادقا عند الله فيما أخبر به، ولكن كما لا يلزم السامع له بتصديقه، لا يلزمه تكذيبه، ولكن يتوقف ويتأمل، فإن كان ما أتى به لا تحيله العقول بل تجوزه، ولا يهدر ركنا من أركان الشريعة، ولا يبطل أصلا من أصولها، أو أتى بأمر جوزه العقل، وسكت عنه الشارع؛ فلا ينبغي له أن يرده أصلا، بل له الخيرة في الأمر، فإن كانت حالة المخبر به تقتضي العدالة، لم يضره القبول، بل هو الأولى. فكما أننا نحكم في الأرواح والأموال بشهادة الشهود، نقبل ونحكم بصدق من يأتي بهذه العلوم بشروطها التي ذكرناها. وإن كان المخبر بها غير عدل في علمنا ننظر، فإن كان الذي أخبر به حقا بوجه ما من الوجوه الصحيحة قبلناه، وإلا تركناه في باب الجائزات، ولم نتكلم في قائله بشيء مسيء؛ فإنها شهادة مكتوبة نسأل عنها. قال تعالى:
ستكتب شهادتهم ويسألون .
والصوفية - رضوان الله عليهم - أو أصحاب علم الأسرار؛ إنما يأتون لنا بأسرار وحكم من أسرار الشريعة، مما هي خارجة عن قوة الفكر والكسب، ولا تنال أبدا إلا بالمشاهدة والإلهام وما شاكل هذه الطرق.
ومن هنا نفهم، وعلى هذا الضوء ندرك قول الرسول - صلوات الله عليه: «إن يكن في أمتي محدثون فمنهم عمر.» أي: يأتون بالحديث المنطوي على العلم والحكمة، وبقوله في أبي بكر الصديق: «ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا قيام؛ وإنما بما وقر في صدره من هذا الدين.»
ثم يقول محيي الدين: هذه هي علوم الأسرار، التي اختص بها الأخيار، ولو لم يقع الإنكار لهذه العلوم في الوجود، وكان الناس كلهم أصحاب عقول سليمة لم يفد قول أبي هريرة: «حفظت عن رسول الله وعاءين من علم: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا الحلقوم.» وقول ابن عباس في قوله - تعالى:
الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن : لو ذكرت لكم تفسيره لرجمتموني. وفي رواية: لقلتم: إني كافر.
صفحه نامشخص