محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
ژانرها
بين يدي الطبعة الثانية
أفق ... ونجم
مولده ونشأته
بين ابن رشد ومحيي الدين
العلم النظري واللدني
مكانة الشيخ في الطريق
الخضر وشيوخه في الطريق
المقامات والأحوال
محيي الدين وملك المغرب
إلى الأرض المقدسة
صفحه نامشخص
المرأة في حياة محيي الدين
السائح الإسلامي
صلاته بالملوك
المعراج الأخير
النهج الصوفي
مكانة محيي الدين من العلم اللدني
أقسام العلوم ومراتبها
الطريق الأعظم
محيي الدين والفرق الإسلامية
بين التصوف والفلسفة
صفحه نامشخص
مملكة التصوف
الكون الحي
أقسام المتصوفة
أسرار الروح
محيي الدين والحب الإلهي
محيي الدين ووحدة الوجود
المتشابهات في كلام محيي الدين
المستشرقون ووحدة الوجود
ابن تيمية ووحدة الوجود
آداب المريد عند محيي الدين
صفحه نامشخص
محيي الدين ورسالة الأخلاق
الإنسان الكامل
عقيدة محيي الدين الإلهية
أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية
المدرسة الأكبرية
الشيخ الأكبر
رجل الأسرار
بعض مصادر الكتاب
بين يدي الطبعة الثانية
أفق ... ونجم
صفحه نامشخص
مولده ونشأته
بين ابن رشد ومحيي الدين
العلم النظري واللدني
مكانة الشيخ في الطريق
الخضر وشيوخه في الطريق
المقامات والأحوال
محيي الدين وملك المغرب
إلى الأرض المقدسة
المرأة في حياة محيي الدين
السائح الإسلامي
صفحه نامشخص
صلاته بالملوك
المعراج الأخير
النهج الصوفي
مكانة محيي الدين من العلم اللدني
أقسام العلوم ومراتبها
الطريق الأعظم
محيي الدين والفرق الإسلامية
بين التصوف والفلسفة
مملكة التصوف
الكون الحي
صفحه نامشخص
أقسام المتصوفة
أسرار الروح
محيي الدين والحب الإلهي
محيي الدين ووحدة الوجود
المتشابهات في كلام محيي الدين
المستشرقون ووحدة الوجود
ابن تيمية ووحدة الوجود
آداب المريد عند محيي الدين
محيي الدين ورسالة الأخلاق
الإنسان الكامل
صفحه نامشخص
عقيدة محيي الدين الإلهية
أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية
المدرسة الأكبرية
الشيخ الأكبر
رجل الأسرار
بعض مصادر الكتاب
محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
تأليف
طه عبد الباقي سرور
صفحه نامشخص
بين يدي الطبعة الثانية
... اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك! ... اللهم لا أستطيع أن أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك! ... اللهم لك الحمد سرمديا خالدا، ولك يسجد هذا القلم متبتلا خاشعا؛ إذ يسرت له وحده أن ينال شرف إصدار أول كتاب بلغة الضاد، عن العبقري العالمي، والعابد العالم المثالي، شيخ التصوف الأكبر، الإمام محيي الدين بن عربي.
ولقد تقبل العالم الإسلامي الطبعة الأولى من كتابنا قبولا حسنا كريما، فنفدت نسخه سراعا، وتوالت علينا من سائر الأقطار الإسلامية الرسائل الكريمة الغالية تطالبنا في إلحاح حبيب بإعادة طبعه.
وها نحن - بتوفيق من الله - نقدم لقرائنا الطبعة الثانية، وقد أضفنا إليها دراسات للشيخ الأكبر، تناولت - فيما تناولت - عقيدته التوحيدية، ورسالته الأخلاقية، والآداب التي ينشدها للمريدين، وهي خلاصات مركزة محررة لمخطوطات من تراث الشيخ الأكبر، مجلاة بذلك القلم القوي العبقري الذي أوثر عنه، وعرف به.
والله أسأل، أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، الذي أشرقت بنوره السموات والأرضين، وأن يمن علينا بالهدى والرضا واليقين، وأن يوفقنا دائما للعمل في الأفق الأعلى؛ أفق الروحانية الإسلامية.
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون .
طه عبد الباقي سرور نعيم
28 / 12 / 1955
أفق ... ونجم
... انطلقت الخيل العربية الأصلية، من هضاب مكة وأودية المدينة في أمواج متدفقة، تحمل إلى الدنيا قوة جديدة فوارة بالبأس، رحيمة بالهدى والإيمان.
صفحه نامشخص
وغمرت تلك الأمواج سهول آسيا، وطوت بوادي أفريقيا؛ فلم يصدها عن الطواف بالكوكب الأرضي إلا أمواج المحيطات في الشمال والجنوب.
ووقف عقبة بن نافع في أقصى بقعة من الشمال الأفريقي المواجه لأوروبا، يرقب الأفق، ويفكر في شيء غير مرئي، ثم دفع بجواده إلى الماء هاتفا: «اللهم رب محمد، لو أعلم أن وراء هذا الماء أرضا تغزى في سبيلك لغزوتها.»
ومضت سنون، فإذا بفرسان الصحراء يستبدلون بصهوات جيادهم الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، المتحكمات في عروش الماء، وإذا بالمحيطات ميدان جديد لتلك القوة الفوارة بالبأس، الرحيمة بالهدى والإيمان.
وانطلقت سابحات الماء العربية تجوب البحار، وتقرع أبواب أوروبا؛ فيتم لها التطواف حول الأرض حتى لا تكون فتنة، وحتى يكون الدين كله لله.
وكانت الوثبة الأولى على الجزيرة الخضراء؛ مفتاح أوروبا ورأسها المفكر، وبسيادة العرب على الأندلس أضاء الإسلام قارات الدنيا الثلاث المعروفة في ذلك الحين؛ فتمت له السيادة العالمية.
وفي الأندلس دخلت الحضارة المحمدية أفقا جديدا، والتقت وامتزجت بثقافات وعادات وأمم جديدة. وإلى الأندلس - وهي أقصى مد للموجة الحربية المنتصرة - نفر الأبطال والرجال أولو البأس والعزم والطموح، وإليها - وهي أبعد المراكز الإسلامية عن مقر الخلافة الحاكمة ذات العنفوان والجاه - هرع الأحرار والعلماء ورجال الفكر.
وبذلك ظفرت الأرض الجديدة بالصفوة المختارة؛ فتهيأت لأن تكون مهدا وساحة للعصر الذهبي في الإسلام، وأعدت لمشاهدة أعظم حضارات العالم القديم.
يقول كاتب إسبانيا الأكبر «بلاسكوا أبانيز» في كتابه - ظلال الكنيسة - متحدثا عن العصر الإسلامي في إسبانيا: «... وأخذ فرسان محمد
صلى الله عليه وسلم
يتدفقون من جانب المضيق، فتستقر معهم تلك الثقافة الغنية الموطدة الأركان، نابضة بالحياة، بعيدة الشوط، ولدت منتصرة، وبث فيها النبي حمية مقدسة، واجتمع لها ما في وحي إسرائيل، وعلم بيزنطية، وتراث الهند، وذخائر فارس، ومعارف الصين.»
صفحه نامشخص
ثم يقول: «لقد نمت في إسبانيا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر، أجمل الحضارات وأغناها، وفي الوقت الذي كانت فيه أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية، كان سكان إسبانيا العرب يزدادون؛ فيزيدون على ثلاثين مليونا، تنسجم بينهم جميع العناصر البشرية، والعقائد الدينية، وخفق قلب الحياة الاجتماعية بأقوى نبضاته التي عرفها التاريخ؛ فلا ترى لها قرينا تقابله به غير ما نجده في الولايات المتحدة الأمريكية، من تنوع الأجناس، واتصال الحركة والنشاط؛ فعاشت في الأندلس تحت ظلال العرب طوائف من النصارى وأهل الجزيرة ويهود إسبانيا والمشرق، فكان منهم ذلك المزيج العجيب، وعاشت - بفضل ذلك التفاعل بين العناصر والعروق - جميع الآراء والعادات، وتمت الكشوف العلمية والأنظمة الفنية، وانبعثت - من تجاوب هذه القوى - مواهب الإبداع والتجديد.»
تلك شهادة كاتب أوروبي معاصر متعصب، تنطق في حرارة عميقة بعظمة تلك الحضارة الإسلامية، التي أشرقت في الأندلس، وهي حضارة لم يجد لها الكاتب مثيلا من حيث العظمة، والضخامة، والسرعة، والإنتاج، والمعارف العلمية إلا حضارة الولايات المتحدة الحديثة.
وأي حضارة تسابق تلك الحضارة الأندلسية؟ وأي أيام تضارع أيام الحكم الثاني؛ أحد ملوكها الذي أسس في قرطبة وحدها سبعا وعشرين مدرسة للتعليم المجاني؟ كما أنشأ في قصر مروان مكتبة، ضمت أكثر من ستمائة ألف مجلد، وجعلها بين الحدائق والرياض للعلماء والأدباء والشعراء، كما أصدر أمرا ملكيا لا يزال إلى يومنا عجبا من أعاجيب التقدم الإنساني، بل حلما من أحلام رجال الإصلاح الاجتماعي، فقد خصص في هذا الأمر لكل أعمى مرشد يقوده، ولكل مريض طبيب يعالجه، ولكل أمي هاد يرشده ويثقفه.
يقول المستشرق دوزي في كتابه «تاريخ المسلمين بإسبانيا»: «لقد كان كل فرد في الأندلس يعرف القراءة والكتابة، بينما كان نبلاء أوروبا لا يعرفون حتى التوقيع بأسمائهم، وكانت جامعة قرطبة منارة للعلم، لا تزاحمها منارة تماثلها في العالم، تدرس فيها العلوم الطبية والرياضية والفلكية والكيميائية دراسة ورثتها أوروبا؛ فأضاءت لها الطريق إلى هذا الملك العريض.»
ويقول الأستاذ «ح. ب. نرند» في مجموعة تراث الإسلام؛ واصفا قرطبة في القرن الرابع الهجري: «وكان الرحالة القادمون من الشمال - من أوروبا - يتسامعون بين الخشوع والرهبة بأخبار المدينة التي كان بها سبعون دار للكتب، وتسعمائة حمام للجمهور.»
ذلك هو الأفق الأندلسي، الذي حلق فيه المسلمون بأجنحتهم الجبارة؛ فنظرت إليهم الأمم بعين الخشوع والرهبة، ثم هرعت إليهم؛ لتنهل من العلم، وتقتات من الإيمان، وتتزود بالهدى.
كانت الأندلس هي المنارة التي ترسل شعاعها كالشمس تنير جنبات الأرض، وتضيف إلى أمجاد الإنسان فنونا من العلوم، وألوانا من الآداب، وفيوضا من الكشوف العلمية، والفكرية والدينية.
وتجلت الأندلس، وتحلت بأجمل حلاها في القرن الخامس الهجري، حتى ليشبهها دوزي بالممر العالمي، والجسر الذي تلاقت عنده ثقافات أوروبا القديمة بتلك الثقافة المحمدية المقدسة المنتصرة، كما تدفقت إليها معارف الشرق الإسلامي؛ فنمت وزكت حتى غدت مجمعا أعلى للفكر الإنساني العالمي.
ولقد درج التصوف مع الفكر الإسلامي منذ يومه الأول، يصعد بصعوده ويهبط بهبوطه؛ كما تدرجت المعارف الصوفية تدرجا طبيعيا، من الزهد والعزلة والذكر والتصفية القلبية، وما يلهمه صفاء القلب من فهم في كتاب الله، وإدراك لأسرار كلام رسوله، كما نشاهد في صوفية القرن الأول إلى سمات امتاز بها القرن الثاني؛ إذ انتقل التصوف إلى آفاق أرحب وأشمل، إلى معارف الروح وإلهاماتها، ومعاني المحبة وأقباسها، وحنين القلوب وأشواقها، وتعددت مدارس التصوف، وتعددت ألوانه وطرائقه ومذاهبه، تعددا ظهرت آثاره واضحة مشرقة في صوفية القرن الثالث والقرون التالية.
فمدرسة سعيد بن المسيب، وهي مدرسة التصوف الممزوج بالفقه والتوحيد، بلغت ذروتها في الأعلام الهداة: الغزالي، والرفاعي، والجيلاني.
صفحه نامشخص
ومدرسة إبراهيم بن أدهم، وهي مدرسة التصوف الذي سمته المحبة المشبوبة، أنجبت ذا النون المصري، أكبر المتحدثين عن النفس ومقاماتها، والبسطامي العلم الفرد في توضيح حالات الفناء، وهي أسمى مراتب المريدين وأعلى قمة المحبين؛ حيث تنكشف في ساحاتها الحقائق الإلهية المكنونة على غير أهلها، وحيث تسمو الروح في رحابها إلى مرتبة الفيض والإشراق.
ثم يأتي دور الكمال الصوفي، ممثلا في شيخ الطريقة الجنيد، ودور الإبداع الفني في المحب الفاني الحلاج، الذي شرب من كأس الحب، حتى انتشى ثم غرق؛ فكان فتنة للناس، ودور الكمال العلمي متجليا في العبقري شهاب الدين السهروردي؛ رئيس الإشراقيين، وابن سبعين الصيقلي إمام المفسرين وعمدة الشارحين.
فإذا نمت للتصوف في القرن الخامس الهجري مدرسة جامعة، مميزة بسمات وعلامات، لها عناصرها وعلومها، وأساتذتها ومريدوها، وإذا تم للتصوف نفوذ القوي الغلاب على الأرواح والقلوب في سائر أنحاء المجتمع الإسلامي، وشيد الصرح الأسنى ورفعت قواعده؛ فقد آن له أن يتحلى بالمحراب والإمام والزعيم الأكبر في علوم الفيض والإلهام، وفنون العطايا الإلهية، والمعارف اللدنية، والكاتب المصطفى الذي يهب الحياة والخلود، لكل ما تدركه خواطره، أو يمسه قلمه، أو ينفث في قلبه من هدى ونور.
وجاء محيي الدين، على عرش قدر وأعد، فكان اسمه يحمل حقيقة رسالته، وكانت سمته الغلابة السلطنة والسيادة، وكان مقامه من التصوف كلمة الإمام صفي الدين: «الجنيد يربي المريدين، ومحيي الدين يربي العارفين.» وتربية العارفين - وهم من هم - قمة في التصوف تفرد بها، فهو أولها وهو أيضا ختامها.
جاء محيي الدين في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية الأندلسية، جاء في عصر مأهول بالعلماء، عامر الأفق بنجوم السماء، فلما ألقى من فيض ما تلقى بيانه وهداه، خشعت له القلوب، ودانت له العقول، ثم طوف في رحاب العالم الإسلامي، كالغيث المبارك أينما حل هطل فأنبت وأحيا.
وللبيئة الأندلسية التي وجد فيها محيي الدين، تأثير حاسم في حياته، فبينما كان المشرق الإسلامي يموج بطوائف من الملل والنحل والمذاهب.
أمم من الخوارج والمرجئة، ومجادلين من الأشاعرة والماتردية والمعتزلة، وبينما كانت هذه الطوائف تتصارع وتتلاحى، وتفني حويتها في الصراع والتلاحي، كانت الأندلس تحت أجنحة الرحمة أمة واحدة متجانسة الفكر، موحدة المذهب، رضية الجدل والحوار.
ولهذا لم يفن محيي الدين حياته صراعا وقتالا، كما فعل الغزالي الذي سبقه بقليل في المشرق في حروبه ومجادلاته، مع الفلاسفة والفقهاء ورجال المذاهب.
ولم تلظ حياته بأوار مستعر من الخصومات العنيفة، كما نشاهد في ابن تيمية في المشرق أيضا بعده بقليل مع القرامطة والفلاسفة والصوفية وغيرهم، بل امتازت حياته بالهدوء والصفاء والتفرغ المطمئن للتعبد والتلقي.
وإذا اشتبك في جدال أو حوار - وقليلا ما يشتبك - فهو الهادي السمح، الرحب الأفق والصدر؛ فلا يرمي بالكفر، وما إلى الكفر من نعوت وألقاب، كما فعل الغزالي، ولا يقذف بالزندقة والفجور، كما صنع ابن تيمية، بل أقصى ما يرمي وأجرح ما يوجه هو أن يقول لخصمه في سماحة: «لقد أخطأ عقلك، ولم يخطئ إيمانك.» كما قال للمجسدة والمعتزلة خلال مناقشته لهم في صفات الذات؛ فالإيمان عنده في القلب، أما الآراء فمن وثبات العقول.
صفحه نامشخص
وثمة صفة أخرى واضحة في حياة محيي الدين، فعلومه علوم كشف وفيض، ومصادر الكشف والفيض هي الإلهام الإلهي والفتح الرباني، وهو يقول في صراحة: إنه لا يكتب عن روية وفكر؛ وإنما عن نفث في روعه، وأن تصانيفه من خزائن القرآن، وقد أعطي مفاتيح الفهم فيها والإمداد منها.
وعلوم الكشف والفيض لا يمكن أن تجادل، ولا يمكن أن تناقش؛ لأنها علوم ذوق وتذوق، وليس في الذوق جدل ولا جدال.
وإذا كان محيي الدين، قد سلم من الجدل والخصومة في حياته، فقد انطلقت العواصف في أثره جامحة هادرة، فقد ترك في الدنيا دويا، وأحدث زلزالا؛ اختصمت فيه الدنيا، وتصارعت حوله العقول. فهو القطب الإمام، والعالم الفرد الأوحد عند رجال التصوف، وهو الزنديق المتفلسف، الهاتف بالحلول ووحدة الوجود عند الماديين وبعض الفقهاء الجامدين، ولكن هؤلاء وهؤلاء - وإن تجادلوا وتصارعوا في عقيدته - لم يختصموا في علمه، ولم تجرؤ ألسنتهم على الانتقاص منه.
ولعل من آيات محيي الدين التي تفرد بها أن كتبه أمة وحدها؛ فقد برئ قلمه مما أصيبت به أقلام الكاتبين الذين تلمح في آثارهم معارف عصرهم، أو تراث عصور سابقة، فقد تغلب بمواهبه العقلية والروحية، وبإلهاماته الدينية وكشوفه القلبية على جيله وعلى الأجيال التي سبقته، بل لقد احتفظ بتفرده وتفوقه على الأجيال التي تعاقبت بعده، فعاش في التاريخ منارة لا تطاول، وصرحا شامخا ممردا ترتد عنه العيون، وتخشع لديه الأفئدة.
وما فكرت يوما في محيي الدين، إلا وترتسم في مخيلتي، قمة جبل إفرست، والصراع الذي دار حولها للوصول إليها، وتواثبت في خواطري صور هؤلاء الذين جاهدوا للوصول إلى تلك القمة الباذخة المعتصمة بجلالها ورهبتها، وكيف توالى عجز الواثبين والطامحين، وكيف فشلت الجهود متفرقة ومجتمعة في الوصول إلى أعلى قمم الدنيا، وأرهب مرتفعاتها.
وكذلك عندي محيي الدين، قمة شامخة في سموقها الرائع، شامخة بأسرارها وعلومها وإلهاماتها، قمة هي أعظم ما وصل إليه الخيال المحلق في ميادين العلم والفلسفة والدين، قمة قد أحاطها صاحبها بالصعاب والمشاق والتهاويل، حتى غدا الوصول إليها ضربا من كفاح لا ينتهي، وغدا المرتقى قاسيا مرهقا حتى لجبابرة الأجنحة.
قمة تدفع عنها الضعيف المتخاذل، بل وترد أيضا عن سرها القوي المناضل، إنها لقمة الذوق والتذوق؛ فهي في حاجة أولا إلى الذوق والتذوق.
وإذا كان الأصمعي يقول: إن الكتاب أشبه بساحات الملوك، يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والنوى، فساحة محيي الدين كالمحراب، لا تقع فيها إلا على در مكنون، أو سر مصون، أو نور موهوب؛ لأنها ساحة فوق قمة، قمة متطلعة إلى السماء وهدى السماء.
ولست أزعم لك أن هذا الكتاب، معراج يرقى بك إلى تلك القمة، أو مفتاح سحري يوصلك إلى محرابها المقدس، وأنك ستشاهد المحراب، وستحظى بعجائبه، وستظفر بأسراره، وستنعم ببدائعه؛ فذلك مطمح لا تطيقه الأقلام، ولا تدعيه الأذواق.
وإنما أرجو أن أكون قد فتحت لك نافذة، تشاهد منها ذلك الأفق العلوي، أو دفعت إلى يدك بمنظار مكبر، يجلو ويوضح، ما يمكن أن يرى من تلك القمة الشامخة.
صفحه نامشخص
مولده ونشأته
هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم، من قبيلة طيئ مهد النبوغ والتفوق العقلي في جاهليتها وإسلامها، يكنى أبا بكر ويلقب بمحيي الدين، ويعرف بالحاتمي وبابن عربي لدى أهل المشرق، تفريقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي، وبابن العربي لدى المغاربة. وكما يسمي هو نفسه في كتبه، ويعرف في الأندلس بابن سراقة، ويصعد به نسب خئولته إلى الأنصار.
وقد وهبه الله للدنيا في ليلة خالدة في تاريخ الإسلام، ليلة تتجدد ذكراها كلما نطق مسلم بكلمة التوحيد وهتاف الإيمان؛ إذ كان مولده في يوم الإثنين سابع عشر من رمضان عام 560ه في «مرسية» - بضم الميم وسكون الراء وكسر السين - أي: في الشهر الذي أنزل فيه القرآن وهبط وحي السماء، وفي اليوم المماثل ليوم الفتح والنصر، يوم بدر الأغر الميمون، ولد تحت ظلال تلك الذكرى؛ فكان فتحا ونصرا.
ومرسية مهبط مولده بلد إسلامي، أنشأه المسلمون في الأندلس في أيام الأمويين، وهي في شرق الأندلس، إحدى مفاتن الجزيرة الخضراء بكثرة المنازه والبساتين ودور العلم ومساجد الطاعة والعبادة.
وهو سليل أسرة عريقة في العلم والتقوى، عراقتها في الحروب والنضال، كان جده الأعلى عبد الله الحاتمي أحد قادة الحروب والفتوحات، وكان جده الأدنى أحد قضاة الأندلس وعلمائها، وكان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. ولنترك محيي الدين يحدثنا عن أبيه، فقد وصف لنا في الجزء الأول من الفتوحات أحوال الأولياء بعد مماتهم، فمن كان عبدا خالصا لربه في الأولى، كان في الثانية ملكا له جاهه وسيادته، ومن كان معرضا زاهدا في مظاهرها؛ فلا يحجبه الموت ولا ينال منه الفناء عند صعود روحه إلى خالقها، فمن صفات صاحب هذا المقام: أن من نظر في وجهه وهو ميت يقول فيه: حي. ثم يقول: «ولقد رأيت ذلك لوالدي - رحمه الله - فإنا دفناه على شك مما كان عليه في وجهه من صورة الأحياء، ومما كان عليه من سكون عروقه وانقطاع نفسه من صورة الأموات، وكان قبل أن يموت بخمسة عشر يوما أخبرني بموته، وأنه يموت يوم الأربعاء، وكذلك كان، فلما كان يوم موته، وكان مريضا شديد المرض، استوى قاعدا غير مستند، وقال: ... يا ولدي، اليوم يكون الرحيل واللقاء. فقلت له: كتب الله سلامتك في سفرك هذا، وبارك لك في لقائك. ففرح بذلك، وقال لي: جزاك الله يا ولدي عني خيرا، فكل ما كنت أسمعه منك ولا أعرفه، وربما كنت أنكر بعضه، هو ذا أنا أشهده، ثم ظهرت على جبينه لمعة بيضاء تخالف لون جسده من غير سوء، لها نور يتلألأ، فشعر بها الوالد، ثم إن تلك اللمعة انتشرت على وجهه إلى أن عمت بدنه. فقبلت يده وودعته وخرجت من عنده، وقلت له: أنا أسير إلى المسجد الجامع إلى أن يأتيني نعيك؛ فقال لي: رح ولا تترك أحدا يدخل علي، وجمع أهله وبناته، فلما جاء الظهر جاءني نعيه، فجئت إليه، فوجدته على حالة يشك الناظر فيه بين الموت والحياة، وعلى تلك الحالة دفناه، وكان له مشهد عظيم؛ فسبحان من يختص برحمته من يشاء، فصاحب هذا المقام حياته وموته سواء.»
هذا هو النبع الأبوي الزكي، الذي أنجب محيي الدين، أما نبعه من حيث خئولته، فهو سليل الأنصار الأطهار، الذين لا يسلكون فجا إلا سلكه الرسول - صلوات الله عليه - معهم، ولنترك محيي الدين أيضا يحدثنا عن خاله الصوفي صاحب الأحوال والأنفاس: «كان خالي أبو مسلم الخولاني يقوم الليل، فإذا أدركه الإعياء ضرب رجليه قائلا: أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد - صلوات الله عليه - أن يفوزوا به دوننا، والله لأزاحمنهم عليه، حتى يعلموا أنهم خلفوا من بعدهم رجالا.»
1
وهكذا درج محيي الدين بين بيت والده، ودار خاله، في جو عامر بنور التقوى ، فيه سباق حار نحو الشرفات العليا للإيمان، وفيه عزمات لرجال أقوياء، ينشدون نصرا وفوزا في محاريب الهدى والطاعة.
وانتقل والده إلى إشبيلية، إلى حاكمها السلطان محمد بن سعد، وهي عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس، وفيها شب محيي الدين ودرج، وما كان لسانه يبين، حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بالسبع في كتاب الكافي، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان مبرزا في القراءات، ملهما في المعاني والإشارات، ثم أسلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه، يذكرهم لنا الإمام شمس الدين بن مسدي في روايته عن محيي الدين؛ إذ يقول: «كان جميل الجملة والتفصيل، محصلا لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق، والتقدم الذي لا يسبق، سمع في بلاده في شبابه الباكر، من ابن زرقون، والحافظ بن الجد، وأبي الوليد الحضرمي، والشيخ أبي الحسن بن نصر ...»
ثم لا يذكر لنا التاريخ بعد ذلك شيئا عن شباب محيي الدين، ولا عن شيوخه، ومقدار ما حصل من العلوم والفنون. ولكن محيي الدين أرخ نفسه وجلا حياته، فهو يذكر لنا في الفتوحات: أنه قد أعرض عن العلم والشيوخ، وأنه قد اتجه بروحه إلى محاريب الله، ومهابط إلهامه، إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وإلى الذكر الدائم المطهر الملهم.
صفحه نامشخص
ثم إلى الجلوة والخلوة، يطهر خواطره، ويطهر وجدانه، ويزكي نفسه لتلهم تقواها، حتى تفجرت في قلبه ينابيع الفيض، وأشرقت في حياته شمس الهبات والعطايا اللدنية.
وتراث محيي الدين، يشهد بأنه كان في صباه، مرهف الحس والذوق، قوي العاطفة، غلاب الوجدان، رحب الآفاق في الهمة والتطلع.
ويشهد بأن روحه، كانت أعظم من أن تطيق ذلك التلقين الرتيب من شيوخه وأساتذته، وأن تلك الروح قد انطلقت تنشد حبا أكبر من تلك العواطف التي تحيط به، وتبغي أفقا أعظم وأشمل من تلك الألوان من العلوم والمعارف.
والهمة - كما يقول - هي أساس الفتح والفيض؛ فإن التجرد يعطي الطهارة والطاعة، أما الكشف والفيض فأساسهما الهمة وعزمات الرجال.
وإن كانت همة خاله أبي مسلم، قد قعدت به عن اللحوق بأصحاب محمد - صلوات الله عليه - وإن كانت عزيمته قد ضعفت أجنحتها عن التحليق والتفوق في الكشف وفنونه، والإلهام وعلومه؛ فإن لمحيي الدين لهمة، وإن له لعزما، وإنه لسباق لا يسبق، وهداف لا يخطئ، وإن لروحه وثبات تكاد تذهب بها إلى الملأ الأعلى، وإن في قلبه لشيئا يكاد يضيء، ولو لم تمسسه تلك العلوم والمعارف.
وإذن؛ فليعرض محيي الدين عن شيوخه وأضابير معارفهم، وليختصر الطريق الممل الشاق، في وثبات روحية جبارة، إلى منابع العلوم ومصادرها، إلى النور الذي تعيش فيه الفئة التي رضي الله عنها وأحبها؛ فوهبها وعلمها من لدنه علما.
واعتزل محيي الدين الدنيا عزلته الأولى، عزلة هي سر بينه وبين فاطر السموات والأرض؛ ولكنها عزلة مهدت لتكوين تلك القوة العلمية الربانية العظمى، عزلة أحدثت عجبا، وأورثت علما، خشع له أكبر جبار في عالم العقل والفلسفة، خشع لها وأكبرها أبو الوليد بن رشد، ولنترك محيي الدين يحدثنا بقلمه الساحر، عن الالتقاء بين علم الهبات الربانية، والعلم المكتسب من العقل المتفوق المثقف، يقول محيي الدين في الفتوحات ...
بين ابن رشد ومحيي الدين
«... دخلت يوما بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله علي في خلوتي، وكان يظهر التعجب مما سمع؛ فبعثني والدي إليه، في حاجة قصدا منه؛ حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي، ولا طر شاربي، فلما دخلت عليه قام من مكانه إلي؛ محبة وإعظاما، فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم؟ فزاد فرحه بي، لفهمي عنه، ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا؟ فانقبض وتغير لونه، وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح؛ فاصفر لونه، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه».
وابن رشد كان يهدف في فلسفته إلى التوفيق بين الدين والفلسفة ، وله في ذلك محاولات وجولات، وقد نشد في مقابلته لمحيي الدين أن يطمئن، وأن يأخذ اعترافا من رجل من رجال الدين والكشف، بأن القمة التي تصل إليها الفلسفة، هي بعينها غاية الدين وهدفه، وأن العقل يلتقي بالروح في خاتمة المطاف.
صفحه نامشخص
وأن ما ذهبت إليه الفلسفة من شرح للسنن الكونية، وتمثيل لقدرة الله - سبحانه - وآياته في خلقه، لا تتعارض مع الدين، بل تؤيده وتدعمه.
وقد قال محيي الدين في البداية: نعم، ففرح ابن رشد، ثم استدرك محيي الدين، فقال: لا، فحزن ابن رشد، وأراد توضيحا، فقال: ... هل وجدتم الأمر في الكشف والفيض هو ما أعطاه النظر؟ فقال محيي الدين: نعم ولا.
نعم؛ لأن العقل قد يهدي إلى الله، ويدرك ويلمس أسرار الكون، ولكن العقل المجرد مع وصوله إلى تلك القمة، ينحدر وينزلق ويضل في المتشابهات، فضلا عن ابتعاده عن التعبد والتطهر، وتحلله من الكمالات الخلقية والشرعية.
والعقل المجرد، ليس له قيد يعصمه، ولا حد يتفق عليه بين العقول، التي تتطاير حول المعارف مع الريح في شتى الاتجاهات والغايات؛ ولذلك قال له محيي الدين: وبين نعم ولا، تطير الأرواح.
ولم يكن هذا الاجتماع فاصلا بين الرجلين العظيمين، ولا بين المدرستين المتناظرتين؛ فسعى ابن رشد إلى لقاء آخر مع الصبي، الذي كبر بالخلوة، وتعلم في الجلوة، وتفوق وما بقل وجهه ولا طر شاربه.
يقول محيي الدين: وطلب ابن رشد من أبي بعد هذا الاجتماع أن يلتقي بنا ليعرض ما عنده علينا، لنرى هل هو يوافق أم يخالف، فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلا، وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث، ولا مطالعة ولا قراءة. وقال: «هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابا؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته.»
ولم يسفر اجتماعهما الثاني عن نتيجة ترضي ابن رشد، ولكن الرجلين أحب كل منهما الآخر وأجله وأكبره .
ولم ينكر ابن رشد على محيي الدين علومه الكشفية، ولا طريقته في المعرفة والتلقي. بل حمد الله الذي من عليه؛ فأوجده في زمان فيه مثل محيي الدين، الذي دخل الخلوة جاهلا وخرج منها إماما مرشدا.
ولقد أطمع هذا الإيمان والحب محيي الدين في هداية ابن رشد، وجذبه إلى نطاق المتصوفة الراشدين؛ فأراد أن يجتمع به مرة ثالثة، وأعد عدة اللقاء، وهيأ الجو لما ينشد ويريد، ولكن الله أراد غير ما يريد.
يقول ابن عربي: «ولكن قبل أن ألتقي به أراه الله - تعالى - لي في منظر قد ضرب بينه وبيني حجاب رقيق، فكنت أنظر إليه منه ولا يبصرني؛ فعلمت أنه غير مراد لما نحن عليه، فما اجتمعت به حتى درج في سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش، ونقل إلى قرطبة ودفن بها.»
صفحه نامشخص
كان حجاب رقيق، هو الذي يفصل ابن رشد عن محيي الدين. وهذا الحجاب الرقيق هو الفيصل بين الهدى والضلال، والرضا والغضب، والإعراض والاصطفاء، أو كما يقول محيي الدين: بين نعم ولا تطير الأرواح، وما أيسر ما بينهما وما أعظمه!
وتلك فترة دقيقة حاسمة في حياة محيي الدين، فهو صريح كل الصراحة في أنه دخل الخلوة صغيرا لم يطر شاربه، دخلها بدون قراءة ولا مطالعة، إلا أيسر ما تكون القراءة والمطالعة؛ فرشد وألهم، وتعلم من لدن ربه الوهاب علما أخذ يزداد مع أنفاسه، ويترقى مع تسبيحاته، حتى بلغ من علم ربه ما قدر له، وحتى تمت له الزعامة التي لا تطاول ولا تغالب في علوم الإيمان وفيوضات القلب.
ويحدثنا محيي الدين عن علمه الموهوب فيقول: «وأنا أستمد علمي من كلمات الله التي لا تنفد:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ،
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله .»
ويقول: لو أن علمه كان نتيجة بحث أو فكر لحصر في أقرب فرصة، ولكنهما موارد الحق - تبارك وتعالى - تتوالى على قلب العبد، وأرواح البررة تتنزل عليه من عالم غيبه برحمته التي من عنده، وعلمه الذي من لدنه، والحق - تعالى - وهاب على الدوام، فياض على الاستمرار، والقلب البشري قابل على الدوام للتلقي والترقي.
العلم النظري واللدني
إنها لموارد الحق - تبارك وتعالى - تتوالى على قلبه، وإنها لأرواح بررة تتنزل عليه من عالم غيبه، وإنه لقلب زكي مختار، قابل على الدوام للتلقي والترقي، وإنه لروح أعد واصطفاه ربه، لأكمل ما يصطفى العلماء من الأولياء، وإن هذا الفيض الرباني، ليتوالى عليه، ولم يطر شاربه ولا بقل وجهه، ولم يلقن من قبل علما دنيويا يزاحم به ويفاخر.
بل إنه ليرى - كما ترى جمهرة أهل التصوف - أن القلب إذا سلم من النظر الفكري شرعا وعقلا في البداية، كان قابلا للفتح الإلهي على أكمل ما يكون الفيض والفتح؛ فليس في القلب عوائق من معارف سابقة، تتصدى للواردات أو تناقضها.
يقول الإمام الغزالي: «لما أردت أن أنخرط في سلكهم، وآخذ مأخذهم، وأغترف من البحر الذي اغترفوا منه، خلوت بنفسي واعتزلت عن نظري وفكري، وشغلت نفسي بالذكر، فانقدح لي من العلم ما لم يكن عندي؛ ففرحت بذلك، وقلت: إنه حصل لي ما حصل للقوم، فتأملت فيه، فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه قبل ذلك؛ فعلمت أنه بعد ما خلص لي. فعدت إلى خلوتي واستعملت ما استعمله القوم، فوجدت مثل الذي وجدت أولا وأوضح وأسنى فسررت، فتأملت فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه أولا، وما خلص لي، فعاودت ذلك مرارا والحال الحال؛ فتميزت عن سائر النظار أصحاب الأفكار بهذا المقدار، ولم ألحق بدرجة القوم في ذلك. وعلمت أن الكتابة على المحو، ليست كالكتابة على الصفاء الأول والطهارة الأولى ...»
صفحه نامشخص
كان محيي الدين على الصفاء الأول، وعلى الطهارة الأولى، عندما دخل خلوته، فتولاه ربه من بدايته، وفتح له خزائن مننه وعلمه، وأفاض عليه من هباته، ومد له سلما من الصفاء يعرج فيه قلبه إلى معارج الملأ الأعلى.
ولكن المتصوف المختار المصطفى، وإن لم يكن في حاجة إلى العلوم العقلية والنظرية، فهو في ضرورة لا تجادل إلى المرشد المربي، إلى الشيخ الذي يملكه ليسعده، ويصوغه ليجليه ويحليه صفاء ونورا.
مكانة الشيخ في الطريق
وللشيخ في التصوف مكانة عليا، فهو للطريق كالفنار للماء، لا يهتدي السائر إلا به، ولا يرشد إلا بنوره، إنه غير المعلم العقلي، والمربي المدرسي؛ فوظائفه فوق التعليم والتلقين؛ مراقبة القلب والخواطر والواردات. أو كما يقول محيي الدين: يعرف من مريده موارد حركاته ومصادرها، وعلوم الخواطر مذمومها ومحمودها، ويعرف الأنفاس والنظرة، ويعرف ما لهما وما يحتويان عليه من الخير الذي يرضي الله، ومن الشر الذي يسخط الله، ويعرف العلل والأدوية، ويعرف الأزمنة والألسن، والأمكنة والأغذية، وما يصلح المزاج وما يفسده، والفرق بين الكشف الحقيقي والكشف الخيالي، ويعلم التجلي الإلهي، ويعلم التربية وانتقال المريدين من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة، ويعلم متى يترك التحكم في طبيعة المريد، ويحكم في عقله، ومتى يصدق المريد خواطره، ويعلم ما للنفس من الأحكام، وما للشيطان من الأحكام، ويعلم الحجب التي تعصم الإنسان من إلقاء الشيطان في قلبه، ويعلم ما تكنه نفس المريد مما لا يشعر به المريد، ويفرق للمريد إذا فتح عليه في باطنه بين الفتح الروحاني وبين الفتح الإلهي، ويعلم بالشم أهل الطريق الذين يصلحون له من الذين لا يصلحون، ويعلم التحلية التي يحلي بها نفوس المريدين الذين هم عرائس الحق.
فهم أدباء الله العالمون بآداب الحضرة وما تستحقه من الحرمة، والجامع لمقامهم. إن الشيخ عبارة عمن جمع جميع ما يحتاج إليه المريد السالك في حال تربيته وكشفه، إلى أن ينتهي إلى الأهلية للشيخوخة، وجميع ما يحتاج إليه المريد إذا مرض خاطره وقلبه بشبهة وقعت له لا يعرف صحتها من سقمها، وحرمة الحق في حرمة الشيخ، وعقوقه في عقوقه.
ذلك هو جماع ما يمكن أن يقال عن مكانة الشيوخ في طريق الله؛ فهم أساتذة تلك الجامعة الربانية وأطباؤها، ولا بد للمريد السائر على الصراط الأعظم من أن يلجأ إليهم حتى تعصمه حكمتهم من الزلل، فطريق التصوف ليس طريقا سلطانيا هينا سهلا، إنه لطريق المزالق والشباك، والمحن والمهالك، والصبر والمجاهدة المرة، التي لا يقدر عليها إلا أهل الفتوة والقوة، والمناعة الروحية، والعظمة القلبية والعقلية، وفوق هذا وذاك: الاجتباء، والاصطفاء، والمحبة، والرضاء.
ولهذا خرج محيي الدين من خلوته، فقد نهل من العلم المصفى ما أذهل به ابن رشد، وما حير به أئمة عصره، ولكن التربية غير العلم، والطبيب غير المعلم، خرج ينشد الدليل والقائد، وحامل المصباح.
الخضر وشيوخه في الطريق
وكان أول شيوخه في الطريق الإمام أبو العباس العريني، أحد فحول أصحاب الأحوال والأنفاس، وطبق عليه شيخه شرعة الطريق، غير عابئ ولا ملتفت إلى علوم محيي الدين ومعارفه؛ ولهذا كان يجمح محيي الدين أحيانا، بل ويتمرد على ما اصطلح عليه من تسليم المريد المطلق لشيخه وهاديه لوثوقه من علمه وتمكنه من معارفه.
ولكن عناية الله - وهي سر هؤلاء الرجال، وهي الدعامة الأولى التي ترتكز عليها حياتهم، وتتلون بها شخصياتهم - قيضت له إمام شيوخ الطريق كافة الولي الخفي، الذي شهد له القرآن بأنه أوتي من لدن ربه علما لم يطقه موسى النبي، قيضت له الخضر؛ فأرشده وكفكف من غرب نفسه ورده إلى شيخه. يقول محيي الدين: «وذلك أن شيخنا أبا العباس العريني جرت بيني وبينه مسألة في حق شخص، كان قد بشر بظهوره رسول الله - صلوات الله عليه - فقال لي: هو فلان ابن فلان. وسمى لي شخصا أعرفه باسمه وما رأيته، فتوقفت فيه ولم آخذ بالقبول؛ لكوني على بصيرة في أمره؛ فتأذى الشيخ في باطنه، ولم أشعر بذلك فإني كنت في بداية أمري، فانصرفت عنه إلى منزلي، ولما كنت في الطريق بسوق الحنة بإشبيلية لقيني شخص لا أعرفه، فسلم علي ابتداء سلام محب مشفق، وقال لي: يا محمد، سلم إلى الشيخ مقاله فيما ذكر لك عن فلان، وسمى لي الشخص الذي ذكره أبو العباس؛ فقلت له: نعم. وعلمت ما أراد، ورجعت من حيني إلى شيخي؛ لأعرفه بما جرى، فعندما دخلت عليه كلمني قبل أن أكلمه. قال لي: يا أبا عبد الله، أحتاج معك إذا ذكرت لك مسألة يقف خاطرك عن قبولها إلى أن الخضر يتعرض إليك، ويقول: سلم لفلان فيما ذكره لك، ومن أين يتفق لك هذا في كل مسألة تسمعها مني فتتوقف؟ قلت: أهو الخضر؟ قال: نعم. قلت: إن باب التوبة مفتوح. فقال: وقبول التوبة واقع. فلما كان بعد مدة رأيت شيخي قد رجع إلى قولي في تلك المسألة، وقال لي: إني كنت على غلط في تلك المسألة؛ فقلت له: يا سيدي، علمت الساعة أن الخضر ما أوصاني إلا بالتسليم، وما عرفني بأنك مصيب في تلك الحالة؛ ولكن التسليم واجب.»
صفحه نامشخص
والتقى محيي الدين بالخضر مرة أخرى؛ حينما كان مع شيخه الثاني الإمام جراح بن خميس، ويحدثنا محيي الدين عن هذا اللقاء فيقول: «ثم اتفق لي مرة أخرى أني كنت في مركب في البحر، فأخذني وجع في بطني، وأهل المركب قد ناموا، فقمت إلى جانب السفينة، وتطلعت إلى البحر، فرأيت شخصا على بعد في ضوء القمر، وكانت ليلة البدر، وهو يأتي على وجه الماء حتى وصل إلي ووقف معي، ثم تكلم معي بكلام كان عنده، ولقنني أشياء وأشياء، ثم سلم وانصرف يطلب المغارة مائلا نحو تل على شاطئ، بيننا وبينه مسافة تزيد على ميلين، فقطع تلك المسافة في خطوتين أو ثلاث، فسمعت صوته وهو على ظهر المغارة يسبح الله، وربما مشى إلى شيخنا جراح بن خميس الكتاني، وكان من سادات القوم، وكنت جئت من عنده بالأمس من ليلتي تلك، فلما جئت المدينة لقيت رجلا صالحا، فقال لي: كيف كانت ليلتك البارحة في المركب مع الخضر؟ ما قال لك وما قلت له؟ فعلمت أنه الخضر.»
وكان شيخه الثالث، أبو محمد بن عبد الله، ذروة مرموقة في علوم الكشف، ويحدثنا عنه فيقول: «دخلت على شيخنا أبي محمد بن عبد الله بغرناطة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وهو من أكبر من لقيته في هذا الطريق، ولم أر في طريقته مثله في الاجتهاد، وكان ممن أوتوا فهما في القرآن إرثا محمديا، فقال لي: الرجال أربعة:
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم رجال الظاهر.
ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهم رجال الباطن، جلساء الحق - تعالى - ولهم المشورة.
ورجال الأعراف، وهم رجال الحد، قال الله - تعالى:
وعلى الأعراف رجال ، وهم أهل الشم والتميز والسراح عن الأوصاف، فلا صفة لهم، كان منهم أبو اليزيد البسطامي.
ورجال إذا دعاهم الحق يأتونه رجالا لسرعة الإجابة لا يركبون. قال - تعالى:
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ، وهم رجال المطلع.
فرجال الظاهر لهم التصرف في عالم الملك والشهادة، وأما رجال الباطن؛ فهم الذين لهم التصرف في عالم الغيب والملكوت؛ فيستنزلون الأرواح العلوية بهممهم فيما يريدونه. أعني أرواح الكواكب لا أرواح الملائكة، فيفتح لهؤلاء الرجال في باطن الكتب المنزلة والصحف المطهرة وكلام العالم كله، ونظم الحروف والأسماء من جهة معانيها، ما لا يمكن لغيرهم؛ اختصاصا إلهيا.
وأما رجال الحد: فهم الذين لهم التصرف في عالم الأرواح النارية، وهو عالم البرزخ والجبروت، وهم رجال الأعراف، والأعراف سور حاجز بين الجنة والنار، برزخ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب؛ فهو حد بين دار السعداء ودار الأشقياء، وهؤلاء الرجال أسعد الناس بمعرفة هذا السور، ولهم في كل حضرة دخول واستشراف.
صفحه نامشخص
وأما رجال المطلع؛ فهم الذين لهم التصرف في الأسماء الإلهية؛ فيستنزلون بها منها ما شاء الله، وهذا ليس لغيرهم، ويستنزلون بها كل ما هو تحت تصرف الرجال الثلاثة، وهم أعظم الرجال، وهم «الملامتية». وكان محيي الدين منهم.»
وكان شيخه الرابع الفقيه العابد يوسف الكومي، يحدثنا عنه محيي الدين فيقول: «سألني شيخي يوسف الكومي سنة ست وثمانين وخمسمائة عن مسألة من مشكلات التصوف فقال:
إذا اجتمع عارفان في حضرة شهودية عند الله - تعالى - ما حكمها؟
قلت: يا سيدي، هذه مسألة تفرض ولا تقع؛ لأن الحضرة لا تسع اثنين، ولا تشهدها عين زائدة، فإن افترضناها مثالا، فإذا اجتمعا فلا يخلو كل واحد منهما أن يجمعهما مقام واحد أو لا يجمعهما، ثم حكم التجلي من حيث الظهور واحد، ومن حيث المتجلى له مختلف؛ فالتذوق متباين لاختلافهما في أعيانهما، ولا يجتمع شهود وخطاب وتجل ورؤية غير .»
وتأذن ربك لمحيي الدين بالانتقال إلى مرتبة الشيخ والإمام، وآن له أن يشرق في أفق جديد رحب، وأن يغادر ركب المريدين إلى طلائع المرشدين.
يقول محيي الدين: «ولقد أنعم الله علي ببشارة عظمى بشرني بها، وكنت لا أعرفها من حالي وكانت حالي، فأوقفني عليها الإمام خليفة القطب، فقد نهاني عند التقائي به عن الانتماء إلى من لقيت من الشيوخ. وقال لي: لا تنتم إلا إلى الله؛ فليس لأحد ممن لقيته عليك يد مما أنت فيه، بل الله تولاك برعايته وعنايته، فاذكر فضل من لاقيت إن شئت، ولا تنتسب إلا إلى الله.»
وبذلك دخل في نطاق الذين أدبهم ربهم واجتباهم، وهم قلة في الطريق لا يتجاوزون الآحاد، بل وضع قدمه على أول الطريق إلى القمة العلمية الربانية، وهي شرعة هو صاحبها وربانها وإمامها الأوحد.
وكما اصطفاه الله في مطلع حياته مع شيوخه؛ فأرسل الخضر إليه مرشدا ومربيا، كذلك حفه برحمته في مطلع إفاضات الأسرار اللدنية عليه، فقد باح أول أمره بسر من أسرار المحب، وهي إباحة قلما نجا من عواقبها مراد أو مريد، يحدثنا عنها فيقول: «ولقد منحني الله سرا من أسراره بمدينة فاس سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فأذعته فإني ما علمت أنه من الأسرار التي لا تذاع؛ فعوتبت فيه من المحبوب، فلم يكن لي جواب إلا السكوت. إلا أني قلت: تول أنت أمر ذلك فيمن أودعته إياه، إن كانت لك غيرة عليه؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وكنت قد أودعته نحوا من ثمانية عشر رجلا، فقال لي: أنا أتولى ذلك، ثم أخبرني أنه سله من صدورهم وسلبهم إياه، فالحمد لله؛ حيث لم يعاقبني بالوحشة والحرمان، كما عوقب غيري.»
المقامات والأحوال
لم يعاقب محيي الدين؛ لأن العناية الربانية تعده في رحمتها لرسالة ستتكشف عنها الأيام وتأتي بها الأنباء.
صفحه نامشخص