بين يدي الطبعة الثانية
أفق ... ونجم
مولده ونشأته
بين ابن رشد ومحيي الدين
العلم النظري واللدني
مكانة الشيخ في الطريق
الخضر وشيوخه في الطريق
المقامات والأحوال
محيي الدين وملك المغرب
إلى الأرض المقدسة
المرأة في حياة محيي الدين
السائح الإسلامي
صلاته بالملوك
المعراج الأخير
النهج الصوفي
مكانة محيي الدين من العلم اللدني
أقسام العلوم ومراتبها
الطريق الأعظم
محيي الدين والفرق الإسلامية
بين التصوف والفلسفة
مملكة التصوف
الكون الحي
أقسام المتصوفة
أسرار الروح
محيي الدين والحب الإلهي
محيي الدين ووحدة الوجود
المتشابهات في كلام محيي الدين
المستشرقون ووحدة الوجود
ابن تيمية ووحدة الوجود
آداب المريد عند محيي الدين
محيي الدين ورسالة الأخلاق
الإنسان الكامل
عقيدة محيي الدين الإلهية
أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية
المدرسة الأكبرية
الشيخ الأكبر
رجل الأسرار
بعض مصادر الكتاب
بين يدي الطبعة الثانية
أفق ... ونجم
مولده ونشأته
بين ابن رشد ومحيي الدين
العلم النظري واللدني
مكانة الشيخ في الطريق
الخضر وشيوخه في الطريق
المقامات والأحوال
محيي الدين وملك المغرب
إلى الأرض المقدسة
المرأة في حياة محيي الدين
السائح الإسلامي
صلاته بالملوك
المعراج الأخير
النهج الصوفي
مكانة محيي الدين من العلم اللدني
أقسام العلوم ومراتبها
الطريق الأعظم
محيي الدين والفرق الإسلامية
بين التصوف والفلسفة
مملكة التصوف
الكون الحي
أقسام المتصوفة
أسرار الروح
محيي الدين والحب الإلهي
محيي الدين ووحدة الوجود
المتشابهات في كلام محيي الدين
المستشرقون ووحدة الوجود
ابن تيمية ووحدة الوجود
آداب المريد عند محيي الدين
محيي الدين ورسالة الأخلاق
الإنسان الكامل
عقيدة محيي الدين الإلهية
أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية
المدرسة الأكبرية
الشيخ الأكبر
رجل الأسرار
بعض مصادر الكتاب
محيي الدين بن عربي
محيي الدين بن عربي
تأليف
طه عبد الباقي سرور
بين يدي الطبعة الثانية
... اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك! ... اللهم لا أستطيع أن أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك! ... اللهم لك الحمد سرمديا خالدا، ولك يسجد هذا القلم متبتلا خاشعا؛ إذ يسرت له وحده أن ينال شرف إصدار أول كتاب بلغة الضاد، عن العبقري العالمي، والعابد العالم المثالي، شيخ التصوف الأكبر، الإمام محيي الدين بن عربي.
ولقد تقبل العالم الإسلامي الطبعة الأولى من كتابنا قبولا حسنا كريما، فنفدت نسخه سراعا، وتوالت علينا من سائر الأقطار الإسلامية الرسائل الكريمة الغالية تطالبنا في إلحاح حبيب بإعادة طبعه.
وها نحن - بتوفيق من الله - نقدم لقرائنا الطبعة الثانية، وقد أضفنا إليها دراسات للشيخ الأكبر، تناولت - فيما تناولت - عقيدته التوحيدية، ورسالته الأخلاقية، والآداب التي ينشدها للمريدين، وهي خلاصات مركزة محررة لمخطوطات من تراث الشيخ الأكبر، مجلاة بذلك القلم القوي العبقري الذي أوثر عنه، وعرف به.
والله أسأل، أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، الذي أشرقت بنوره السموات والأرضين، وأن يمن علينا بالهدى والرضا واليقين، وأن يوفقنا دائما للعمل في الأفق الأعلى؛ أفق الروحانية الإسلامية.
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون .
طه عبد الباقي سرور نعيم
28 / 12 / 1955
أفق ... ونجم
... انطلقت الخيل العربية الأصلية، من هضاب مكة وأودية المدينة في أمواج متدفقة، تحمل إلى الدنيا قوة جديدة فوارة بالبأس، رحيمة بالهدى والإيمان.
وغمرت تلك الأمواج سهول آسيا، وطوت بوادي أفريقيا؛ فلم يصدها عن الطواف بالكوكب الأرضي إلا أمواج المحيطات في الشمال والجنوب.
ووقف عقبة بن نافع في أقصى بقعة من الشمال الأفريقي المواجه لأوروبا، يرقب الأفق، ويفكر في شيء غير مرئي، ثم دفع بجواده إلى الماء هاتفا: «اللهم رب محمد، لو أعلم أن وراء هذا الماء أرضا تغزى في سبيلك لغزوتها.»
ومضت سنون، فإذا بفرسان الصحراء يستبدلون بصهوات جيادهم الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، المتحكمات في عروش الماء، وإذا بالمحيطات ميدان جديد لتلك القوة الفوارة بالبأس، الرحيمة بالهدى والإيمان.
وانطلقت سابحات الماء العربية تجوب البحار، وتقرع أبواب أوروبا؛ فيتم لها التطواف حول الأرض حتى لا تكون فتنة، وحتى يكون الدين كله لله.
وكانت الوثبة الأولى على الجزيرة الخضراء؛ مفتاح أوروبا ورأسها المفكر، وبسيادة العرب على الأندلس أضاء الإسلام قارات الدنيا الثلاث المعروفة في ذلك الحين؛ فتمت له السيادة العالمية.
وفي الأندلس دخلت الحضارة المحمدية أفقا جديدا، والتقت وامتزجت بثقافات وعادات وأمم جديدة. وإلى الأندلس - وهي أقصى مد للموجة الحربية المنتصرة - نفر الأبطال والرجال أولو البأس والعزم والطموح، وإليها - وهي أبعد المراكز الإسلامية عن مقر الخلافة الحاكمة ذات العنفوان والجاه - هرع الأحرار والعلماء ورجال الفكر.
وبذلك ظفرت الأرض الجديدة بالصفوة المختارة؛ فتهيأت لأن تكون مهدا وساحة للعصر الذهبي في الإسلام، وأعدت لمشاهدة أعظم حضارات العالم القديم.
يقول كاتب إسبانيا الأكبر «بلاسكوا أبانيز» في كتابه - ظلال الكنيسة - متحدثا عن العصر الإسلامي في إسبانيا: «... وأخذ فرسان محمد
صلى الله عليه وسلم
يتدفقون من جانب المضيق، فتستقر معهم تلك الثقافة الغنية الموطدة الأركان، نابضة بالحياة، بعيدة الشوط، ولدت منتصرة، وبث فيها النبي حمية مقدسة، واجتمع لها ما في وحي إسرائيل، وعلم بيزنطية، وتراث الهند، وذخائر فارس، ومعارف الصين.»
ثم يقول: «لقد نمت في إسبانيا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر، أجمل الحضارات وأغناها، وفي الوقت الذي كانت فيه أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية، كان سكان إسبانيا العرب يزدادون؛ فيزيدون على ثلاثين مليونا، تنسجم بينهم جميع العناصر البشرية، والعقائد الدينية، وخفق قلب الحياة الاجتماعية بأقوى نبضاته التي عرفها التاريخ؛ فلا ترى لها قرينا تقابله به غير ما نجده في الولايات المتحدة الأمريكية، من تنوع الأجناس، واتصال الحركة والنشاط؛ فعاشت في الأندلس تحت ظلال العرب طوائف من النصارى وأهل الجزيرة ويهود إسبانيا والمشرق، فكان منهم ذلك المزيج العجيب، وعاشت - بفضل ذلك التفاعل بين العناصر والعروق - جميع الآراء والعادات، وتمت الكشوف العلمية والأنظمة الفنية، وانبعثت - من تجاوب هذه القوى - مواهب الإبداع والتجديد.»
تلك شهادة كاتب أوروبي معاصر متعصب، تنطق في حرارة عميقة بعظمة تلك الحضارة الإسلامية، التي أشرقت في الأندلس، وهي حضارة لم يجد لها الكاتب مثيلا من حيث العظمة، والضخامة، والسرعة، والإنتاج، والمعارف العلمية إلا حضارة الولايات المتحدة الحديثة.
وأي حضارة تسابق تلك الحضارة الأندلسية؟ وأي أيام تضارع أيام الحكم الثاني؛ أحد ملوكها الذي أسس في قرطبة وحدها سبعا وعشرين مدرسة للتعليم المجاني؟ كما أنشأ في قصر مروان مكتبة، ضمت أكثر من ستمائة ألف مجلد، وجعلها بين الحدائق والرياض للعلماء والأدباء والشعراء، كما أصدر أمرا ملكيا لا يزال إلى يومنا عجبا من أعاجيب التقدم الإنساني، بل حلما من أحلام رجال الإصلاح الاجتماعي، فقد خصص في هذا الأمر لكل أعمى مرشد يقوده، ولكل مريض طبيب يعالجه، ولكل أمي هاد يرشده ويثقفه.
يقول المستشرق دوزي في كتابه «تاريخ المسلمين بإسبانيا»: «لقد كان كل فرد في الأندلس يعرف القراءة والكتابة، بينما كان نبلاء أوروبا لا يعرفون حتى التوقيع بأسمائهم، وكانت جامعة قرطبة منارة للعلم، لا تزاحمها منارة تماثلها في العالم، تدرس فيها العلوم الطبية والرياضية والفلكية والكيميائية دراسة ورثتها أوروبا؛ فأضاءت لها الطريق إلى هذا الملك العريض.»
ويقول الأستاذ «ح. ب. نرند» في مجموعة تراث الإسلام؛ واصفا قرطبة في القرن الرابع الهجري: «وكان الرحالة القادمون من الشمال - من أوروبا - يتسامعون بين الخشوع والرهبة بأخبار المدينة التي كان بها سبعون دار للكتب، وتسعمائة حمام للجمهور.»
ذلك هو الأفق الأندلسي، الذي حلق فيه المسلمون بأجنحتهم الجبارة؛ فنظرت إليهم الأمم بعين الخشوع والرهبة، ثم هرعت إليهم؛ لتنهل من العلم، وتقتات من الإيمان، وتتزود بالهدى.
كانت الأندلس هي المنارة التي ترسل شعاعها كالشمس تنير جنبات الأرض، وتضيف إلى أمجاد الإنسان فنونا من العلوم، وألوانا من الآداب، وفيوضا من الكشوف العلمية، والفكرية والدينية.
وتجلت الأندلس، وتحلت بأجمل حلاها في القرن الخامس الهجري، حتى ليشبهها دوزي بالممر العالمي، والجسر الذي تلاقت عنده ثقافات أوروبا القديمة بتلك الثقافة المحمدية المقدسة المنتصرة، كما تدفقت إليها معارف الشرق الإسلامي؛ فنمت وزكت حتى غدت مجمعا أعلى للفكر الإنساني العالمي.
ولقد درج التصوف مع الفكر الإسلامي منذ يومه الأول، يصعد بصعوده ويهبط بهبوطه؛ كما تدرجت المعارف الصوفية تدرجا طبيعيا، من الزهد والعزلة والذكر والتصفية القلبية، وما يلهمه صفاء القلب من فهم في كتاب الله، وإدراك لأسرار كلام رسوله، كما نشاهد في صوفية القرن الأول إلى سمات امتاز بها القرن الثاني؛ إذ انتقل التصوف إلى آفاق أرحب وأشمل، إلى معارف الروح وإلهاماتها، ومعاني المحبة وأقباسها، وحنين القلوب وأشواقها، وتعددت مدارس التصوف، وتعددت ألوانه وطرائقه ومذاهبه، تعددا ظهرت آثاره واضحة مشرقة في صوفية القرن الثالث والقرون التالية.
فمدرسة سعيد بن المسيب، وهي مدرسة التصوف الممزوج بالفقه والتوحيد، بلغت ذروتها في الأعلام الهداة: الغزالي، والرفاعي، والجيلاني.
ومدرسة إبراهيم بن أدهم، وهي مدرسة التصوف الذي سمته المحبة المشبوبة، أنجبت ذا النون المصري، أكبر المتحدثين عن النفس ومقاماتها، والبسطامي العلم الفرد في توضيح حالات الفناء، وهي أسمى مراتب المريدين وأعلى قمة المحبين؛ حيث تنكشف في ساحاتها الحقائق الإلهية المكنونة على غير أهلها، وحيث تسمو الروح في رحابها إلى مرتبة الفيض والإشراق.
ثم يأتي دور الكمال الصوفي، ممثلا في شيخ الطريقة الجنيد، ودور الإبداع الفني في المحب الفاني الحلاج، الذي شرب من كأس الحب، حتى انتشى ثم غرق؛ فكان فتنة للناس، ودور الكمال العلمي متجليا في العبقري شهاب الدين السهروردي؛ رئيس الإشراقيين، وابن سبعين الصيقلي إمام المفسرين وعمدة الشارحين.
فإذا نمت للتصوف في القرن الخامس الهجري مدرسة جامعة، مميزة بسمات وعلامات، لها عناصرها وعلومها، وأساتذتها ومريدوها، وإذا تم للتصوف نفوذ القوي الغلاب على الأرواح والقلوب في سائر أنحاء المجتمع الإسلامي، وشيد الصرح الأسنى ورفعت قواعده؛ فقد آن له أن يتحلى بالمحراب والإمام والزعيم الأكبر في علوم الفيض والإلهام، وفنون العطايا الإلهية، والمعارف اللدنية، والكاتب المصطفى الذي يهب الحياة والخلود، لكل ما تدركه خواطره، أو يمسه قلمه، أو ينفث في قلبه من هدى ونور.
وجاء محيي الدين، على عرش قدر وأعد، فكان اسمه يحمل حقيقة رسالته، وكانت سمته الغلابة السلطنة والسيادة، وكان مقامه من التصوف كلمة الإمام صفي الدين: «الجنيد يربي المريدين، ومحيي الدين يربي العارفين.» وتربية العارفين - وهم من هم - قمة في التصوف تفرد بها، فهو أولها وهو أيضا ختامها.
جاء محيي الدين في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية الأندلسية، جاء في عصر مأهول بالعلماء، عامر الأفق بنجوم السماء، فلما ألقى من فيض ما تلقى بيانه وهداه، خشعت له القلوب، ودانت له العقول، ثم طوف في رحاب العالم الإسلامي، كالغيث المبارك أينما حل هطل فأنبت وأحيا.
وللبيئة الأندلسية التي وجد فيها محيي الدين، تأثير حاسم في حياته، فبينما كان المشرق الإسلامي يموج بطوائف من الملل والنحل والمذاهب.
أمم من الخوارج والمرجئة، ومجادلين من الأشاعرة والماتردية والمعتزلة، وبينما كانت هذه الطوائف تتصارع وتتلاحى، وتفني حويتها في الصراع والتلاحي، كانت الأندلس تحت أجنحة الرحمة أمة واحدة متجانسة الفكر، موحدة المذهب، رضية الجدل والحوار.
ولهذا لم يفن محيي الدين حياته صراعا وقتالا، كما فعل الغزالي الذي سبقه بقليل في المشرق في حروبه ومجادلاته، مع الفلاسفة والفقهاء ورجال المذاهب.
ولم تلظ حياته بأوار مستعر من الخصومات العنيفة، كما نشاهد في ابن تيمية في المشرق أيضا بعده بقليل مع القرامطة والفلاسفة والصوفية وغيرهم، بل امتازت حياته بالهدوء والصفاء والتفرغ المطمئن للتعبد والتلقي.
وإذا اشتبك في جدال أو حوار - وقليلا ما يشتبك - فهو الهادي السمح، الرحب الأفق والصدر؛ فلا يرمي بالكفر، وما إلى الكفر من نعوت وألقاب، كما فعل الغزالي، ولا يقذف بالزندقة والفجور، كما صنع ابن تيمية، بل أقصى ما يرمي وأجرح ما يوجه هو أن يقول لخصمه في سماحة: «لقد أخطأ عقلك، ولم يخطئ إيمانك.» كما قال للمجسدة والمعتزلة خلال مناقشته لهم في صفات الذات؛ فالإيمان عنده في القلب، أما الآراء فمن وثبات العقول.
وثمة صفة أخرى واضحة في حياة محيي الدين، فعلومه علوم كشف وفيض، ومصادر الكشف والفيض هي الإلهام الإلهي والفتح الرباني، وهو يقول في صراحة: إنه لا يكتب عن روية وفكر؛ وإنما عن نفث في روعه، وأن تصانيفه من خزائن القرآن، وقد أعطي مفاتيح الفهم فيها والإمداد منها.
وعلوم الكشف والفيض لا يمكن أن تجادل، ولا يمكن أن تناقش؛ لأنها علوم ذوق وتذوق، وليس في الذوق جدل ولا جدال.
وإذا كان محيي الدين، قد سلم من الجدل والخصومة في حياته، فقد انطلقت العواصف في أثره جامحة هادرة، فقد ترك في الدنيا دويا، وأحدث زلزالا؛ اختصمت فيه الدنيا، وتصارعت حوله العقول. فهو القطب الإمام، والعالم الفرد الأوحد عند رجال التصوف، وهو الزنديق المتفلسف، الهاتف بالحلول ووحدة الوجود عند الماديين وبعض الفقهاء الجامدين، ولكن هؤلاء وهؤلاء - وإن تجادلوا وتصارعوا في عقيدته - لم يختصموا في علمه، ولم تجرؤ ألسنتهم على الانتقاص منه.
ولعل من آيات محيي الدين التي تفرد بها أن كتبه أمة وحدها؛ فقد برئ قلمه مما أصيبت به أقلام الكاتبين الذين تلمح في آثارهم معارف عصرهم، أو تراث عصور سابقة، فقد تغلب بمواهبه العقلية والروحية، وبإلهاماته الدينية وكشوفه القلبية على جيله وعلى الأجيال التي سبقته، بل لقد احتفظ بتفرده وتفوقه على الأجيال التي تعاقبت بعده، فعاش في التاريخ منارة لا تطاول، وصرحا شامخا ممردا ترتد عنه العيون، وتخشع لديه الأفئدة.
وما فكرت يوما في محيي الدين، إلا وترتسم في مخيلتي، قمة جبل إفرست، والصراع الذي دار حولها للوصول إليها، وتواثبت في خواطري صور هؤلاء الذين جاهدوا للوصول إلى تلك القمة الباذخة المعتصمة بجلالها ورهبتها، وكيف توالى عجز الواثبين والطامحين، وكيف فشلت الجهود متفرقة ومجتمعة في الوصول إلى أعلى قمم الدنيا، وأرهب مرتفعاتها.
وكذلك عندي محيي الدين، قمة شامخة في سموقها الرائع، شامخة بأسرارها وعلومها وإلهاماتها، قمة هي أعظم ما وصل إليه الخيال المحلق في ميادين العلم والفلسفة والدين، قمة قد أحاطها صاحبها بالصعاب والمشاق والتهاويل، حتى غدا الوصول إليها ضربا من كفاح لا ينتهي، وغدا المرتقى قاسيا مرهقا حتى لجبابرة الأجنحة.
قمة تدفع عنها الضعيف المتخاذل، بل وترد أيضا عن سرها القوي المناضل، إنها لقمة الذوق والتذوق؛ فهي في حاجة أولا إلى الذوق والتذوق.
وإذا كان الأصمعي يقول: إن الكتاب أشبه بساحات الملوك، يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والنوى، فساحة محيي الدين كالمحراب، لا تقع فيها إلا على در مكنون، أو سر مصون، أو نور موهوب؛ لأنها ساحة فوق قمة، قمة متطلعة إلى السماء وهدى السماء.
ولست أزعم لك أن هذا الكتاب، معراج يرقى بك إلى تلك القمة، أو مفتاح سحري يوصلك إلى محرابها المقدس، وأنك ستشاهد المحراب، وستحظى بعجائبه، وستظفر بأسراره، وستنعم ببدائعه؛ فذلك مطمح لا تطيقه الأقلام، ولا تدعيه الأذواق.
وإنما أرجو أن أكون قد فتحت لك نافذة، تشاهد منها ذلك الأفق العلوي، أو دفعت إلى يدك بمنظار مكبر، يجلو ويوضح، ما يمكن أن يرى من تلك القمة الشامخة.
مولده ونشأته
هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي، من ولد عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم، من قبيلة طيئ مهد النبوغ والتفوق العقلي في جاهليتها وإسلامها، يكنى أبا بكر ويلقب بمحيي الدين، ويعرف بالحاتمي وبابن عربي لدى أهل المشرق، تفريقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي، وبابن العربي لدى المغاربة. وكما يسمي هو نفسه في كتبه، ويعرف في الأندلس بابن سراقة، ويصعد به نسب خئولته إلى الأنصار.
وقد وهبه الله للدنيا في ليلة خالدة في تاريخ الإسلام، ليلة تتجدد ذكراها كلما نطق مسلم بكلمة التوحيد وهتاف الإيمان؛ إذ كان مولده في يوم الإثنين سابع عشر من رمضان عام 560ه في «مرسية» - بضم الميم وسكون الراء وكسر السين - أي: في الشهر الذي أنزل فيه القرآن وهبط وحي السماء، وفي اليوم المماثل ليوم الفتح والنصر، يوم بدر الأغر الميمون، ولد تحت ظلال تلك الذكرى؛ فكان فتحا ونصرا.
ومرسية مهبط مولده بلد إسلامي، أنشأه المسلمون في الأندلس في أيام الأمويين، وهي في شرق الأندلس، إحدى مفاتن الجزيرة الخضراء بكثرة المنازه والبساتين ودور العلم ومساجد الطاعة والعبادة.
وهو سليل أسرة عريقة في العلم والتقوى، عراقتها في الحروب والنضال، كان جده الأعلى عبد الله الحاتمي أحد قادة الحروب والفتوحات، وكان جده الأدنى أحد قضاة الأندلس وعلمائها، وكان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. ولنترك محيي الدين يحدثنا عن أبيه، فقد وصف لنا في الجزء الأول من الفتوحات أحوال الأولياء بعد مماتهم، فمن كان عبدا خالصا لربه في الأولى، كان في الثانية ملكا له جاهه وسيادته، ومن كان معرضا زاهدا في مظاهرها؛ فلا يحجبه الموت ولا ينال منه الفناء عند صعود روحه إلى خالقها، فمن صفات صاحب هذا المقام: أن من نظر في وجهه وهو ميت يقول فيه: حي. ثم يقول: «ولقد رأيت ذلك لوالدي - رحمه الله - فإنا دفناه على شك مما كان عليه في وجهه من صورة الأحياء، ومما كان عليه من سكون عروقه وانقطاع نفسه من صورة الأموات، وكان قبل أن يموت بخمسة عشر يوما أخبرني بموته، وأنه يموت يوم الأربعاء، وكذلك كان، فلما كان يوم موته، وكان مريضا شديد المرض، استوى قاعدا غير مستند، وقال: ... يا ولدي، اليوم يكون الرحيل واللقاء. فقلت له: كتب الله سلامتك في سفرك هذا، وبارك لك في لقائك. ففرح بذلك، وقال لي: جزاك الله يا ولدي عني خيرا، فكل ما كنت أسمعه منك ولا أعرفه، وربما كنت أنكر بعضه، هو ذا أنا أشهده، ثم ظهرت على جبينه لمعة بيضاء تخالف لون جسده من غير سوء، لها نور يتلألأ، فشعر بها الوالد، ثم إن تلك اللمعة انتشرت على وجهه إلى أن عمت بدنه. فقبلت يده وودعته وخرجت من عنده، وقلت له: أنا أسير إلى المسجد الجامع إلى أن يأتيني نعيك؛ فقال لي: رح ولا تترك أحدا يدخل علي، وجمع أهله وبناته، فلما جاء الظهر جاءني نعيه، فجئت إليه، فوجدته على حالة يشك الناظر فيه بين الموت والحياة، وعلى تلك الحالة دفناه، وكان له مشهد عظيم؛ فسبحان من يختص برحمته من يشاء، فصاحب هذا المقام حياته وموته سواء.»
هذا هو النبع الأبوي الزكي، الذي أنجب محيي الدين، أما نبعه من حيث خئولته، فهو سليل الأنصار الأطهار، الذين لا يسلكون فجا إلا سلكه الرسول - صلوات الله عليه - معهم، ولنترك محيي الدين أيضا يحدثنا عن خاله الصوفي صاحب الأحوال والأنفاس: «كان خالي أبو مسلم الخولاني يقوم الليل، فإذا أدركه الإعياء ضرب رجليه قائلا: أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد - صلوات الله عليه - أن يفوزوا به دوننا، والله لأزاحمنهم عليه، حتى يعلموا أنهم خلفوا من بعدهم رجالا.»
1
وهكذا درج محيي الدين بين بيت والده، ودار خاله، في جو عامر بنور التقوى ، فيه سباق حار نحو الشرفات العليا للإيمان، وفيه عزمات لرجال أقوياء، ينشدون نصرا وفوزا في محاريب الهدى والطاعة.
وانتقل والده إلى إشبيلية، إلى حاكمها السلطان محمد بن سعد، وهي عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس، وفيها شب محيي الدين ودرج، وما كان لسانه يبين، حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بالسبع في كتاب الكافي، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان مبرزا في القراءات، ملهما في المعاني والإشارات، ثم أسلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه، يذكرهم لنا الإمام شمس الدين بن مسدي في روايته عن محيي الدين؛ إذ يقول: «كان جميل الجملة والتفصيل، محصلا لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق، والتقدم الذي لا يسبق، سمع في بلاده في شبابه الباكر، من ابن زرقون، والحافظ بن الجد، وأبي الوليد الحضرمي، والشيخ أبي الحسن بن نصر ...»
ثم لا يذكر لنا التاريخ بعد ذلك شيئا عن شباب محيي الدين، ولا عن شيوخه، ومقدار ما حصل من العلوم والفنون. ولكن محيي الدين أرخ نفسه وجلا حياته، فهو يذكر لنا في الفتوحات: أنه قد أعرض عن العلم والشيوخ، وأنه قد اتجه بروحه إلى محاريب الله، ومهابط إلهامه، إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وإلى الذكر الدائم المطهر الملهم.
ثم إلى الجلوة والخلوة، يطهر خواطره، ويطهر وجدانه، ويزكي نفسه لتلهم تقواها، حتى تفجرت في قلبه ينابيع الفيض، وأشرقت في حياته شمس الهبات والعطايا اللدنية.
وتراث محيي الدين، يشهد بأنه كان في صباه، مرهف الحس والذوق، قوي العاطفة، غلاب الوجدان، رحب الآفاق في الهمة والتطلع.
ويشهد بأن روحه، كانت أعظم من أن تطيق ذلك التلقين الرتيب من شيوخه وأساتذته، وأن تلك الروح قد انطلقت تنشد حبا أكبر من تلك العواطف التي تحيط به، وتبغي أفقا أعظم وأشمل من تلك الألوان من العلوم والمعارف.
والهمة - كما يقول - هي أساس الفتح والفيض؛ فإن التجرد يعطي الطهارة والطاعة، أما الكشف والفيض فأساسهما الهمة وعزمات الرجال.
وإن كانت همة خاله أبي مسلم، قد قعدت به عن اللحوق بأصحاب محمد - صلوات الله عليه - وإن كانت عزيمته قد ضعفت أجنحتها عن التحليق والتفوق في الكشف وفنونه، والإلهام وعلومه؛ فإن لمحيي الدين لهمة، وإن له لعزما، وإنه لسباق لا يسبق، وهداف لا يخطئ، وإن لروحه وثبات تكاد تذهب بها إلى الملأ الأعلى، وإن في قلبه لشيئا يكاد يضيء، ولو لم تمسسه تلك العلوم والمعارف.
وإذن؛ فليعرض محيي الدين عن شيوخه وأضابير معارفهم، وليختصر الطريق الممل الشاق، في وثبات روحية جبارة، إلى منابع العلوم ومصادرها، إلى النور الذي تعيش فيه الفئة التي رضي الله عنها وأحبها؛ فوهبها وعلمها من لدنه علما.
واعتزل محيي الدين الدنيا عزلته الأولى، عزلة هي سر بينه وبين فاطر السموات والأرض؛ ولكنها عزلة مهدت لتكوين تلك القوة العلمية الربانية العظمى، عزلة أحدثت عجبا، وأورثت علما، خشع له أكبر جبار في عالم العقل والفلسفة، خشع لها وأكبرها أبو الوليد بن رشد، ولنترك محيي الدين يحدثنا بقلمه الساحر، عن الالتقاء بين علم الهبات الربانية، والعلم المكتسب من العقل المتفوق المثقف، يقول محيي الدين في الفتوحات ...
بين ابن رشد ومحيي الدين
«... دخلت يوما بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله علي في خلوتي، وكان يظهر التعجب مما سمع؛ فبعثني والدي إليه، في حاجة قصدا منه؛ حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي، ولا طر شاربي، فلما دخلت عليه قام من مكانه إلي؛ محبة وإعظاما، فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم؟ فزاد فرحه بي، لفهمي عنه، ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت له: لا؟ فانقبض وتغير لونه، وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح؛ فاصفر لونه، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه».
وابن رشد كان يهدف في فلسفته إلى التوفيق بين الدين والفلسفة ، وله في ذلك محاولات وجولات، وقد نشد في مقابلته لمحيي الدين أن يطمئن، وأن يأخذ اعترافا من رجل من رجال الدين والكشف، بأن القمة التي تصل إليها الفلسفة، هي بعينها غاية الدين وهدفه، وأن العقل يلتقي بالروح في خاتمة المطاف.
وأن ما ذهبت إليه الفلسفة من شرح للسنن الكونية، وتمثيل لقدرة الله - سبحانه - وآياته في خلقه، لا تتعارض مع الدين، بل تؤيده وتدعمه.
وقد قال محيي الدين في البداية: نعم، ففرح ابن رشد، ثم استدرك محيي الدين، فقال: لا، فحزن ابن رشد، وأراد توضيحا، فقال: ... هل وجدتم الأمر في الكشف والفيض هو ما أعطاه النظر؟ فقال محيي الدين: نعم ولا.
نعم؛ لأن العقل قد يهدي إلى الله، ويدرك ويلمس أسرار الكون، ولكن العقل المجرد مع وصوله إلى تلك القمة، ينحدر وينزلق ويضل في المتشابهات، فضلا عن ابتعاده عن التعبد والتطهر، وتحلله من الكمالات الخلقية والشرعية.
والعقل المجرد، ليس له قيد يعصمه، ولا حد يتفق عليه بين العقول، التي تتطاير حول المعارف مع الريح في شتى الاتجاهات والغايات؛ ولذلك قال له محيي الدين: وبين نعم ولا، تطير الأرواح.
ولم يكن هذا الاجتماع فاصلا بين الرجلين العظيمين، ولا بين المدرستين المتناظرتين؛ فسعى ابن رشد إلى لقاء آخر مع الصبي، الذي كبر بالخلوة، وتعلم في الجلوة، وتفوق وما بقل وجهه ولا طر شاربه.
يقول محيي الدين: وطلب ابن رشد من أبي بعد هذا الاجتماع أن يلتقي بنا ليعرض ما عنده علينا، لنرى هل هو يوافق أم يخالف، فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلا، وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث، ولا مطالعة ولا قراءة. وقال: «هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابا؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته.»
ولم يسفر اجتماعهما الثاني عن نتيجة ترضي ابن رشد، ولكن الرجلين أحب كل منهما الآخر وأجله وأكبره .
ولم ينكر ابن رشد على محيي الدين علومه الكشفية، ولا طريقته في المعرفة والتلقي. بل حمد الله الذي من عليه؛ فأوجده في زمان فيه مثل محيي الدين، الذي دخل الخلوة جاهلا وخرج منها إماما مرشدا.
ولقد أطمع هذا الإيمان والحب محيي الدين في هداية ابن رشد، وجذبه إلى نطاق المتصوفة الراشدين؛ فأراد أن يجتمع به مرة ثالثة، وأعد عدة اللقاء، وهيأ الجو لما ينشد ويريد، ولكن الله أراد غير ما يريد.
يقول ابن عربي: «ولكن قبل أن ألتقي به أراه الله - تعالى - لي في منظر قد ضرب بينه وبيني حجاب رقيق، فكنت أنظر إليه منه ولا يبصرني؛ فعلمت أنه غير مراد لما نحن عليه، فما اجتمعت به حتى درج في سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش، ونقل إلى قرطبة ودفن بها.»
كان حجاب رقيق، هو الذي يفصل ابن رشد عن محيي الدين. وهذا الحجاب الرقيق هو الفيصل بين الهدى والضلال، والرضا والغضب، والإعراض والاصطفاء، أو كما يقول محيي الدين: بين نعم ولا تطير الأرواح، وما أيسر ما بينهما وما أعظمه!
وتلك فترة دقيقة حاسمة في حياة محيي الدين، فهو صريح كل الصراحة في أنه دخل الخلوة صغيرا لم يطر شاربه، دخلها بدون قراءة ولا مطالعة، إلا أيسر ما تكون القراءة والمطالعة؛ فرشد وألهم، وتعلم من لدن ربه الوهاب علما أخذ يزداد مع أنفاسه، ويترقى مع تسبيحاته، حتى بلغ من علم ربه ما قدر له، وحتى تمت له الزعامة التي لا تطاول ولا تغالب في علوم الإيمان وفيوضات القلب.
ويحدثنا محيي الدين عن علمه الموهوب فيقول: «وأنا أستمد علمي من كلمات الله التي لا تنفد:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ،
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله .»
ويقول: لو أن علمه كان نتيجة بحث أو فكر لحصر في أقرب فرصة، ولكنهما موارد الحق - تبارك وتعالى - تتوالى على قلب العبد، وأرواح البررة تتنزل عليه من عالم غيبه برحمته التي من عنده، وعلمه الذي من لدنه، والحق - تعالى - وهاب على الدوام، فياض على الاستمرار، والقلب البشري قابل على الدوام للتلقي والترقي.
العلم النظري واللدني
إنها لموارد الحق - تبارك وتعالى - تتوالى على قلبه، وإنها لأرواح بررة تتنزل عليه من عالم غيبه، وإنه لقلب زكي مختار، قابل على الدوام للتلقي والترقي، وإنه لروح أعد واصطفاه ربه، لأكمل ما يصطفى العلماء من الأولياء، وإن هذا الفيض الرباني، ليتوالى عليه، ولم يطر شاربه ولا بقل وجهه، ولم يلقن من قبل علما دنيويا يزاحم به ويفاخر.
بل إنه ليرى - كما ترى جمهرة أهل التصوف - أن القلب إذا سلم من النظر الفكري شرعا وعقلا في البداية، كان قابلا للفتح الإلهي على أكمل ما يكون الفيض والفتح؛ فليس في القلب عوائق من معارف سابقة، تتصدى للواردات أو تناقضها.
يقول الإمام الغزالي: «لما أردت أن أنخرط في سلكهم، وآخذ مأخذهم، وأغترف من البحر الذي اغترفوا منه، خلوت بنفسي واعتزلت عن نظري وفكري، وشغلت نفسي بالذكر، فانقدح لي من العلم ما لم يكن عندي؛ ففرحت بذلك، وقلت: إنه حصل لي ما حصل للقوم، فتأملت فيه، فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه قبل ذلك؛ فعلمت أنه بعد ما خلص لي. فعدت إلى خلوتي واستعملت ما استعمله القوم، فوجدت مثل الذي وجدت أولا وأوضح وأسنى فسررت، فتأملت فإذا فيه قوة فقهية مما كنت عليه أولا، وما خلص لي، فعاودت ذلك مرارا والحال الحال؛ فتميزت عن سائر النظار أصحاب الأفكار بهذا المقدار، ولم ألحق بدرجة القوم في ذلك. وعلمت أن الكتابة على المحو، ليست كالكتابة على الصفاء الأول والطهارة الأولى ...»
كان محيي الدين على الصفاء الأول، وعلى الطهارة الأولى، عندما دخل خلوته، فتولاه ربه من بدايته، وفتح له خزائن مننه وعلمه، وأفاض عليه من هباته، ومد له سلما من الصفاء يعرج فيه قلبه إلى معارج الملأ الأعلى.
ولكن المتصوف المختار المصطفى، وإن لم يكن في حاجة إلى العلوم العقلية والنظرية، فهو في ضرورة لا تجادل إلى المرشد المربي، إلى الشيخ الذي يملكه ليسعده، ويصوغه ليجليه ويحليه صفاء ونورا.
مكانة الشيخ في الطريق
وللشيخ في التصوف مكانة عليا، فهو للطريق كالفنار للماء، لا يهتدي السائر إلا به، ولا يرشد إلا بنوره، إنه غير المعلم العقلي، والمربي المدرسي؛ فوظائفه فوق التعليم والتلقين؛ مراقبة القلب والخواطر والواردات. أو كما يقول محيي الدين: يعرف من مريده موارد حركاته ومصادرها، وعلوم الخواطر مذمومها ومحمودها، ويعرف الأنفاس والنظرة، ويعرف ما لهما وما يحتويان عليه من الخير الذي يرضي الله، ومن الشر الذي يسخط الله، ويعرف العلل والأدوية، ويعرف الأزمنة والألسن، والأمكنة والأغذية، وما يصلح المزاج وما يفسده، والفرق بين الكشف الحقيقي والكشف الخيالي، ويعلم التجلي الإلهي، ويعلم التربية وانتقال المريدين من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة، ويعلم متى يترك التحكم في طبيعة المريد، ويحكم في عقله، ومتى يصدق المريد خواطره، ويعلم ما للنفس من الأحكام، وما للشيطان من الأحكام، ويعلم الحجب التي تعصم الإنسان من إلقاء الشيطان في قلبه، ويعلم ما تكنه نفس المريد مما لا يشعر به المريد، ويفرق للمريد إذا فتح عليه في باطنه بين الفتح الروحاني وبين الفتح الإلهي، ويعلم بالشم أهل الطريق الذين يصلحون له من الذين لا يصلحون، ويعلم التحلية التي يحلي بها نفوس المريدين الذين هم عرائس الحق.
فهم أدباء الله العالمون بآداب الحضرة وما تستحقه من الحرمة، والجامع لمقامهم. إن الشيخ عبارة عمن جمع جميع ما يحتاج إليه المريد السالك في حال تربيته وكشفه، إلى أن ينتهي إلى الأهلية للشيخوخة، وجميع ما يحتاج إليه المريد إذا مرض خاطره وقلبه بشبهة وقعت له لا يعرف صحتها من سقمها، وحرمة الحق في حرمة الشيخ، وعقوقه في عقوقه.
ذلك هو جماع ما يمكن أن يقال عن مكانة الشيوخ في طريق الله؛ فهم أساتذة تلك الجامعة الربانية وأطباؤها، ولا بد للمريد السائر على الصراط الأعظم من أن يلجأ إليهم حتى تعصمه حكمتهم من الزلل، فطريق التصوف ليس طريقا سلطانيا هينا سهلا، إنه لطريق المزالق والشباك، والمحن والمهالك، والصبر والمجاهدة المرة، التي لا يقدر عليها إلا أهل الفتوة والقوة، والمناعة الروحية، والعظمة القلبية والعقلية، وفوق هذا وذاك: الاجتباء، والاصطفاء، والمحبة، والرضاء.
ولهذا خرج محيي الدين من خلوته، فقد نهل من العلم المصفى ما أذهل به ابن رشد، وما حير به أئمة عصره، ولكن التربية غير العلم، والطبيب غير المعلم، خرج ينشد الدليل والقائد، وحامل المصباح.
الخضر وشيوخه في الطريق
وكان أول شيوخه في الطريق الإمام أبو العباس العريني، أحد فحول أصحاب الأحوال والأنفاس، وطبق عليه شيخه شرعة الطريق، غير عابئ ولا ملتفت إلى علوم محيي الدين ومعارفه؛ ولهذا كان يجمح محيي الدين أحيانا، بل ويتمرد على ما اصطلح عليه من تسليم المريد المطلق لشيخه وهاديه لوثوقه من علمه وتمكنه من معارفه.
ولكن عناية الله - وهي سر هؤلاء الرجال، وهي الدعامة الأولى التي ترتكز عليها حياتهم، وتتلون بها شخصياتهم - قيضت له إمام شيوخ الطريق كافة الولي الخفي، الذي شهد له القرآن بأنه أوتي من لدن ربه علما لم يطقه موسى النبي، قيضت له الخضر؛ فأرشده وكفكف من غرب نفسه ورده إلى شيخه. يقول محيي الدين: «وذلك أن شيخنا أبا العباس العريني جرت بيني وبينه مسألة في حق شخص، كان قد بشر بظهوره رسول الله - صلوات الله عليه - فقال لي: هو فلان ابن فلان. وسمى لي شخصا أعرفه باسمه وما رأيته، فتوقفت فيه ولم آخذ بالقبول؛ لكوني على بصيرة في أمره؛ فتأذى الشيخ في باطنه، ولم أشعر بذلك فإني كنت في بداية أمري، فانصرفت عنه إلى منزلي، ولما كنت في الطريق بسوق الحنة بإشبيلية لقيني شخص لا أعرفه، فسلم علي ابتداء سلام محب مشفق، وقال لي: يا محمد، سلم إلى الشيخ مقاله فيما ذكر لك عن فلان، وسمى لي الشخص الذي ذكره أبو العباس؛ فقلت له: نعم. وعلمت ما أراد، ورجعت من حيني إلى شيخي؛ لأعرفه بما جرى، فعندما دخلت عليه كلمني قبل أن أكلمه. قال لي: يا أبا عبد الله، أحتاج معك إذا ذكرت لك مسألة يقف خاطرك عن قبولها إلى أن الخضر يتعرض إليك، ويقول: سلم لفلان فيما ذكره لك، ومن أين يتفق لك هذا في كل مسألة تسمعها مني فتتوقف؟ قلت: أهو الخضر؟ قال: نعم. قلت: إن باب التوبة مفتوح. فقال: وقبول التوبة واقع. فلما كان بعد مدة رأيت شيخي قد رجع إلى قولي في تلك المسألة، وقال لي: إني كنت على غلط في تلك المسألة؛ فقلت له: يا سيدي، علمت الساعة أن الخضر ما أوصاني إلا بالتسليم، وما عرفني بأنك مصيب في تلك الحالة؛ ولكن التسليم واجب.»
والتقى محيي الدين بالخضر مرة أخرى؛ حينما كان مع شيخه الثاني الإمام جراح بن خميس، ويحدثنا محيي الدين عن هذا اللقاء فيقول: «ثم اتفق لي مرة أخرى أني كنت في مركب في البحر، فأخذني وجع في بطني، وأهل المركب قد ناموا، فقمت إلى جانب السفينة، وتطلعت إلى البحر، فرأيت شخصا على بعد في ضوء القمر، وكانت ليلة البدر، وهو يأتي على وجه الماء حتى وصل إلي ووقف معي، ثم تكلم معي بكلام كان عنده، ولقنني أشياء وأشياء، ثم سلم وانصرف يطلب المغارة مائلا نحو تل على شاطئ، بيننا وبينه مسافة تزيد على ميلين، فقطع تلك المسافة في خطوتين أو ثلاث، فسمعت صوته وهو على ظهر المغارة يسبح الله، وربما مشى إلى شيخنا جراح بن خميس الكتاني، وكان من سادات القوم، وكنت جئت من عنده بالأمس من ليلتي تلك، فلما جئت المدينة لقيت رجلا صالحا، فقال لي: كيف كانت ليلتك البارحة في المركب مع الخضر؟ ما قال لك وما قلت له؟ فعلمت أنه الخضر.»
وكان شيخه الثالث، أبو محمد بن عبد الله، ذروة مرموقة في علوم الكشف، ويحدثنا عنه فيقول: «دخلت على شيخنا أبي محمد بن عبد الله بغرناطة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وهو من أكبر من لقيته في هذا الطريق، ولم أر في طريقته مثله في الاجتهاد، وكان ممن أوتوا فهما في القرآن إرثا محمديا، فقال لي: الرجال أربعة:
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم رجال الظاهر.
ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهم رجال الباطن، جلساء الحق - تعالى - ولهم المشورة.
ورجال الأعراف، وهم رجال الحد، قال الله - تعالى:
وعلى الأعراف رجال ، وهم أهل الشم والتميز والسراح عن الأوصاف، فلا صفة لهم، كان منهم أبو اليزيد البسطامي.
ورجال إذا دعاهم الحق يأتونه رجالا لسرعة الإجابة لا يركبون. قال - تعالى:
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ، وهم رجال المطلع.
فرجال الظاهر لهم التصرف في عالم الملك والشهادة، وأما رجال الباطن؛ فهم الذين لهم التصرف في عالم الغيب والملكوت؛ فيستنزلون الأرواح العلوية بهممهم فيما يريدونه. أعني أرواح الكواكب لا أرواح الملائكة، فيفتح لهؤلاء الرجال في باطن الكتب المنزلة والصحف المطهرة وكلام العالم كله، ونظم الحروف والأسماء من جهة معانيها، ما لا يمكن لغيرهم؛ اختصاصا إلهيا.
وأما رجال الحد: فهم الذين لهم التصرف في عالم الأرواح النارية، وهو عالم البرزخ والجبروت، وهم رجال الأعراف، والأعراف سور حاجز بين الجنة والنار، برزخ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب؛ فهو حد بين دار السعداء ودار الأشقياء، وهؤلاء الرجال أسعد الناس بمعرفة هذا السور، ولهم في كل حضرة دخول واستشراف.
وأما رجال المطلع؛ فهم الذين لهم التصرف في الأسماء الإلهية؛ فيستنزلون بها منها ما شاء الله، وهذا ليس لغيرهم، ويستنزلون بها كل ما هو تحت تصرف الرجال الثلاثة، وهم أعظم الرجال، وهم «الملامتية». وكان محيي الدين منهم.»
وكان شيخه الرابع الفقيه العابد يوسف الكومي، يحدثنا عنه محيي الدين فيقول: «سألني شيخي يوسف الكومي سنة ست وثمانين وخمسمائة عن مسألة من مشكلات التصوف فقال:
إذا اجتمع عارفان في حضرة شهودية عند الله - تعالى - ما حكمها؟
قلت: يا سيدي، هذه مسألة تفرض ولا تقع؛ لأن الحضرة لا تسع اثنين، ولا تشهدها عين زائدة، فإن افترضناها مثالا، فإذا اجتمعا فلا يخلو كل واحد منهما أن يجمعهما مقام واحد أو لا يجمعهما، ثم حكم التجلي من حيث الظهور واحد، ومن حيث المتجلى له مختلف؛ فالتذوق متباين لاختلافهما في أعيانهما، ولا يجتمع شهود وخطاب وتجل ورؤية غير .»
وتأذن ربك لمحيي الدين بالانتقال إلى مرتبة الشيخ والإمام، وآن له أن يشرق في أفق جديد رحب، وأن يغادر ركب المريدين إلى طلائع المرشدين.
يقول محيي الدين: «ولقد أنعم الله علي ببشارة عظمى بشرني بها، وكنت لا أعرفها من حالي وكانت حالي، فأوقفني عليها الإمام خليفة القطب، فقد نهاني عند التقائي به عن الانتماء إلى من لقيت من الشيوخ. وقال لي: لا تنتم إلا إلى الله؛ فليس لأحد ممن لقيته عليك يد مما أنت فيه، بل الله تولاك برعايته وعنايته، فاذكر فضل من لاقيت إن شئت، ولا تنتسب إلا إلى الله.»
وبذلك دخل في نطاق الذين أدبهم ربهم واجتباهم، وهم قلة في الطريق لا يتجاوزون الآحاد، بل وضع قدمه على أول الطريق إلى القمة العلمية الربانية، وهي شرعة هو صاحبها وربانها وإمامها الأوحد.
وكما اصطفاه الله في مطلع حياته مع شيوخه؛ فأرسل الخضر إليه مرشدا ومربيا، كذلك حفه برحمته في مطلع إفاضات الأسرار اللدنية عليه، فقد باح أول أمره بسر من أسرار المحب، وهي إباحة قلما نجا من عواقبها مراد أو مريد، يحدثنا عنها فيقول: «ولقد منحني الله سرا من أسراره بمدينة فاس سنة أربع وتسعين وخمسمائة، فأذعته فإني ما علمت أنه من الأسرار التي لا تذاع؛ فعوتبت فيه من المحبوب، فلم يكن لي جواب إلا السكوت. إلا أني قلت: تول أنت أمر ذلك فيمن أودعته إياه، إن كانت لك غيرة عليه؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وكنت قد أودعته نحوا من ثمانية عشر رجلا، فقال لي: أنا أتولى ذلك، ثم أخبرني أنه سله من صدورهم وسلبهم إياه، فالحمد لله؛ حيث لم يعاقبني بالوحشة والحرمان، كما عوقب غيري.»
المقامات والأحوال
لم يعاقب محيي الدين؛ لأن العناية الربانية تعده في رحمتها لرسالة ستتكشف عنها الأيام وتأتي بها الأنباء.
ورجال القلوب والأنفاس والعلماء الربانيون كمحيي الدين، الحديث عنهم حديث قلب وروح وإيمان، والعوامل التي تكونهم هي: الأنوار، والإشراقات، والتجليات الربانية، والتقلب في أسرار الأحوال، ومنح المقامات، وما تفيض به على أربابها من كشف وعلوم.
ولقد خاض محيي الدين في الطريق إلى الله، بحار تلك الأحوال، وارتقى قمم تلك المقامات، ونعم بعطاياها، وذاق ثمارها ورياها، وتحدث عنها، وكشف منها ما أمر بكشفه، وأكن ما أمر بحفظه، وما كشف منها محيي الدين عطية لم تمنح لسواه، هي تراث من العلوم يسع علماء الدنيا قرونا وأجيالا يتدارسونها، وينتفعون وينفعون بها.
والمقامات الإلهية بكنوز علومها أحصاها محيي الدين؛ فبلغت ستين ألفا من المقامات والأحوال الربانية، ويتحدث عن نفسه فيقول: «قد دخلنا في كل ما ذكرناه في هذه الإمدادات الإلهية ذوقا مع عامة أهل الله، وزدنا عليهم باسم إلهي - وهو الآخر - أخذنا منه الرياسة وروح الله الذي يناله المقربون من قوله - تعالى:
فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنت نعيم ، ونلت هذا المقام في دخول هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة.»
وتلك السنة التي ذكرها محيي الدين تدل على أنه بلغ تلك المكانة، ولم يتجاوز العشرين من عمره، وفي تلك السن المبكرة، أخذ يجتاز تلك المقامات سراعا نحو العلا. ولنجل معه جولة في تلك المقامات التي تنقل في كواكبها، ولنستمع إليه وهو يحدثنا عن مقام النور:
مقام النور
هذا مقام نلته سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، بمدينة فاس في صلاة العصر، وأنا أصلي بجماعة المسجد بجانب عين الجبل؛ فرأيته نورا صافيا غلابا، يكاد يكون من خلفي أكشف من الذي بين يدي؛ غير أني لما رأيته زال عني حكم الخلف، وما رأيت لي ظهرا، ولم أفرق في تلك الرؤيا بين جهاتي، بل كنت مثل الكرة لا أعقل لنفسي جهة إلا بالفرض.
مقام الوجد والوله
وهو من أخطر مقامات التصوف، وهو ذهول وذهاب عن كل ما سوى الله بحكم المحبة والإشراق، وكم من إمام غلب عليه هذا المقام؛ فذهب معه ولم يعد أبدا، ولكن العناية شملته فحفظ كعهده، يقول محيي الدين: «ولقد ذقت هذا المقام، ومر علي وقت أؤدي فيه الصلوات الخمس إماما بالجماعة على ما قيل لي، بإتمام الركوع والسجود، وجميع أحوال الصلاة من أفعال وأقوال، وأنا في مثل هذا كله لا علم لي بالجماعة، ولا بالمحل ولا بالحال، ولا بشيء من عالم الحس؛ لشهود غلب علي غبت فيه عني وعن غيري، فأخبرت أني كنت إذا دخل وقت الصلاة، أقيم الصلاة وأصلي بالناس؛ فكان حالي كالحركات الواقعة من النائم ولا علم له بذلك، فعلمت أن الله حفظ علي وقتي، ولم يجر على لساني ذنبا كما فعل بالشبلي في ولهه. فقد كان الشبلي يرد في أوقات الصلاة على ما ورد عنه، فلا أدري هل كان بعقل رده أو كان مثل ما كنت فيه؛ فإن الراوي ما فصل، فلما قيل للجنيد عنه، قال: الحمد لله الذي لم يجر على لسانه ذنبا، إلا أني كنت في أوقات في حال غيبتي أشاهد ذاتي في النور الأعلى، والتجلي الأعظم، بالعرش العظيم يصلي بها وأنا عري عن الحركة، بمعزل عن نفسي، وأشاهدها بين يديه راكعة وساجدة، وأنا أعلم أني ذلك الراكع والساجد، كرؤية النائم واليد في ناصيتي، وكنت أتعجب من ذلك، وأعلم أن ذلك ليس غيري ولا هو أنا، ومن هناك عرفت المكلف والتكليف.»
مقام الفتح في العبارة
محيي الدين أعظم من حمل قلما في دنيا التصوف، إبانة وفصاحة وفيضا وكشفا، وهو يرد كل تلك الصفات وهذه الخصائص المتفردة إلى هذا المقام، الذي يحدثنا عنه فيقول: «الفتح في العبارة لا يكون إلا للمحمدي الكامل، وأقوى مقام صاحب هذا الفتح الصدق في جميع أقواله وحركاته وسكونه، إلى أن يبلغ به الصدق أن يعرف صاحبه وجليسه ما في ظاهره وباطنه من حركة ظاهرة أو باطنة؛ بحيث لا يمكن لصاحب هذا الفتح أن يصور كلاما في نفسه، ويرتبه في فكره ثم ينطق به بعد ذلك، بل زمان تصوره لذلك اللفظ الذي يعبر به عما في نفسه زمان قيام ذلك المعنى في نفسه وصورته، فيفتح الله له في العبارة؛ فيعرب بقلمه أو بلفظه عما تنفسه بنفسه، ومن علامات هذا الفتح: استصحاب الخشوع، وتوالي الاقشعرار عليه في جسده؛ بحيث أن يحس أن أجزائه قد تفرقت، وهذا فتح ما لقيت في عمري فيمن لقيته من رجال الله على كثرتهم أثرا منه في أحد، وقد يكون في الزمان رجال لهم هذا الفتح ولم ألقهم، غير أني منهم بلا شك عندي ولا ريب؛ فلله الحمد على ذلك ...»
وهنا آية من آيات محيي الدين، فهو يرد فصاحة اللفظ وجمال التعبير وروعة الفكرة عنده، إلى الصدق في التعبير عن الأحاسيس؛ بحيث لا يزوق كلاما ولا ينمق لفظا، بل لفظه هو تنفسه، وتصوره هو قوله.
مقام القيومية
ولظفره بهذا المقام قصة توضح الهدف والغاية، وهي من مواقف العقول، ومن آيات الفيض والوهب. قال: «لقيت أبا عبد الله بن جنيد من شيوخ الطائفة، وكان معتزلي المذهب، يقول بخلق أفعال العبد، فشرحت له الأمر حتى رجع إلى قولنا، وكان قد أتى إلى زيارتنا، فلما رجع إلى بلده مشيت إلى زيارته في بلده، ورددته عن مذهبه، وكذلك جميع أصحابه فشكرا لله.»
ثم يقول: «إنه كان متحيرا في هذه المسألة المعقدة، لا يدري اليقين فيها، وما فتح له فيها برأي قاطع على الوجه الذي لا شك فيه.
حتى كان ذات ليلة، وهي ليلة السبت السادس من رجب سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، فإنه لم يتخلص لي إضافة خلق الأعمال لأحد الجانبين، ويعسر عندي الفصل بين الكسب الذي يقول به قوم، وبين الخلق الذي يقول به قوم؛ فأوقفني الحق بكشف بصري على خلقه المخلوق الأول، الذي لم يتقدمه مخلوق؛ إذ لم يكن إلا الله. وقال لي: هل هنا أمر يوجب التلبيس والحيرة؟ قلت: لا. قال: هكذا جميع ما تراه من المحدثات، ما لأحد فيه أثر ولا شيء من الخلق؛ فأنا أخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، فتكون عن أمري، خلقت النفخ في عيسى، وخلقت التكوين في الطائر.
وسألته - سبحانه - سؤالا، فقال: إذا طالعتك بأمر فالزم الأدب، واسمع وأنصت. قلت: ذلك لك، اخلق السمع حتى أسمع، واخلق الإنصات حتى أنصت، وما يخاطبك الآن سوى ما خلقت. فقال لي: ما أخلق إلا ما علمت وما علمت إلا ما هو المعلوم عليه، فلله الحجة البالغة ، وقد أعلمتك بهذا فيما سلف، فالزم مشاهدة فليس سواه، يرجع خاطرك ولا تأمن حتى ينقطع التكليف، ولا ينقطع حتى تجوز على الصراط.»
وهذا هو مقام القيومية، فكل شيء يقوم بالله، ومن الله، وله - سبحانه - خلق العبد وأفعاله، يخلق الأشياء عند الأسباب لا بالأسباب، تعالى الله الواحد الوهاب.
مقام حلاوة الفتح
وحلاوة الفتح مقام حظي به محيي الدين ونعم، وهو لذة ربانية وحلاوة إلهية، يهبها الله لمن يصطفي ويختار من عباده، يقول محيي الدين: «ومن أصحاب هذا الفتح من تلازمه هذه الحلاوة ساعة أو يوما أو أكثر، كل حسب ما يوهب؛ فليس لبقائها زمن، فإنه اختلف علينا بقاؤها فوقنا نزلت علينا في قضية من قضايا الذوق، فدامت ساعة ثم ارتفعت، ونزلت في واقعة أخرى فدامت أياما.
وهذه الحلاوة واللذة لا يمكن أن تشبهها لذة من اللذات المحسوسة؛ لأنها معنوية ربانية، وأثرها في الحس أعظم أثر تنعم به النفس.
وأعظم مذاق لها تنعمت فيه في هذا المقام لما تلي علي:
ن والقلم وما يسطرون ؛ فلم أجد لذة من اللذائذ التي نعمت بها أعظم منها، فلما تلي:
وإنك لعلى خلق عظيم
ذهبت إلى حال من النعيم أعجز عن وصفه؛ فهي أعظم بشارة وردت علي، فالمؤمن فرح بما يوهب لرسوله، والمؤمن الكامل له أمل في قطرات من تلك الهبات.
فإذا عطف الحق على عبده بهذه الحلاوة فجذبه إليه بها، منحه علما لم يكن عنده، فإذا لم يكن علما فليس بجذب، ولا تلك حلاوة فتح.»
والحلاوة التي يقصدها محيي الدين، هي اللذة التي يعبر عنها إبراهيم بن أدهم بقوله: «نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف.» وإبراهيم ذاق اللذتين: لذة الملك، وحلاوة الفيض. وهي لذة يقول عنها بعض الربانيين: إنها خلاصة نعيم الجنة المصفى يقطر في قلب المؤمن المختار.
وتلك اللذة الربانية في الدنيا يصحبها الكشف والعلم، فإذا لم يصاحبها علم ولا كشف؛ فهي ليست بحلاوة الفتح؛ وإنما هي لذة خداعة من لذائذ الحس.
مقام الفناء
وهو مقام المقامات، وهبة الهبات، ودرجة المحبين الوالهين الذاهلين عن وجودهم بذهاب حسهم إلى باريهم، وحال الفناء: هو أن تفنى بالله عن خلقه؛ فلا ترى شيئا مع الله، بل الوجود هو رب الوجود، وواهب الوجود وخالقه، أو كما يقول أبو بكر - رضوان الله عليه: «ما رأيت شيئا إلا رأيت الله سبحانه قبله.»
وهو حال دقت أسراره حتى التبست ظواهره على الفقهاء، فرموا فيه المتصوفة بالعظائم، والتبست خواطره وفتوحاته على المتكلمين والمتفلسفين؛ فرموا رجال الله فيه بالحلول ووحدة الوجود؛ حيث تنادى المتصوفة بأنهم لا يرون في الوجود إلا الله، وتجلياته في مخلوقاته، وهو بحث ليس موضعه هنا، فله مكان آخر في هذا الكتاب.
وكان هذا المقام لمحيي الدين، وهو في فاس في المرة الأولى، يحدثنا قائلا: «أخبرني الأستاذ النحوي عبد العزيز بن زيدان بمدينة فاس، وكان ينكر حال الفناء، وكان يختلف إلينا، وكانت فيه إنابة، فلما كان ذات يوم، دخل علي وهو فرح مسرور قائلا: الفناء الذي تذكره ويذكره المتصوفة، صحيح عندي ذوقا، فقد شاهدته اليوم. قلت: كيف؟ قال: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد دخل اليوم من الأندلس إلى هذه المدينة؟ قلت: بلى. قال: اعلم أني خرجت أتفرج عليه مع أهل المدينة، فأقبلت العساكر شيئا فشيئا في منظر جميل أخاذ، فلما وصل أمير المؤمنين في تلك الأبهة والعظمة، ونظرت إليه بين رهبته وجلاله، ذهلت حتى فنيت عن نفسي وعن العساكر وعن سائر المشهد، حتى لم أر البنود ولم أسمع الكاسات.
ودام هذا الحال معي حتى انتهى موكب أمير المؤمنين؛ فأحسست بنفسي، وشعرت بما فنيت عنه من ضغط الناس وألم الزحام وغبار الجماهير.
فتحققت أن الفناء حق، فإذا كان هذا يحدث من مشهد عبد، فكيف بمشهد الرب، ذلك هو الحق لمن ألقى السمع.»
وأقل مراتب الفناء - كما يقول محيي الدين - تمثله لنا حالة الإنسان إذا استغرق في مسألة من مسائل العلم، أو أمر ما من أمور الدنيا، فتحدثه ولا يسمعك، وتكون بين يديه ولا يراك، وسبب ذلك: أن القلب البشري الذي يسع كل شيء، لا يتسع لخاطرين في وقت واحد.
القلب لا يتسع لخاطرين في وقت واحد، ولا لمشهدين: فإما مشهد الحق، وإما مشهد الخلق، أو كما يقول الجنيد: من شهد الحق غاب عنه الخلق.
وتلك آية ما بين أصحاب هذا المقام من المتصوفة، وبين المنكرين عليهم الصائحين بهم لكل مشهد وخاطر.
مقام العبودية أو الصديقية
العبودية الصادقة أن ترى الله فاعلا لكل شيء، وأن تتصف بصفات العبودية الكاملة، وأن لا تغفل عن مشاهدة عبوديتك، وأن تكون أعمالك ما ظهر منها وما بطن، وخواطرك ما عرف وما مات في أغوار النفس مقيدة بهذا القيد، محددة بتلك الحدود.
وصاحب هذا المقام يكسوه الحق حلل الجمال والكمال والهيبة؛ فينسب إليه من يشاهده تلك الصفات لظهور آثارها عليه، ولكن صاحب هذا المقام لا تنخدع نفسه؛ لأنه يعلم أن ذلك لله ومن الله إنه لعبد، تلك حقيقة نفسه وحقيقة حسه، مهما عرف الناس أو لمسوا من حقائقه ومظاهره.
يقول محيي الدين: «وإذا عرف التلميذ من الشيخ أنه بهذه المثابة؛ فقد فتح الله على ذلك التلميذ بما فيه سعادته، فإنه يتجرد إلى جانب الحق بتجرد الشيخ، فإنه عرف منه، واتكل على الله لا عليه، وبقي ناظرا في الشيخ ما يجري الله عليه من الحال في حق ذلك التلميذ من نطق بأمر يأمره به، أو ينهاه، أو بعلم يفيده؛ فيأخذ التلميذ من الله على لسان هذا الشيخ، ويعلم التلميذ في نفسه من الشيخ ما يعلمه الشيخ من نفسه أنه محل جريان أحكام الربوبية، حتى لو فقد الشيخ لم يقم غير ذلك التلميذ ذلك المقام؛ لعلمه بحال شيخه، كأبي بكر الصديق مع رسول الله - صلوات الله عليه - حين مات، فما بقي أحد من الصحابة إلا اضطرب، وقال ما لا يمكن أن يسمع، وشهد على نفسه في ذلك اليوم بقصوره، وعدم معرفة رسوله الذي اتبعه، إلا أبو بكر؛ فإنه ما تغير عليه الحال لعلمه بما تم، فصعد إلى المنبر قارئا:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، وعرف الناس يومئذ فضل الصديق؛ فاستحق الإمامة .»
ذلك هو المثال الذي ساقه محيي الدين لتوضيح مقام العبودية؛ فإن الصديق لكمال عبوديته كان يسمع من الرسول، ويتوكل على الله، فتجرد إلى جانب الحق بتجرد إمامه الأعظم - صلوات الله عليه - فكان يأخذ من الله على لسان نبيه، فلما انتقل خير عباد الله إلى جوار ربه بقي أبو بكر ناظرا إلى الله، فلم يشغله الهول الأعظم عن كمال عبوديته.
ثم يقول محيي الدين: «ونرجو إن شاء الله أن يكون مقامنا هذا، ولا يجعلها دعوى غير صادقة؛ فإني ذقت هذا المقام ذوقا لا مزاج فيه، أعرفه من نفسي، وما سمعته عن أحد ممن تقدمني غير أبي بكر.»
مقام القربة
والمشهور عن محيي الدين في معراج المقامات أن أقصى مراتبه في التحليق إلى الهدى والإيمان هو مقام الصديقية، ولكنه بعد أن ظفر به، يحدثنا عن مقام آخر هو مقام القربة، وهو مقام الخضر وهو فوق الصديقية ودون النبوة.
وهذا المقام، هو أسمى ما يتطلع إليه أحباب الله، يحدثنا محيي الدين عنه فيقول: «هذا المقام دخلته في شهر محرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وأنا مسافر بمنزل إنجيل ببلاد المغرب، فتهت في ذلك المنزل فرحا، ولم أجد فيه أحدا؛ فاستوحشت من الوحدة، وتذكرت دخول أبي يزيد بالذلة والافتقار، ولما دخلت هذا المقام وانفردت به علمت أن حالي فيه لو اطلع عليه أحد لأنكرني؛ فسحت فيه وتنقلت في منازله ومخادعه، وأنا لا أدري ما اسمه مع تحققي به، وما اختص الله به من أتاه إياه، ورأيت أوامر الحق - سبحانه - تترى علي، وسفراه تتنزل إلي، تبغي مؤانستي وتطلب مجالستي؛ فرحلت وأنا على تلك الحال من الاستيحاش بالانفراد، والأنس إنما يقع بالجنس، فلقيت رجلا من الرجال بمنزل يسمى أنحال، فصليت العصر في جامعه، فجاء الأمير أبو يحيى بن واجين، وكان صديقي وفرح بي، وسألني أن أنزل عنده، فأبيت ونزلت عند كاتبه، وكان بيني وبينه مؤانسة، فشكرت الله على ما أنا فيه من انفرادي بمقام أنا مسرور به، فبينما هو يؤانسني؛ إذ لاح ظل شخص، فنهضت من فراشي إليه عسى أجد عنده فرجا، فعانقني فتأملته فإذا هو عبد الرحمن السلمي قد تجسدت لي روحه، بعثه الله لي رحمة، فقلت له: أراك في هذا المقام، فقال: فيه قبضت وعليه مت، فأنا فيه لا أبرح. فذكرت له وحشتي فيه وعدم الأنس، فقال: الغريب مستوحش، فصاحب هذا المقام ليست الدنيا مقامه، وبعد أن سبقت لك العناية الإلهية بالحصول في هذا المقام فاحمد الله، ومن يا أخي يحصل له هذا لا يرضى؟ ألا ترضى أن يكون الخضر صاحبك في هذا المقام، وقد أنكر موسى عليه حاله، وما قدر على صحبته؟
فقلت: يا أبا عبد الرحمن، لا أعرف لهذا المقام اسما؛ فقال لي: هذا يسمى مقام «القربة» فتحقق به فتحققت به؛ فإذا به مقام عظيم، لعلماء الرسوم من أهل الاجتهاد فيه قدم راسخة، لكنهم لا يعرفون أنهم فيه، ورأيت الإمداد الإلهي يسري إليهم من هذا المقام؛ ولهذا ينكر بعضهم بعضا لأنهم ما حصل لهم ذوقا، ولا يعلمون ممن يستمدون مشاهدة ومكاشفة؛ فكل واحد منهم على حق، كما أن لكل نبي تقدم هذا الزمان المحمدي شرعة ومنهاج، والإيمان واحد.
فالمجتهدون من علماء الشريعة ورثة الرسل في التشريع، وأدلتهم تقوم مقام الوحي للأنبياء، واختلاف الأحكام كاختلاف الأحكام، إلا أنهم ليسوا مثل الرسل لعدم الكشف؛ لأن الرسل يشد بعضهم بعضا، وكذلك أهل الكشف من علماء الاجتهاد، وأما غير أهل الكشف منهم فيخطئ بعضهم بعضا.
ومن أسرار هذا المقام معرفة التقديم والتأخير، وأسرار الترتيب في كلام الله، ولو قال الخضر لموسى من أول ما صحبه: ما أفعل شيئا مما تراني أفعله عن أمري؛ ما أنكره عليه ولا عارضه، وقد أنطقه الله بقوله:
ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمر ، والصبر لا يكون إلا على ما يشق، فلو قدم الصبر على المشيئة كما يفعل المحمدي، لصبر ولم يعترض؛ فإن الله قدمه في الأعلام تعليما لمحمد
صلى الله عليه وسلم ، فمن أراد أن يحصل على علم الله في خلقه، فليقف عند ترتيب حكمته في الأشياء؛ فيقدم ما قدم الله، ويؤخر ما أخر الله، فإن من أسمائه المقدم والمؤخر، فإذا أخرت ماقدم الله، أو قدمت ما أخره الله، فهو نزاع خفي، يورث حرمانا. قال - تعالى:
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله . فأخر الاستثناء وقدمه موسى، فلم يصبر. فلو أخره لصبر.
وقد رويت في هذا المعنى حكاية عجيبة عن يهودي، أخبرني بها محمد بن موسى، قال: كان رجل بالقيروان أراد الحج، فتردد خاطره في سفره بين البر والبحر، فقال: إذا كان صبيحة غد أول رجل ألقاه أشاوره؛ فحيث يرجح لي أحكم به، فأول من لقي يهودي فتألم، ثم عزم وقال: والله، لأسألنه، فقال: يا يهودي، أشاورك في سفري هذا، هل أمشي في البر أو في البحر؟ فقال له اليهودي: يا سبحان الله! وفي مثل هذا يسأل مثلك، ألم تر أن الله - سبحانه - يقول لكم في كتابه:
هو الذي يسيركم في البر والبحر
فقدم البر على البحر، فلولا أن لله فيه سرا ما قدمه، وهو أولى بكم، إلا إذا لم يجد المسافر سبيلا إلى البر. قال: فعجبت من كلامه وسافرت في البر فلقيت خيرا كثيرا.»
وقد أنكر الإمام الغزالي هذا المقام بصفة عامة، وقال: «ليس بين الصديقية والنبوة مقام، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة، والنبوة باب مغلق.»
ومحيي الدين لم يقل أبدا، بأن الولي يرقى مرقى النبوة؛ فلا نبوة ولا رسالة بعد أن ختما بأشرف خلق الله، بل يقول في رده على الغزالي: هذا فضل الله يهبه لمن يشاء، وليس على أفضال الله قيد، ولا لبشر أن يتحكم في عطاياه، ومن ذاق عرف، وليس لمن لم يذق حكم على من ذاق.
ومحيي الدين يقول أيضا: إن هذا المقام قد يعطي علما لا ذوقا لعلماء الرسوم، أي: علماء الفكر والاجتهاد والتبحر في المعارف، وهم يختلفون في علومهم؛ لعدم تذوقهم ولاعتمادهم على الأدلة التي تصيب وتخطئ، بخلاف الذوق عند أهل الكشف والفيض.
وهو هنا كعادته - خلافا للمتصوفة - يعلي من شأن علوم الفكر والعقل والاجتهاد، حتى ليقول بصوابهم جميعا على اختلافهم وتلاحيهم؛ وهذا ما لم يقولوه هم أنفسهم، ما دام الاختلاف والتلاحي في الفروع لا في الأصول.
وتلك سماحة في فهم الدين، وهذا إجلال للعقول، يدل على رحابة أفق وسعة صدر إمام المتصوفة، المتصوفة الذين هوجموا أمر الهجوم وأعنفه من رجال الفقه والاجتهاد.
وبهذا المقام أكمل لمحيي الدين ما قدر له من عطايا ربه، وهو مقام - لو تعلمون - عظيم.
شعرة محمدية
فإذا ظفر محيي الدين بكل تلك الهبات والعطايا، وإذا نعم بالمقامات العليا، كالصديقية والقربة، فماذا بقي؟ يقول محيي الدين: إن الفتح على قدر الهمة. ومحيي يحمل بعزماته الجبال، وعطايا الله - سبحانه - لا حدود لها.
يقول محيي الدين: إنه ظفر بعد ذلك بهدية دونها كل الهدايا، هدية لم تكن عن سؤال، وإنما كانت عن عناية ورعاية.
وتلك الهدية عبارة عن شعرة من الرسول - صلوات الله عليه، ويقول لنا: إنه أوجس في قلبه خيفة، وخشي على نفسه؛ فقد كاد أبو يزيد البسطامي أن يهلك قلبه؛ حينما خيل إليه أنه أهل لشيء أكبر من طاقته، ولنترك محيي الدين يحدثنا: «وقد حصل لنا منه
صلى الله عليه وسلم
شعرة، وهذا كثير لمن عرف، ولما أطلعني الله - سبحانه - على ذلك، لم يكن ما نلت عن سؤال؛ وإنما كان عن عناية الله، ثم إنه أيدني فيه بالأدب رزقا من لدنه وعناية بي، فلم يصدر مني ما صدر من أبي اليزيد.
فلما جاء الأمر وأخذت أرقى وتنكشف لي أمور بفضل تلك المنحة، علمت أن ذلك خطاب ابتلاء لا خطاب تشريف، على أنه قد يكون بعض الابتلاء تشريفا؛ فتوقفت وسألت الحجاب.
ولكني منحت الشعرة اختصاصا إلهيا؛ فشكرت الله على الاختصاص بتلك الشعرة، غير طالب بالشكر الزيادة، وكيف أطلب الزيادة من ذلك، وأنا أسأل الحجاب الذي هو من كمال العبودية؟!»
وبتلك المنحة تم لمحيي الدين أكمل ما ينال عباد الرحمن الذين اصطفاهم لعلمه، واجتباهم لمحبته ورضاه.
محيي الدين والكرامات
ومحيي الدين لا يذكر معراجه في المقامات، وتقلبه في الأحوال، وأحاديثه المنامية مع الرسول - صلوات الله عليه، وحضوره في مشاهد الحق - سبحانه - ليفتخر بكرامة، أو يدل بهبة، أو يتيه على الناس بحظوظ وعطايا، فمحيي الدين قد تحقق من مقام العبودية وذاقها، وهي أسنى المراتب وأعلاها، وليس من شذاها جنوح إلى فخر أو ميل إلى تيه وتكبر.
بل إنه لخصم للكرامات وطلابها، وما رأيته يعنف في نقاش، وما رأيته يقسو في جدال، إلا حين يغمس قلبه القوي العبقري في تلك الأحاديث، ويتناول بأنامل أستاذيته المرشدة آذان أصحابها.
فهو يراها حلى براقة للعاطلين من سواها، يشتغل بها من تقعد به أجنحته عن التحليق في آفاق أعز وأكرم.
والكرامة المعنوية عند محيي الدين هي أعلى ألوان الكرامات، التي لا يعرفها إلا الخواص من عباد الله - سبحانه، وهي هدفه ومبتغاه.
وليس للعامة في تلك الكرامة نصيب، وليس لطلاب الأولى سهم هنا.
والكرامة المعنوية: هي أن يحفظ الله - سبحانه - للعبد المختار آداب الشريعة، وأن يوفقه لإتيان مكارم الأخلاق، واجتناب سفاسفها، والمداومة على الواجبات في أوقاتها، والمسارعة إلى الخيرات، وإزالة الغل للناس من صدره، والحسد والحقد وسوء الظن، وطهارة القلب من كل صفة مذمومة، وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس.
أما الكرامة المادية التي يعرفها العامة، فكلها يمكن أن يدخلها المكر السيئ، أو الاستدراج الخفي الذي لا تؤمن عقباه، بل هي على أحسن حالاتها وفروضها، جزاء وفاقا على أعمال طيبة وعبادات متتابعة، ومن تنعم في الدنيا على أعماله، فقد أخذ جانبا من الجزاء؛ فيخفف له العطاء يوم العطاء.
سئل أبو اليزيد البسطامي عن طي الأرض، فقال: ليس بشيء؛ فإن إبليس يقطع من المشرق إلى المغرب في لحظة، وما هو بمكان عند الله.
وسئل عن اختراق الهواء، فقال: إن الطير ليخترق الهواء، والمؤمن عند الله عقلا وشرعا أفضل من الطير، فكيف يحسب كرامة من شاركه فيها طائر؟!
ثم قال: إلهي، إن قوما طلبوك لما ذكروه، فشغلتهم به، وأهلتهم له، مهما أهلتني لشيء، فأهلني لشيء من أشيائك، أي: من أسرارك.
فما طلب أبو اليزيد إلا العلم؛ والعلم أفضل ما في فضل الله. قال - تعالى:
آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .
فالعلم أفضل الكرامات المعنوية، وهي الكرامة التي ظفر بها محيي الدين؛ فخلد في دنياه وفاز برضوان الله.
بين الشطح والفتوة
وكما كان محيي الدين من خصوم الكرامات المادية، فهو أيضا من خصوم الشطح والشاطحين؛ لأن الشطح لون من ألوان الفخر، أو لون من ألوان المباهاة والتطاول، وأصله دعوى يفصح بها الشاطح عن مرتبته التي أعطاها الله له من غير أمر إلهي على طريقة الفخر.
والشطح ذلة المحققين، أو كما يقول محيي الدين: «لقد وقع من بعض الأكابر ولا أسميهم؛ لأنه صفة نقص، وأما من سواهم فلا كلام لنا معهم؛ لأنهم رعاع بالنظر إلى هؤلاء السادة، وإذا وقع مثل هذا من السادة، فعليهم يقع العتب منا.
وليس الشطح من الفتوة كما يدعون؛ فالفتي لا يراعي الخلق، ولا يتعالى عليهم؛ لأن التعالي إنما هو لله - سبحانه وتعالى، وأصل الفتوة أن تخرج عن حفظ نفسك إيثارا لحظ غيرك، وحقيقتها أن يؤثر الإنسان العلم الوارد من الله على ألسنة الرسل على هوى نفسه، وعلى أدلة عقله، وما حكم به فكره ونظره.
هذا هو الفتي، فإذا ورد على نفسه خاطر أوهمه بأنه أمر إلهي يعارض الشرع المقرر؛ فقد خيل له أو التبس عليه، فيرمي به ولا يلتفت إليه، ويرجع إلى حكم الشرع الثابت؛ فإنه قد ثبت عند أهل الكشف جميعا: أنه لا تحليل ولا تحريم، ولا شيء من أحكام الشرع، بعد انقطاع الرسالة والنبوة، لأحد من خلق الله.
وقد وقفنا بقوم من أهل الله ممن التبس عليهم هذا المقام، والتبست عليهم الواردات؛ فشطحوا وتفاخروا، فابتعدوا عن ربهم، فإنه لا يكون الشاطح عند شطحه وليا لله أبدا.»
ذلك هو الرأي الفيصل لمحيي الدين في الكرامات المادية، والمتفاخرين من الشاطحين، الذين لغوا في محاريب العبادة بما لا ينبغي.
وما كان محيي الدين، ولا ينبغي أن يظن به - إذا حدثنا عن فتوحاته ومقاماته - ظن السوء، من دعوى الغرور والتباهي؛ فهو إنما يتحدث للعلم والإرشاد، وليضع يبن أيدينا تلك الكنوز التي تفيض بها كتبه، ويزخر بها تراثه.
وإذا أكمل لمحيي الدين بعروجه في تلك المقامات ما قدر الله له من منح وهبات؛ فقد آن له أن يتنقل في آفاق العالم الإسلامي هاديا إلى الله بالطيب من القول والعمل، ومبشرا بآياته، بالرائع من الحجة والبرهان، وسراجا وهاجا يرشد إلى النجاة، كما يرشد إلى الإيمان.
محيي الدين وملك المغرب
وكما جابت أفكار محيي الدين آفاق السماء، وتنقلت في أبراجها، كذلك كانت حياته، رحلات وتنقلات في جنبات الأرض، مطوفا وزائرا وعابدا ومقيما.
وكان سنن العلماء في هذا العصر التنقل والتطواف في رقعة العالم الإسلامي العظيم، المتحد الممتد من أوروبا إلى هضاب الصين وسهول الهند.
كان العلماء يتلاقون ويتجادلون، ويأخذ بعضهم من بعض ما درس وتعلم وحفظ، ويفضي بعضهم إلى بعض بما منح وأعطي.
وكان العالم الإسلامي يقود الدنيا ويفرض عليها سلطانه بسيوفه ورماحه، وبعلومه وآدابه، وكشوفه الفنية والروحية، كما كانت تغلي في باطنه أحداث جسام بعيدة الأثر في حاضره وغده، بل في حاضر العالم كله وغد الإنسانية بأسرها.
كان الصليبيون يقرعون أبواب الشرق الأوسط، ويتصارعون مع فرسان مصر وأبطال الأيوبيين على ثالث الحرمين وأولى القبلتين.
وكان المرابطون - وهم فئة ثائرة بالسيف، غضوبة بالرمح - يعيثون بأمن المغرب الأقصى ويفسدون، وتسل سيوفهم عروش ملوكه وسادته.
وكان للعلماء ورجال التصوف خاصة هنا وهناك قوة رهيبة، تقود الجماهير وتوجهها، وتجلها الملوك وتتقرب إليها، ويتزلف إليها السادة والأمراء.
فلا عجب إذا رأينا ملك المغرب المهدد بثورة المرابطين، يسعى إلى محيي الدين، الذي بزغ نجمه، وأشرق أفقه، وعرف اسمه ومكانه في دنيا التصوف وعالم البيان واللسان، ولا عجب إذا سعى محيي الدين إليه، تدفئ صدره آمال كبار، في أن يوجه هذا الملك وجهة صوفية روحية، وبالتالي يوجه شعبه إلى تلك المناهل والينابيع.
وكانت رحلة محيي الدين الأولى إلى المغرب في مطلع عام تسعين وخمسمائة من التاريخ الهجري، أي: ومحيي الدين في الثلاثين من عمره.
وتقلد محيي الدين وهو في رونق الشباب وفورة الحياة عمله الجديد، موقعا على المراسيم ومنشئا للرسائل، ومربيا لأبناء البيت المالك.
وهي وظيفة أشبه بالوزارة، وإن كانت أرحب منها أفقا، وأعظم نفوذا، وألصق بالملك وأقرب، وهي مكانة تتصارع حولها الأهواء والغايات، وتنصب لها المكائد والشباك، ولقد اصطلاها محيي الدين وهو رجل الروح والدين، والطهارة والصفاء؛ فاصطلى جوا عجبا.
ولكن محيي الدين، وهو من نعرف كرامة وإباء، وعلما ربانيا، وهديا نبويا، ونهجا صوفيا، وهي صفات شديدة الخطورة في هذا الجو، شديدة الخطورة في بلاط الملوك، لم تطب له تلك الحياة أو لم يطب هو لها؛ فوقعت النفرة سريعا بينه وبين الملك، وبينه وبين رجال الحاشية، وظن به الملك الظنون، ولمزته البطانة وغمزته في نهجه وطريقته، ومذاهبه وتفكيره.
ويعود محيي الدين إلى إشبيلية بالأندلس، مقر نشأته ومرتع صباه، ويحلق في آفاق العلم والمعرفة ما شاء له الله.
ثم يطرق سمعه بعد أعوام دعوة إلى المغرب من جديد، بواسطة الشيخ الصوفي أبو عبد الله بن المرابط، صديق الملك ومرشده الروحي، وحبيب محيي الدين، المقدر له، والذي كان سببا مباشرا في رحلة محيي الدين الأولى.
وتمشي الريح رخاء طيبة بين الملك ومحيي الدين، فقد فطن محيي الدين إلى عبرة الحوادث الأولى؛ فطوى جوانحه على أعنف آرائه، وترفق أكثر الرفق بالبطانة والحاشية، وما إلى البطانة والحاشية من ذيول وأذناب، واطمأن الملك إليه؛ فأطلق يده في شئون مملكته، يقومها على النهج الصوفي، ويدفعها دفعا إلى التعاليم التي عرفت عن محيي الدين وعرف بها.
ولعل تلك الحادثة التي يرويها لنا في الفتوحات توضح لون الحياة ولون الأعمال التي يقوم بها في عمله الجديد.
يذكر لنا محيي الدين أن من الملائكة طائفة تطوف سائحة في الدنيا، تطلب مجالس الذكر في الأرض، فإذا وجدوا أهل الذكر وهم أهل القرآن، نادى بعضهم بعضا: هلموا إلى بغيتكم؛ فيحفون بالذاكرين، ويبسطون لهم أجنحة الرحمة، ويدعون لهم أطيب الدعاء وأرجاه في الإجابة.
وتلك المجالس القرآنية، هي رزق هؤلاء الملائكة، وبها يعيشون، وعليها وبها تقوم حياتهم.
ثم يقول: «وواجب الإمام أو الحاكم أن يقيم جماعة تتلو آيات الله بالليل والنهار؛ تقربا إلى الله واستجلابا لرحمته، ورزقا لتلك الطائفة من الملائكة.»
ثم يقول أيضا: «وقد كنا في بلاد المغرب، قد سلكنا هذا المسلك بموافقة أصحاب موفقين، كانوا لنا سامعين وطائعين، ففقدناهم ففقدنا بفقدهم هذا العمل الخالص، وهو أشرف الأرزاق وأعلاها.»
وهو هنا صريح في حديثه عن الأصحاب الموفقين، الذين كانوا لحديثه سامعين، وهي تكنية جميلة، فلم يرد أن يذكر اسم الملك في موقف العتاب؛ لأنه - كما سنرى - لا يزال يحمل له ودا خالصا، ويرجو آملا حار الأمل في العودة إليه.
كما نلمس أيضا أنه أشبه بمن أكره على مغادرة عمله؛ فهو ثائر العاطفة لمن فقدهم، ففقد بفقدهم النفوذ والقدرة على هذا العمل الخالص، وهو أشرف الأرزاق وأعلاها.
ثم يقول: «فأخذنا لما فقدنا مثل هؤلاء، في بث العلم من أجل الأرواح التي تتغذى بالذكر، ورأينا ألا نورد شيئا منه، إلا من أصل هو مطلوب لهذا الصنف الروحاني وهو القرآن.»
فجميع ما نتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي، إنما هو من حضرة القرآن وخزائنه، أعطيت مفاتيح الفهم فيه، والإمداد منه؛ وذلك أرفع ما يمنح، ولا يعرف قدره إلا من ذاقه وشهد له.
ويذكر لنا محيي الدين أنه أخذ في مجالسه العلمية، وفي كتبه التي ابتدأ في تأليفها، يبث علما من نوع العلم الذي تتغذى به أرواح الملائكة، وهو العلم المستمد من حضرة القرآن وخزائنه؛ حتى لا ينقطع هذا العمل الطيب، الذي بدأه بمعاونة الملك وهو إقامة الذاكرين بالقرآن ليلا ونهارا.
ويطوف محيي الدين بالأرض، وقلبه معلق بأمير المغرب وسيده، الذي أخلص له الحب والمودة؛ فلم يجد لحبه ولا لمودته جزاء إلا هذا الفراق الذي أكره عليه ولم يرده.
ويأخذ في تأليف كتابه الخالد الجامع المانع «الفتوحات» فيكتب وعينه على الملك الحبيب، بل يكتب لأنه يريد أن يعرف صديقه بفنون من المعارف حصلها بعد أن فارقه، ثم يتقدم خطوة أخرى أفصح وأوضح، فيقول: إنه يريد أن يهدي إليه هذا الكتاب بما فيه من جواهر العلم وكنوز المعرفة، وآيات الحكمة التي يؤتيها الله - سبحانه - من يشاء.
ولنترك محيي الدين يحدثنا عن القصة كلها بما فيها من وفاء وولاء، وحب صادق، وعتاب وفراق، وتلك القصة جعلها محيي الدين مقدمة وسببا في تأليف الفتوحات: «فاعلم أيها العاقل الأديب، والولي الحبيب، أن الحكيم إذا نأت به الدار عن قسيمه، وحالت صروف الدهر بينه وبين حميمه، لا بد أن يعرفه بما اكتسبه في غيبته وما حصله من الحكمة؛ فكأن وليه ما غاب عنه بما عرف منه، وإن كان الولي - أبقاه الله - قد أصاب صفاء وده كدر لعرض، وظهر منه انقباض عند الوداع لتتميم غرض، فقد غمض وليه عن ذلك جفن الانتقاد، وجعله من الله - أبقاه الله - من كريم الاعتقاد؛ إذ لا يهتم بك إلا من يسأل عنك، فليهنأ الولي - أبقاه الله؛ فإن القلب سليم، والود - كما يعلم - بين الجوانح مقيم، وقد علم الولي أن الود فيه كان إلهيا، لا غرضيا ولا نفسيا، وثبت هذا عنده قديما عني من غير علة ولا فاقة إليه ولا قلة، ولا طلب لمثوبة، ولا حذر من عقوبة، وربما كان من الولي في الرحلة الأولى، التي رحلت إليه سنة تسعين وخمسمائة، عدم التفات فيها إلى جانبي، ونفور عن الجري على مقاصدي ومذاهبي؛ لما لاحظ فيها من النقص، وعذرته في ذلك؛ فإنه أعطاه ذلك مني ظاهر الحال، وشاهد النص، فإني سترت عنه وعن بنيه ما كنت عليه في نفسي، بما أظهرت لهم من سوء حالي وشرة حسي، وربما كنت أسألهم أحيانا على طريق التنبيه، فيأبى الله أن يلحظني واحد منهم بعين التنزيه، ولقد قرعت أسماعهم يوما في بعض المجالس، والولي في صدر ذلك المجلس جالس، بأبيات أنشدتها وفي كتاب الأسرار أودعتها وهي:
أنا القرآن والسبع المثاني
وروح الروح لا روح المعاني
فؤادي عند معلومي مقيم
يناجيه وعندكمو لساني
فلا تنظر بطرفك نحو جسمي
وعد عن التنعم بالمعاني
وغص في بحر ذات الذات تبصر
عجائب ما تبدت للعيان
وأسرار تراءت مبهمات
مسترة بأرواح المعاني
فوالله ما أنشدت من هذه المقطوعة بيتا، إلا وكأني أسمعته ميتا، وسبب ذلك حكمة كنت أبغي رضاها ، فما كان إنشادي لهم مع معرفتي بقلة حرمتي عندهم إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها.»
تلك هي الرحلة الأولى، وهذا حديثها، ثم يتحدث عن الرحلة الثانية بمودتها وما فيها من صفاء وولاء، فيقول: ثم كان الاجتماع بالولي - تولاه الله - بعد ذلك بأعوام، في محله الأسنى، وكانت الإقامة معه تسعة أشهر دون أيام، في العيش الأرغد الأهنى، عيش روح وشبح، وقد جاد كل واحد منا بذاته على صاحبه وسمح.
ثم افترقنا ونحن على هذه الحال، لانحراف قام ببعض هذه المحال، فإني كنت نويت الحج والعمرة، ثم أسرع إلى محله الكريم بصخرة المقدس، وزيارة سيد ولد آدم، ديوان الإحاطة والإحصاء.
أقام في خاطري أن أعرف الولي - أبقاه الله - بفنون من المعارف حصلتها في غيبتي، وأهدي إليه - أكرمه الله - من جواهر العلم التي اقتنتيها في غربتي؛ فقيدت له هذه الرسالة اليتيمة، التي أوجدها الحق لأعراض الجهل تميمة، ولكل صاحب صفي، ومحقق صوفي.
وسميتها رسالة الفتوحات المكية، في معرفة الأسرار المالكية والملكية؛ إذ كان الأغلب فيما أودعته هذه الرسالة ما فتح الله به علي عند طوافي ببيته المكرم، أو قعودي مراقبا له بحرمه المشرف المعظم، وجعلتها أبوابا شريفة، وأودعتها معاني لطيفة؛ فإن الإنسان لا يسهل عليه شدائد البداية، إلا إذا وقع بصره على الغاية، ولا سيما إن ذاق من ذلك عذوبة الجنى، ووقع منه موقع المنى.
فإذا حصر الباب البصر، وردد عليه عين بصيرته الحكيم فنظر؛ فاستخرج اللآلئ والدرر، يعطيه الباب إذ ذاك ما فيه من حكم روحانية ونكت ربانية، على قدر نفوذ فهمه، وقوة عزمه وهمه، واتساع نفسه من أجل غطسه في أعماق بحار علمه.
لما لزمت قرع باب الله
كنت المراقب لم أكن بالآهي
حتى بدت للعين سبحة وجهه
وإلي هل لم تكن إلا هي
فأحطت علما بالوجود فما لنا
في قلبنا علم بغير الله
لو يسلك الخلق الغريب محجتي
لم يسألوك عن الحقائق ما هي؟
تلك هي قصة محيي الدين مع ملك المغرب، الذي وفى له في حضوره وغيابه، والذي أمل منه أن يكون سببا في نشر تعاليمه الصوفية في ربوع المغرب، ولكن قرناء السوء أفسدوا ما بين الصديقين.
وفي ختام القصة لمحات تقف عندها العقول، فقد أودعها سر الفتوحات، بل سر الفهم والإدراك لأسرار علمه وعجائب كشفه.
فهو يقول: إن الإنسان لا تسهل عليه شدائد البداية، إلا إذا وقع بصره على الغاية، وتلك آية في فهم محيي الدين.
فهو في مطلع أبوابه في الفتوحات، يلغز في شعره، ويبهم في قوله، فإذا أخذت الألغاز، وأخذ الإبهام بنفس القارئ قطع وأغلقت عليه المعاني، أما إذا سبح معه سبحا طويلا، حتى يصل إلى نهاية الباب وغايته؛ تكشفت له البدائع، وسهلت عليه البداية، كما سهلت وتسهل عليه معاني الغاية.
ثم يقول: إذا حصر الإنسان بصره، على باب من أبواب الفتوحات وردد عليه بصيرته، استخرج اللآلئ والدرر، وأعطاه الباب ما فيه من حكم روحانية، ونكت ربانية، ويعطى كل على قدر فهمه، وقوة عزمه، واتساع نفسه في الغوص، وخوض لجج العباب.
محيي الدين لأصحاب الهمم والعزمات، ولمهرة الغواصين وجبابرة السابحين، لأهل الإشراق والنور والصفاء، محيي الدين لهؤلاء، وقليل ما هم.
أما فاتر العزم، خائر القوى، مطموس البصيرة، زائغ البصر، ضيق النفس، فليلتمس له سهلا هينا، يضرب على حوافيه، وليدع القمة للمحلقين الفاتحين.
إلى الأرض المقدسة
فارق محيي الدين مكانه في المغرب، بعد تسعة أشهر إلا أيام، في العيش الأرغد الأهنى؛ لانحراف الحال بينه وبين سلطانه، معتزما الحج والعمرة، وزيارة سيد ولد آدم، ثم الإسراع إلى ثالث الحرمين وأولى القبلتين، ثم التطواف بالعالم الإسلامي.
ويؤرخ لنا محيي الدين، تلك الحقبة من حياته، فيقول بعد أن يتحدث عن خواطر نفسه، وعن ليلة ليلاء، طوف فيها فكره، ثم استسلم أخيرا إلى الكرى: «كشف لي في منامي عن نور العرش؛ فرأيت طيورا حسنة تطير في زواياه، فرأيت فيها طائرا من أحسن الطيور، فسلم علي، فألقي لي فيه أن آخذه صحبتي إلى بلاد المشرق، وكنت بمدينة مراكش؛ حين كشف لي عن هذا كله، فقلت: ومن؟ فقيل لي: محمد الحصار، بمدينة فاس ، سأل الله الرحلة إلى بلاد الشرق، فخذه معك، فقلت: السمع والطاعة، فقلت له - وهو عين ذلك الطائر: تكون صحبتي إن شاء الله.
فلما جئت إلى مدينة فاس سألت عنه فجاءني، فقلت له: هل سألت الله في حاجة؟ فقال: نعم، سألته أن يحملني إلى بلاد الشرق، فقيل لي: إن فلانا يحملك، وأنا أنتظرك من ذلك الزمان؛ فأخذته صحبتي سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وأوصلته إلى الديار المصرية، ومات بها.»
رأى محيي الدين أرواح الصالحين، تطوف وتطير في نور العرش، ورأى رجلا صالحا تمثلت روحه في هيكل طائر جميل، وهذا الطائر أو هذا الرجل ينتظره ليذهب معه إلى المشرق؛ فعلم أنه قد أذن له في الرحيل، والتقى بصاحبه على قدر قد قدر، فوجها ركبهما معا إلى أرض النيل، وهو في السابعة والثلاثين من عمره.
وفد محيي الدين إلى مصر، تتقدمه عواصف ضخمة حول: علومه، ومعارفه، وكشوفاته القلبية والروحية، وتلقاه العلماء ورجال الفقه بالجفاء؛ فعقدوا له حلقات المناظرة والجدل، ونفخوا عليه بالحقد والموجدة، فلم ينالوا من مكانته شيئا، بل كانوا كما يقول اليافعي: حكمهم حكم ناموسة، نفخت على جبل تريد إزالته.
فلما طويت صحف علمهم، وبرزت آيته واضحة مبصرة، سعى به السفهاء من العلماء الذين يقتاتون بالحقد، ويتهجدون في محاريب الغل والحسد، إلى حاكم مصر، ناسبين إليه الإفك والبهتان والأغراض السياسية الخبيثة والأهواء الدينية المارقة، مطالبين بإعدامه وهدر مقامه؛ ولكن الله الذي رعاه بعنايته حفظه؛ فأتاح له رجلا من رجال العلم والجاه، هو الشيخ أبو الحسن البجائي، القاضي الفقيه العابد، فشفع له لدى سيد مصر، ثم جمع بينهما؛ ففتن به حاكم مصر وأجله، والتمس منه البقاء في مصر، وله من مناصبها ما شاء، فأبى محيي الدين شاكرا ومقدرا، ثم استأذنه في الذهاب إلى الحج؛ لأنه على عهد، فأذن له.
في بيت الله الحرام
ولى محيي الدين وجهه قبل المسجد الحرام، مشبوب العاطفة، ثائر القلب، إنه لمشوق إلى البيت المعمور، مشوق إلى المنبر والروضة والحبيب، مشوق إلى الأرض المباركة التي طوف بها الأنبياء، وهبطت إلى ساحتها الملائكة، وفي ليلة من ليالي البدر، هادئة الريح معطرة الأنفاس، هبط محيي الدين إلى مكة.
يقول الفيروز آبادي: «لما وصل الشيخ إلى مكة - شرفها الله - كان البلد إذ ذاك مجمع العلماء والمحدثين، وأهل الفتيا والبيان؛ ولكن الشيخ نزل بينهم كالقمر بين النجوم؛ فكان هو المشار إليه بينهم في كل علم تكلموا فيه، وكانوا كلهم يسارعون إلى مجلسه، ويتبركون بالحضور بين يديه، ويقرءون عليه تصانيفه.»
ولزم محيي الدين بيت الله لا يفارقه، واتخذ من الركن اليماني محجة ومدرسة، يلقي فيها درسه، ويقرأ كتب الرجال، كالقوت والإحياء، وفي بيت الله ألف أخلد كتبه وأبقاها على الحياة، بل أخلد كتاب، تفجر من ينابيع القلوب، وكشوف النور، وخزائن القرآن «الفتوحات المكية»، الكتاب الذي أعجز الأفكار والعقول في عصره، ولا يزال يعجزها، وسيعجزها ليكون حجة على الناس، وآية للعلم الرباني الموهوب للصفوة المختارة من عباده، وليضاف به صاحبه إلى الرعيل المجتبى، الذي يقول فيه - تبارك وتعالى:
وعلمناه من لدنا علما .
يقول محيي الدين عن الفتوحات: «والأغلب فيما أودعته هذه الرسالة ما فتح الله به علي عند طوافي بيته المكرم، أو قعودي مراقبا له بحرمه المشرف المعظم.»
وهو يعلل الفتوح العظمى التي هبطت عليه بمكة، بقوله: وكما تتفاضل المنازل الروحانية كذلك تتفاضل المنازل الجسمانية، وقد تجد قلبك في مسجد أكثر مما تجده في غيره من المساجد، ويقول: إن الملائكة تعمر جميع الأرض، وأعلاهم رتبة، وأعظمهم علما ومعرفة: عمرة المسجد الحرام. وعلى قدر جلسائك يكون وجودك؛ فإن لهمم الجلساء في قلب الجليس تأثيرا، وهممهم على قدر مراتبهم، وقد طاف بالبيت مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا سوى الأولياء، وما من نبي ولا ولي، إلا وقد ترك همته متعلقة به؛ لأنه البيت الذي اصطفاه الله على سائر البيوت.
هذا هو البيت، وذلك هو المقام، الذي فتح له فيه معراج هبطت عليه فيه كشوفات الفتوحات المكية، ومن نور هذا المكان وجلاله، كان نور الفتوحات وجلالها.
لقد وجد قلبه هنا، ووجد آثار الهمم والعزمات، المتبقية من طواف الأنبياء والأولياء بالبيت المعمور، وعلى قدر الجلساء يكون الجليس، وعلى قدر المرتبة تكون الهمة، وعلى قدر الهمة يكون الأثر، ومن يرد أن يعرف همة محيي الدين، فليتمس بابا لها بين منازل الفتوحات.
المرأة في حياة محيي الدين
محيي الدين هو أعلم رجال التصوف؛ ولهذا هو أرحبهم أفقا، وأوسطهم طريقة، ومن هنا جاءت آراؤه معتدلة محكمة، أعطت ما لله لله، ولم تنس الحياة؛ فلم يعش داخل الكهوف والمغارات، ولم يعتزل الناس والدنيا، بل كان جليس الملوك القائم ببعض أعباء حكمهم، المساهم في أحداث الوجود، الطواف بالأرض، هاديا ومرشدا ومعلما.
ومن ثم جاءت نظرته إلى المرأة وإكباره، بل وحبه لها، الحب الحلال الشريف، الحب الديني المأثور في الكتاب والسنة.
وحب النساء عنده ميراث نبوي، وحب إلهي، فقد قال الرسول - صلوات الله عليه: «حبب إلي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وقرة عيني في الصلاة.» فلم ينسب حبه فيهن إلا إلى الله - سبحانه؛ ولهذا قال: «حبب.»
وكمال العارفين في هذه المحبة، فلا يجوز الإعراض عنهن زهدا؛ لأنه لا يحبب إلى الرسول - صلوات الله عليه - ما يبعده من ربه، بل حبب إليه ما يقربه منه؛ ولهذا يؤجر الرجل على صلاته بامرأته.
فحبهن فريضة واقتداء بالرسول، وحنين الرجل إلى المرأة فطرة في النفس؛ فهو حنين الكل إلى الجزء، وما جاء الإسلام ليحارب الفطرة أو يقف في وجهها؛ فالدين هو الفطرة التي فطر الله - سبحانه - الناس عليها.
ولا يستقيم المزاج إذا تعارض مع الفطرة، وفي صلاح المزاج صلاح الدين، وفي صلاح الدين السعادة، بشرط خضوع الإنسان للميزان الإلهي الذي أتى به الشارع صلوات الله عليه.
وفي حياة محيي الدين ثلاث نساء؛ أولاهن: عابدة زاهدة، عرفها بإشبيلية في مطلع شبابه؛ فكانت له أما روحية، يحدثنا عنها في الفتوحات فيقول: «وخدمت أنا بنفسي امرأة من المخبآت العارفات بإشبيلية، يقال لها: فاطمة بنت المثنى القرطبي، خدمتها سنين، وهي تزيد وقت خدمتي إياها على خمس وتسعين سنة، وكنت أستحي أن أنظر إلى وجهها في هذا السن من حمرة خديها، وحسن نعمتها وجمالها ، تحسبها بنت أربع عشرة سنة من نعومتها ولطافتها. وكان لها حال مع الله، وكانت تؤثرني على كل من يخدمها من أمثالي. وتقول: ما رأيت مثل فلان؛ إذا دخل علي دخل بكله لا يترك منه خارجا عني شيئا، وإذا خرج من عندي خرج بكله لا يترك عندي منه شيئا. وسمعتها تقول: عجبت لمن يقول: إنه يحب الله ولا يفرح به، وهو مشهود، عينه إليه ناظرة في كل عين، ولا يغيب عنه طرفة عين، فهؤلاء البكاءون كيف يدعون محبته ويبكون، أما يستحون؟ إذا كان قربه مضاعفا من قرب المتقربين إليه، والمحب أعظم الناس قربة إليه فهو مشهوده، فعلى من يبكي؟ إن هذه لأعجوبة.
ثم تقول لي: يا ولدي، ما تقول فيما أقول؟ فأقول لها: يا أمي، القول قولك. قالت: إني والله لمتعجبة؛ لقد أعطاني حبيبي فاتحة الكتاب تخدمني، فوالله ما شغلتني عنه. فمن ذلك اليوم عرفت مقام هذه المرأة لما قالت: إن فاتحة الكتاب تخدمها، فبينما نحن قعود إذ دخلت امرأة، فقالت لي: يا أخي، إن زوجي في «شريش» وأريده، فماذا ترى؟ قلت لها: وتريدين أن يصل؟ قالت: نعم. فرددت وجهي إلى العجوز، وقلت لها: يا أم، ألا تسمعين ما تقول هذه المرأة؟ قالت: وما تريد يا ولدي؟ قلت: قضاء حاجتها في هذا الوقت. فقالت: السمع والطاعة، إني أبعث إليه بفاتحة الكتاب وأوصيها أن تجيء به. وأنشأت فاتحة الكتاب تقرأها وقرأت معها؛ فعلمت مقامها عند قراءتها الفاتحة؛ وذلك أنها تنشيها بقراءتها صورة مجسدة هوائية، هي سر من أسرار عطايا القرآن، فلما أنشأتها صورة سمعتها تقول لها: يا فاتحة الكتاب، أطلب كذا. فلم يلبث حتى وصل إلى أهله.
وكانت تضرب بالدف وتفرح، فكنت أقول لها في لك، فتقول لي: والله، إني أفرح؛ حيث اعتنى بي وجعلني من أوليائه واصطفاني لنفسه، من أنا حتى يختارني على أبناء جنسي، وعزة ربي، إنه يغار علي غيرة ما أصعبها! ما التفت إلى شيء باعتمادي عليه عن عالة إلا أصابني ببلاء في ذلك الذي التفت إليه، ثم أرتني عجائب من ذلك، فما زلت أخدمها بنفسي، وبنيت لها بيتا من قصب بيدي على قدر قامتها، فما زالت فيه حتى درجت، وكانت تقول لي: أنا أمك الإلهية، ونور أمك الترابية، وإذا جاءت والدتي إلى زيارتها تقول لها: يا نور، هذا ولدي فبريه ولا تعقيه.»
والثانية تعرف بها في مكة، فحادثته في المحبة الإلهية وحاورته، واتصل بينهما حبل المودة الخالصة؛ فرأى عندها من لطائف المعارف ما لا يصفه واصف، يصورها لنا في شرح ترجمان الأشواق تصويرا رائعا: «كنت أطوف ذات ليلة بالبيت، فطاب وقتي، وهزني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرمل، فحضرتني أبيات، فأنشدتها أسمع بها نفسي ومن يليني، لو كان هناك أحد. فقلت:
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا
وفؤادي لو درى
أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا
فلم أشعر إلا بضربة بين كتفي ألين من الخز؛ فالتفت فإذا بجارية من بنات الروم. لم أر أحسن وجها ولا أعذب منطقا ولا أرق حاشية، ولا أطيب معنى ولا أدق إرادة ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفا وأدبا وجمالا ومعرفة، فقالت: يا سيدي كيف قلت؟ قلت:
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا
فقالت: عجبا منك وأنت عارف زمانك تقول مثل هذا؟ أليس كل مملوك معروف، وهل يصح الملك إلا بعد المعرفة، وتمني الشعور يؤذن بعدمها، والطريق لسان صدق؛ فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ قل يا سيدي، فماذا قلت؟ فقلت:
وفؤادي لو درى
أي شعب سلكوا
فقالت: يا سيدي، الشعب الذي بين الشغاف والفؤاد، هو المانع له من المعرفة؛ فكيف يتمنى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة، والطريق لسان صدق؛ فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا يا سيدي؟ فماذا قلت بعده؟ فقلت:
حار أرباب الهوى
في الهوى وارتبكوا
فصاحت وقالت: يا عجبا! كيف يبقى للمشغوف فضلة يحار بها؛ والهوى شأنه التعميم، يخدر الحواس، ويذهب العقول ويدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين، فأين الحيرة؟ وما ها هنا باق فيحار، والطريق لسان صدق، والتجوز من مثلك غير لائق. فقلت: يا بنت الخالة، ما اسمك؟ فقالت: قرة العين. فقلت: لي. ثم سلمت وانصرفت، ثم عرفتها بعد ذلك وعاشرتها، فرأيت عندها من لطائف المعارف ما لا يصف واصف.»
والثالثة: التقى بها في مكة أيضا، طفلة عذراء هيفاء، لرجل من أهل العلم، وله فيها أشعار وتكنيهات رائقة رائعة.
يذكر لنا في شرح ترجمان الأشواق، كيف اتصل حبله برجل فاضل من أهل العلم والكمال، ثم يقول متحدثا بقلمه الساحر: «كان لهذا الشيخ - رضي الله عنه - بنت عذراء، طفلة هيفاء، تقيد النظر، وتزين المحاضر، وتحير المناظر، تسمى بالنظام، وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العابدات العالمات السابحات الزاهدات، شيخة الحرمين، وزينة البلد الأمين الأعظم بلامين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت، إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه، وأغري بظهر الغرور فامتطاه، ولولا النفوس الضعيفة السريعة الأمراض، السيئة الأغراض لأخذت في شرح ما أودع الله في خلقها من الحسن، وفي خلقها الذي هو روضة المزن، شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء، حقة مختومة، واسطة عقد منظومة، يتيمة دهرها، كريمة عصرها، سابغة الكرم، عالية الهمم، سيدة والديها، شريفة باديها، مسكنها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، أشرقت بها تهامة، وفتح الروض لمجاورتها أكمامه؛ فنمت أعراف المعارف، بما تحمله من الرقائق واللطائف، علمها عملها، عليها مسحة ملك، وهمة ملك؛ فراعينا في صحبتها كريم ذاتها، مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد، فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد، بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس، ويثير الأنس من كريم ودها وقديم عهدها، ولطافة معناها وطهارة مغناها؛ إذ هي السؤل والمأمول، والعذراء البتول؛ فأعربت عن نفس تواقة، ونبهت على ما عندنا من العلاقة؛ اهتماما بالأمر القديم، وإيثارا لمجلسها الكريم، فكل اسم أذكره في هذا الجزء، فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني.»
تلك هي العذراء الهيفاء التي أوحت إلى محيي الدين أشعاره في ديوانه ترجمان الأشواق، وتلك هي العذراء التي أحبها محيي الدين وبنى بها، وكان له منها الولد والأثر.
السائح الإسلامي
كان البيت الحرام بعيد الأثر في حياة محيي الدين؛ ففيه كتب الفتوحات، وفي مكة توثقت صلاته بالحجيج الوافد من كل فج يتولى التدريس لهم، ويحملون إلى بلادهم معارفه وعلومه؛ فهو زعيم علماء البيت المعمور، وإمام الوافدين إلى هذا المجتمع العالمي.
وأخيرا آن له أن يلبي الأمر بالرحيل، ليتم تطوافه بالعواصم الإسلامية؛ فودع الجزيرة العربية المحببة إلى روحه وقلبه، وفارق المدينة والطائف وغيرهما من مهابط الوحي، وملهمات الذكريات الخوالد.
وذهب محيي الدين إلى الموصل، وطاف بعبادها وزهادها، والتقى برجال التصوف فيها، ثم ولى وجهه إلى بغداد، يركع ويتهجد في محاربها ومساجدها، ويلقي دروس العلم في مدارسها ومعاهدها، ويلوذ به الأئمة ورجال الله.
يقول الإمام عبد الله اليافعي في الإرشاد: «اجتمع محيي الدين في بغداد بالإمام السهروردي، فأطرق كل منهما ساعة ثم افترقا، فقيل لابن عربي: ما تقول في السهروردي؟ فقال: مملوء سنة من مفرقه إلى قدمه. وقيل للسهروردي: ما تقول في محيي الدين؟ فقال: بحر الحقائق وإمام العارفين.»
ثم طوف ببلاد الروم، والتقى بملك «قونية» فأجله وأكرمه، ووهب له دارا، قدرت بمائة ألف درهم، فلما نزلها وأقام بها، مر به سائل فقال له: شيء لله. فقال: ما لي غير هذه الدار فخذها لك، فتسلمها السائل، وعاد محيي الدين يملك الدنيا ولا يملك شيئا.
ثم هبط إلى الشام وهي الأرض التي أحبها ورغب أن يموت بها؛ لأن الرسول - صلوات الله عليه - قال: إنها بلد الأبدال والعلماء.
قال شيخ الإسلام المخزومي: «وقد كان الشيخ بالشام كعبة للقاصدين ومثابة للمتفقهين، يتردد إليه العلماء، ويحف به الأدباء، ويلوذ به الأوفياء، يعترفون له جميعا بجلالة المقدار، وأنه أستاذ المحققين من غير إنكار، وقد أقام بين أظهرهم أمدا طويلا، يكتبون مؤلفاته، ويتداولونها بينهم، ويسألونه الدعاء .»
واستقر بدمشق، وأقبلت عليه الدنيا، وحملت إليه عطايا ملوك الأرض وسادتها؛ فكان يتصدق بكل ما يصل إليه حتى لقب بريح الكرم.
يقول الإمام صفي الدين، في رسالته عمن رأى من سادات عصره: «ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن العربي، وكان من أكابر علماء الطريق، جميع بين سائر العلوم الكسبية، وما وقر له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا، خلقه هو القرآن.
وهو حجة الله الظاهرة وآيته الباهرة.»
صلاته بالملوك
محيي الدين هو بين رجال التصوف، صاحب الملوك، كما يلقب في التصوف بالسلطان، ويعطى مقام السلطنة، وهو في خلقه وشمائله، وعزيمته ومواهبه ملك من ملوك الروح لا يطاول ولا يسامى.
ولقد اتصل محيي الدين في مطلع شبابه بملك مراكش، وصادقه وصافاه وعمل معه وله، ثم هبط إلى مصر؛ فأحبه واليها وأكبره والتمس منه الصحبة والبقاء، فسمح له بالصحبة وأبى البقاء.
ثم استقر بالشام، فاتصل حبله بملوك الأيوبيين، وهم فرسان الدنيا وسادة الشرق في ذلك الوقت، وحماة الإسلام في وجه الصليبيين؛ فرفعوه مكانا عليا، وسعوا إليه يلتمسون لديه العلم، كما يلتمسون الدعاء.
1
ولم تقم صلاته بالملوك على الزلفى والتملق، فما ينبغي لرجال الله هذا وحاشاه منه، وهو من هو في أنواره ومقاماته، بل قام محيي الدين لديهم مقام كلمة الحق، مقام المربي المرشد، مقام العالم الأمين على رسالته؛ فلا تأخذه في الحق لومة لائم، فهو الناصح أبدا، الناصر للحق في لفتاته وإشاراته.
يقول محيي الدين: «كانت لي كلمة مسموعة عند الملك الظاهر صاحب مدينة حلب، ابن الملك الناصر لدين الله صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، فرفعت إليه من حوائج الناس في مجلس واحد مائة وثمان عشر حاجة قضاها كلها، وكان منها: أني كلمته في رجل أظهر سره وقدح في ملكه، وكان من جملة بطانته، وعزم على قتله.
فلما كلمته في شأنه أطرق، وقال: حتى أعرف المولى ذنب هذا المذكور، وأنه من الذنوب التي لا تتجاوز عنها الملوك، فقلت له: يا هذا ، تخيلت أن لك همة الملوك، وأنك سلطان. والله ما أعلم في العالم ذنبا يقاوم عفوي، وأنا واحد من رعيتك، وكيف يقاوم ذنب رجل عفوك في غير حد من حدود الله، إنك لدنيء الهمة؛ فخجل وسرحه وعفا عنه، وقال لي: جزاك الله خيرا من جليس، مثلك من يجالس الملوك. وبعد ذلك المجلس ما رفعت إليه حاجة إلا سارع في قضائها من غير توقف كانت ما كانت.»
وإنه لموقف عظيم من رجل عظيم لدى ملك عظيم، يدل في إشراق ووضوح على مكانة محيي الدين لدى الملك الناصر، حتى ليلقبه بالمولى، وحتى ليرمي محيي الدين في وجهه بأعنف كلمة توجه إلى ملك؛ فيصفه بنقص الهمة، ولا يغضب الملك العظيم، بل يخجل، ثم يعفو عن الذنب الذي لا تعفو عن مثله الملوك، ثم يقول: جزاك الله خيرا، فمثلك من يجالس الملوك.
وبهذا الخلق، هزم هؤلاء الملوك أوروبا مجتمعة متكاتفة في ساحات الشام وميادينه.
ويكتب محيي الدين رسالة إلى السلطان الغالب بأمر الله صاحب بلاد الروم؛ ردا على خطاب أرسله له سنة تسع وستمائة:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل الاهتمام السلطاني الغالب بأمر الله - أدام الله عدل سلطانه - إلى والده الداعي له محمد بن العربي، فتعين عليه الجواب بالوصية الدينية، والنصيحة السياسية الإلهية، على قدر ما يعطيه الوقت ويحتمله الكتاب، إلى أن يقدر الاجتماع ويرتفع الحجاب.
إلى أن يقول:
فاحذر أن أراك غدا بين أئمة المسلمين من أخسر الناس أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يكون شكرك لما أنعم الله به عليك من استواء ملكك بكفران النعيم، وإظهار المعاصي، وتسليط النواب السوء بقوة سلطانك على الرعية الضعيفة، فإن الله أقوى منك، فيحتكمون فيهم بالجهالة والأغراض، وأنت المسئول عن ذلك. فيا هذا، قد أحسن الله إليك؛ فأنصف المظلوم من الظالم، ولا يغرنك أن الله وسع عليك سلطانك، وسوى البلاد لك ومهدها مع إقامتك على المخالفة والجور، وتعدي الحدود؛ فإن ذلك الاتساع مع بقائك على مثل هذه الصفات بإمهال من الحق لا إهمال، وما بينك وبين أن تقف بأعمالك إلا بلوغ الأجل المسمى، وتصل إلى الدار التي سافر إليها أباؤك وأجدادك.
يا هذا، ومن أشد ما يمر على الإسلام والمسلمين - وقليل ما هم - رفع النواميس والتظاهر بالكفر، وإعلاء كلمة الشرك؛ فتدبر كتابي ترشد إن شاء الله، ما لزمت العمل به والسلام.
هذه هي لغة العلماء إلى الملوك، علماء الله لا علماء الدنيا.
ويروي لنا محيي الدين أنه كان يسير في رفقة من أصحابه؛ رجال العلم والتقوى، ونظر فرأى الخليفة قادما، فقال لأصحابه: من بدأه منكم بالسلام، أوقعت به لديه؛ فإن السنة أن يسلم الراكب على المترجل، وما تعود الخليفة ذلك.
ووصل الخليفة إليهم، فلم يلقوا إليه بالسلام، وتعجب الخليفة؛ ولكنه نظر فرأى محيي الدين، فألوى بزمام دابته، وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقالوا: وعليكم السلام ورحمته وبركاته.
وتبسم الخليفة، وقال: رحمكم الله، لقد أحييتم سنة محمدية كريمة، وعلمتموني واجبا.
قال الفيروز آبادي صاحب القاموس: لقد رأيت إجازة بخط الشيخ، كتبها للملك المعظم صاحب حلب، ورأيت في آخرها: «وأجزت له أيضا أن يروي عني كتبي وجميع مؤلفاتي، ومن جملتها كذا وكذا حتى عد نيفا وأربعمائة مؤلف، منها: التفسير الكبير، الذي وصل فيه إلى قوله - تعالى:
وعلمناه من لدنا علما .»
وتلك الوثيقة التاريخية؛ التي ينقلها لنا الفيروز آبادي، تدل على تلمذة الملوك له، وحرصهم على اقتناء مؤلفاته التي أربت على أربعمائة مؤلف.
يقول محيي الدين: «وإياك وصحبة الملوك، إلا أن تكون مسموع الكلمة عندهم؛ فتنفع مسلما أو تدفع عن مظلوم، أو ترد سلطانا عن فعل ما يؤدي إلى الشقاء عند الله.»
ولقد وفى محيي الدين بقوله وشروطه؛ فعاش في حدود تلك الكلمات الغالية، فكان شفيعا لعامة المسلمين عند الملوك، مدافعا عن المظلومين، ناصرا للحق والدين، رادا للملوك عن فعل ما يؤدي إلى الشقاء عند الله.
وتلك رسالة لا ينهض بها إلا رجال الروح والإيمان، من أمثال محيي الدين، ومن في الناس كمحيي الدين؟
المعراج الأخير
عاش محيي الدين يجوب بروحه آفاق السماء ، ويعرج بهمته إلى معارف الملأ الأعلى، عاش معلق القلب أبدا بربه، عاش في مقامات النور وأحوال الصفاء، تتنزل عليه هبات خالقه مبشرات ومرشدات. عاش محبا محبوبا، راضيا مرضيا، فلما اكتملت رسالته، وأحس بقرب الأجل، والرحيل إلى الرفيق الأعلى، أقبل على القرآن يصوغ له تفسيرا جديدا على هدى كشوفاته وفتوحاته وإلهامات قلبه.
ضريح محيي الدين بن عربي «بدمشق» الشام.
وفي دمشق في ليلة الجمعة، في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وستمائة، والمحابر والأوراق بين يديه، والقلم في يمناه منطلقا بالفتح الأكبر، مفسرا لآي القرآن والذكر الحكيم، فلما وصل إلى قوله - تعالى:
وعلمناه من لدنا علما ، وقف القلم واهتز الجسد، ومال الرأس الكبير، وهرع إليه صحبه؛ فإذا بنور يتصاعد إلى السماء، يحمل معه سر تلك الحياة الخالدة.
ذهب محيي الدين إلى ربه، فتحطمت تلك المحجة التي كانت تهدي إلى الله - أستغفر الله، بل زادت تلك المحجة وضوحا وإشراقا؛ فقد غدا تراثه شرعة ومنهاجا وسارية تضيء وتضيء في الطريق الرباني، تهدي إلى الإيمان والتقوى.
أما خصوم محيي الدين الذين ملئوا الدنيا حوله صياحا ورعودا؛ فلم أر وصفا لهم أبلغ من قول اليافعي: حكمهم حكم ناموسة نفخت على جبل تريد إزالته من مكانه، وتذهب الريح بأمم من الناموس، وتبقى الجبال شوامخ راسيات، بها تثبث الأرض، وبها يحفظ ميزان الدنيا.
النهج الصوفي
يصف الله - سبحانه - الحالة المثلى، والمقام الأعلى للمؤمنين العابدين؛ فيقول - تبارك وتعالى:
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا .
فالإيمان الحق: ذكر وفكر، ذكر يلهم الروحانية والمعرفة، وفكر يدرك الآيات وأسرارها، ذكر بالليل والنهار لفاطر السموات والأرض، وتفكر في آيات الله الكونية، وما اشتملت عليه السموات من نجوم وكواكب وأقمار وشموس، مسخرات بأمره، سابحات بإذنه، مدبرات أحكم التدبير بعلمه، وما حوت الأرض من نبات مختلف الألوان، وثمرات تسقى من ماء واحد، ويفضل بعضها بعضا في الأكل والأريج، ومعادن وكنوز؛ كل له رسالة يؤديها، وسهم نافع في قيام الحياة.
والذكر والتقوى معارج إلى العلم اللدني الرباني:
واتقوا الله ويعلمكم الله ، وتفكر في آيات الله على ضربين: أولهما: يرشد إلى عظمة الحق ويدل عليه. وثانيهما: استنباط ما في تلك الآيات من قوى لخير الإنسانية وهداها ورفاهيتها، وهي علوم الدنيا.
فالمؤمن الكامل من اكتسب معارفه بالذكر والتقوى، والتأمل والتفكر في الآيات والبينات، مع الاعتصام بميزان الشرع، الذي لا يميل ولا يحيف.
ذلك هو التصوف في مبناه ومعناه، فالتصوف هو الظمأ إلى المعرفة على تعدد ألوانها وصورها، الظمأ إلى المثالية في علوم الدين وعلوم الدنيا.
وعلوم الدين غايتها الله - سبحانه - المعبود الواجب الوجود، المحب المحبوب، واهب الحياة وربها، وقيوم السماء وعمادها، يذهب الصوفي إليه بقلبه وروحه ووجدانه، فهو أبدا الذاكر الراكع الساجد الفاني في الطاعة والمحبة، المراقب لله في كل حالاته، كأنه يرى الله مشاهدة مبصرة، فإذا لم يكن يراه فإن الله يراه، ويعلم سره ونجواه.
وعلوم الدنيا، غايتها سعادة الإنسان، وكف الأذى ومنع العدوان، وإشاعة الحب والسلام، وتذكيره في كل لفتة أو خاطرة، بربه وخالقه الذي وهب له الكون، وسخره بأمره له، ليعطيه من خيراته وكنوزه ما أحب وأراد.
خلق الله الكون لنا، ميدانا لعقولنا، وساحة لأرزاقنا، وخلقنا لنفسه:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، فلننظر في آيات الكون ونتدبرها، ثم نسبح بحمد الله، ولنطعم من خيرات الأرض ونشكر الله، ولنستنبط من الأرض ما خفي وانطوى في باطنها، ثم لنرفع رءوسنا إلى موجد الأشياء جميعها بالحمد والشكر، ذاكرين أفضاله، مقدرين لنعمه ومننه.
ذلك هو نهج المتصوفة في الذكر والتفكر، وهذا هو الميزان الذي توزن به حياتهم، وتوزن به أعمالهم ومعارفهم.
فالتقوى طريق للعلم الرباني، والفكر والتفكر معراج إلى مناهل العلوم ومنابعها، والعلم أفضل ما في فضل الله كما يقول محيي الدين؛ فأولياء الله هم العلماء، وما اتخذ الله من جاهل وليا أبدا؛ إنما يخشى الله من عباده العلماء. والعلم يوجب الطاعة، والطاعة تستوجب المحبة من الله، وحب الله يصاحب الفيض والإشراق والإلهام. أو كما يقول الإمام مالك: «ليس العلم بكثرة التلقين والرواية ؛ وإنما هو نور يقذفه الله في قلوب من أطاعوه فأحبهم.»
يقول الإمام الغزالي: «كنت في مبدأ أمري منكرا لأحوال الصالحين ومقامات العارفين، حتى صحبت شيخي يوسف النساج، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حظيت بالواردات، فرأيت الله - تعالى - في المنام، فقال لي: يا أبا حامد. فقلت: أوالشيطان يكلمني؟ قال: لا؛ بل أنا الله المحيط بجهاتك الست. ثم قال: يا أبا حامد، زر مساطرك واصحب أقواما جعلتهم في أرضي محل نظري، هم الذين باعوا الدارين بحبي. قلت: بعزتك ألا أذقتني برد حسن الظن بهم. قال: قد فعلت. والقاطع بينك وبينهم: تشاغلك بحب الدنيا؛ فاخرج منها مختارا قبل أن تخرج منها صاغرا، فقد أفضت عليك أنوارا من جوار قدسي. فاستيقظت فرحا مسرورا، وجئت إلى شيخي يوسف النساج، فقصصت عليه الرؤيا فتبسم، وقال: يا أبا حامد، هذه ألواحنا في البداية، بل إن صحبتني ستكحل بصيرتك بإثمد التأييد حتى ترى العرش ومن حوله، ثم لا ترضى بذلك، حتى تشاهد ما لا تدركه الأبصار؛ فتصفو من الأكدار طبيعتك، وترقى على طور عقلك، وتسمع الخطاب من الله - تعالى - كموسى:
إني أنا الله رب العالمين .»
ويقول الإمام الغزالي؛ متحدثا ومدافعا عن النهج الصوفي: «وماذا يقول القائلون في طريقة أول شروطها: تطهير القلب عما سوى الله - تعالى، ومفتاحها: استغراق القلب بالكلية في ذكر الله، وآخرها: الفناء بالكلية في الله.
وأول هذه الطريقة: المكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.»
وعلى هذا الضوء، نستطيع أن نعرف سر العلم لدى المتصوفة، وعلى هذا الضوء نستطيع أن نتدبر وندرس ذلك التراث العظيم الذي تركه محيي الدين للفكر الإسلامي والمعارف العالمية، من جولات في عوالم الأرواح والقلوب، وكشوف لدنية في أسرار الشريعة ومعارفها، وفيوضات كالبحار الزواخر في الآيات الكونية والنظم الإلهية والأسرار الربانية، المستمدة جميعها من خزائن القرآن وفيوضات العلم اللدني، الذي قوامه الذكر والفكر، والإشراق والرضا.
العلم اللدني
الكشف الباطني والفيض الرباني ، هما سر الحياة في محيي الدين، فقد تدفقت معارفه من هذا النبع، وصيغت علومه من ذلك الفيض، وتميز بين رجال الفكر الإسلامي، بل العالمي، بأنه صاحب النصيب الأكبر والحظ الأوفر من هذا العلم اللدني، أو الحكمة الربانية التي يؤتيها الله من يشاء من عباده. يقول محيي الدين: «إن المؤمن المتأدب بآداب ربه، المحافظ على شريعته، إذا لزم الخلوة والذكر، وفرغ فكره مما سواه، وقعد فقيرا لا شيء له عند باب ربه؛ حينئذ يمنحه الله - تعالى - ويعطيه من العلوم والأسرار الإلهية، والمعارف الربانية، التي من بها - سبحانه - على عبده الخضر، فقال - تعالى:
عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ، وقال - تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله ، وقال:
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ، وقال - سبحانه:
ويجعل لكم نورا تمشون به . والنور هو العلم، والفرقان أعلى فيوضات الإلهام.»
آيات بينات محكمات، في حقيقة الفيض الرباني، الذي يفجر الحكمة والعلم في قلب المؤمن العابد الذاكر، الذي يعيش جالسا على باب ربه خاشعا، مجردا خاليا من كل شيء، متوجها إلى الواهب القادر الذي يجعل لمن قصده نورا يعيش به، وفرقانا يمشي على هداه.
ثم يقول محيي الدين: «فحينئذ يحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع ربه - جلت هيبته وعظمت منته - من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة؛ لأنها من وراء أحكام العقل، وليست في متناوله ولا طاقته؛ لأنها منة الوهاب العليم.»
قيل للجنيد: بم نلت ما نلت؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدوحة ثلاثين سنة، دوحة المراقبة والطاعة، والعبودية الكاملة.
وكان أبو يزيد البسطامي يقول في محاججته لعلماء الرسوم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت.
ومحيي الدين يصرح في كل ما يكتب بهذه المعاني، فهو يقول: «إن جميع ما أكتبه في تأليفي ليس عن روية وفكر؛ وإنما هو عن نفث في روعي على يد ملك الإلهام.» ويقول في الباب الثالث والسبعين وثلاثمائة من الفتوحات: «وجميع ما كتبته وأكتبه في هذا الباب؛ إنما هو من إملاء إلهي وإلقاء رباني، أو نفث روحاني في روح كياني؛ كل ذلك بحكم الإرث للأنبياء، والتبعية لهم، لا بحكم الاستقلال.» ثم يقول: «وتصانيفي إنما هي من حضرة القرآن وخزائنه؛ فإني أعطيت مفاتيح الفهم فيه والإمداد منه.»
ويقصد محيي الدين من قوله: بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم قول الرسول - صلوات الله عليه: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.» أي: في الكشف والعلم، والنفث في الروع، والإمداد، والفيض الإلهي.
والكشف الباطني، أثير حوله الجدل والحوار، في سائر أنحاء الكوكب الأرضي، قديما وحديثا.
فالماديون لا يرون للمعرفة والعلم بابا إلا الحواس الخمس المتصلة بعالمنا، ويقررون أن لا مصدر فوق هذا تصدر منه المعرفة غير الخيال والتصور. وما كان الخيال والتصور يوما من الأيام حكما ترضى حكومته في المعارف اليقينية، والعلوم الصحيحة الثابتة، وهم شديدو التهكم برجال الدين، والكشف الباطني، ومن سلك مسلكهم من أصحاب الرياضة العقلية، والصفاء الروحي.
أما الصوفية والروحانيون على اختلاف أديانهم وألوانهم ومذاهبهم، فيقررون أن للعلم وسائل باطنية يقرها العقل المنصف، ويعترف بها الواقع الملموس المشاهد، أساسها الصلة بين النفس الإنسانية والعالم الروحاني، كما يقول الروحانيون، أو بين النفس الإنسانية وخالقها، كما يقول المتصوفة. أو كما يعبر محيي الدين: «إن الله هو المعلم الحقيقي، والمؤدب الحقيقي للوجود كله، خلق الإنسان علمه البيان، ويؤتي الحكمة من يشاء، وعلم الخضر، ومن يسلك نهجه ويقرب قربه، من لدنه علما، وأدب من اصطفى واختار فأحسن تأديبه.»
فمن خلصت نفسه من شوائب المادية وظلماتها، وصفت روحه وتطهرت في محاريب الطاعة، ومناجاة المحبة، ورضي الله عنه فأحبه؛ أفيض عليه من أسرار الوجود وآياته، وإشراقات العلوم وأسرارها ما يعلو على الحواس الخمس، وما تدركه الحواس الخمس، وظفر بمعارف وعلوم يضيق عنها نطاق النطق، كما يقول الغزالي، أو كما يقول أستاذه يوسف النساج، حتى يرى العرش ومن حوله، ثم لا يرضى حتى يرى ما لا تدركه الأبصار، ثم يرقى حتى يسمع الخطاب كموسى:
إني أنا الله رب العالمين .
والمعارف الهابطة من السماء، المفاضة من تحت عرش الرحمن، تتبع الصفاء وتلازمه ، كتب الشاعر الروحاني «موسيه» عن نفسه فقال: أنا لا أعمل ولكني أسمع ما أكتب، فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني. وكان «لامارتين» الذي صقله الحب يقول: لست أنا الذي يفكر؛ ولكن هي أفكاري التي تفكر لي. «وطاغور» زاهد الهند وشاعرها يقول بأنه ينام وهو يعمل في قطعة من الشعر لم تتم، فيستيقظ فيجدها تامة في ذهنه. أما «سقراط» فيلسوف اليونان، فقد تحدث إلى تلامذته فقال: إني لأسمع بأذني ما تلقيه إلي روح مجهولة، ومنها استمددت معارفي. وكان فيلسوف الإسلام «الفارابي» تحل له أعظم مشاكله الفكرية في المنام، أما «ابن سينا» فيخطو خطوة أخرى نحو الكمال فيقول: إنه إذا استعصى عليه أمر من أمور الفكر، هرع إلى الصلاة فصلى وسبح، فإذا بكل شيء كالصبح المبين. «وأرسطو» قد بنى فلسفته في الدراسات النفسية على الفيض والإلهام.
تلك ثمرات الصفاء، وهبات الروح الجميل المشرق، ولكن الكمال في الفيض والهبات؛ إنما هو لرجال الطاعة والعبادة، والذكر والمناجاة، والرضا والمحبة؛ فأولئك لهم التلقين والمشاهدة والنور والفرقان.
ويأتي بعد ذلك سؤال، لا بد أن يدور به اللسان: هل السالكون لطريق الطاعة والعبادة والذكر والصفاء، يصلون جميعا إلى هذه المعارف الباطنية والعلوم الربانية، والإشراقات والفيوضات والمكاشفات؟
يقول محيي الدين: إن الفتح على قدر الهمة. وإن شئت بلغة العصر، فعلى قدر الطاقة الروحية للعابد الذاكر؛ فطاقات العقول مختلفة، وطاقات الروح أيضا، وكما تتباين كفاءات العلماء في الدراسة الظاهرية: علوا وانخفاضا، وعبقرية هنا وجمودا هناك، كذلك تتباين كفاءات المتطهرين العابدين، في الفتح والكشف.
مكانة محيي الدين من العلم اللدني
ومنذ قرعت الدعوة المحمدية أسماع الدنيا بالخير والهدى إلى يومنا، على كثرة العابدين الذاكرين المتطهرين في محاريب المحبة والصفاء، المنقطعين إلى ربهم، المتهجدين لخالقهم في تلك الرقعة المحمدية التي تشغل قلب الدنيا، والتي ضمت شتيتا من الأمم، وألوانا من الشعوب، والتي أنجبت العباقرة والأئمة، لم يعرف تاريخ تلك الأمة رجلا ثانيا يزاحم محيي الدين في قمته الشامخة، في علوم الكشف والفيض والهبات، والعطايا الربانية.
يقول الشعراني في اليواقيت والجواهر : «إن كلام محيي الدين إن نظر فيه مجتهد في الشريعة، ازداد علما إلى علمه، واطلع على أسرار في وجوه الاستنباط، وعلى تعليلات صحيحة لم تكن عنده، أو لغوي، أو مقرئ، أو معبر للمنامات، أو عالم بالطبيعة، أو متحدث، أو خبير بالطب، أو عالم بالهندسة، أو نحوي، أو منطقي، أو صوفي، أو عالم بالحديث وطرقه، وبعلم الأسماء والحروف وأسرارها، وجد لديه من العلم ما يذهل العقل ويحيره، فهو يفيد هذه العلوم وغيرها علوما لم تخطر قط على بال إنسان.»
ولقد أشار الشعراني إلى نحو ثلاثة آلاف علم منها في كتاب له أسماه: «تنبيه الأغبياء إلى قطرة من بحر علم الأولياء»، ويقول الشعراني أيضا: «إن كلام محيي الدين ومرتبة علومه بالنسبة لغيره من الصوفية، كمرتبة إكسير الذهب بالنسبة إلى مطلق الذهب.»
ومحيي الدين تقف العقول على أبوابه متحيرة ذاهلة؛ فأمواج عبابه طاغية صخابة، ثم هادئة رقراقة، ولكنها في ضجيجها أو في صفائها، عميقة الغور عمقا مهما غاصت العقول بحثا عن نهايته؛ فهي أبدا ترتد معترفة بالعجز، شاهدة بالقصور.
ومرجع هذا أن علوم محيي الدين مزاج عجيب من علوم الدين والدنيا؛ فهو يحدثك عن صفات الله - عز وجل - وأسرار أسمائه الحسنى، وما أودع في عوالم الحروف والكلمات من آيات وآيات، ثم يحدثك عن خواص المعادن وأسرار مزجها وتحولها، وذارتها وموازينها، ثم يثب إلى الكواكب والأجرام السماوية وسيرها وحركاتها ونواميسها، ثم يعود بك إلى البحار وخصائصها وجواهرها وعوالمها، ثم يعطف بك على دروب الروح ومعارجها، وينتقل إلى النفس والهوى والجوارح، ثم إلى الأديان والشرائع، مقارنا وشارحا، ثم إلى العماء الأول الذي خلق منه الكون، والماء الذي تكون منه كل شيء حي، وفجأة إلى العالم الأخروي وصراطه وموازينه وملائكته وبعثه ونشوره، ثم إلى دنيا الطب وعجائب الأدوية، والنباتات وخواصها، وقبل أن تفيق يأخذ بأذنك ليعطيك درسا في الهندسة والمثلثات والزوايا والدوائر؛ فأنت معه أبدا على جناحي طائر من عالم مسحور، عنيف الحركة، جبار السرعة، يسمعك تسبيح الملائكة وأحاديث الملأ الأعلى في الآفاق العليا، واصطخاب الأمواج وتلاطمها في أعماق المحيطات في طرفي لحظة واحدة.
فإذا دار رأسك من هذه السرعة الرهيبة، وعجز عقلك عن متابعة كل هذه الفيوضات العلمية المتباينة؛ ففهمت شيئا وغابت عنك أشياء، أسمعك أشعاره وحدثك بالمقامات والأحوال، وناجاك بقصص الصالحين والأولياء، وسرد عليك النكت البيانية والدقائق النحوية، والرقائق الصوفية، وما وقع فيه الفقهاء، وما تورط فيه المفسرون، وما أغلق على المتكلمين، وما ألبس على المعتزلة والأشاعرة. فإذا استرددت أنفاسك اللاهثة قليلا، قذف بك عنيفا جامحا إلى دنيا جديدة، على صورة عالمنا شكلا، وعلى نقيضه معنى، فهناك الصفاء والجمال والخير الساري والثمر الشهي، الذي يثب إلى يدك، والأرض التي تطوى تحت قدمك، والقصور التي صاغها الخيال، والنظم الرحيمة الكريمة التي لا يشقى بها إنسان، وفي تلك النشوة التي تحس بها جميلة ساحرة، يأخذك إلى مشكلات الجوهر الفرد، وكروية الأرض، ونظرية الموازنة، أو ما يسمى اليوم بالنسبة، وقوة التفجر أو ما يسمى اليوم بالذرة، فإذا خارت قواك، فلم تستطع التطواف مع محيي الدين في كتبه؛ فاعلم بأنك في بداية الشوط وما قطعت في ساحاته إلا خطى ضئيلة كليلة.
فإذا تفكرت فيما مر بك، تذكرت أمرا عجبا، أنك مع رجل يعرض عليك ألوانا من الفكر، وألوانا من العلم، وألوانا من المعارف لا تمت بصلة إلى علوم سابقة، ولا تمت بنسبة إلى أقلام مبدعة كاتبة، إنها لمن نبع محيي الدين وحده؛ فمحيي الدين لا يذهب في معارفه وعلومه مذاهب غيره، بل هو قمة شامخة، قائمة وحدها، أو كما يقول الإمام النووي: «تلك أمة قد خلت، لم تماثلها أمة من قبل، وما أحسب أن أمة تخلفها.»
يقول محيي الدين: «ما عندنا بحمد الله تقليد لأحد؛ إنما هو فهم في القرآن أعطيته، ومدد من رسولي اختصصت به، وفيض من ربي أكرمني بأنواره.»
ومع هذا فقد استمسك محيي الدين بميزان الشريعة؛ لأنه كما يقول: «من رمى بميزان الشريعة من يده لحظة هلك.» ويهتف مع مسمع الدنيا: «لقد كتبت ما كتبت، وأنا أقر - بحمد الله تعالى - أني لم أذكر أمرا غير مشروع ، وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء، بل منهما استمددت، وبهما أنير طريقي.»
أقسام العلوم ومراتبها
يقول محيي الدين: «لقد أجمع رجال التصوف جميعا على أنه لا تحليل ولا تحريم بعد شريعة رسول الله وخاتم النبيين - صلوات الله عليه؛ وإنما هو فهم يعطى في القرآن لرجال الله، كما ثبت من حديث علي، وفيض من العلم يهبه لمن أطاعه فأحبه فألهمه وجعل له نورا.
وكما حفظ علماء الظاهر حدود الشريعة، كذلك يحفظ علماء الباطن آدابها وروحها، وكما أبيح لعلماء الظاهر الاجتهاد في استنباط الأدلة، واستخراج الحدود والفروع، والحكم بالتحليل والتحريم على ما لم يرد فيه نص، وترك أمره للاجتهاد والاستنباط؛ فكذلك للعارفين أن يستنبطوا آدابا وأذواقا ونهجا للمريدين والعابدين.»
وإذن؛ فللتصوف علومه واجتهاداته التي يتفرد بها، ولتلك العلوم أثرها ومكانتها ومقامها في التشريع والآداب الإسلامية.
ثم يعطف محيي الدين لتوضيح رسالته على العلوم وأقسامها، وأثر العقل فيها، ومكانة الأحوال والأسرار منها، فيقسم العلوم إلى ثلاثة أقسام: علم العقل، وعلم الحال، وعلم الأسرار؛ وهذه هي جماع المعارف كافة، وما سواها من فروع، فمنضو تحت أعلامها.
علم العقل
فعلم العقل، هو كل علم يحصل نتيجة نظر في دليل، بشرط الحصول على وجه ذلك الدليل وشبهه؛ ولهذا يقولون في النظر: منه صحيح ومنه فاسد، ومنه علم الفلسفة وسواه من العلوم النظرية.
وعلامة هذا العلم أو من خصائصه أنك كلما بسطت عبارته حسن واتضح معناه، وعذب عند السامع، وقبله منطقه.
علم الأحوال
والعلم الثاني: هو علم الأحوال، ولا سبيل إليه إلا بالذوق أو المشاهدة، ولا يقدر عاقل على أن يحده، أو يقيم على معرفته دليلا ألبتة، وهو علم يتلون مع صاحبه بلون ذوقه، أو بلون مشاهداته، كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر، ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق، عند الناس كافة، أو كحالات المتصوفة في أحوالهم ومقاماتهم وما يتذوقونه من لذائذ روحية.
فهو علم من المحال أن يعرف أحد حقيقته إلا أن يتصف بحالاته ويتذوقها، أو شبهها من جنسها في عوالم الذوق والروح.
وشرط هذا العلم سلامة الإدراك والبراءة من الآفات، فإن من يغلب على طعم فمه المرارة يجد العسل مرا، وهو ليس كذلك.
وهذا العلم يترك لأصحابه، فلا يتحدث به إلا من ذاقه، ولا يجوز إنكار الذوق على من ذاق، بل لا يلتذ بسماع حالاته على تعدد ألوانها إلا أصحاب الأذواق السليمة.
علم الأسرار
وهو العلم الذي فوق طور العقل وإدراكاته، وهو علم المتصوفة، أو العلم اللدني، وهو الحكمة التي يؤتيها الله من يشاء، وأساسها الفيض والنفث في الروع؛ ولذلك يتسارع إلى صاحبه الإنكار؛ لأنه من طريق الإلهام، وأكثر علوم الكمل من هذا القبيل، وهو صفة أساسية للنبي ومنحة وخلعة على الولي.
وهو نوعان: نوع منه يدرك بالعقل، وهي العلوم التي يمكن تحصيلها بالعقل والفكر، كالقسم الأول من هذه الأقسام، ولكن العلم به هنا لم يحصل عن نظر ولا عن تفكر، ولكنه ملازم لمرتبة العلم التي يعطاها.
والنوع الآخر من علوم الأسرار على ضربين: ضرب منه يلتحق بعلم الأحوال، ولكن على مقام أعلى وحالة أشرف، والضرب الآخر من علوم الأخبار، وهي التي يدخلها الصدق والكذب، إلا أن يكون المخبر به قد ثبت صدقه وعصمته فيما يخبر به ويقوله، كإخبار الأنبياء بالجنة وما فيها، فقوله: إن ثمة جنة مثلا من علم الخبر، وقوله في القيامة: إن فيها حوضا أحلى من العسل من علم الأحوال، وهو علم الذوق، وقوله: كان الله ولا شيء معه، وما يشابه ذلك، من علوم العقل المدركة بالنظر.
أما علم الأسرار، فالعالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات، وما بقي إلا أن يكون المخبر به صادقا معصوما، وعلى العاقل اللبيب الناصح لنفسه ألا يرمي ما يرد إليه من هذا العلم، ولكن يقول: هذا جائز عندي أن يكون صدقا أو كذبا.
وكذلك ينبغي للعاقل، إذا أتاه هذا العلم من غير المعصوم، وإن كان صادقا عند الله فيما أخبر به، ولكن كما لا يلزم السامع له بتصديقه، لا يلزمه تكذيبه، ولكن يتوقف ويتأمل، فإن كان ما أتى به لا تحيله العقول بل تجوزه، ولا يهدر ركنا من أركان الشريعة، ولا يبطل أصلا من أصولها، أو أتى بأمر جوزه العقل، وسكت عنه الشارع؛ فلا ينبغي له أن يرده أصلا، بل له الخيرة في الأمر، فإن كانت حالة المخبر به تقتضي العدالة، لم يضره القبول، بل هو الأولى. فكما أننا نحكم في الأرواح والأموال بشهادة الشهود، نقبل ونحكم بصدق من يأتي بهذه العلوم بشروطها التي ذكرناها. وإن كان المخبر بها غير عدل في علمنا ننظر، فإن كان الذي أخبر به حقا بوجه ما من الوجوه الصحيحة قبلناه، وإلا تركناه في باب الجائزات، ولم نتكلم في قائله بشيء مسيء؛ فإنها شهادة مكتوبة نسأل عنها. قال تعالى:
ستكتب شهادتهم ويسألون .
والصوفية - رضوان الله عليهم - أو أصحاب علم الأسرار؛ إنما يأتون لنا بأسرار وحكم من أسرار الشريعة، مما هي خارجة عن قوة الفكر والكسب، ولا تنال أبدا إلا بالمشاهدة والإلهام وما شاكل هذه الطرق.
ومن هنا نفهم، وعلى هذا الضوء ندرك قول الرسول - صلوات الله عليه: «إن يكن في أمتي محدثون فمنهم عمر.» أي: يأتون بالحديث المنطوي على العلم والحكمة، وبقوله في أبي بكر الصديق: «ما فضلكم أبو بكر بكثرة صلاة ولا قيام؛ وإنما بما وقر في صدره من هذا الدين.»
ثم يقول محيي الدين: هذه هي علوم الأسرار، التي اختص بها الأخيار، ولو لم يقع الإنكار لهذه العلوم في الوجود، وكان الناس كلهم أصحاب عقول سليمة لم يفد قول أبي هريرة: «حفظت عن رسول الله وعاءين من علم: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا الحلقوم.» وقول ابن عباس في قوله - تعالى:
الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن : لو ذكرت لكم تفسيره لرجمتموني. وفي رواية: لقلتم: إني كافر.
تلك هي أقسام العلوم عند محيي الدين، وفيها تنطوي معارف البشر كافة من علوم ظاهرة وباطنة؛ فعلم العقل: هو علم الأدلة، علم الجدل والإقناع، علم التفكر والنظر، وبدايته ونهايته محددة، ومعارفه حولها القيود والسدود ؛ لأنه خاضع لإدراكات العقل، وقانون الفكر؛ ولهذا جاء منه الصحيح والفاسد، لاختلاف العقول وتباينها، وهو علم مباح للناس كافة، كما رزق الناس كافة العقول.
أما علم الأحوال، فهو علم التجربة والذوق، لا يعرفه إلا من جرب أو ذاق، كمقامات المتصوفة ودرجات أحوالهم، أو حالات النفس من الرضا والغضب، أو تذوق الحواس للمرارة والحلاوة، وشرطه صحة الأداء عند صاحبه حتى لا يفسد حكمه على الأشياء.
وهو علم وسط بين علوم العقل وعلوم الأسرار؛ ولهذا يشترك فيه المتصوفة وغيرهم، لكل إنسان ما ذاق وشاهد؛ وليس لأحد أن يصدر حكما على ما يذوق أو يشاهده صاحب هذا العلم؛ لأنه إنما يذكر ما ذاق خاصة، وما شاهد وحده.
أما العلم الثالث: علم الأسرار، فهو علم المتصوفة وحدهم، علم المشاهدة والمكاشفة، العلم الجامع المحيط الشامل للمعارف كافة، العلم الذي هو للأنبياء أصلا، وللأولياء خلعة منحة. وعلى العاقل ألا ينكر، بل عليه أن يتقبله بالقبول الحسن، ما دام لا يتعارض مع أصل من أصول الشريعة، ولا يهدم ركنا من أركانها، بل هو يشرح الأصول ويدعم الأركان، ومن هذا الفيض كانت معارف محيي الدين، والمعترض على هذه العلوم بلا دليل متهور ناقص العقل، محروم من الفهم والخير.
علم التجليات
ويستطرد محيي الدين، فيضيف لهذه العلوم تتمة تكمل بها، أو إن شئت فهو يحدثنا عن المقام الذي تتنزل منه المعارف على أربابها.
والمتصوفة يؤمنون بأن المعارف أصيلة في النفس البشرية لا دخيلة عليها؛ لأن العلوم كافة من الله، هو مانحها، وهو - سبحانه - واهبها ومفيضها، علم آدم الأسماء كلها، ويعلم من يشاء.
يصور لنا محيي الدين الكون في صورة جميلة منسقة، منظمة متماسكة، يشد بعضها بعضا بناموس وقانون إلهي محكم، ومن قانون هذا الكون: الحركة الدائمة، وهذه الحركة، كما هي في الكون مصدر وجوده، أو كما يقول: إن الخلق مع الأنفاس يتجدد. هي أيضا في الإنسان مصدر أحواله ومعارفه، يقول محيي الدين: «العالم في حركة دائبة، وللإنسان أحوال متقلبة، حتى ليحدث التقلب بين كل نفسين، ومرد هذه الحركة في الكون إلى قوله - تعالى:
كل يوم هو في شأن .
وأعلى العلوم هي مرتبة العلم بالله - سبحانه، وأعلى الطرق إلى العلم بالله: علم التجليات، ودونها علم النظر. وعلم التجليات هو الذي نزل فيه:
وقل رب زدني علما ، أي: زدني من كلامك ما تزيدني به علما بك.
والتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم، وهي علوم الأذواق، ولكل شيء ظاهر وباطن، وكذلك نفس الإنسان لها ظاهر وباطن؛ فهي تدرك بالظاهر أمورا، وتدرك بالباطن أمورا.
والتجلي يأتي للنفس البشرية بحسب حالتها واستعدادها؛ فتقع الزيادة في علوم الأحكام إن كان من علماء الشريعة، وفي علوم موازين المعنى، إن كان منطقيا، وفي علوم ميزان الكلام إن كان نحويا، وكذلك صاحب كل علم.
أما الصوفي، فتقع له الزيادة في عالم الحقائق والمعاني، في العلوم الإلهية، وعلوم الأسرار، وعلوم الباطن، وما يتعلق بعلوم الآخرة، وتلك منحة المنح لهم.»
ثم يقول محيي الدين: «إن تلك الهبات الروحية الهابطة من مقام التجلي على كل بحسب علمه، تجعل الإنسان في زيادة علم أبدا، من ناحية ما تعطيه حواسه وتقلبات خواطره، ولكن أغلب الناس لا ينتفعون بهذه العلوم؛ لأن الظن والشك والوسوسة تفسدها، كما تذهب بها الظلمة، ولا يسلم دائما إلا أهل الله الذين برئوا من الظنة والشك، وليست للوسوسة عليهم سلطان، ولا للظلمات إلى حياتهم من سبيل؛ فهم في نطاق الرحمة والعناية، وفي زيادة دائمة متلاحقة من العلوم والمعارف.»
ثم يقول: «ولكل رجل من أهل الله، سلم يخصه، يرقى فيه في معارج التجليات، ولا يرقى معه غيره في ذلك السلم.
ولسلم المعارف درجات، أولها: الانقياد، وآخرها: الفناء، وما بين هاتين الدرجتين: أنوار، وأسرار، وفيوضات، وهبات لدنية.»
ويربط محيي الدين على أفواه من يريد أن يتطرق من هذا القول إلى الظنة، ورمي المتصوفة بالباطل من القول؛ فيمسك بالميزان القسط قائلا: «إن الأمر الإلهي التشريعي انتهى بانتهاء الأنبياء، وختم بخير الرسل، فما بقي للولي العابد العالم إلا المناجاة الإلهية، التي لا أمر فيها؛ وإنما سمرا وحديثا ومحبة ورضا، فكل من قال من أهل الكشف: إنه مأمور بأمر إلهي في حركاته وسكناته، مخالف لأمر شرعي محمدي تكليفي؛ فقد التبس عليه، أو زج بنفسه بيننا وليس منا.»
الطريق الأعظم
فإذا انتهى محيي الدين من تقسيم العلوم إلى أقسامها الثلاث، وأن أشرفها وأسماها علم الأسرار، وهو علم الكمل من المتصوفة، وإذا فرغ من مقام التجليات وأثره في العلوم عامة، وعلوم الله خاصة، أخذ يلقي النور على الغاية من الحياة، وعلى الطريق الأعظم الموصل إلى الله، وهو طريق أهل الخلاصة، أو أهل الصفوة المختارة من العباد، الذين هم عطر هذا الوجود، ومحل النظر والعناية من خالقه، فيقول: «اعلم أن الطريق إلى الله - تعالى - الذي سلكت عليه الخاصة من المؤمنين الطالبين نجاتهم، دون العامة الذين شغلوا أنفسهم بغير ما خلقت له، على أربع شعب:
بواعث، ودواعي، وأخلاق، وحقائق. والذي دعاهم إلى هذه الدواعي والبواعث والأخلاق والحقائق ثلاث حقوق فرضت عليهم: حق الله - سبحانه، وحق للخلق، وحق لأنفسهم. فالحق الذي لله - تعالى - عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا، والحق الذي للخلق عليهم كف الأذى كله عنهم، ما لم يأمر به شرع من إقامة حد، وصنائع المعروف معهم على الاستطاعة والإيثار، ما لم ينه عنه شرع؛ فإنه لا سبيل إلى موافقة الغرض إلا بلسان الشرع. والحق الذي لأنفسهم عليهم ألا يسلكوا بها من الطرق إلا الطريق الذي فيه سعادتها ونجاتها، وهو طريق الفطرة، فإن أبت فلجهل قام بها أو سوء طبع؛ فإن النفس الأبية إنما يحملها على إتيان الأخلاق الفاضلة دين أو مروءة؛ فالجهل يضاد الدين، وسوء الطبع يضاد المروءة.»
وإذن فالإنسان يعيش في هذه الحياة تحت ظلال ثلاثة حقوق مقدسة مفروضة، يجب عليه أن ينهض بها؛ فيؤدي واجبها، وتلك الحقوق هي مناط سعادته، وقوام حياته.
حق الله - تعالى، وهو أول الحقوق وأوجبها، فما خلق الإنسان إلا لهذا:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . يعبده - سبحانه - ليلا ونهارا عبادة خالصة لوجهه الكريم المنعم المتفضل، خالية من الشرك الأكبر، ومن أدرانه وهي الشرك الأصغر، من رياء ونفاق، وما إلى الرياء والنفاق من صفات وأخلاق. أو كما يقول محيي الدين: «من خاف أحدا من عباد الله، فما تحقق بالعبودية، ولا ذاق معناها، ولا أدرك سرها.»
والحق الثاني: هو حق الناس عليه، وهو قوام الحياة الاجتماعية الفاضلة، الحياة السعيدة الكاملة للعالم؛ فالدنيا تكونت من فرد، ومن الأفراد يتكون المجموع؛ وبالتالي تتكون الإنسانية فإذا صلحت صلات الفرد بالفرد، صلحت صلات الجماعات، وصلحت حياة الكون، وصفت من البغضاء وما إلى البغضاء من صفات تؤدي إلى التنافر والشقاء.
وأول واجبات هذا الحق، كما يقول محيي الدين: كف الأذى كله عن الناس، وكله هنا آية تحتاج إلى صحف ومجلدات، الأذى كله، حتى ما دق وخفي، حتى الإيماءة والإشارة البغيضة، حتى خاطرة السوء وأمنية الأذى.
وليس كف الأذى، وليس حب الخير فحسب، بل أيضا الإيثار على النفس، وهو مقام من الخلق عظيم، لا يطيقه إلا رجال النور والإيمان.
فإذا أدى واجب الناس، بقي عليه واجب نفسه، وهو ألا يدفع بها إلى ظلمات الدنيا وأحزانها، وجحيم الآخرة وعذابها، واجبه أن ينقذها من هذا الهول العظيم؛ فيسلك بها طريق الخير والسعادة، طريق العبادة والطاعة، طريق الرضا والمحبة، طريق الله - عز وجل.
فإن أبت النفس أن تلج هذا الباب الكريم، وأن تسير في هذا الطريق القويم، فلجهل أو سوء طبع؛ لأن الفطرة تدفع بالنفس إلى هذا الطريق الرباني، الذي فطر الله الناس عليه؛ فالجهل وسوء الطبع هما العوائق التي تحول بين النفس وفطرتها، وبين النفس وسعادتها.
ولا علاج للجهل إلا بنور العلم الإلهي، ولا دواء لسوء الطبع إلا بقهر النفس على النهج الصوفي، فطرة الله التي فطر الناس عليها، وسنته التي ارتضاها لعباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
محيي الدين والفرق الإسلامية
فإذا فرغ محيي الدين من وضع العلامات، التي ترشد إلى الطريق الأعظم الموصل إلى الله، وهو طريق الطاعة والعبادة، والصفاء، والمحبة، وأوضح لنا حق الله، وحق الناس، وحق النفس على صاحبها، بتزكيتها وتطهيرها وتوجيهها إلى فاطرها وموجدها، عطف على الفرق الإسلامية التي احترفت الجدل وتعبدت في محاريبه ؛ فتفرقت بها السبل، وركضت مع الأهواء، فركبتها حمى الكلام والنقاش، فحولت الإسلام من القلوب إلى الألسن والعقول، حولته إلى صراع وخصام، وتقاتل وتبارز بالألفاظ، وضربت على فطرته وصفائه الأول، بسحب مظلمة مرعدة، أخذت على المسلمين حياتهم؛ فانصرفوا من محاريب التقوى والعمل والإيمان إلى منابر الخصومات والجدل والكلام، وأسلمهم الجدل إلى تلاح وعناد لم تحل عقدته، وإلى فرقة لم يجمع شملها؛ لأنهم ضربوا بألسنتهم في بيداء لا حدود لها، وسبحوا في محيط صخاب، لا نهاية لعبابه وغضبة أمواجه، وهل ينتهي القول ما دام للجدل بابا، بل أبوابا، في مشاكل: القضاء والقدر، وخلق أفعال العباد، وصفات الله - سبحانه، وما إلى تلك المعضلات من شبيهات ومثيلات؟
ولقد وقف محيي الدين في وجه كل تلك الفرق، المتلاحية المتشدقة المتعالمة وقفة المؤمن العظيم، الذي يدعو إلى الله على بصيرة من أمره ونور من عقيدته، وقف وفي يمينه كتاب الله وسنة نبيه، يدعو إليهما، ويهتف بأن الإسلام تسليم وإيمان وعمل، لا يعرف الشك، ولا يقر الجدل، ولا يحتاج إلى حوار، مخاصما للتأويل محاربا له؛ لأن الإيمان يجب أن يكون بما أنزل الله من الألفاظ والمعاني، لا بما أوله العقل، وابتدعه التصور أو المنطق،
آمن الرسول بما أنزل إليه ؛ فالحق - تعالى - ما كلفنا أن نجادل في القضاء والقدر، بل أمرنا بالإيمان بهما، كما عبر عنهما، وما طلب إلينا بيانا بما ينسب من أفعال الإنسان إليه، وما ينسب إلى خالقه، وما أمرنا أن نعلم حقيقة نسبة الصفات إليه - تعالى؛ لعلمه بعجزنا عن ذلك،
1
فإن حقيقة صفاته - تعالى - مباينة لجميع صفات خلقه وحقائقهم؛ فليس كمثله شيء، وهذا هو الفيصل، فعلام الجدل والحوار، ولا طاقة للعقل البشري بذلك اللون من المعارف التي هي من فوقه، والتي تسمو على إمكانياته وخصائصه وما خلق له؟
الجدل والإسلام
ولقد حرم الإسلام الجدل ونهى عنه؛ لأن الجدل لا يصاحبه اليقين ولا يعرف التسليم، بل هو علامة من علامات الشك، أو كما يقول ابن عربي: «إيمان بما تبتكر العقول من ألوان وصور، لا بحقائق الإيمان كما جاء بها الفرقان.»
ولقد حذر الرسول - صلوات الله عليه - أصحابه ومن آمن به من الجدل وعواقبه، ونهى وأغلظ في الأمر بتجنب البحث وراء القضاء القدر وسرهما؛ لأنه يسلم إلى ظلمات من الشكوك، لا نور معهما ولا يقين. وطلب من أتباعه التفكر في آيات الله، لا في ذاته وصفاته وإلا هلكوا.
ومع هذا، فقد ألوى المسلمون بأعناقهم عن سنة نبيهم، وضربوا في شعاب الجدل والبحث، وأثاروا في أفق الإسلام غبارا لا يزال يخنق، ولا يزال يرمي بالضحايا.
عن أمامة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.» (رواه الترمذي).
وعن عمر بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: خرج رسول الله - صلوات الله عليه - على أصحابه ذات يوم وهم يتراجعون في القدر، فخرج مغضبا حتى وقف عليهم، فقال: «يا قوم، بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن فصدق بعضه بعضا، ما عرفتم منه فاعملوا، وما تشابه فآمنوا به.» (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ونحن نتنازع في القدر؛ فغضب حتى احمر وجهه، ثم قال: «أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا.»
وعن أبي الدرداء وأبي أمامة وأنس بن مالك قالوا: خرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ونحن نتنازع في شيء من الدين؛ فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، وقال: «يا أمة محمد، لا تهيجوا على أنفسكم.» ثم قال: «أبهذا أمرتكم؟ أوليس عن هذا نهيتكم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا.»
ذلك هو البيان الذي لا بيان بعده، لا تضرب آيات القرآن بعضها ببعض جدلا وعنادا، وإنما عمل بما تعرف، وإيمان بما تشابه؛ فلا تنازع يعقبه الفشل، ولا تخاصم وتنابز وبغضاء تورث الهلاك، ولا يهيج المسلم على نفسه غضبا من الله، بذلك اللحن البغيض، من القول المسموم.
هكذا كان محمد - صلوات الله عليه - وصحبه - رضوان الله عليهم، حتى فتحت علينا فرق الجدل وعلماء النظر وأئمة الكلام، أبواب هذا الجحيم.
جاء في كتاب «أعلام الموقعين»: «وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن - بحمد الله - لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة، من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشيء فيها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، تلقوها بالقبول والتسليم وقابلوها بالإيمان والتعظيم.»
صفات الله تعالى
جاء القرآن الكريم بكثير من صفات الله - سبحانه وتعالى - تقف لديها العقول، كقوله - تعالى:
يد الله فوق أيديهم ،
كل شيء هالك إلا وجهه ،
لما خلقت بيدي ،
والسماء بنيناها بأيد ،
ثم استوى على العرش .
وجاءت الأحاديث النبوية الصحيحة بالكثير أيضا من تلك الصفات، التي توهم العقول الضعيفة التجسيم والتشبيه، كقوله - صلوات الله عليه - كما جاء في الصحيحين: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض.»
وقد فهم الصدر الأول - رضوان الله عليهم - بأن كل هذه الصفات حق؛ لأن الله - سبحانه - كما سمى نفسه، وكما وصف نفسه، والقاعدة التي احتكموا إليها:
ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ فكل ما أوجب نقصا أو حدوثا أو مشابهة، فإن الله - سبحانه - منزه عنه؛ لأنه - تعالى - مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه.
وقد علم الرسول - صلوات الله عليه - ما يساور النفوس من وسوسة وإلقاء بسوء؛ فقفل باب الجدل والتأويل والبحث والنظر في هذه الصفات ومدلولاتها، فأوصى أصحابه بقوله: «تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا.» وفي رواية أخرى: «تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله.»
تلك وصية إمامنا الأعظم - صلوات الله عليه، ومع هذا فقد أراق المسلمون من المداد حول صفات الذات ، وحول التجسيم والتنزيه، وما إلى التجسيم والتشبيه والتنزيه من صفات ونعوت؛ طوفانا أغرق الأمة الإسلامية، وما نظفت أثوابها بعد من سواده، ولا طهرت من آثاره.
فقد شهد العراق والشام والحجاز، صياحا من الشيعة والرافضة، بأن اليد والجسم والأعضاء التي وردت في القرآن لله - سبحانه وتعالى - هي نعوت حقيقة لأعضاء جسدية ربانية. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وشهدت العواصم الإسلامية، بل والقرى والكفور، بعض رجال الحديث يقولون: «إن الله - سبحانه - ينزل إلى السماء الأولى في ليلة النصف من شعبان، كنزول من ينزل من السلم من درجة إلى درجة.»
2
وجاء المعتزلة، فتنادوا بتنزيه الله - سبحانه - عن تلك الصفات، وأخذوا يصرفون كل ما يفيد التجسيم إلى المعنويات، أو إلى صفات أخرى تليق - في زعمهم - بالله سبحانه، كقولهم: الاستواء على العرش، بمعنى الاستيلاء واليد بمعنى القدرة، وهكذا.
أو كما يقول محيي الدين: «إن المعتزلة والأشاعرة أيضا، تخيلت أنها لما تأولت قد خرجت من التشبيه الذي تعيبه على المجسمة، وهي ما فارقته إلا أنها انتقلت من التشبيه بالأجسام إلى التشبيه بالمعاني، المحدثة المفارقة للنعوت القديمة في الحقيقة والحد.»
وجاء ابن عربي، والجدل في عنفوانه والحوار مستعر الأوار في العالم الإسلامي بين شتيت الفرق والمذاهب، حول صفات الذات، بين المجسمة والمشبهة والمنزهة؛ فأرسل صيحة جبارة ببطلان كل هذه الآراء وخروجها عن صراط الدين السوي المستقيم، وبضرورة الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح من: إيمان وتسليم بكل ما ورد في القرآن كما ورد، وكما وصفه الله - سبحانه؛ لأن المجسمة قد ألحدوا؛ إذ أثبتوا لله - سبحانه - صفات كصفات البشر تفيد المشابهة، وهو - تعالى - ليس كمثله شيء.
والمنزهة من المعتزلة والأشاعرة، قد أولوا تلك الصفات، وحملوها معاني ارتضتها عقولهم؛ فنجوا من التشبيه المجسد ليقعوا في التشبيه المعنوي، ثم هذه الصفات المعنوية التي ابتدعوها، أليس من الجائز أن تكون خاطئة؟ والعقل يصيب ويخطئ، فإذا كانت خاطئة، فقد نسبوا لله - تعالى - ما لم يقله.
يقول محيي الدين: «اعلم أن الخير كله في الإيمان بما أنزل الله، والشر كله في التأويل، فمن أول فقد أحرج إيمانه، وما كان ينبغي له ذلك، وفي الحديث: «كذبني عبدي، وما كان ينبغي له ذلك.» فلا بد أن يسأل كل مؤول عما أوله يوم القيامة، ويقول له - تعالى: كيف أضيف إلى نفسي شيئا فتنزهني عنه، وترجح عقلك على إيمانك، وترجح نظرك على علم ربك؟! فاحذر يا أخي أن تنزه ربك عن أمر أضافه إلى نفسه على ألسنة رسله؛ فإن العقل يخطئ في الإلهيات فلا يعول عليه.» ثم يقول: «ومن العجيب أن الإنسان يعتمد على عقله في أن يقلد ربه صفات، ولا يأخذ بما أخبر عن نفسه - تعالى - في كتابه وسنة نبيه؛ فهذا من أعجب ما طرأ في العالم من الغلط، وكل صاحب فكر أو تأويل فهو تحت هذا الغلط بلا شك.
ومن العجب: أن الله - تعالى - يخبر بشيء عن نفسه في كتابه المحكم، فيأتي الإنسان بعقله القاصر صاحب الآفات والعلل، فيقول: إن عقلي يرد ذلك، وفكري لا يحتمل ذلك؛ وإنما يجب التأويل! أليس قبول ما أخبر به الله عن نفسه، أولى من قبوله من فكره؟ وأليس عاقبة هذا التأويل المعتمد على الفكر والعقل، أن يصوغوا من خيالهم وتفكيرهم خالقا غير ما في كتاب الله؟»
ويتابع محيي الدين حملته القوية على المعتزلة، فيقول ناصحا وموجها: «اعلم أن من الأدب عدم تأويل آيات الصفات، ووجوب الإيمان بها مع عدم الكيف كما جاءت؛ فإنا لا ندري إذا أولنا: هل ذلك التأويل مراد الله فنعتمد عليه، أم ليس هو بمراد له فيرده علينا؟ فلهذا التزمنا التسليم في كل ما لم يكن عندنا فيه علم من الله - تعالى، فإذا قيل لنا: كيف يعجب ربنا، أو كيف يفرح مثلا، أو كيف يغضب، كما ورد في القرآن والأحاديث؟ قلنا: إنا مؤمنون بما جاء من عند الله على مراد الله، وإنا مؤمنون بما جاء من عند رسول الله على مراد رسول الله، ونكل علم الكيف في ذلك كله إلى الله وإلى رسوله، وهذه كانت طريقة السلف؛ فلا تأويل ولا تجسيم ولا تشبيه ؛ وإنما ليس كمثله شيء.»
ثم يقول: «اعلم أن جميع ما وصف الحق - تعالى - به نفسه من: خلق، وإحياء، وإماتة، ومنح وعطاء، ومكر واستهزاء، وفرح وتعجب، وغضب ورضا وتبشبش، وقدم ويد وعين وأعين، وغير ذلك، كله نعت صحيح لربنا؛ فإننا ما وصفناه به من عند أنفسنا؛ وإنما هو - تعالى - الذي وصف بذلك نفسه على ألسنة رسله قبل وجودنا؛ وهو - تعالى - الصادق وهم الصادقون بالأدلة العقلية. ولكن ذلك على حد ما يعلمه - سبحانه وتعالى - وعلى حد ما تقبله ذاته، وما يليق بجلاله، لا يجوز لنا رد شيء من ذلك، ولا نكيفه ولا نقول بنسبته إلى الله، إلا على الوجه الذي أراده، وعلى غير الوجه الذي ينسبه إلينا، ونعوذ بالله أن نضيف ذلك إلى الله على حد علمنا نحن به، فإنا جاهلون بذاته في هذه الدار، وفي الآخرة لا ندري كيف الحال.
وما جنح صاحب العقل إلى التأويل إلا لينصر جانب العقل والفكر على جانب الإيمان؛ فإنه ما أول حتى توقف عقله في القبول، فكأنه في حال تصديقه لله غير مصدق له، فإيمانه في حال تأويله؛ إنما هو إيمان بما أول، لا بما أتى به الخبر.»
صفات الله عند العارفين
يقول محيي الدين: «إن العقلاء وأصحاب الأفكار اختلفت مقالاتهم في الله - تعالى - على قدر نظرهم، فالله الذي يعبد بالعقل مجردا عن الإيمان كأنه - بل هو - إله موضوع؛ بحسب ما أعطاه نظر ذلك العقل؛ فاختلفت حقيقته بالنظر إلى كل عقل، وتفاوتت العقول، وكل طائفة من أهل العقول تجهل الأخرى بالله، وإن كانوا من النظار الإسلاميين المتأولين؛ فكل طائفة تكفر الأخرى، والرسل من عهد آدم إلى محمد - عليه السلام - ما نقل عنهم اختلاف فيما ينسبونه إلى الله من النعوت، بل كلهم على لسان واحد في ذلك، والكتب التي جاءوا بها، كلها تنطق في حق الله بلسان واحد ما اختلف فيها اثنان، بل يصدق بعضهم بعضا مع طول الأزمان وعدم الاجتماع.
وكذلك المؤمنون بهم على بصيرة؛ فهم المسلمون المصدقون الذين لم يدخلوا نفوسهم في تأويل، فهم أحد رجلين: إما رجل آمن وسلم، وجعل علم ذلك إليه إلى أن مات وهو المقلد، وإما رجل عمل بما علم من فروع الأحكام، واعتقد الإيمان بما جاء به الرسل؛ فكشف الله عن بصيرته، وصيره ذا بصيرة في شأنه، كما فعل بنبيه - عليه السلام - وأهل عنايته، فكاشف وأبصر ودعا إلى الله على بصيرة، كما قال في حق نبيه - صلوات الله عليه - مخبرا:
أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ؛ وهؤلاء هم العلماء بالله العارفون، وإن لم يكونوا رسلا ولا أنبياء، فهم على بينة من ربهم في علمهم به، وبما جاء من عنده، وكذلك وصف نفسه بكثير من صفات المخلوقين من المجيء والإتيان، والغضب والفرح، والتجلي للأشياء، والوجه واليد، والرضا والكراهة، في كل خبر صحيح ورد في كتاب أو سنة نبيه، والأخبار أكثر من أن تحصى، مما لا يقبلها إلا مؤمن بها من غير تأويل، أو بعض أرباب النظر من المؤمنين، بتأويل اضطره إليه إيمانه.
فانظر مرتبة المؤمن ما أعزها! ومرتبة أهل الكشف ما أعظمها! حيث لحق أصحابها بالرسل والأنبياء، فيما اختصوا به من العلم الإلهي الذي لا يدخله الشك ولا الريب؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، وما ورثوا دينارا ولا درهما، بل ورثوا العلم بقوله
صلى الله عليه وسلم : «إنما نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.»
العقل لا يدرك الله
فإذا أوضح لنا محيي الدين مكانة العلماء العارفين بالله، الذين يؤمنون بربهم إيمانا يقينيا، لا يعرف الشك ولا التأويل، أخذ يحدد وظائف العقل البشري، ثم أوضح أنه لا يستطيع إدراك صفات الله - تعالى - وما يتعلق بها؛ لأنه لا مشاركة بينه وبين خالقه. فقال: والعقل البشري لا يدرك الله - تعالى؛ لأن العقل البشري يعلم أو يدرك ما بينه مشاركة في النوع أو الجنس أو الطبيعة، وإنما يدرك الله بالقلب والكشف والوحي، فانظر إلى ما وصف الله به نفسه في كتابه، تعرف لباب التوحيد.
ثم يقول: «لقد نظرنا بقوة العقل، وما أعطاه العقل الكامل، بعد جده واجتهاده الممكن؛ فلم نصل إلى المعرفة به - سبحانه - إلا بالعجز عن معرفته؛ لأنا طلبنا أن نعرفه كما نطلب معرفة الأشياء كلها من جهة الحقيقة التي الأشياء عليها، فما عرفنا إلا أن ثم موجودا ليس له مثل، ولا يتصور في الذهن ولا يدرك، فكيف يضبطه العقل؟ وهذا مما لا يجوز مع ثبوت العلم بوجوده؛ فنحن عالمون بالوجود وهو العلم الذي طلب منا، ولما كان - تعالى - لا يشابه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء منها؛ كان الواجب علينا أولا كما قيل لنا:
فاعلم أنه لا إله إلا الله ، أن نعلم ما العلم. قال - صلوات الله عليه: «إن الله احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم.» فأخبر
صلى الله عليه وسلم
أن العقل لم يدركه بفكره. ولا بعين بصيرته، كما لم يدركه البصر.
هكذا فليكن التنزيه ونفي المماثلة والتشبيه، وما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل، وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الأفهام من غير نظر فيما يجب لله - تعالى - من التنزيه؛ فقادهم اعتمادهم على العقل إلى الجهل المحض والكفر الصراح، ولو طلبوا السلامة وتركوا الآيات والأخبار على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء ألبتة ووكلوا علم ذلك لله ورسوله، وقالوا: لا ندري؛ لكان يكفيهم قوله - تعالى:
ليس كمثله شيء ، فمتى جاءهم حديث فيه تشبيه، فقد أشبه الله شيئا وهو - سبحانه - قد نفى التشبيه عن نفسه، فما بقي إلا أن ذلك الخبر له وجه من وجوه التنزيه يعرفه الله - تعالى، فمن أول أو شبه؛ فقد تعدى على الله - سبحانه، قال - تعالى:
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه . وما قدروا الله حق قدره لما يسبق إلى العقول الضعيفة من التشبيه والتجسيم عند ورود الآيات والأخبار، التي تعطي من وجه ما من وجوهها ذلك، ثم قال بعد هذا التنزيه الذي لا يعقله إلا العالمون:
والأرض جميعا قبضته ، عرفنا من اللسان العربي أن يقال: فلان في قبضتي، ويريد أنه تحت حكمي، وإن كان ليس في يدي منه شيء ألبتة، ولكن أمري فيه ماض وحكمي عليه قاض، مثل حكمي على ما ملكته حسا وقبضت عليه. ومن ذلك أيضا: التعجب والضحك والفرح والغضب، فالتعجب إنما يقع من موجود لا يعلم ذلك المتعجب منه ثم يعلمه فيتعجب، وهذا محال على الله.»
ذلك هو الفيصل في معركة التشبيه والتنزيه بين المعتزلة والمجسدة ورجال الحديث، الفيصل في ذلك الجدل والحوار الذي شغل العالم الإسلامي في القرن السادس؛ حتى أوقدت نار الحرب بسببه في ربوع الشام، وهو الرجوع إلى منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - في الصدر الأول؛ فلا جدال ولا حوار، وإنما إيمان بما جاء به القرآن على ما جاء، ولله - سبحانه - صفات الكمال والإجلال، وليس كمثله شيء، فهو مخالف للحوادث وللصفات وللأفعال مخالفة مادية ومعنوية؛ فلا تشبيه ولا تأويل للتنزيه، فالتشبيه كما يقول محيي الدين: تثنية المشبه، والتنزيه تحديد المنزه، وكلاهما باطل لا يليق.
وبذلك أغلق محيي الدين بابا من أبواب جهنم فتح على العالم الإسلامي، وأطفأ خصاما طال مداه واشتد خطره، وعاد بجمهرة الأمة من الجري وراء هذه الأوهام إلى حقائق الدين الثابتة، إلى الإيمان والتسليم والانقياد لمنطق القرآن، وسنة الرسول - عليه السلام.
ومحيي الدين يقول: «هذا هو حد الإيمان الواجب على المؤمنين كافة، أما من يريد بعد ذلك، أو فوق ذلك فهما لما يراد من حقيقة صفات الله - سبحانه - فليس سبيله العقل والفكر؛ وإنما هو الإلهام من الله - تعالى. يقول: فإذا خلع الله - تعالى - على عبده من علمه، أعلمه من طريق الإلهام بمراده من تلك الآية أو الحديث، وهو من علوم العارفين.»
القضاء والقدر - أفعال العباد
فإذا انتهى محيي الدين من صراعه مع الفرق الإسلامية المختلفة، حول صفات الذات والتشبيه والتنزيه والتأويل، انتقل إلى ميدان آخر من مشكلات الفكر ومعضلاته، مشكلة القضاء والقدر، وخلق أفعال العبد ونصيبه من عمله، وهو ميدان لعب فيه التأويل والجدل والحوار أيضا دورا كبيرا خطيرا.
ومسألة الكسب: اعترف رجال الأصول بأنها من أدق مسائلهم وأغمضها، وأعصاها على الفكر والعقل؛ هل الإنسان مجبر على ما يفعل، مقدر له ما يكسب؟ وإذن؛ فعلام الجزاء والعقاب؟ أم الإنسان مخير يصنع نفسه، ويخلق الحوادث، ويسهم في تكييف ما قدر له؟
وقد تلقف رجال الفكر والنظر هذا الإشكال فداروا به حول عقولهم، ودارت عقولهم به؛ فراحوا يشققون الأحاديث حوله، ويبتدعون الحلول والأقاويل، ولكنهم أبدا يجدون أنفسهم في حلقة مفرغة تأخذ بأعناقهم، يبدءون من حيث ينتهون، وينتهون من حيث يبدءون؛ فما سلم لهم رأي ولا خلص لهم فكر.
هتف رجال الجبر بأن كل شيء من الله، والإنسان آلة مجبورة مقصورة على ما تفعل، لا إرادة لها ولا تصريف، كالقلم في يد الكاتب والمنشار في يد النجار، وراحوا يضربون الأمثال للناس، حتى إذا قيل لهم: فكيف إذن يعاقب هذا المجبور المقهور على ما يفعل؟ صمت منهم اللسان وأغضوا الطرف حيرة وارتباكا.
وقالت المعتزلة: هذا لا يليق؛ لأن فيه نسبة الظلم إلى الله - تعالى، وهو - سبحانه - العادل الذي تسمو عدالته على الريب والظنون، وابتدعوا لهذا شيئا عجبا، هو أن القضاء والقدر معلق يقع عند العمل، وإرادة الإنسان هي الحكم بين حدوث الفعل أو عدمه، ولكن هل أغنى قولهم من الحق شيئا؟ وهل أشفى النفوس من الريب والشكوك، وتلك النفوس تشهد بأن كل شيء لله، ومن الله، بهذا نطق القرآن، وجاءت الأحاديث.
أما المتصوفة فقد نهجوا مسلكا وسطا، هو نهج السلف الصالح، كل شيء من الله هذا حق؛ ولكن الإنسان مكلف؛ وهو لهذا يعاقب، وكل إنسان يسره خالقه لما خلق له في علم الله الأزلي؛ وهو لهذا محل للعقاب والثواب.
وبهذا لم يدر المتصوفة مع الجدل، ولم تركض عقولهم مع شهوة الحوار، بل سلموا الأمر لله مع الأدب؛ فما يصيب الإنسان من خير فمن الله، وما يصيبه من سوء فمن نفسه التي علم الله خصائصها منذ الأزل، فيسرها لاستعدادها وطاقتها، وما انطوت عليه.
آمن رجال التصوف بأن كل شيء من الله، وأنه خالق الأشياء وخالق أسبابها، وأنه - سبحانه - يكون عند السبب وحاصله ونتيجته، وأن حكمة الله فوق عقولنا.
عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن، فيم العمل الآن؟ أفيما جفت الأقلام، وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: «لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير.» قال: ففيم العمل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وكل عامل بعمله.» (أخرجه مسلم).
هذا هو القول الفصل، والنبأ اليقين: كل ميسر لما خلق له، في علم الله المحيط بالأشياء عند حدوثها وقبل وجودها.
يقول الشعراني - رواية عن الشيخ طاهر الصوفي: «هذه مسئلة من تأملها وكرر النظر فيها علم غموض معانيها، وصعوبة مراقيها؛ وملخص الأمر: أن من زعم أن لا عمل للعبد أصلا فقد عاند وجحد، ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك وابتدع، وما بقي مورد للتكليف إلا ما يجده العبد في نفسه من الاختيار للعمل وعدمه.»
ويقول محيي الدين: «إنما أضاف الله - تعالى - الأعمال إلينا؛ لأننا محل الثواب والعقاب، وهي لله حقيقة، ولكن لما شهدنا الأعمال بارزة على أيدينا وادعيناها لنا، أضافها الله - تعالى - إلينا بحسب دعوانا؛ ابتلاء منه لأجل الدعوى، ثم إذا كشف الله - تعالى - عن بصيرتنا، رأينا الأفعال كلها لله - تعالى - ولم نر إلا حسنا؛ فهو - تعالى - فاعل فينا ما نحن العاملون، ثم مع هذا المشهد العظيم لا بد من القيام بالأدب، فما كان من حسن شرعا أضفناه إليه خلقا وإلينا محلا، وما كان من سيئ أضفناه إلينا بإضافة الله - تعالى؛ فنكون حاكين قول الله - تعالى؛ وحينئذ يرينا الله - عز وجل - وجه الحكمة في ذلك المسمى سوءا، فنراه حسنا من حيث الحكمة، فيبدل الله سيئاتنا حسنات، تبديل حكم لا تبديل عين.»
ذلك هو الأدب العالي في التعبير، وذلك هو اللائق بالمؤمن أن يسلم لله بكل شيء، وأن يعلم في الوقت نفسه بأنه خلق ليكون محلا لجريان الأحكام الإلهية بحسب الحكمة الإلهية؛ فما كان حسنا فهو إلى الله ينسب، وما كان سوءا أضفناه إلى أنفسنا محلا، وإلى الله - سبحانه - خلقا، ولو تأمل الإنسان قليلا لعرف الحكمة ، ولرأى الشيء الذي ظنه سيئا جميلا نافعا؛ وحينئذ بفضل تسليمه وإيمانه يبدل الله سيئاته حسنات، تبديل حكم لا تبديل عين، وذلك هو الفضل العظيم، وتلك حكمة لا يدركها إلا الرجال من عباد الرحمن.
ثم يقول: «اعلم أن الله - تعالى - ما أضاف الفعل إلى العبد إلا لكونه - تعالى - هو الفاعل حقيقة، من خلف حجاب جسم العبد؛ فلم يكن الفعل إلا لله - تعالى، غير أن من عباد الله من أشهده ذلك، ومنهم من لم يشهده ذلك. قال - تعالى:
فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة . فالقسم الذي هداه الله هو الذي حفظه من دعوى الفعل لنفسه حقيقة، وأما القسم الذي تحق عليه الضلالة فهو الذي حار ولم يدر، وهم القائلون بالكسب وبخلق الأفعال.
قال إبليس: يا رب، كيف تقدر علي عدم السجود لآدم، ثم تؤاخذني به؟ فقال - جل وعلا: متى علمت أني قدرت عليك الإباية عن السجود، أبعد الإباية منك أم قبلها؟ فقال: بعدها. فقال: وبذلك آخذتك.»
ما يجري في الكون جفت به الأقلام، هكذا يقول الرسول؛ لأن «كل ميسر لما خلق له» بحسب علم الله القديم الأزلي، ولا يظلم ربك أحدا.
بين التصوف والفلسفة
التقى محيي الدين في مطلع شبابه بابن رشد، فسأله ابن رشد: هل القمة التي وصل إليها الفلاسفة بالعقل والفكر، هي القمة التي وصل إليها المتصوفة بالتصفية والتجرد والذكر؟ فقال له محيي الدين: نعم، ولا. وبين «نعم ولا» تطير الأرواح.
نعم، لأن العقل قد يهدي إلى الله، ويدرك ويلمس أسرار الكون وعجائبه وآياته، ولكن العقل المجرد مع وصوله إلى تلك القمة ينحدر وينزلق، ويضل في المتشابهات، ويضل في تفهم ذات الله - سبحانه، فضلا عن ابتعاده عن التعبد والتطهر، وتحلله من الكمالات الشرعية والعبادات الربانية. أو كما يقول محيي الدين في حديثه عن ابن رشد: كان بيننا حجاب رقيق، فكنت أراه ولا يراني.
والعقل المجرد، ليس له من القيود ما يعصمه من سبحاته، التي تتطاير حول المعارف مع الريح في شتى الاتجاهات والغايات؛ فتصيب حينا وتخطئ أحيانا ، ولهذا قال محيي الدين: وبين نعم ولا تطير الأرواح.
1
ولا جدال في أن الفلسفة قد وثبت بالمعارف الإنسانية والعلوم النظرية وثبات لها أثرها ومكانتها في الفكر الإنساني، ولكن الفلسفة قد ضلت في الإلهيات؛ لأن ما وراء الطبيعة من فوق مدارك العقل، ولا أمان فيها إلا لطريق الوحي والإلهام.
يقول الغزالي في مقدمة كتابه «تهافت الفلاسفة»: «إن الفلاسفة من عهد أرسطو إلى عهدنا هذا، قد بنوا مذاهبهم في الإلهيات على ظن وتخمين، من غير تحقيق ويقين، ويستدلون على صدق علومهم الإلهية بظهور العلوم الحسابية والمنطقية، ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية من التخمين، كعلومهم الحسابية والمنطقية؛ لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية والمنطقية.»
وهو قول صريح في أن الفلسفة قد وصلت إلى معارف يقينية في علوم الحياة؛ ولهذا اتفقت العقول على صحة هذه المعارف ولم تختلف فيها؛ وإنما وقع الخطأ وإنما وقع الاختلاف في علوم الإلهيات وما وراء الطبيعة؛ ولهذا لم يتفق الفلاسفة على رأي واحد في تلك المعارف، فبين أرسطو وأفلاطون على ما بينهما من صلات وتلمذة، خلاف ظاهر ملموس في نظرتهم إلى حقيقة الخالق، وحقيقة اتصاله وهيمنته على مخلوقاته، وحقيقة صفاته وعلمه بالكليات والجزئيات، وإلهامه للأصفياء من عباده والمختارين من رسله.
اختلفوا في النهج والطريقة، كما اختلف الفلاسفة قاطبة حول هذه المعرفة، بينما رجال الله من الأنبياء والرسل والأولياء والمتصوفة، قد اتفقوا - كما يقول محيي الدين - من لدن آدم إلى يومنا على نهج واحد في الإيمان بالله، وما يجب له وما يتصف به،
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .
والتصوف هو بلا ريب فلسفة الإسلام، والمتصوفة هم فلاسفة الإسلام بالتعريف المحمدي والحدود الربانية.
عرف الكندي الفلسفة: بأنها العلم بجميع الأشياء. وعرفها الفارابي: بأنها العلم بالموجودات بما هي موجودة. وقال الشيرازي: إن الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليها، والحكم بوجودها تحقيقا بالبراهين، لا أخذا بالظن والتقليد. وإن شئت قلت: نظم العالم نظما عقليا على حسب الطاقة البشرية لتحصل السعادة العظمى.
ويقول ابن سينا في «فصل ماهية الحكمة»: الحكمة: صناعة نظر يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كله في نفسه، وما الواجب عليه عمله، مما ينبغي أن يكتسب فعله؛ لتشرف بذلك نفسه وتستكمل، ويصير عالما معقولا مضاهيا للعالم الموجود، وتستعد نفسه للسعادة القصوى، وذلك بحسب الطاقة البشرية.
فالفلسفة إذن - كما عرفها الفلاسفة - هي علم العلوم، أو العلم الجامع المحيط، أو العلم الذي يفلسف المعارف، أو العلم الذي يبحث في حقائق الأشياء، ويتلمس أسبابها وعللها؛ لتستكمل النفس معارفها، فتحصل على السعادة العظمى.
هذه هي تعريفات الفلسفة، وهي بذاتها تعريفات التصوف، وإنما الخلاف في النهج والطريقة.
والفلاسفة يعتمدون على عقولهم وأفكارهم، ويؤمنون بالتصفية والتجرد، بل لقد جعل أفلاطون وفلاسفة مدرسة الإسكندرية التجرد والتصفية أساسا لمعارفهم وفلسفتهم، والفلسفة الإشراقية بأسرها تقوم على التجرد والتصفية.
وهي قربى واضحة للتصوف، واعتراف صريح بطريقته ونهجه؛ وإنما التصوف الإسلامي يمتاز باعتماده على الدين والوحي، واستمداد معارفه في الإلهيات من الدين وما أتى به الوحي؛ ولهذا سلمت فلسفته من الخطأ في الإلهيات، فامتاز بأنه الفلسفة العالية الوحيدة التي ظفرت بالمعارف وآمنت في الإلهيات؛ بينما ضل وأخطأ سواها.
ولسنا نأتي ببدع من القول إذ نقول: إن التصوف هو الفلسفة الكاملة المبرأة من الخطأ والضلال، وإن المتصوفة هم فلاسفة الإسلام بمعنى الفلسفة الإسلامية الكاملة؛ فأهداف الفلسفة كلها تنطوي تحت أجنحة المتصوفة، ولهم بعد ذلك الصفاء والطاعة، والسجدات المؤمنة في محاريب الرضا والمحبة.
يقول مصطفى بن عبد الله جلبي - المشهور باسم حاجي خليفة - في كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»: «وأما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية، كما أن الحكمة الطبيعية والإلهية منها بمنزلة علم الكلام فيها. وبيان ذلك: أن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان، وبما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة، وبالجملة: معرفة المبدأ والمعاد، والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين: أحدهما: طريقة أهل النظر والاستدلال، وثانيهما: طريقة أهل الرياضة والمجاهدات. والسالكون للطريقة الأولى؛ إن التزموا ملة من ملل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فهم المتكلمون، وإلا فهم الحكماء المشاءون، والسالكون إلى الطريقة الثانية؛ إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع؛ فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الإشراقيون.»
ويقول ابن حزم في كتابه: «الفصل في الملل والنحل»: «الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود من تعلمها، ليس هو شيئا غير إصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه لا غيره هو غرض الشريعة.»
ويقول ابن رشد في كتابه: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»: «وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق، والعمل الحق؛ والعلم الحق: هو معرفة الله - تعالى - وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق: هو امتثال الأفعال التي تقيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تقيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي - أي: الفلسفة.»
تلك هي الصلات بين الفلسفة والتصوف؛ فغاية الفيلسوف أن ينجلي لعقله الكون بمعارفه وأسراره، وغاية الصوفي أن تنزل على قلبه إلهامات المعرفة العامة الشاملة عن طريق العبادة، والفيلسوف يرى أن هذه غاية الغايات، أما الصوفي فيرى غاية الغايات رضا الله، والفوز بلقائه ونعيمه في الآخرة.
ولقد تنبه لهذا التشابه في الأهداف بعض رجال الاستشراق، حتى إن «ماسنيون» اعتبر الكندي والفارابي وابن سينا من متصوفة الإسلام.
وقد أصاب ماسينيون هنا وأخطأ: أصاب؛ إذ تنبه لأن التصوف تنطوي تحته المعارف الفلسفية كافة، وأخطأ لأنه لم يتنبه إلى أن أساس التصوف وقوامه هو العبادة والصفاء، والتمسك الكامل بالشريعة المحمدية وآدابها ومناهجها. وهي الشريعة التي انحرف عن شروطها كثير من الفلاسفة، ولا أبرئ من هذا الانحراف الكندي والفارابي وابن سينا، الذين جعلوا العقل الكامل في مرتبة الوحي، وجعلوا حجة العقل آية يحتكمون إليها حتى في أحكام الإسلام، وهو ما يبرأ منه التصوف وينكره ويحاربه.
ولقد تعرض المتصوفة للفلاسفة، في معارك متعددة دارت رحاها حول الإلهيات، وهي التي أخطأت فيها الفلسفة وضلت؛ لاعتمادها على العقل، وعدم تقيدها بالدين.
وتعرض بعض الفلاسفة للمتصوفة، منكرين عليهم الزهد والاستغراق في العبادة، والنفور من الدنيا وتهوين شأنها، واتخاذهم التطهير والتصفية والتجرد طريقا للوصول إلى المعارف والعلوم النظرية والربانية، ولكن الكثرة الغالبة من رجال الفلسفة لم تنكر التطهر والتجرد والتصفية كمعراج إلى العلوم؛ وإنما قالوا: إنه ليس بالطريق السلطاني المباح للناس.
يقول ابن رشد: وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقا نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة؛ وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات، شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب، ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كقوله - تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله ،
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ،
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا . وأشباه ذلك من الآيات التي يستدلون بها كثيرة، ونحن نقول: إن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها، فإنها ليست عامة للناس.
هذا ما يقوله ابن رشد، وهو اعتراف كامل للمتصوفة بصحة النهج، واعتراف كامل من رجل من أعلام الفلسفة الذين يؤمنون بالعقل والتجربة بأن التجرد والتصفية طريق للعلم والمعرفة، وهو ليس عاما للناس وليس معراجا لكل متعبد زاهد، وما قال الصوفية غير هذا.
والأبلغ من هذا في الدلالة على صدق النهج الصوفي، الذي يلمزه كثير من المتعالمين جهلا وطيشا، أن فلاسفة اليونان أنفسهم، وهم أساتذة الفلسفة، قد سلكوا إلى المعرفة نهجا صوفيا.
يقول طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة»: «ثم اعلم أن أفلاطون الحكيم كان يعلم بعضا من تلاميذه بطريق التصفية، وإعمال الفكر الدائم في جناب القدس، وسموا بالإشراقيين؛ لأن فيوضاتهم كانت إشراقا نفسيا، وبعضا منهم بطريق البحث والنظر، فسموا المشائين.»
وإذن؛ فالفلسفة تؤيد التصوف في أن التصفية والتجرد والتطهر، يكسب الروح إشراقا تصل به إلى المعارف كافة.
وإذن؛ فهناك قربى وثيقة بين التصوف والفلسفة، إذا جردت الفلسفة من ضلالها فيما وراء الطبيعة؛ لأنها اعتمدت على العقل دون الشرع في فهم الإلهيات، وليس هذا للعقل، وما ينبغي له أن يلج في معارج أعلى من طاقته، ومن فوق إمكانياته وطبيعته.
يقول محيي الدين: «اعلم أن الفلاسفة ما ذمت لمجرد ذلك الاسم، وإنما هو لما أخطئوا فيه من العلم المتعلق بالإلهيات؛ فإن معنى الفيلسوف: المحب للحكمة، والحكمة غاية كل عاقل.»
ثم يقول: «إياك أن تبادر إلى إنكار مسئلة قالها فيلسوف وتقول: هذا مذهب الفلاسفة؛ فإن هذا قول من لا تحصيل له؛ إذ ليس كل ما قاله الفيلسوف يكون باطلا، فعسى أن تكون تلك المسألة مما عنده من الحق، وقد وضع الحكماء من الفلاسفة كتبا كثيرة مشحونة بالحكم والتبرؤ من الشهوات، ومكايد النفوس وما انطوت عليه من خفايا الضمائر؛ فكل ذلك علم صحيح موافق للشرائع، فلا تبادر يا أخي إلى الرد في مثل ذلك، وتمهل وأثبت قول ذلك الفيلسوف، حتى تحد النظر، فقد يكون ذلك حقا موافقا للشريعة.»
وتلك آية من آيات السماحة الفكرية التي يمتاز بها محيي الدين، بل يمتاز بها كل رجال الحقائق، وذلك هو موقف المتصوف المنصف من الفلسفة، لا ينكر منها إلا ما أنكر الشرع، ويقبل منها ما يقبله الشرع؛ فميزان المتصوفة القسط الذي يزنون به كل ما يرد إليهم: هو الشريعة، وهو ميزان لا يضل صاحبه أبدا.
وعند محيي الدين: أن الفلسفة كانت شريعة إدريس - عليه السلام، وإنها من المعارف السماوية، وإنه أعمل فكره كثيرا ليصل إلى سر ما أصابها من ضلال في المعاني الإلهية، فيقول: «لقد دخلت الخلوة وعملت على الاطلاع على الحقيقة الإدريسية، فرأيت الخطأ إنما دخل على الفلاسفة من التأويل؛ وذلك لأنهم أخذوا العلم عن إدريس - عليه السلام، فلما رفع إلى السماء، اختلفوا في شريعته، كما اختلف علماء شريعتنا، فأحل هذا ما حرم ذلك وبالعكس، ثم جرت بهم الأيام فارتكبوا هذه الأخطاء في فهم الإلهيات.»
وهي نظرة إلى الفلسفة ما أحسبها لغير محيي الدين، وهي تحل إشكالا من مشاكل الفكر، كيف نشأت الفلسفة كيف تكونت علومها ؟ لقد كانت شريعة سماوية لإدريس - عليه السلام، ثم اختلف أتباعه بعد رفعه في ميراثهم، وتجادلوا وأولوا وحرفوا الكلم عن مواضعه؛ فسلمت علوم النظر، وتطرق الخطأ والضلال إلى ما وراء الطبيعة.
ولهذا يرى محيي الدين: أن ما سلم من علوم الفلسفة هو ميراث لكل صوفي؛ لأنه من المعارف الصحيحة، والمعارف الصحيحة ينالها المتصوفة بمنهجهم التعبدي القائم على الطاعة والتجرد، وبالفيوضات الربانية القائمة على المحبة والرضا.
والفلسفة الحقة: غايتها الحكمة، والحكمة ضالة كل مؤمن، وهدف كل صوفي، فالمتصوف الإسلامي هو صاحب العلم المحيط الشامل لجميع الحقائق، هو الفيلسوف العالمي الذي جمع المعارف كافة، وتميز بإيمان يمشي في مواكب الأنبياء، وهدى الرسل، ورضاء الله ومحبته.
مملكة التصوف
مملكة التصوف، أو عالم الأنفاس، مملكة أشبه بالأحلام الجميلة، أو الأماني الحلوة، التي يتصورها الأصفياء من رجال الفكر عن العالم السعيد، أو المدينة الفاضلة، التي يعيش الخيال على ضفافها، مرحا طروبا في آفاق من النور والإشراق، لا مس فيها من ألم، ولا لغوب فيها من شقاء؛ وإنما عبادة وذكر وصفاء، وطهارة ومحبة وإخاء.
وتلك المملكة الروحية قد ينكرها الماديون، الذين استعبدوا للحياة؛ فأذلتهم واتخذتهم مطايا لشهواتها، وعبيدا لأباطيلها.
وقد يخاصمها الجهلاء الذين خدعتهم أنفسهم، فظنوا بالصوفية ظن السوء، حتى حسبوها هذه العمائم المكورة، واللحى المرسلة، والمسابح ذات البهجة والحركة.
وقد يسخر منها المتعالمون، الذين يرمون الصوفية بالزور من القول، والإثم من اللحن، فهم متهمون لديهم: تارة بالتحلل والانحلال، وتارة بالضعف والهوان.
وقد يلمزها أهل السفسطة الذين يمضغون الحقد، ويقتاتون بالموجدة، والذين يتعبدون بالجدل، ويعيشون في محاريبه.
قد تنكرها تلك الطوائف، ولكنها رغم أمانيهم مملكة مشرقة بالرحمة، محلاة بالطهارة، سعيدة بالعبادة، منيرة بالمحبة، مؤمنة عابدة عن يقين ومشاهدة، آملة بربها أبدا، متهجدة في محاريبه، تسمر وتتغنى بلحن أنسه، وأغاريد حمده، وآيات نعمه، وسبحات وجهه التي أشرقت بها السموات والأرض، إنهم ليعيشون في دنيا لا نعرفها، دنيا أطلقت فيها الأرواح من قيودها، وتحررت من أثقالها؛ فانطلقت ترفرف حول الملأ الأعلى، وتحوم حول العرش وسدرة المنتهى.
وسر الخطأ في فهم التصوف؛ إنما نشأ من الإسراف في تعظيم الدنيا وإكبار متاعها وتضخيم لذائذها، لقد أكبروها وأجلوها حتى نسوا الآخرة، ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، وأقبلوا على الدنيا يركضون، فتركها لهم وأنساهم ما خلقوا له؛ فانطلقوا يرتعون ويتخاصمون، ويتقاتلون على الفتات، وسيف القدر فوق رءوسهم، حتى غرقوا في بحار الدم، واحترقوا بالشهوات وتقلبوا في شقاء لا ينفد.
أما الصوفية فحياتهم كما قال حارثة الأنصاري في الحديث المشهور؛ حينما سأله الرسول - صلوات الله عليه: كيف أصبح؟ فقال: مؤمنا بالله حقا، فقال له: «انظر؛ فإن لكل قول حقيقة.» قال: «يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري؛ فكأني بعرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة، كيف يتزاورون فيها، وإلى أهل النار كيف يتعاوون فيها.»
فقال له - صلوات الله وسلامه عليه: «أبصرت فالزم.»
كان الفتى الأنصاري يعيش في الدنيا ولا يراها؛ لهوانها وضآلة شأنها وتافه متاعها، كان يعيش وعينه على عرش ربه وجلال خالقه؛ ساجدا متعبدا، ويحيا بقلب معرض عن الدنيا معلق بآخرته، حتى لكأنه يرى عرش ربه بارزا، وحتى لكأنه يرى أهل النار وهم يتقلبون في لظاها، وأهل الجنة وهم ينعمون برياها، وكذلك الصوفية. يعيشون على نور اليقين والمشاهدة، لقد أطلقوا الروح في ساحات المحبة والمناجاة؛ فظفرت أرواحهم بقوى عظمى، مستمدة من الصفا الرضا.
وإذا كانت الحضارة الحديثة، قد ظفرت بفتوحات هائلة في ميادين العمل والمادة؛ فأنتجت مصانعها عجائب الرادار، وآيات الأثير والكهرباء، فإن المتصوفة قد ظفروا في عالم الأرواح بفتوحات وفيوضات، وقوى وأسرار، تتضاءل حيالها فتوحات المادة وفيض مصانعها.
لقد ظفروا بفتوحات وفيوضات فتحت لهم أبواب السعادة والجنة، وسخرت لهم قوى المادة وعجائبها، وقوى الروح وأسرارها، امتلأت أيديهم بتلك الكنوز؛ فامتطوها للمعارف والعلوم، وأطلقوها للخير والسلام، وأذاعوها للهدى والإيمان، فلم يدمروا عمارا، ولم يبثوا شقاء، ولم يزرعوها لهبا ونارا.
ولمملكة التصوف أقسامها وأسرارها، ومراتبها وحكامها، وملوكها وأمراؤها وأولو الأمر فيها، ولمملكة التصوف نظم ودساتير وآداب ومثل، وحظوظ مقسمة، وأرزاق موهوبة، ونمارق مصفوفة، وعجائب مبثوثة، ومعارف لدنية وهبات ربانية ، ونفحات نبوية، ومعارج سماوية، وعجائب تذهل العقول؛ ولكنها ترضي القلوب، وفي رضاء القلوب نعيم الإيمان ورضاء الرحمن.
فلنتوجه بقلوب راضية صافية، ولنسبح باسم العلي الكريم، ولنتوكل عليه، ثم لنمسك بمصباح محيي الدين، وهو أقوى المصابيح الكاشفة لحقائق تلك المملكة وأسرارها، ثم لندخل معه إلى ساحاتها وعجائبها.
الكون الحي
هذا الوجود، بل هذا الكون العجيب بسمواته وأرضه، وإنسه وجنه، وجماده ونباته، وحروفه وكلماته، عند ابن عربي صورة جميلة متماسكة تنتظمها روح عامة نابضة بالحركة، مسبحة بالقدرة، فليس في الكون إلا حياة مشرقة، منسقة مدبرة، محددة مسخرة، تجري إلى ما قدر لها، وخلقت من أجله.
والكون كله بما حوى عابد مسبح، كل من فيه قد ألهم صلاته وتسبيحه، كون منغم منعم، بموسيقى ربانية أو كما يقول محيي الدين: «بالإيقاع الإلهي والقول الرباني، الكون كله سماع لمن ألقى السمع، ورفع عنه الغطاء،
تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم .»
وإذا كانت أمواج الموسيقى السابحات في الجو من محطاتنا الأرضية، تمر بالأذن ولا تسمعها إلا بالجهاز المعد لها؛ فكذلك تلك الموسيقى في حاجة إلى محطات وأجهزة في قلوبنا، أجهزة لا تتفتح إلا بالذكر والتقوى، وكم للذكر والتقوى من أسرار وأسرار!
كل شيء يقع تحت أبصارنا، له حياته وله عباداته وله عجائبه وفنونه، تحركه يد الخالق المدبرة الحاكمة، التي أحسنت وأبدعت خلق كل شيء، وأودعته ما شاءت وأرادت، وكشفت مما أودعت لمن شاءت ولمن أحبت.
ليست الحياة في هذا الكون للملك والإنسان والجن والحيوان والنبات فحسب، بل الحياة لكل شيء، حتى تلك الجبال التي تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب، حتى تلك الأحجار منها ما يتفجر منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله، ومنها ما يسبح بحمده ويذكر بآياته. يقول ابن عربي: «إن آلة النجار ربما تعلم أكثر مما يعلم الصانع بها؛ فإنها حية عالمة بخالقها، مسبحة بحمد ربها، عالمة بما خلقت له، فكل شيء في الطبيعة قد أوحي إليه بما يراد منه .»
وهذه الحروف التي نكتبها لها أسرارها ودنياها، فهي أمة قائمة بذاتها، لها صلاتها بالسماء والنجوم، ولها مساس بالإنسان، وعلاقة برسالات الرسل والأنبياء.
ثم الكلمات أيضا، أليس عيسى كلمة الله؟ وأليست الكلمة الطيبة كالشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء؟ فلا عجب إذا كانت أمة مسخرة، طائعة وعابدة.
إنه لعالم جميل أبدعته القوة الإلهية - تعالت وجلت قدرة الله - عالم جميل عجيب ذلك الذي نعيش فيه، لو نظرنا إليه بالقلب والروح، ولو مزقنا عن أرواحنا أقنعة الشهوات وحجب الظلمات.
إن مكاشفات القلب، لتدلف بنا إلى عوالم مسحورة جميلة محببة، مؤمنة عاقلة تهتف بالإيمان وتنادي بقدرة الرحمن، وإلى علوم وفنون من فيض القدرة الإلهية يهبها الله لمن يشاء ويعلمها من لدنه لمن اجتبى واصطفى، إنها مملكة التصوف، وإنها لدنيا الصوفية.
يقول محيي الدين: «فاعلم أن في الخبز والماء، وجميع المطاعم والمشارب، والملابس والمراكب والمجالس، والزهر والثمر، أرواحا لطيفة غريبة، فيها استجابة مودعة لما يراد منها، هي سر حياتها، وفيها تجل من حب الله لعبده وعلو منزلته، حتى سخر له ما فيه السعادة والعلم والبقاء.
وتلك الأرواح أمانة عند تلك الأشياء، محبوسة في تلك الصور، حتى تؤديها إلى هذا الروح الإنساني، التي قدرت له، ورجال الله الذين كشف الله عن أبصارهم، تناديهم أحجار الأرض ونباتاتها بمنافعها ومضارها.»
ولأسماء الله الحسنى أيضا سرها وأثرها في حياة الإنسان والكون، أو كما يقول محيي الدين: هي المؤثرة في هذا العالم، وهي المفاتيح الأولى التي لا يعلمها إلا هو، وإن لكل حقيقة اسما يخصها من هذه الأسماء.
فأمهات الأسماء، هي: الحي العالم، المريد، القادر، القائل، الجواد المقسط، وهذه الأسماء من الاسمين المدبر والمفصل؛ فالحي يثبت وجودك، والعالم يثبت أحكامك في وجودك، وقبل وجودك يثبت تقديرك، والمريد يثبت اختصاصك، والقادر يثبت عدمك، والقائل يثبت كلامك، والجواد يثبت إيجادك، والمقسط يثبت مرتبتك؛ فهذه حقائق لا بد من وجودها، فلا بد من أسمائها التي هي أربابها.
وهكذا لكل اسم من أسماء الله الحسنى أثر في الكون يقوم به؛ فأسماء الله - تعالى - هي سر هذا الكون، وهي التي تقوم بها الأشياء! ولكل اسم سره في العبادة التي لو لمسها المريد لظفر بالخير، وتربت يداه بالبركات والنعم والهبات.
وهكذا يطوف ابن عربي بك مملكة التصوف، عارضا عليك أسرار الحروف، وأسرار الكلمات، وأسرار أسماء الله الحسنى، وأسرار النجوم والكواكب والجبال والبحار والأنهار، والنباتات والمعادن وخصائصها وأسرارها، وما أودع الله فيها من قوى، ومرتبتها وتحولها من أدنى إلى أعلى، وتقلبها في الصور ومنافعها للإنسان، حتى إذا ملأ مسامع الدنيا بهذه العلوم! أخذ يتحدث على مراتب أهل الله، وأقسام عالم الأنفاس.
أقسام المتصوفة
يقول ابن عربي: «واعلم أن رجال الله في هذه الطريقة، هم المسمون بعالم الأنفاس، وهو اسم يعم جميعهم، وهم على طبقات كثيرة، وأحوال مختلفة؛ فمنهم من تجمع له الحالات كلها والطبقات، ومنهم من يحصل ما شاء الله، وما من طبقة إلا لها لقب خاص من أهل الأحوال والمقامات، التي يظهرون عليها في قوله - تعالى:
ومعارج عليها يظهرون . كل طائفة في جنسها، ومنهم من يحصره عدد في كل زمان ومكان، ومنهم من لا عدد له لازم؛ فيقلون ويكثرون.
ولأهل الأنفاس مراتب من حيث النظر إلى الذات العلية، وتختلف حظوظهم باختلاف مراتبهم؛ فمنهم من حظه من النظر لذة عقلية، ومنهم من حظه من ذلك لذة نفسية، ومنهم من حظه من ذلك لذة حسية، ومنهم من حظه من ذلك لذة خيالية، وهكذا، ثم تخلع عليهم خلع إلهية، أورثها النظر إليه - سبحانه، ثم يفاض عليهم من نور الربوبية ما يكسبهم البهاء والجلال.»
الأقطاب والأئمة والأبدال
ثم يقول ابن عربي: ومن رجال الأنفاس الأقطاب؛ وهم الجامعون للأحوال والمقامات بالأصالة أو النيابية، ولا يكون منهم في الزمان إلا واحد، وهو الغوث أيضا، وهو سيد الجماعة في زمانه.
ومنهم من يكون ظاهر الحكم؛ فيحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز والمتوكل، ومنهم من حاز الخلافة الباطنية خاصة، ولا حكم له في الظاهر، كأحمد بن هارون الرشيد والسبتي والبسطامي ؛ وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر.
ومنهم الأئمة: ولا يزيدون في كل زمان عن اثنين لا ثالث لهما، وهما اللذان يخلفان القطب إذا مات، وهما للقطب بمنزلة الوزيرين.
ومنهم الأوتاد: وهم أربعة في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون، وقد يكون منهم النساء، ولكن يغلب عليهم الرجال.
ومنهم الأبدال: وعددهم سبعة لا يزيدون أيضا ولا ينقصون، كل واحد منهم على قدم نبي؛ فالأول على قدم الخليل، ثم الكليم، ثم هارون، ثم إدريس، ثم يوسف، ثم عيسى، ثم آدم - عليهم السلام.
وهؤلاء يعلمون علم الكواكب، وأسرار سيرها ونزولها في المنازل المقدرة لها، وقد كان الأبدال بهذه المكانة بالأمور الأربعة التي اشترطها أبو طالب المكي، وهي: الجوع والسهر والصمت والعزلة.
ثم النقباء: وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان ومكان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد أبراج الفلك الاثنى عشر برجا، كل نقيب عالم بخاصة كل برج، وبما أودع الله فيه من الأسرار والتأثيرات، وبأيديهم علوم الشرائع المنزلة، ولهم الاطلاع على خبايا النفوس، وإبليس عندهم مكشوف يعلمون من أمره ما لا يعلم من أمر نفسه، ويعلمون أثر الأقدام، فيقولون: هذا قدم شقي، وهذا قدم سعيد.
ومنهم النجباء: وهم أهل الكشف والاطلاع، والحواريون: ومقامهم التحدي والنجدة، والرجبيون: ولهم التجليات والكشوفات.
ومنهم رجال الأنفاس: وهم أهل خشوع لا يتكلمون إلا همسا، وهؤلاء هم المستورون الذي لا يعرفون، خبأهم الحق - سبحانه - في أرضه؛ فلا يناجون سواه، ولا يشهدون غيره، يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، دأبهم الحياء، إذا سمعوا أحدا يرفع صوته في كلامه، ترتعد فرائصهم ويتعجبون؛ وذلك لأنهم لغلبة الحال عليهم يتخيلون أن التجلي الذي أورث عندهم الخشوع والحياء يراه كل إنسان، ويرون أن الله قد أمر عباده أن يغضوا أصواتهم عند رسول الله - صلوات الله عليه، فإذا تلي حديث رسول الله لا يجب رفع الصوت عليه، كما يجب الصمت عند تلاوة القرآن.
ومنهم الظاهرون: وهم قسمان: ظاهرون بأمر الله في الدنيا قائمون بحقوقه، تخرق العوائد لهم عادة، وظاهرون في العالم الأعلى لا يعرفون في الدنيا، وهؤلاء لا يرون سوى الله في الأكوان، والأكوان عندهم مظاهر الحق.
وهم أهل طبقات ومقامات، وكل طبقة عاشقة لمقامها، تذب عنه، ومن هؤلاء من هم في مقامات لا يعرفها إلا من ذاقها؛ لأنه يعرف عن مشاهدة.
ومنهم أهل الفتوة: وهم رجال القوة الإلهية، آيتهم من كتاب الله:
أشداء على الكفار ، لا تأخذهم في الحق لومة لائم.
ومنهم أهل الصفاء: وهم رجال الحنان والعطف الإلهي؛ آيتهم من كتاب الله: آية الريح السليمانية، تجري بأمره رخاء حيث أصاب، لهم شفقة على عباد الله مؤمنهم وكافرهم، ينظرون إلى الخلق بعين الجود.
وهكذا يعدد ابن عربي لنا المقامات والطبقات وهي مئات ومئات، إلى أن يصل إلى طبقة الصوفية، وهؤلاء لا عدد يحصرهم بل يكثرون ويقلون، وهم أهل مكارم الأخلاق، وكل من زاد في خلقه عليك، فقد زاد في التصوف عليك.
فإذا انتهى محيي الدين من هذا التقسيم، أخذ يحدثنا عن ذروة أهل المملكة أو عالم الأنفاس وهم الملامتية، وعن خاصة من هؤلاء الرجال، وهم أهل الليل.
الملامتية
وفي تلك المملكة عباد لله - سبحانه، أدبهم وعلمهم واجتباهم، وصان نفوسهم، وطهر قلوبهم واصطفاهم لعبادته، هم ذروة تلك المملكة، وقد أسماهم محيي الدين «بالملامتية»، وهم الذين حلوا من الولاية في أقصى درجاتها، ونهلوا من العلوم أصفى معانيها، وما فوقهم في تلك المعارج اللدنية إلا درجات النبوة، ومقامهم يسمى مقام القربة، وهو مقام الانشغال بالخالق عن الخلق. وعلامتهم الاختفاء والانطواء؛ فلا يعرفون بخرق عادة، ولا يعظمون بين الناس، ولا يشار إليهم بالصلاح الذي تعرفه العامة؛ فهم الأصفياء الأمناء الأبرار أحباب لله، يعرفهم الملأ الأعلى ويذكرون في السماء، وهم في الناس الغامضون.
وهم الذين قال فيهم رسول الله - صلوات الله عليه - عن ربه - عز وجل: «إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر والعلانية، وكان غامضا في الناس.»
ومسألة الظهور في الحياة، وخوض عبابها، والسيادة في الدنيا، وما إلى السيادة من أغراض وأهداف ، لمحيي الدين في كل هذه الأشياء رأي أوضحه ونادى به؛ فهو يرى أن الجهر بالدعوة والسيادة في الدنيا كمال للأنبياء، ونقص في الأولياء.
لأن الرسل - صلوات الله عليهم - مضطرون إلى الظهور والدعوة، لأجل التشريع والتبليغ، والأولياء ليس لهم ذلك، ألا ترى أنه - سبحانه - لما أكمل الدين وأتم نعمته على الناس بالقرآن العظيم، كيف أمر رسوله الأمين، في السورة التي نعاه فيها إلى نفسه، بالاستغفار والانقطاع إليه - تعالى:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
أي: أشغل نفسك بتنزيه ربك، والثناء عليه بما هو أهله، فاقتطعه بهذا الأمر الرباني من العالم نفسه، لما أكمل ما أريد منه تبليغ الرسالة، وطالبه بالاستغفار ليستره عن خلقه، في حجاب صونه؛ لينفرد به دون خلقه دائما.
والأولياء الكمل السادة الأصفياء، إذا تركوا وأنفسهم، لم يختر أحد منهم الظهور أصلا؛ لأنهم يعلمون أن الله - تعالى - ما خلقهم لأنفسهم ولا لأحد من خلقه، وإنما خلقهم له - سبحانه؛ فشغلوا أنفسهم بما خلقوا له.
فإن أظهرهم الحق من غير اختيار منهم، بأن يجعل في قلوب الخلق تعظيمهم والالتفاف حولهم للتلقي من علومهم؛ فذلك إليه - سبحانه، وما لهم فيه تعمل ولا قصد، فلا اختيار لهم مع اختيار الحق - سبحانه، فإن خيرهم ولا بد اختاروا الستر عن الخلق والانقطاع إلى الله، كما قيل لأبي اليزيد البسطامي؛ حين خلع عليه بخلعة النيابة، وقيل له: اخرج إلى خلقي، فلم يسعه إلا امتثال أمر ربه فخطا خطوة فغشي عليه، فإذا النداء: ردوا علي حبيبي، فلا صبر له عني.
لقد كان أبو اليزيد فانيا عن كل شيء، مستغرق القلب والحس والروح في النجوى والتفرغ الكامل لعبادة ربه، فلما أخرج إلى الناس، خشي أن يشغل لحظة من زمن عن عبادة ربه، ونجوى خالقه؛ فغشي على نفسه من هذا الخوف ما يشبه الصاعقة، فرد رحمة به إلى مقام الفناء، وهو مقامه، وخلعت عليه خلع الذلة والافتقار والانكسار، وهي أسمى الخلع، في عالم الأنفاس والهبات؛ فطاب عيشه ، وسجد قلبه، ثم دنا واقترب، فظفر بالمشاهدة، فزاد أنسه، واستراح روحه من أعباء الأمانة.
يقول محيي الدين: «ثم إن هذه الطائفة إنما نالوا هذه المرتبة عند الله؛ لأنهم صانوا قلوبهم أن يدخلها غير الله، أو تتعلق بسوى الله؛ فليس لهم جلوس إلا مع الله، ولا حديث إلا مع الله، فهم بالله قائمون، وفي الله ناظرون، وإلى الله راحلون ومنقلبون، وعن الله ناطقون، ومن الله آخذون، وعلى الله متوكلون، وعند الله قاطنون؛ فما لهم معروف سواه ولا مشهود إلا إياه، صانوا نفوسهم عن نفوسهم فلا تعرفهم نفوسهم، فهم ضنائن الحق - سبحانه.»
ومن صفات هذا المقام أيضا عنده: أن صاحبه لا يرى لأحد من الناس ولا لقوة من قوى الخلق عليه سلطان، وإبليس لديهم ذليل ضعيف:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . يقول محيي الدين: «فكل عبد إلهي توجه لأحد من الخلق، أو يوجد عليه لأحد من الناس حق، فقد نقص من عبوديته لله بقدر ذلك الحق، فإن ذلك المخلوق يطلبه بحقه، وله عليه سلطان به؛ فلا يكون عبدا مخلصا خالصا لله - تعالى، وهذا هو الذي رجح عند المنقطعين إلى الله - تعالى - انقطاعهم عن الخلق ولزومهم السياحات والبراري، والسواحل والمجاهل، والفرار من الناس والانقطاع إليه - تعالى؛ حتى يفوزوا بمقام العبودية الكاملة، وإنه لهو الفوز العظيم.»
رجال الليل
الليل وقت الخلوة والجلوة، وقت الأنس والسمر، وقت الذكر والصفاء، وقت التجلي والتحلي، وقت الشوق والأنين والحنين، والومضات والوثبات واللمحات.
ورجال الأنفاس هم رجال الليل، يضيئون ظلمته بنور الإيمان، ويملئون صمته بدعوات الرحمن، حتى إذا جاء وقت السحر، وما أدراك ما وقت السحر؟! تجلت الأرواح واستيقظت القلوب؛ فتلقت من ربها ما تلقت، وتجملت وتحلت، وأذنت لربها وحقت؛ فلكل نصيبه المقدر، على قدر الهمة والطاقة، وعلى قدر الذكر والعبادة.
ولليل عند رجال الله مقام أي مقام! لأنهم نظروا إلى آيات الرضا، فوجدوا ثناء من الخالق - سبحانه - على الأصفياء الأخيار، الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، والذين كانوا
قليلا من الليل ما يهجعون ، فأقبلوا على الليل يقطعونه راكضين إلى ربهم، مهللين ومكبرين.
يقول محيي الدين: «كان عندنا بإشبيلية رجل عابد حسن الصوت، كثير الاجتهاد، سريع الدمعة، دائم العبرة، كثير التفكر والتهجد، بت معه ليالي عدة؛ فلم يكن يفتر، فربما أسمعه بعض الأحايين ينشد بصوت طيب غرد، ودموعه تنحدر على خديه:
قطع الليل رجال
ورجال وصلوه
فيه أناس رقدوا
وأناس سهروه
لا يميلون إلى النو
م ولا يستعذبوه
فكأن النوم شيء
لم يكونوا يعرفوه
لبسوا ثوبا من الخد
مة حتى خلعوه
مع جلباب من الحز
ن فما أن نزعوه
لم تنم أعين ونامت عيون، وهجع قوم وآخرون لا يهجعون، لا يعرفون النوم ولا يستعذبونه، حتى لكأن النوم شيء لا يعرفونه، فقد أسهدهم حب ووجد، وحزن وشوق، وتطلع إلى النور الأسنى والمقام الأعلى، وتلهف على الرضا، وتطلع إلى المشاهدة في الخلوة والجلوة، وأمل في القرب والمغفرة.»
وصلوات الله على الأمين الحبيب، لقد قام الليل حبا وشكرا حتى أدميت قدماه، وحتى أشفقت عليه عائشة - رضوان الله عليها - فرجته الرفق بنفسه، والرحمة بشوقه قائلة: «لقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فترفق.»
فقال الحبيب الأمين - صلوات الله عليه: «يا عائشة، ألا أكون عبدا شكورا!» ذلك هو مقام الشكر، ولليل المقامات بأسرها؛ فإن للإنسان في الليل سبحا طويلا، لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا. ويقول محيي الدين: «اعلم - أيدك الله بروح القدس منه - أن الله جعل الليل لأهله، مثل الغيب لنفسه، فكما لا يشهد أحد فعل الله في خلقه لحجاب الغيب الذي أرسله دونهم؛ كذلك لا يشهد أحد فعل أهل الليل مع الله في عبادتهم لحجاب ظلمة الليل التي أرسلها الله دونهم؛ فهم خير عصبة في حق الله، وهم شر فتية في حق أنفسهم، ليسوا بأنبياء تشريع لما ورد من إغلاق باب النبوة، ولا يقال في واحد منهم عندهم: إنه ولي؛ لما فيه من المشاركة مع اسم الله، فيقال فيهم: أولياء، ولا يقولون ذلك عن أنفسهم، وإن بشروا، فجعل الليل لباسا لأهله يلبسونه، فيسترهم هذا اللباس عن أعين الأغيار ، يتمتعون في خلواتهم الليلية بحبيبهم فيناجونه من غير رقيب؛ لأنه جعل النوم في أعين الرقباء سباتا، أي راحة لأهل الليل إلهية، كما هو راحة للناس طبيعية؟ فإذا نام الناس استراح هؤلاء مع ربهم، وخلوا به حسا ومعنى فيما يسألونه من قبول توبة، وإجابة دعوة، ومغفرة، وغير ذلك؛ فنوم الناس راحة لهم، وإن الله - تعالى - ينزل إليهم بالليل إلى السماء الدنيا، فلا يبقى بينه وبينهم حجاب فلكي، ونزوله إليهم رحمة بهم، ويتجلى لهم في سماء الدنيا، كما ورد في الخبر: «يقول الله: كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عني، كل محب يطلب الخلوة بحبيبه، فها أنا ذا قد تجليت لعبادي، هل من داع فاستجيب له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، حتى ينصدع الفجر.» فأهل الليل هم الفائزون بهذه الحظوة في هذه الخلوة وهذه المسامرة في محاربهم، فهم قائمون يتلون كلامه، ويفتحون أسماعهم لما يقول لهم في كلامه - سبحانه.
إذا قال: يا أيها الناس. يقولون: نحن الناس، فما تريد منا يا ربنا في ندائك هذا؟ فيقول لهم - عز وجل - على لسانهم بتلاوتهم كلامه الذي أنزله:
اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . ويقول: يا أيها الناس. فيقولون: لبيك ربنا، فيقول لهم: اتقوا ربكم
الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ؛ فيقولون: ربنا خاطبتنا فسمعنا وفهمتنا ففهمنا، فيا ربنا وفقنا، واستعملنا فيما طلبته منا من عبادتك وتقواك؛ إذ لا حول لنا ولا قوة إلا بك، ومن نحن حتى تنزل إلينا من علو جلالك وتنادينا وتطلب منا. فيقول: يا أيها الناس. فيقولون: لبيك. فيقول:
إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا . فيقولون: يا ربنا، أسمعتنا فسمعنا، وأعلمتنا فعلمنا، فاعصمنا وتعطف علينا؛ فالمنصور من نصرته، والمؤيد من أيدته، والمخذول من خذلته. فيقول: يا أيها الإنسان. فيقول الإنسان منهم: لبيك يا رب. فيقول:
ما غرك بربك الكريم . فيقول: كرمك. فيقول: صدقت . ويقول : يا أيها الذين آمنوا. فيقولون: لبيك. فيقول: «اتقوا الله حق تقاته وقولوا قولا سديدا.» فيقولون: وأي قول لنا إلا ما تقولنا، وهل لمخلوق حول ولا قوة إلا بك؟ فاجعل نطقنا ذكرا وقولنا تلاوة كتابك. فيقول: يا أيها الذين آمنوا. فيقولون: لبيك ربنا، فيقول:
عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . فيقولون: ربنا أغريتنا بأنفسنا لما جعلتها محلا لإيمانك، فقلت:
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ، وقلت:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، والآيات ليست مطلوبة إلا لما تدل عليه، وأنت مدلولها؛ فكأنك تقول في قولك: عليكم أنفسكم: أي: الزمونا وثابروا علينا.»
ذلك هم رجال الليل الذين يقطعونه استغفارا وذكرا؛ ذكرا بقرآنه الحكيم، وفي الحديث: أن المصلي الحاضر القلب، هو من يقف في صلاته عند التلاوة، وهو يحس أن الله يسمعه، أو يتلو وكأن الله - سبحانه - هو الذي يتلو على لسانه؛ لأن القرآن كلام الله - تعالى.
وهكذا أهل الليل، يقرأون وكأنهم يستمعون إلى ربهم، يكلمهم بقرآنه؛ فكل آية عندهم سؤال وجواب، وذلك لون من التذوق، هبة من هبات الرحمن لأهل الليل، ومقدار تلك الهبة إنما يعرفها من ذاق.
ثم يقول: وأهل الليل تختلف طبقاتهم في ذلك؛ فالزاهد حاله مع الله في ليله من مقام زهده، والمتوكل حاله مع الله من مقام توكله، وكذلك صاحب كل مقام، ولكل مقام لسان هو الترجمان الإلهي فيهم؛ وهم لهذا متباينون في المراتب بحسب الأحوال والمقامات، وأقطاب أهل الليل هم أصحاب المعاني المجردة عن المواد المحسوسة والخيالية، فهم واقفون مع الحق بالحق، فيعطى كل من المعاني والمعارف والأسرار بحسب منازلهم، فهؤلاء هم حكماء القلوب، وسادة الرجال، أهل الوفاء والصفاء والذكر والسمر، فإذا ادعت لك نفسك أنك من أهل الليل، فانظر، هل لك قدم مع من ذكر؟
أسرار الروح
فإذا طاف بنا محيي الدين على أقسام المتصوفة داخل مملكتها العظمى، أخذ يعرض ألوانا من عجائبها وأسرارها الروحية.
وللروح في عالم التصوف المكان الأعلى والسر الأعظم، ولست أغالي إذا قلت: إن المذاهب الروحية العالمية رغم ما وصلت إليه من كشوف عميقة في هذا الميدان، لا تزال تحبو، ولا تزال فتوحاتها أقزاما بجوار الجبابرة والأئمة من رجال التصوف، الذين راضوا أرواحهم على نور من هداهم، فتحكموا لا في ذواتهم عند اليقظة والسجود، بل في منامهم وعند الهجود، حتى ليوجهون - كما يقول محيي الدين - خواطرهم في المنام ما أرادوا وأحبوا، ولمسوا أسرارها، وتنقلوا في آفاقها، سخرت لهم قوى الأرواح وما أدراك ما قواها؟ وما أدراك ما تجلى لهم؟
تقول دائرة المعارف لوجدي بك: «إن كل من اطلع على كتب محيي الدين، وكان واقفا على مرامي الفلسفة الروحانية العصرية، تحقق أنه سبق كل متكلم في هذه المعارف العالية؛ فلا مقال الآن مهما علا وغلا إلا ما هو مقتبس من كلامه، أو صدر ممن هو منته إلى ما انتهى إليه.»
الإذاعات الروحية
ولنمسك مرة أخرى بمصباح محيي الدين، ولنتقدم على نوره خطوات لنشاهد تلك المحطات الروحية التي تذيع الأنباء الصوفية على رجال المملكة.
ولرجال التصوف إذاعاتهم الخاصة التي تربط أجزاء مملكتهم بعضها ببعض، والتي تنقل أخبارهم إلى مشارق الأرض ومغاربها.
ولا تعجب ولا يضرب الإنكار على بصيرتك غشاوة فتسخر! فلقد كشف الله - سبحانه - الغطاء عن عيني عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - وهو على منبر المدينة يخطب أصحابه، فرأى سارية وجيش سارية وهو بنهاوند بأرض العراق، يقاتل خصوم الرحمن، وقد أحيط به ولا نجاة له إلا بأن يعتصم بجبل بجواره، فهتف عمر: «يا سارية، الجبل.» فسمع سارية الصوت في لمحة، على بعد المسافة التي يقطعها الراحل المجد في عشرات الأيام، وعرف أنه صوت عمر؛ فالتجأ إلى الجبل فنجا وانتصر! كيف أبصر عمر؟ وكيف سمع سارية؟ ذلك سر الروح، وذلك سر الإيمان، وذلك فضل الله، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
يقول محيي الدين: «ومن علوم الكشف أن أي واحد أو جماعة قلت أو كثرت، لا بد أن يكون معهم من رجال الغيب واحد عندما يتحدثون؛ فذلك الواحد ينقل أخبارهم إلى العالم.
ولقد عملت أبياتا من الشعر بمقصورة ابن مثنى بشرقي جامع تونس عند صلاة العصر في يوم معلوم معين، فجئت إشبيلية، وبينهما مسيرة ثلاثة أشهر للقافلة، فاجتمع بي إنسان لا يعرفني، فأنشدني بحكم الاتفاق تلك الأبيات عينها. فقلت له: لمن تلك الأبيات؟ فقال: لمحمد بن العربي. فقلت له: ومتى حفظتها؟ فذكر لي التاريخ الذي عملتها فيه، فقلت له: ومن أنشدك إياها؟ فقال: كنت جالسا ليلة بسوق إشبيلية في مجلس، ومر بنا رجل غريب فأنشدنا هذه الأبيات، فقلنا له: لمن هي؟ فقال: لفلان.»
تلك هي محطات إذاعاتهم القلبية والروحية، لا اللاسلكية والأثيرية، ولهم أيضا في مملكتهم ما يشبه ما نسميه «بالتلفزيون»، وهو تسجيل المرئيات وقيدها، ثم حملها إلى أطراف الأرض، على أجنحة الأثير في لحظات إلى شتى الأماكن والاتجاهات.
ولا تعجب أيضا، ولا يضرب الإنكار على عيني بصيرتك غشاوة فتسخر، فلقد عرض المسجد الأقصى بأبوابه ومقاصيره وساحاته على الرسول - صلوات الله عليه - يوم حدث قومه بحديث الإسراء، وأنه صلى بالرسل إماما في المسجد الأقصى، فأنكروا وتعجبوا، ثم طلبوا منه - صلوات الله عليه - أن يصف لهم المسجد الأقصى بأبوابه وعلاماته، فأطلعه الله - سبحانه وتعالى - عليه مشاهدة؛ وما كان معجزة لنبي، جاز أن يكون كرامة لولي.
يقول محيي الدين: «ولقد كنت بجامع العديس بإشبيلية يوما بعد صلاة العصر، وشخص يذكر لي عن رجل كبير من أهل الطريق من أكابرهم، اجتمع به في خراسان، فذكر لي فضله وعمله، حتى اشتقت إليه، فإذا الشخص إلي عن قرب، والجماعة لا تراه، فقال لي: أنا هو هذا الشخص الذي يصفه لك هذا الرجل. فقلت للرجل المخبر: هذا الرجل الذي رأيته بخراسان، أتعرف صفته؟ فقال: نعم. فقلت له: اسمع، فأخذت أصفه له. فقال: هو والله ما تذكر. فقلت له: هو ذا جالس يصدقك عندي فيما تخبر به.»
ولرجال تلك المملكة الرؤيا الصادقة كفلق الصبح المبين، ولهم أيضا رؤية الرسول - صلوات الله عليه - في المنام، وسؤاله وتلقي الجواب منه للتعليم والإرشاد.
يقول محيي الدين: «كنت متحيرا في مسألة العدد وأقل الجمع فيه، فرأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في منامي وأنا بين يديه، وقد سألني سائل وهو
صلى الله عليه وسلم
يسمع: ما أقل العدد؟ فقلت: عند الفقهاء اثنان، وعند النحويين ثلاثة. فقال الرسول: أخطأ هؤلاء وهؤلاء. فقلت: كيف إذن أقول؟ قال: إن العدد شفع ووتر، يقول الله - تعالى:
والشفع والوتر
والكل عدد، فميز؟ ثم أخرج - صلوات الله عليه - خمسة دراهم بيده المباركة، فرمى درهمين بمعزل، ورمى ثلاثة بمعزل، وقال لي: ينبغي لمن سئل عن هذه المسألة أن يقول للسائل: عن أي عدد تسأل؛ عن العدد المسمى شفعا، أم عن العدد المسمى وترا؟ ثم وضع يده على الثلاثة وقال: هذا أقل الجمع في عدد الوتر، وهذا أقل الجمع في عدد الشفع. فما رأيت أحسن منه معلما!»
الأرواح بعد الموت
وإذا كان العلم الحديث، يقص علينا أنباء استحضار الأرواح ومناجاتها بعد الموت، وإذا كان الروحانيون من العلماء يقولون: إن لهم صلات تنتج معرفة بتلك الأرواح، فإن المتصوفة داخل مملكتهم لا يحجب بعضهم عن بعض - كما يقولون - شبر من تراب. كناية عن القبر.
روى البخاري أن النبي - صلوات الله عليه - مر بحائط من حيطان مكة أو المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير!» ثم قال: «بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة.» وزاد الإمام أحمد - رضي الله عنه: «ولولا تمرغ قلوبكم وتزيدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع.»
لولا تمرغ القلوب البشرية في أهواء الحياة وشهواتها لكشفت عنها الحجب؛ فرأت من آيات ربها الكبرى ما فيه شفاء للموقنين، وهدى ورحمة لكل من كان له قلب يعي، أو ألقى السمع وهو شهيد.
يقول محيي الدين في حديثه عن منازل يوم السبت: «إني كنت يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة بمكة، قد دخلت الطواف، فرأيت رجلا حسن الهيئة له هيبة، وهو يطوف أمامي، فجعلت بالي منه أن أعرفه فما عرفته، ولم أر عليه علامة قادم من سفر؛ لما كان عليه من الغضاضة والنضرة، ثم رأيته يمر بين الرجلين المتلاصقين في الطواف فيعبر بينهما ولا يفصلهما، فجعلت أتتبع بأقدامي أقدامه؛ ما يرفع قدما إلا وضعت قدمي في موضع قدمه، وذهني فيه وعيني معه؛ لئلا يفوتني، فكنت أمر بالرجلين المتلاصقين اللذين يمر بينهما في أثره فأجوزهما ولا أفصل بينهما، فتعجبت من ذلك، فلما أكمل طوافه وأراد الخروج، مسكته وسلمت عليه، فتبسم لي ورد السلام علي، وأنا لا أصرف نظري عنه؛ مخافة أن يفوتني، فإني ما شككت أنه روح متجسد، وعلمت أن البصر يقيده، فقلت له: إني لأعلم أنك روح متجسد. فقال: صدقت. فقلت له: فمن أنت يرحمك الله؟ قال: «أنا السبتي» ابن هارون الرشيد. قلت له: أريد أن أسألك عن حال كنت عليه في أيام حياتك في الدنيا. قال: قل. قلت له: بلغني أنك ما سميت السبتي إلا لكونك كنت تحترف كل سبت بقدر ما تأكله في بقية الأسبوع. فقال: الذي بلغك صحيح. فقلت له: فلم خصصت يوم السبت وحده دون سائر أيام الأسبوع؟ فقال: بلغني أن الله ابتدأ خلق العالم يوم الأحد، وأكمله يوم الجمعة، فلما كان يوم السبت، قال: أنا الملك لي الملك. هذا بلغني في الأخبار، وأنا في الحياة الدنيا، فقلت: والله لأعملن على هذا؛ فتفرغت لعبادة الله من يوم الأحد إلى آخر الستة الأيام، لا أشتغل بشيء إلا بعبادته - تعالى، وأقول: إن الله - تعالى - كما اعتنى بنا في هذه الأيام الستة، فأنا أتفرغ لعبادته، ولا أمزجها بشغل نفسي، فإذا كان يوم السبت أتفرغ لنفسي، وأنظر ما يفوتها في سائر الأسبوع.
وفتح لي في ذلك. فقلت له: ومن كان قطب الزمان في حياتك الدنيا؟ فقال: أنا. قلت: بذلك وقع التعريف. قال: صدق من عرفك، ثم قال: عن أمرك. يريد المفارقة. فقلت له: ذلك إليك؛ فسلم علي سلام محب وانصرف. فلما فارقته وكان بعض أصحابي مع الجماعة في انتظاري؛ لكونهم كانوا يقرأون علينا: إحياء علوم الدين.
1
فلما فرغت من ركعتي الطواف وجئت إليهم، قال لي بعضهم: رأيناك تكلم رجلا غريبا حسن الوجه، ما نعرفه، فمن هو؟ ومتى جاء؟ قلت : هذا ليس لكم.»
هذه قطرة من عالم الروح لديهم، ولسنا بمستطيعين أن نجمع بحار الأسرار في قطرة؛ فنظرة إلى ميسرة، عسى الله أن يوفقنا؛ فنخصص لها كتابا.
وتلك صورة مصغرة لمملكة المتصوفة، الذين يعيشون في ظلال الهدى والرضا، ويقتاتون بالأشواق والمحبة، المتصوفة الذين أحالوا الوجود إلى منابر ومنائر تهتف بالذكر والإيمان، وإلى محاريب للركوع والسجود، المتصوفة الذين يعيشون بيننا في مملكة من صفاء ونور، ابتدعوها لأنفسهم واعتصموا داخلها من تلك الغابة المسلحة؛ غابة الأحزان والهموم، والبغضاء والدماء والشهوات.
وبعد؛ فإن لهم لعادتهم وتقاليدهم ورموزهم التي يعرفونها، وإن لهم لنورا يتميزون به، وعطرا يعرفون بشذاه، ولا يعرف الشذى ولا يبصر النور إلا رجال الشذى والنور.
محيي الدين والحب الإلهي
الحب هو روح التصوف، وهو شعاره ودثاره، والحال المشترك بين المتصوفة جميعا، هو بداية البداية، كما أنه نهاية النهاية، وكأس المحبة لديهم تكمن فيها كل الأسرار والأنوار.
والحب عند المتصوفة، لا يمكن تحديده ولا تعريفه، ولا شرح حقائقه؛ وإنما يحد باللفظ فقط، ويعرف بالعرف والاصطلاح، أو كما يقول محيي الدين: «من حد الحب ما عرفه! ومن لم يذقه شربا ما عرفه! ومن قال: رويت منه ما عرفه! فالحب شرب بلا ري. قال بعض المحجوبين: شربت شربة فلم أظمأ بعدها أبدا. فقال أبو اليزيد: الرجل من يحسو البحار، ولسانه خارج على صدره من العطش.»
وهكذا هو الحب، حنين متجدد، وشوق مستمر، وظمأ دائم لا حد له ولا غاية؛ لأنه متجدد مع الأنفاس، فالشوق لا نهاية له؛ لأن أمر الحق لا نهاية له، فما من حال يبلغها المحب إلا ويعلم أن وراء ذلك ما هو أتم وأوفى؛ ويقول الإمام الغزالي: «إن تبلغ الحالة تعرف ما هي.»
ولكل محب من هواه على قدر همته، أو على قدر موهبته. قال الشبلي: شربت أنا والحلاج من كأس واحدة؛ فصحوت وسكر، فسلك كل منا طريقا.
ولقد استمد المتصوفة أصول هذا الحب من نور القرآن الكريم؛ فالقرآن لمن يتدبره هتاف حار بالمحبة الإلهية، ودعوة صريحة إلى بذل كل طيبات الحياة ، في سبيل الفوز بمحبة الله.
ولقد كان الرسول - صلوات الله عليه - في مناجاته لربه يسأله الحب، ويسأله أن تكون قرة عينه في الصلاة؛ وهي أسمى مراتب الوصول والمحبة: «اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر عيني في عبادتك.»
وأي مرتبة تسمو إلى مرتبة الحب الإلهي؟! يخلو المحب إلى ربه في محاريبه، يسمر بطاعته ويضيء ليله بنور وجهه، ويقطع نهاره بجميل ذكره، ثم تأتي النشوة الكبرى، بالأنس والرضا.
قال الجنيد: «أشرف المجالس وأعلاها: الجلوس في الجلوة، والتنسم بنسيم المعرفة، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد.» ثم قال: «يا لها من مجالس ما أجلها! ومن شراب ما ألذه! طوبى لمن رزقه.»
يقول محيي الدين: «جرت مسألة المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلم فيها الشيوخ، وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا له: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق برأسه ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله!»
ومحيي الدين يرى أن الحب سبب إيجاد العالم، ففي الحديث القدسي: «كنت كنزا لم أعرف، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، وتعرفت إليهم فبي عرفوني.» فأخبر أن الحب كان سبب خلق العالم، فالعالم بالحب خلق وبالحب يعيش، وقد خلقنا لنعبد الله:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ؛ وهذا هو سر الحياة.
وما في الموجودات عند محيي الدين إلا محب ومحبوب؛ حتى السالب والموجب وهما قوام الوجود، حتى ذرات الطبيعة، إنما يمسكها الحب أن تزول أو تحول، ولولا تعشق النفس للجسم ما تم وجودهما، ولولا حب المعاني للكلمات ما امتزجا ولا عرفا.
فالعالم بأسره إنما يتنفس بالحب ويعيش له وبه، والكون كله يتحرك بحب موجده ومبدعه؛ ولكن صور الحب خداعة، اتخذت ألوانها البراقة حجبا ومظهرا لحقيقة مضمرة، فما تنفس الحب في قلب إنسان على الحقيقة لغير خالقه؛ ولكنه احتجب بحجب الصور الدنيوية بحسب المشاكلة. احتجب في الجنس بصور زينب وهند وليلى، وفي الشهوات بحب الدرهم والدينار والجاه، وكل مرغوب محبوب من شهوات الحياة،
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة .
وللحب سببان: الجمال وهو في علاه لله، والإحسان وما ثم إحسان إلا منه، فإن أحببت للإحسان، فما أحببت في الحقيقة إلا الله فإنه المحسن، وإن أحببت للجمال، فما أحببت إلا الله؛ فإنه الجميل نور السموات والأرض.
ومحيي الدين يرى أن الحب ليس دعوى يلفظها اللسان ويتصورها الخيال، بل للحب آيات وشهود وشروط؛ فيطلب إلى المحب أن يمسك سمعه فلا يستمع إلا لكلام محبوبه، ويغض بصره عن كل منظور سوى وجه محبوبه، ويخرس لسانه عن كل كلام إلا عن ذكر محبوبه، ويرمي على خزانة خياله، فلا يتخيل سوى صورة محبوبه، فبه يسمع ويبصر ويتكلم. وفي الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به.» وإذا أحب الله العبد، أوحى إلى الملك أن ينادي في السموات: إن الله يحب فلانا، فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، فتقبله البواطن وإن أنكرته الظواهر.
ثم يقول: «واعلم أنه كلما ازدادت المشاهدة ازداد الحب؛ لأن الاشتياق يهيج باللقاء، ومن علامات المحب أنه يستقل الكثير من نفسه، ويستكثر القليل من محبوبه؛ لأن المحبوب غني، فقليله كثير، والمحب فقير فكثيره قليل، ومن نعته أيضا: أنه يعانق طاعة محبوبه ويجانب مخالفته، ومن علاماته الكبرى: أنه خارج عن نفسه بالكلية، وموافق لمحاب محبوبه، هائم القلب بهواه.
خيالك في عيني وذكرك في فمي
ومثواك في قلبي فأين تغيب؟»
ثم يقول: «ولقد بلغ بي قوة الخيال أن كان حبي يجسد لي محبوبي من خارج لعيني، كما كان يتجسد لرسول الله - صلوات الله عليه - فلا أقدر أنظر إليه، ويخاطبني وأصغي إليه، وأفهم عنه ولقد تركني أياما لا أستطيع طعاما، كلما قدمت لي المائدة يقول لي بلسان أسمعه بقلبي: أتأكل وأنت تشاهدني؟ فأمتنع عن الطعام ولا أجد جوعا، وأمتلئ حتى سمنت، فقام لي حبي مقام الغذاء، وكان أصحابي وأهل بيتي يتعجبون من سمني مع عدم الغذاء؛ فقد كنت أمضي الأيام الكثيرة لا أذوق طعاما، ولا أجد جوعا ولا عطشا، واعلم أنه لا يستغرق الحب المحب إلا إذا كان محبوبه الحق - تعالى، ومشاهدة المحبوب كالغذاء، وكلما ازداد مشاهدة ازداد حبا.
ولمقام المحبة، أربعة ألقاب: منها الحب، وعلامته: ألا يكون للمحب غرض ولا إرادة مع محبوبه. ثم الود، وهو من اسمه - تعالى: الودود، ومن علامته أن يتودد المحب للمحبوب دائما بما يرضيه ويحبه. والثالث: العشق وهو إفراط المحبة، ومنه قوله - تعالى:
والذين آمنوا أشد حبا لله ، وقوله - تعالى:
قد شغفها حبا ، أي: صار حبها ليوسف على قلبها كالشغاف، وهي الجلدة الرقيقة التي تحتوي على القلب؛ فهي ظرف له محيط به. والرابع: الهوى: وهو استفراغ الإرادة في المحبوب والتعلق به.»
ثم يقول محيي الدين: «وألطف ما في الحب ما وجدته، وهو أن تجد عشقا مفرطا وهوى وشوقا مقلقا، وغراما وتحولا، وامتناع نوم، وعدم لذة بطعام، ثم ذهولا وذهابا وفناء، ثم تجليا وفيضا ولذة لا توصف.»
صفات المحبين
يقول ذو النون المصري: «إن لله عبادا ملأ قلوبهم من صفاء محبته، وأنار أرواحهم بالشوق إلى رؤيته، فسبحان من شوقهم إليه، وأدنى منه هممهم! سبحان موفقهم ومؤنس وحشتهم وطبيب أسقامهم! إلهي لك تواضعت أبدانهم، وإلى الزيادة منك انبسطت أيديهم؛ فأذقتهم من حلاوة الفهم عنك، ما طيبت به عيشهم، وأدمت به نعيمهم؛ ففتحت لهم أبواب سمواتك، وأبحت لقلوبهم الجولان في ملكوتك، بك ما نسيت محبة المحبين، وعليك معول شوق المشتاقين، وإليك حنت قلوب العارفين، وبك أنست قلوب الصادقين، وعليك عكفت رهبة الخائفين، وبك استجارت أفئدة المقصرين، قد يئست الراحة من فتورهم، وقل طمع الغفلة فيهم، لا يسكنون إلى محادثة الفكرة فيما لا يعنيهم، ولا يفترون عن التعب والسهر، ويناجون ربهم بألسنتهم، ويتضرعون إليه بمسكنتهم، يسألونه العفو عن زلاتهم، والصفح عما وقع من الخطأ في أعمالهم؛ فهم الذين ذابت قلوبهم بفكر الأحزان وخدموه خدمة الأبرار.»
ويعقب محيي الدين على ذي النون فيقول: «ومن صفاتهم - رضي الله عنهم - النحول، وهو نعت يتعلق بأجسامهم تعلقه بأرواحهم.
فأما تعلقه بلطائفهم، فإن أرواح المحبين وإن لطفت عن إدراك الحواس، ولطفت عن تصوير الخيال، فإن الحب يلطفها لطافة السراب لمعنى أذكره؛ وذلك أن السراب يحسبه الظمآن ماء؛ وذلك لظمئه، لولا ذلك ما حسبه ماء؛ لأن الماء موضع حاجته، فيلجأ إليه لكونه مطلوبه ومحبوبه؛ لما فيه من سر الحياة، فإذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده عوضا عن الماء؛ فالمحب يجد عند كل شيء يقصده الله - سبحانه، فكما أنه - تعالى - يمكر بالعبد من حيث لا يشعر، كذلك يعتني بالعبد في الالتجاء والرجوع إليه والاعتماد عليه، بقطع الأسباب عنه عندما يبديها إليه من حيث لا يشعر، فيجد الله دائما عند فقد الماء المتخيل له في السراب، وهو رجوعه إلى الله لما تقطعت به الأسباب، وانغلقت دون مطلوبه الأبواب، ورجع إلى من بيده ملكوت كل شيء، وهو كان المطلوب به من الله، هذا فعله مع أحبائه يردهم إليه اضطرارا واختيارا بقطعهم من مطامع الدنيا، وبتقطع الأسباب دونهم؛ فكل شيء يطلبونه من الدنيا سراب.
وأما نحول أجسامهم فهو ما يتعلق به الحس من تغير ألوانهم، وذهاب لحوم أبدانهم؛ لاستيلاء الفكر عليهم في أداء ما كلفهم المحبوب مما افترضه عليهم، فبذلوا المجهود ليتصفوا بالوفاء بالعهود؛ إذ كانوا عاهدوا الله على ذلك، وعقدوا عليه في إيمانهم به وبرسوله، وسمعوه يقول آمرا:
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ، وقال:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا
فهذا سبب نحول أجسامهم.
ومن نعوتهم أيضا الذبول، وهو نعت صحيح لأرواحهم وأجسادهم: أما في أجسامهم فسببه ترك ملاذ الأطعمة الشهية الدسمة، وهي مستلذة للنفوس؛ لأنهم رأوا أن الحبيب كلفهم القيام بين يديه ومناجاته ليلا عند تجليه ونوم النائمين، ورأوا أن الطعام يخدر الحواس، ويدفع إلى النوم، فهجروه ليكمل قيامهم بين يدي محبوبهم، فحقق الله لهم غايتهم بإعانتهم على ذلك.
وأما ذبول أرواحهم، فإن لهم نعيما بالمعارف والعلوم؛ لأن لهم نسبة بحبهم إلى أرواح الملأ الأعلى، وأرواح الملأ الأعلى ذابلة؛ ذلة وحبا. وفي الخبر أن إسرافيل - عليه السلام - وهو من أرفع الأرواح العلوية، يتضاءل في نفسه كل يوم لاستيلاء عظمة الله - تعالى - على قلبه سبعين مرة، حتى يصير كالنقطة المتوهمة.
ومن صفات المحبين: الغرام وهو الاستهلاك والفناء في المحبوب، بملازمة الذلة والكمد. قال - تعالى:
إن عذابها كان غراما
أي: مهلكا؛ لملازمة شهود المحبوب، فإن الغريم هو الذي لزمه الدين وبه سمي غراما، ومقلوبه الرغام، وهو اللصوق بالتراب، ويقال: رغم أنفه؛ لأن الأنف يوصف بالعزة فألصقوه بالتراب، وهو أذل الأذلاء.
ولما لازم الحب قلوب المحبين، والشوق قلوب المشتاقين، والأرق نفوس الأرقين، وكل صفة للحب موصوفها منه، سمي صاحب هذه الملازمات كلها: مغرما، وسميت صفته غراما؛ فهو اسم يعم جميع ما يلزم المحب من صفة الحب، فليس للمحب صفة أعظم إحاطة من الغرام.»
ويذكر محيي الدين للمحبين أكثر من عشرين صفة، ثم يقول: «لقد أعطانا الله منها الحظ الأوفر، إلا أنه - سبحانه - قوانا على أشواق الحب وكمده، والله، إني لأجد من الحب ما لو وضع في ظني على السماء لانفطرت، وعلى النجوم لانكدرت، وعلى الجبال لسيرت، هذا ذوقي لها؛ لكن قواني الحق فيها قوة من فضله ومنحه.
ولقد رأيت في نفسي من عجائب المحبة ما لا يبلغه وصف واصف، والحب على قدر التجلي، والتجلي على قدر المعرفة، وكل من ذاب فيها وظهرت عليه أحكامها عرف قصدي هنا.»
حب العارفين
يقول محيي الدين: «إن الله - سبحانه - هو الذي بدأنا بالمحبة تفضلا منه فخلقنا، وهو - تعالى - لا يخلق إلا ما أحب، ومن حبه لنا: بعث الرسل إلينا؛ لتعلمنا الأعمال التي تؤدي إلى سعادتنا، ثم أخبرنا أن رحمته سبقت غضبه، وأن أشقى الأشقياء مشمول بالرحمة والعناية وإلا هلك.»
قال ذو النون المصري: «كنت في الطواف فسمعت صوتا حزينا، وإذا بجارية متعلقة بأستار الكعبة، وهي تقول:
أنت تدري يا حبيبي
يا حبيبي أنت تدري
ونحول الجسم والرو
ح يبوحان بسري
يا حبيبي قد كتمت ال
حب حتى ضاق صدري
قال ذو النون: فشجاني ما سمعت حتى انتحبت وبكيت، ثم سمعتها تقول: إلهي وسيدي ومولاي بحبك لي، إلا غفرت لي. قال: فتعاظمني ذلك، وقلت: يا جارية، أما يكفيك أن تقولي بحبي لك حتى تقولي بحبك لي؟ فقالت: إليك يا ذا النون، أما علمت أن لله قوما يحبهم قبل أن يحبوه، أما سمعت الله يقول:
فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ، فسبقت محبته لهم قبل محبتهم له، فقلت: ومن أين علمت أني ذو النون؟ فقالت: يا بطال، جالت القلوب في ميدان الأسرار فعرفتك، ثم قالت: انظر من خلفك، فأدرت وجهي، فلم أدر السماء اقتلعتها أم الأرض ابتلعتها.»
ويروي محيي الدين في الفتوحات صفات المحبة عند العارفين، فيقول: «إن المحبين لله شق لهم عن قلوبهم، فأبصروا بنور القلوب عن جلال الله؛ فصارت أبدانهم دنيوية، وأرواحهم حجبية، وعقولهم سماوية، تسرح بين صنوف الملائكة، وتشاهد تلك الأمور باليقين؛ فيعبدون بمبلغ استطاعتهم حبا له، لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار.»
ويقول ذو النون في محبة العارفين وصفاتهم: «هم الذين أنار الحب لهم آفاق السماء فلما ذاقوا، أمطرت عليهم سحب الأشجان، فتسربلوا بالخوف والأحزان، وشربوا بكأس اليقين وراضوا أنفسهم رياضة الموقنين، فكانت قرة أعينهم في مشاهدة محبوبهم؛ ولهذا كحلوا أبصارهم بالسهر، وغضوها عن النظر، وألزموها الصبر، وأشعروها الفكر، فقاموا ليلهم أرقا، واستهلت دموعهم تترى، صحبوا محبوبهم بأبدان ناحلة وشفاه ذابة، ودموع زائلة وزفرات قاتلة، فكأن زفير النار تحت أقدامهم، وكأن وعيده نصب أعينهم.»
يقول محيي الدين: «والحب الإلهي هو أسمى ما في عالم المعاني؛ ولهذا يستغرق الطاقة كلها، فيذهل المحب عن نفسه، ويفنى في محبوبه فناء معنويا لا يمكن تصوره، وكيف نتصور ما ليس بصورة وليست للمعنويات صور؟ وهذا هو حب العارفين، الذين يمتازون به عن العوام أصحاب الاتحاد الذين تخيلوا الفناء اتحادا ذاتيا لا معنويا، وتخيلهم هذا دل على نقص فطرتهم.
فالمحب العارف: إنما يفنى في محبوبه فناء افتقار وذلة، ورجاء وعبودية، وحنينا وشوقا مع كمال الأدب والمعرفة.»
ثم يحذر محيي الدين، ويحذر هؤلاء الذين تذهلهم بروق المحبة، أو تخدعهم بشاشات القرب والأنس في بساط الحضرة، فيقول: «لا يجوز لمن نهل فوصل: ترك الحرمة عند الخدمة لمن جلس على بساط الأنس والمحبة؛ فللحضرة آدابها وأذواقها، وإلا حرم فطرد.
وكلما ازداد الحب ازداد الإيمان، وعلى مقدار الحب وبه نفهم غاية الحياة وسرها والمراد منها.
ما خلقنا إلا للعبادة والمحبة، فحب الله روح العبادة، وهو رجوع بالنفس إلى الفطرة، وهو وفاء بعهد سابق؛ حينما أخذ العهد والميثاق على الأرواح.
وحب الله - تعالى - يحول الأرواح إلى لطائف راضية مطمئنة، لا يصدر عنها شر ولا عدوان، بل رضا وإيمان، وإخاء وصفاء؛ لأنه يسمو بالإنسان إلى محبة كل شيء في الوجود، فحينما يتصور الإنسان أن كل شيء في هذا الكون من صنع المحبوب، يرى الوجود خيرا وجمالا وكمالا، وحينما يتصور أن أقدار الحياة من إرادة المحبوب؛ يرى كل قدر رحمة وخيرا، وبركة وفضلا؛ لأن هوى المحب مع إرادة المحبوب أبدا.»
الحب ولقاء الله
يقول محيي الدين: «إن المحب في أشواق دائمة إلى ربه، فهو متبرم بالبقاء في هذا الهيكل الذي يحجبه عن النقلة الكبرى إلى الدار الأخرى؛ حيث اللقاء والبقاء؛ لهذا تنغصت عليه حياته الدنيا شوقا إلى ذلك اللقاء، فهو صافي العيش كدره، طيب الحياة متبرم بها في نفس الأمر لا في نفسه، قد ذهب عنه كل مخلوق، وهابه كل ناظر، ذو أنس بالله دائما، وقور خجول، في قلبه ذكر وتعظيم، مرآة للحق حليم، صابر محتمل، فارغ من الدنيا والآخرة، لا يأسف على شيء؛ إذ لا يرى غير الله، تبكي عينه ويضحك قلبه، لا يشتغل عن الحق طرفة عين، عرف ربه بربه، مهدي في أحواله، مستوحش من الخلق بحبه، جامع للتجليات، مضنون به، مستور بولهه ، محبوس في المواقف رضي عن الله، ورضي الله عنه، وذلك هو الفوز العظيم.»
محيي الدين ووحدة الوجود
قمة الحب الإلهي عند العارفين من أئمة المتصوفة هي حال الفناء، فناء المحب في محبوبه فناء معنويا لا يمكن تصوره، وكيف نتصور ما ليس بصورة، وليس للمعنويات صور محسوسة ملموسة، وهذا هو حب العارفين - كما يقول محيي الدين - الذين يمتازون عن العوام أصحاب الاتحاد.
ولقد ملأ الشعراء والأدباء، أصحاب الحب الأرضي الدنيا بألحان حبهم وصور غرامهم؛ فجعلوا الحياة هي الحب، وجعلوا الحب ملكا من ملائكة السماء بل إلها وربا، وجعلوا الغرام اتحادا واستغراقا وفناء، وصوروه بشتيت الصور المعنوية والحسية، وأطلقوا في آفاقه استعارات المبالغة، وتشبيهات مهولة؛ فصفقوا لهم إكبارا، وأقاموا لهم التماثيل إعجابا، وسجدوا وتبتلوا، في محاريبهم الشهوانية.
وقال الشعراء والأدباء من أصحاب الهوى الجنسي: إن المحب يرى محبوبه في كل شيء، ويتلون به كل شيء، يراه في الماء والسماء والهواء، يراه في كأس شرابه، ويشاهده في ألوان طعامه، وفي بسمة الفجر وإشراقة الشمس، وشعاع البدر. بل يراه في كل جهة يولي وجهه إليها.
يقول المترنمون بالجنس هذا؛ فتصفق لهم الدنيا إعجابا وإجلالا، وتخفق لهم القلوب رحمة وحنانا، وتدمع العيون رثاء وإشفاقا.
أما العابد المتطهر، المؤمن الصوفي، الزاهد الساجد، الغارق في حبه العظيم، والمحبة على قدر المحبوب، إذا استغرق الصوفي في حبه فنسي الوجود، وغاب عن الشهود، ونسي نفسه، ولم ير إلا الحبيب العظيم، ولم يشاهد في الألوان والصور الكونية إلا الخالق المحبوب؛ فهو زنديق وهو متفلسف! وهو هاتف بالحلول! وداع إلى وحدة الوجود! والأمر أيسر وأهون من هذا، ما هناك إلا المحب والمحبوب.
إنهم لقوم عمرهم النور الإلهي الأسنى؛ فتعلقت أبصارهم به ورفرفت أرواحهم حوله، وذهلت عقولهم من التجلي والمشاهدة، فما رأوا في الوجود سواه. تعالى الله.
إنهم بعين حبهم وشوقهم ليرون الله في كل شيء، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن.
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
ووحدة الوجود، وفكرة الحلول فكرة إلحادية قديمة، عريقة في العبادات الهندية والبوذية ، وخلاصتها: أن أصحابها انقسموا إلى فريقين: فريق يرى الله - سبحانه - روحا، ويرى العالم جسما لذلك الروح، وأن الإنسان إذا صفا وتطهر، سما وارتفع فالتصق بالروح التي هي الله، ففني فيها فذاق السعادة الكبرى.
وفريق يرى أن جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها، غير وجود الله؛ فكل شيء هو الله، والله هو كل شيء، أي: إن الله - سبحانه - يتجلى تجليا حقيقيا في كل شيء في الكون بذاته، فلا موجود إلا الوجود الواحد، ومع ذلك يتعدد بتعدد الصور تعددا حقيقيا واقعيا في نفس الأمر، ولكن ذلك التعدد لا يوجب تعددا في ذات الوجود، كما أن تعدد أفراد الإنسان لا يوجب تعددا في حقيقة الإنسان.
وهي سفسطة، لا يقبلها منطق ولا عقل ولا شرع، سفسطة تذهب بالشرائع والأديان، وتنال من الجلال والكمال الواجب لله - سبحانه، وتبطل الجزاء والعقاب والجنة والنار، والحياة الأخروية، كما تبطل الحدود بين الخالق والمخلوق، فتجعل الخلق والخالق شيئا واحدا.
تلك هي خلاصة فكرة وحدة الوجود، التي قذف بها القدامى من خصوم المتصوفة رجال الحب الإلهي، متخذين من حب المتصوفة لربهم تكأة ومقعدا لهذا الاتهام.
ثم جاء بعض رجال الاستشراق، الذين أغرموا أكبر الغرام بتجريح الثقافة الإسلامية والفكرة المحمدية، بتجريح رجالها والطعن في علمائها؛ فغمسوا أقلامهم في محراب المتصوفة، ولبسوا ثوب العلم بالإسلام والدفاع عنه؛ فرموا المتصوفة بهذا الإفك، والذي تولى كبره منهم هو: «جولد تسهير»، هذا اليهودي المفكر، الذي فكر وفكر، ثم فكر وقدر، فألهم أن إخوان الصفا بشامخ علمهم، استمدوا فلسفتهم وفكرتهم من قصة الحمامة المطوقة، في كتاب كليلة ودمنة، ولا أجد لهذا الاكتشاف العظيم شبيها إلا أن تقول مثلا: إن علماء القنبلة الذرية، قد استمدوا فكرتهم من قصة الزير سالم، أو الزناتي خليفة.
جولد تسهير هذا، وأمثاله من عباقرة رجال الاستشراق، هم الذين أثاروا غبار وحدة الوجود على رجال التصوف الإسلامي والحب الإلهي.
وجرى في أعقابهم بعض المتعالمين من كتابنا، الذين تعيش أفكارهم على فتات الموائد الأوروبية؛ فرموا بالكلم المسموم، والاتهام الشائن.
ويتفلسف المستشرقون، ويتفلسف المتعالمون، فيقولون : إن للتصوف الإسلامي علاقة وثيقة ببوذا والهند، وإن وحدة الوجود عند متصوفة الإسلام من الصوفية البوذية، ولمحات من صوفية المدرسة الإشراقية.
ونسوا أن التصوف الإسلامي قام على كتاب الله وهدي نبيه، وأن الصوفي المسلم يقرأ في كتاب ربه:
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
فيقرأ خلاصة العلم الذي يتعلمه طلاب اللاهوت في سائر الملل والنحل، ويطوي تحت هذا البلاغ المبين والنور الغلاب كل فلسفة تتشدق ببحث الصفات والذات.
يقول الشعراني في اليواقيت: «ولعمري، إن عباد الأوثان لم يتجرءوا أن يجعلوا آلهتهم عين الله، بل قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فكيف يظن بأولياء الله أن يدعوا الاتحاد بالحق - سبحانه؟! هذا محال في حقهم - رضوان الله عليهم.»
ومحيي الدين: وهو شيخ المتصوفة الأكبر، وفيلسوفهم الأشهر، الذي رمي فيمن رمي من المتصوفة بهذا الإفك تشهد كتبه، وتشهد آثاره، ويشهد إيمانه، وتشهد تقواه، وينطق حبه لله، بأنه أكبر المدافعين عن التوحيد، وأشد الناس قسوة على من مرق من نطاقه، فنادى أو هتف بوحدة الوجود، وما إلى وحدة الوجود من حلول وإلحاد، بل محيي الدين لا يبيح للشاطحين والمحبين أن يقولوا حتى الألفاظ التي تحتمل التأويل أو الشك، مع براءة الشاطح والمحب من الاتجاه والقصد.
يقول محيي الدين في عقيدته الوسطى: «اعلم أن الله - تعالى - واحد بإجماع، وقيام الواحد يتعالى أن يحل فيه شيء، أو يحل هو في شيء، أو يتحد بشيء.»
ويقول في الباب الثالث من الفتوحات: «اعلم أنه ليس في أحد من الله شيء، ولا يجوز ذلك عليه بوجه من الوجوه.»
وقال في باب الأسرار: «لا يجوز لعارف أن يقول: أنا الله، ولو بلغ أقصى درجات القرب، وحاشا العارف من هذا حاشاه.»
وقال في الباب التاسع والتسعين ومائة: «القديم لا يكون قط محلا للحوادث، ولا يكون حالا في المحدث؛ وإنما الوجود الحادث والقديم مربوط بعضه ببعض، ربط إضافة وحكم، لا ربط وجود عين بعين؛ فإن الرب لا يجتمع مع عبده في مرتبة واحدة أبدا.»
وقال في لواقح الأنوار: «من كمال العرفان شهود عبد ورب، وكل عارف نفى شهود العبد في وقت ما، فليس بعارف؛ وإنما هو في ذلك لوقت صاحب حال، وصاحب الحال سكران لا تحقيق عنده.»
ويقول في الباب السابع والستين وثلاثمائة من الفتوحات: «اجتمعت روحي بهارون - عليه السلام - في بعض المشاهدات، فقلت له: يا نبي الله، كيف قلت:
فلا تشمت بي الأعداء ، ومن الأعداء حتى تشهدهم، والواحد منا يصل إلى مقام لا يشهد فيه إلا الله؟ فقال لي هارون - عليه السلام: صحيح ما قلت في مشهدكم؛ ولكن إذا لم يشهد أحدكم إلا الله؛ فهل زال العالم في نفس الأمر، كما هو في مشهدكم، أم العالم باق لم يزل، وحجبتم أنتم عن شهوده؛ لعظيم ما تجلى لقلوبكم؟ فقلت له: العالم باق في نفس الأمر لم يزل؛ وإنما حجبنا نحن عن شهوده، فقال: قد نقص علمكم بالله في ذلك المشهد، بقدر ما نقص من شهود العالم، فإنه كله آيات الله. فأفادني - عليه السلام - علما لم يكن عندي.»
هذا موقف من المواقف التي يجب أن نقف لديها ونرصد الفكر عليها؛ لأنه موقف يشرع لنا أدق مسألة في التصوف، هي مسألة المشاهدة والتجلي، والفناء والذهاب بالحق عن الخلق، أو كما يقول الجنيد: من شهد الحق لم ير الخلق.
فالمتصوف المحب الغارق في حبه، عند المشاهدة - وما أدراك ما المشاهدة؟! - يذهب عنه شهود الخلق والعالم؛ لعظيم ما تجلى لقلبه من أنوار ربه، وهو موقف عظيم رهيب.
ولكن ليس معنى هذا، أن العالم قد زال أو تلاشى، أو عدمت عينه وذاته؛ وإنما هو ذهول بما هو أعلى عما هو أدنى، كمن يشاهد الملك مثلا؛ فيذهل عند رؤيته عن رؤية ما سواه، فلا يرى غيره؛ لأن جلاله قد حجب من حوله، ولا قياس ولا تشبيه بين المثلين.
وليس في هذا ما يعاب، فهو موقف عظيم من مواقف الرجال؛ ولكن الكمال يكون أتم وأعلى إذا اقترنت مشاهد الأنوار الربانية مع الموجودات الكونية؛ لأن كل موجود آية من آيات الله، فالحجاب عنها حتى عند المشاهدة العظمى: نقص في المعرفة.
ويشرح لنا محيي الدين الحديث القدسي المشهور: «ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ... إلخ.»
يشرح محيي الدين هذا الحديث، الذي توهم فيه بعض الأغرار ما يفيد الوحدة، فيقول: «أي: إن من تقرب إلى ربه فأحبه، أفاض عليه أنوار المعرفة، فانكشفت له الحقائق، فرأى كل شيء بنور هذه المعرفة.» ثم يقول: «لا حلول ولا اتحاد، فإن القول بالحلول مرض لا يزول، ومن فصل بينك وبينه فقد أثبت عينك وعينه، ألا ترى إلى قوله: كنت سمعه الذي يسمع به، فأثبتك بإعادة الضمير إليك؛ ليدلك عليك، وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد، كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول.»
ما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد، وما قال بالحلول إلا أهل الجهل والفضول. أيرمى صاحب هذا القول بالاتحاد والحلول؟! سبحانك ربي! وإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!
ويقول في باب الأسرار: «أنت أنت، وهو هو، فإياك أن تقول، كما قال العاشق:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
فهل قدر هذا أن يرد العين واحدة؟ لا والله ما استطاع، فإنه جهل، والجهل لا يتعقل حقا.»
وقال أيضا: «إياك أن تقول: أنا هو، وتغالط؛ فإنك لو كنت هو لأحطت به، كما أحاط - تعالى - بنفسه.»
ثم يقول هو من الآيات في توضيح فكرته: «اعلم أن العاشق إذا قال:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
كان ذلك كلاما بلسان العشق والمحبة، لا بلسان العلم والتحقيق؛ ولذلك يرجع أحدهم عن هذا القول إذا صحا من سكره.»
إذا قال القائل:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
فهذا لسان الحب، ولسان الخيال لا الحقيقة، لسان المعنويات التي لا صور لها، وللمحبة لسان معذور؛ لأنه مقهور بحاله.
يروي محيي الدين في الفتوحات: «إن سليمان - صلوات الله عليه - كان في قبته يوما، وفي أعلاها عصفور يناجي عصفورة، فقال لها: أنا أحبك حبا لا أعصي لك معه أمرا، حتى لو قلت لي: حطم هذه القبة على رأس سليمان لحطمتها عليه، فأمره سليمان أن يهبط، فلما هبط قال له: ماذا تقول؟ قال: يا نبي الله، لقد تكلمت بلسان المحبة، وألسنة المحبين لا حساب عليها؛ فتبسم سليمان وعفا عنه ...»
ويقول محيي الدين في الباب الثاني والتسعين ومائتين: «من أعظم الأدلة على نفي الحلول والاتحاد، الذي يتوهمه بعضهم: أن تعلم عقلا أن القمر ليس فيه من نور الشمس شيء، وأن الشمس ما انتقلت إليه بذاتها؛ وإنما كان القمر محلا لها ومشرقا بها؛ فكذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه.»
ثم يقول: «وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق، ولا حل فيه الحق؛ إذ لو كان عين الحق، أو حل فيه، لما كان - تعالى - قديما ولا بديعا.»
ثم يرد محيي الدين على هؤلاء الذين تنادوا بالترقي والفناء في الذات العلية، فيقول: «لو صح أن يرقى الإنسان عن إنسانيته، والملك عن ملكيته، ويتحد بخالقه - تعالى - لصح انقلاب الحقائق، وخرج الإله عن كونه إلها، وصار الحق خلقا، والخلق حقا! وما وثق أحد بعلم، وصار المحال واجبا؛ فلا سبيل إلى قلب الحقائق أبدا.»
ويقول في الباب الثامن والأربعين من الفتوحات: «لا يصح أن يكون الخلق في مرتبة الحق - تعالى - أبدا، كما لا يصح أن يكون المعلول في رتبة العلة.» ثم يقول: «وأين إذن تذهب التكاليف؟ ومن ترك التكاليف كان معاندا أو جاحدا؛ فمن كمال التخلق بأسماء الحق الاشتغال بالله وبالخلق.»
ويقول في لواقح الأنوار: «لا يقدر أحد ولو ارتفعت درجات مشاهدته أن يقول: إن العالم عين الحق أو اتحد به أبدا، ومن فهم ما أومأنا إليه، فهم معنى قوله - تعالى:
قل الروح من أمر ربي ، فلم يحدث بابتداعه العالم في ذاته حادث. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!»
ثم يأتي محيي الدين بكلمة الفصل فيقول: «وبالجملة فالقلوب به - تعالى - هائمة، والعقول فيه حائرة، يريد العارفون أن يفصلوه - تعالى - بالكلية عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب، فلا يتحقق لهم؛ فهم على الدوام متحيرون: فتارة يقولون: هو، وتارة يقولون: ما هو، وتارة يقولون: هو ما هو! وبذلك ظهرت عظمته - تعالى.»
وهذا كلام العارف الحكيم، المؤمن الكامل، وهو هدى ونور لمن يريد الهدى والنور.
يريد العارفون أن يفصلوه - سبحانه وتعالى - عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب، فلا يتحقق لهم ما يقولون.
فالقلوب حائرة، والعقول هائمة، وبذلك ظهرت عظمة الله - تعالى - الذي ليس كمثله شيء، والذي لا تدركه العقول ولا الأبصار، وهو يدرك العقول والأبصار، وهو على كل شيء قدير، و
سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
محيي الدين المفترى عليه
لم يشهد تاريخ الفكر الإسلامي جدلا وحوارا، أشد ولا أعنف من الجدل والحوار الذي أثير حول محيي الدين، ولست أغالي إذا قلت: إن محيي الدين هو الراية التي دارت حولها المعارك بين المتصوفة وخصومهم من شتيت الفرق والطوائف والمذاهب، منذ القرن السابع الهجري إلى يومنا.
فمحيي الدين، قد فتن به قوم وهاموا بآثاره حبا وغراما، وطافوا حول تراثه إجلالا وإكبارا، وتنادوا بأن الفتوحات هي أعظم آثار الفكر الإسلامي، وأعلى ذرى العطايا اللدنية، والمنح الإلهية في نهج التصوف والمتصوفة، وأنه القطب والغوث والإمام والشيخ الأكبر.
وغضب قوم على محيي الدين، وثاروا به وتفننوا في تجريحه والنيل منه، وألحدوا بكل ما قال وظنوا السوء، بل وأكثر من السوء في كتبه وآرائه.
وخصوم محيي الدين على لونين؛ ففريق لم يفهم محيي الدين، وقصرت أجنحته عن التحليق في آفاقه، وعجزت أقدامه وسواعده عن الجري مع عبابه وأمواجه؛ فأنكر وجحد، ورماه بالغموض والإبهام والتقنع لمآرب وأغراض.
وفريق آخر أنكر التصوف جملة، وجحد المتصوفة كافة، ورأوا في محيي الدين الحصن الأكبر والصرح الممرد الشاهق للتصوف والمتصوفة؛ فوجهوا ريحهم إليه، وأجروا سفنهم بالكيد له، والتطاول عليه؛ حتى ينتقض الصرح من أساسه، وينفض السامر، وتخلو ساحاته من البطل والزعيم.
بل لقد تعرض محيي الدين لمحنة أشد، بل لمؤامرة من تلك المؤامرات التي تدبر تحت أجنحة الظلمات، والتي طالما أودت بالعلماء ورجال الإيمان، وطالما جرحت أئمة الفكر والهدى، مؤامرة بدأت في حياته، ثم جرت في أعقابه ولاحقته إلى يومنا.
يقول الشعراني في مقدمة اليواقيت: «إن أفاقا من أهل اليمن غير واضح العقيدة، اسمه ابن الخياط، كتب مسائل في درج وأرسلها إلى العلماء بسائر أنحاء العالم الإسلامي، وقال: هذه عقائد الشيخ محيي الدين. وذكر فيها عقائد زائفة، ومسائل خارقة لإجماع المسلمين، وخدع العلماء ووقع كثير منهم في الشرك، فكتبوا بحسب السؤال وشنعوا على من يعتقد ذلك من غير تثبت، والشيخ عن ذلك بمعزل.»
ويعقب الفيروز آبادي على حادثة ابن الخياط قائلا: «فلا أدري أوجد ابن الخياط تلك المسائل في كتاب مدسوس على الشيخ، أو فهمها هو من كلام الشيخ على خلاف مراده، أو ابتكرها من عند نفسه؟»
وإنه للون من أعجب ألوان التشهير، يتفق تماما مع أحدث أساليب الدعاية الحديثة، وما ألفناه من الأقلام المأجورة المعاصرة، التي تطلقها الأمم لتنال من خصومها، ومن أفكارهم ومذاهبهم، بالتلفيق والاختراع والتمويه.
ولا عجب إذا رأينا الكثير من العلماء الذين وجه إليهم السؤال من ابن الخياط، وقد وقعوا في الشرك الذي نصب لهم بمهارة ودهاء؛ فقد رأوا بين أيديهم مسائل خطيرة تمس الدين، وما انعقد عليه الرأي بالإجماع؛ فملئوا الدنيا صياحا وتشهيرا، ولا يزال صياحهم وتشهيرهم تحمله أجنحة التاريخ، وتقذف به إلى الأذهان.
ويحدثنا الشعراني أيضا، فيقول: «إنه عندما أخذ في تأليف مختصر للفتوحات، رأى فيها أشياء كثيرة، لا تتفق مع ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فحذفها وتوقف فيها.» ثم يقول: «لم أزل كذلك أظن أن المواضيع التي حذفتها غير ثابتة عن الشيخ محيي الدين، حتى قدم علينا الأخ العالم الشريف الشيخ شمس الدين محمد بن السيد أبي الطيب المدني، المتوفى سنة 955ه، فذاكرته في ذلك، فأخرج لي نسخة من الفتوحات التي قابلها على النسخة التي عليها خط الشيخ محيي الدين نفسه «بقونيه»؛ فلم أر فيها شيئا مما توقفت فيه وحذفته؛ فعلمت أن النسخ التي في مصر الآن كلها كتبت عن النسخة التي دسوا على الشيخ فيها ما يخالف عقائد أهل السنة والجماعة، كما وقع له ذلك في كتاب الفصوص وغيره.»
والشعراني وهو من أخلص تلامذة محيي الدين، وهو من أكبر من كتبوا عنه وترجموا له، يقرر هنا في صراحة لا تقبل الجدل: أن كل ما في الفتوحات مخالفا لعقائد أهل السنة والجماعة، قد دس على محيي الدين، وأن محيي الدين ضحية لمؤامرة دنيئة، سلاح الخصوم فيها: التلفيق والتزييف.
ويتابع الشعراني بحثه فيقول: «إنه لمقتنع كل الاقتناع بأن خصوم محيي الدين أضافوا إلى مؤلفاته زيادات كبيرة وأنطقوه بما لم يقله؛ ليصرفوا الجمهور عن حسن الظن به.»
ونحن ولا شك أمام حادث خطير من أحداث التاريخ، يجب أن تجتمع له عصبة من أولي القدرة والإيمان لدراسته وبحثه، وصون هذا التراث الإسلامي العظيم من التشويه الزائف الخطير المتعمد.
ويرى كثير من رجال التاريخ وأهل الرأي: أن الزائف في الفتوحات والفصوص وغيرهما من كتب محيي الدين، لم يتوله خصومه من رجال الفقه ولا من أهل السنة؛ وإنما تولى أثمه بعض رجال الباطنية، الذين عجزوا عن الجهر بآرائهم، فأضافوها إلى محيي الدين؛ لإيمانهم بأن شخصيته الجبارة بمكانتها وجلالها كفيلة بحماية تلك الآراء، أو تدعيمها وتقويتها.
والتاريخ حافل الصفحات بألوان من الخصومات والافتراءات على الرجال والأئمة، بل وعلى الرسل والأنبياء.
يقول جلال الدين السيوطي: «ما كان كبير في عصر قط إلا كان له عدو من السفلة؛ إذ الأشراف لم تزل تبتلى بالأطراف.» ثم يضرب الأمثال من الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - الذين ابتلوا بالخصومات والافتراءات، ثم بكبار الصحابة، كسعد بن أبي وقاص الذي نسب إليه أهل الكوفة أنه لا يحسن الوضوء ولا الصلاة، وهو من هو في كماله وإيمانه! وأحمد بن حنبل الذي ضرب حتى مزق جسده، وهكذا، ثم يقول: «ولقد اختص المتصوفة بالنصيب الأكبر من هذا الابتلاء.»
والسيوطي هنا يقرر حقيقة من حقائق التاريخ التي لا يرقى إليها الشك، فما من صوفي إلا وأحاطت به عصبة السوء والإفك، تجريحا وتشهيرا، ودسا وافتراء، لقد نفوا البسطامي سبع مرات من بلده بتهمة الكفر والزندقة، وأحلوا دم ذي النون المصري، وشهدوا على الجنيد بالكفر والإلحاد، ودسوا على الغزالي في الإحياء عدة مسائل، تنبه لها القاضي عياض؛ فأرشد إليها وأمر بإحراقها.
ولم يكتف خصوم محيي الدين بالدس عليه في كتبه والتشهير بألسنتهم به، بل أضافوا إلى جريمتهم جريمة أخرى أشد وأنكى، فقد أخذوا يؤلفون على ألسنة شيوخ الإسلام الكلمات القاسية الجارحة الموجهة إلى محيي الدين؛ ليزيدوا في تدعيم مؤامرتهم، وليزيدوا النار اشتعالا.
ووقع كثير من رجال التاريخ فريسة سهلة لهذا اللون الجديد؛ فأخذوا يرددون أمثال هذه الافتراءات، وينسبونها إلى هؤلاء الأعلام، ولا عجب في هذا، فكتب التفسير مثلا تموج موجا بالإسرائيليات التي تنسب ظلما إلى ابن عباس - رضي الله عنه - وهو منها البريء المطهر، ولقد نسبوا فيما نسبوا إلى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام أنه قال عن محيي الدين: إنه زنديق! ورواها عنه أكثر من مؤرخ، ثم نرى كتب التاريخ الصحاح تقص علينا حادثة أبعد ما تكون عن الرواية الأولى، على لسان مريد من تلامذة شيخ الإسلام يقول: كنا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عبد السلام، فجاء في باب الردة لفظة زنديق. فقال بعضهم: هل هي عربية أم أعجمية؟ فقال بعض الفضلاء: إنما هي فارسية معربة أصلها «زن. دين» أي: على دين المرأة، وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان. فقال بعضهم: مثل من؟ فقال آخر إلى جانب الشيخ: مثل ابن عربي بدمشق؛ فلم ينطق الشيخ ولم يرد عليه، ووجم لها من في المجلس.
قال المريد: وكنت صائما ذلك اليوم، فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه، فحضرت ووجدت منه إقبالا ولطفا. فقلت له: يا سيدي، هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا؟ فقال: ما لك ولهذا؟ فعرفت أنه يعرفه؛ فرجوته وألححت في الرجاء، فقال لي: هو ابن عربي؛ فعجبت وقلت: يا سيدي، لقد حدث اليوم أن رماه بعضهم في مجلسك بالزندقة ولم ترد عليه! فتبسم الشيخ وقال: اللجاجة مع المتعنت لا تنتج إلا ضررا، وقائل تلك الكلمة: لجوج حقود، يريد بابا للجدل؛ حتى يفرغ ما في جوفه.
النبي والولي
وخصوم ابن عربي على لونين: لون صناعته الدس وسوء القصد، وقد توصلوا إلى أغراضهم بتزييف الآراء على ألسنة الأئمة والعلماء، وتزييف القول وبثه في كتب محيي الدين، كما حدث في الفتوحات والفصوص والمشاهد، وقد تنبه رجال التصوف كالشعراني، والمؤرخين الثقات كالفيروز آبادي، وصاحب نفح الطيب إلى ذلك.
والفريق الآخر: خصومته أساسها سوء الظن، أو سوء الفهم لكلمات محيي الدين. يقول الشعراني: سمعت سيدي عليا الخواص يقول: «لو أن كمال الدعاة إلى الله - تعالى - كان موقوفا على إطباق الخلق على تصديقهم؛ لكان رسل الله - صلوات الله عليهم - أولى بذلك، وقد خاصمهم الناس فريقا يقتلون، وفريقا يأسرون ويكذبون.»
ولقد صدق الخواص، فحتى الرسل لم تسلم دعوتهم الربانية من المؤولين والمكذبين.
ومن الأمور التي نسبت إلى محيي الدين عن طريق التأويل أو سوء الفهم مسئلة المفاضلة بين النبي والولي، فلقد هتف المرجفون بأن محيي الدين قد فضل الولي على النبي، وأنه قال: إن النبي للعامة، والأولياء للخاصة.
وهو افتراء، أو سوء فهم من أعجب الأعاجيب، فمحيي الدين لم يقل هذا، ولا ينبغي له أن يقوله، ولا يمكن أن يصدر منه.
محيي الدين الذي اتهم بأنه سما بمقام النبوة المحمدية سموا اعتبروه عيبا من عيوبه، حتى رموه بالغلو، كما غالى رجال المسيحية في عيسى، حتى أوشكوا أن يخرجوه من بشريته، بل لقد فعلوها.
محيي الدين الذي عيب عليه هذا، يرمى بأنه يفضل الولي على النبي! ومن عجب أن يتهم رجل بمتناقضين في وقت واحد.
وحقيقة الأمر: أن محيي الدين يرى أن الولي كلمة اصطلاحية تضم كل الرسل والأنبياء؛ فالرسول عنده ولي عهد إليه في تبليغ رسالة عن الله - سبحانه، والنبي ولي متميز عن غيره من الأولياء، مفضل بسبب خصوصيته بالنبوة؛ فالولاية هي أساس كل المقامات الروحية وعنصرها الأول، ولا يسمو الولي سمو النبي والرسول أبدا، فكل نبي أو رسول هو في الأصل ولي لله ، وليس كل ولي نبيا أو رسولا.
وإنما المفاضلة بين الولاية في النبي والنبوة، أي الفضيلتين أفضل وأدوم؟ يقول ابن عربي: «إن النبوة طارئة وإن الولاية دائمة، فولاية النبي - لا ولاية غيره - أفضل من نبوته؛ لأنها أدوم وأسبق.» فالكلام إذن منصب على رسالة النبي وولايته، لا على المفاضلة بينه وبين غيره في النبوة والولاية.
المتشابهات في كلام محيي الدين
للصوفية اصطلاحات ورموز، ولغة اختصوا بها، فإذا اختلف في معانيها، يجب أن ترد إلى أصحابها وأولي العلم بأسرارها. يقول محيي الدين: «اعلم أن أهل الله لم يضعوا الإشارات التي اصطلحوا عليها فيما بينهم لأنفسهم؛ فإنهم يعلمون الحق الصريح في ذلك؛ وإنما وضعوها منعا للدخيل؛ حتى لا يعرف ما هم فيه؛ شفقة عليه أن يسمع شيئا لم يصل إليه، فينكره على أهل الله فيعاقب.»
ويقول: «إن من أعجب الأشياء في الطريق أن ما من طائفة تحمل علما من المنطقيين والنحاة، وأهل الهندسة والحساب والمتكلمين، إلا ولهم اصطلاح لا يعلمه الدخيل فيهم إلا بتوقيف منهم إلا أهل هذا الطريق، فإن المريد الصادق إذا دخل طريقهم وما عنده خبر بما اصطلحوا عليه، وجلس معهم وسمع ما يتكلمون به من الإشارات، فهم جميع ما تكلموا به، حتى كأنه الواضع لهذه المصطلحات.»
ويقول مجد الدين الفيروز آبادي: «كما أعطى الله الكرامات للأولياء، أعطاهم من العبارات ما يعجز عن فهمه فحول العلماء.»
ويقول محيي الدين: «كثيرا ما يهب على قلوب العارفين نفحات إلهية، فإن نطقوا بها جهلهم من لا يعلم، وردها عليهم أصحاب الأدلة من أهل الظاهر، وغاب عنهم أن الله - تعالى - كما أعطى أولياءه الكرامات، أعطاهم العبارات المعجزة.»
لكل علم من العلوم اصطلاحاته الفنية، ولغته الخاصة؛ فيجب الإحاطة أولا بلغة التصوف ورموزه، قبل الجحود والإنكار.
يقول محيي الدين: «من لم يقم بقلبه التصديق لما يسمعه من كلام هذه الطائفة فلا يجالسهم، فإن مجالسهم سم قاتل.»
يحذر محيي الدين من سوء الفهم، أو سوء التأويل لكلمات العارفين، الذين أوتوا الكرامات، كما أوتوا الكلمات المعجزة، والرقائق الغالية، والدقائق المشرقة .
وسوء الفهم ، وسوء التأويل، هو الذي دفع بالكثير من رجال الفكر إلى مخاصمة محيي الدين والصياح به، والإنكار عليه، ولو ردوا ما أنكروه إلى أهله ورجاله، لعرفوا اليقين، ولمسوا النور المبين.
ومن تلك المتشابهات في كلام محيي الدين: أنهم نسبوا إليه وحدة الوجود، ونسبوا إليه أنه جعل الحق والخلق شيئا واحدا؛ حين قال:
فيحمدني وأحمده
ويعبدني وأعبده
يقول الشعراني: «هذا منطق عربي مبين، على نهج الأسلوب القرآني، وعلى صحة نسبة هذا القول إليه، فمعنى يحمدني: أنه يشكرني إذا أطعته، كما في قوله - تعالى:
فاذكروني أذكركم . وأما قوله: «ويعبدني وأعبده» أي: يطيعني بإجابته دعائي، كما في قوله - تعالى:
لا تعبدوا الشيطان
أي: لا تطيعوه، وإلا فليس أحد يعبد الشيطان كما يعبد الله - سبحانه.»
ومن المتشابهات أيضا عنده، والتي فسرها هو بنفسه، وعلى ضوء هذا التفسير يمكننا أن نمسك بمفتاح محيي الدين، الذي يرشد إلى إدراك حقيقة معانيه وحقيقة ألفاظه، أو حقيقة نهجه الذي تميز به، كما تميز كل كاتب بأسلوبه وتراكيبه. قال محيي الدين:
يا من يراني ولا أراه
كم ذا أراه ولا يراني
فسأله بعض صحبه لما سمع هذا البيت: كيف تقول: إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك؟ فقال محيي الدين على البديهة فورا:
يا من يراني مجرما
ولا أراه آخذا
كم ذا أراه منعما
ولا يراني لائذا
قال المقري، صاحب نفح الطيب؛ تعقيبا على هذا القول: «من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ - رحمه الله - مؤول وأنه لا يقصد ظاهره؛ وإنما له محامل تليق به؛ فأحسن الظن به، بل اعتقد، وللناس في هذا المعنى كلام كثير، والتسليم أولى، والله بكلام أوليائه أعلم.»
ذلك قول المؤرخ العظيم المقري، صاحب نفح الطيب، في وجوب الفهم والتذوق أولا، ثم حسن الظن وجمال التسليم؛ لأن لكلام العارفين الكمل محامل تليق به وتليق بهم، ورضوان الله على العارف القائل:
تركنا البحار الزاخرات وراءنا
فمن أين يدري الناس أين توجهنا
ولقد ذهب خصوم محيي الدين الذين ملئوا الدنيا حوله صياحا في حياته، ولاحقوه في تاريخه، ذهبوا وبقي محيي الدين؛ لأن الحق يبقى، وما كان خصومه بالنسبة إليه - كما قيل - بأكبر من ناموسة نفخت على جبل تريد إزالته، وتذهب الرياح بأمم من الناموس، وتبقى الجبال شوامخ راسيات، يثبت الله بها الأرض، وينفع بها الناس، وتتدفق منها الكنوز والخيرات.
المستشرقون ووحدة الوجود
يقول العلامة «ليوبولد قايس» النمسوي الذي أسلم، وتسمى باسم: «محمد أسد» في كتابه الإسلام على مفترق الطرق: «قد لا تقبل أوروبا تعاليم الفلسفة البوذية أو الهندوكية، ولكنها تحتفظ دائما فيما يتعلق بهذين المذهبين بموقف عقلي متزن، إلا أنها حالما تتجه إلى الإسلام يختل التوازن، ويأخذ الميل العاطفي بالتسرب حتى إن أبرز المستشرقين الأوروبيين، جعلوا من أنفسهم فريسة للتحزب غير العلمي في كتابتهم عن الإسلام.»
ثم يقول: «إن بعض المستشرقين يمثلون مع الإسلام دور المدعي العام، الذي يحاول دائما إثبات الجريمة.»
إلى أن يقول: «وعلى الجملة فإن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين، تذكرنا بوقائع دواوين التفتيش، تلك الدواوين التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية لخصومها في العصور الوسطى، أي: إن تلك الطريقة لم يتفق لها أبدا أن نظرت في القرائن التاريخية بتجرد، ولكنها كانت في كل دعوى تبدأ باستنتاج متفق عليه من قبل، قد أملاه عليها تعصبها لرأيها، ويختار المستشرقون شهودهم حسب الاستنتاج الذي يقصدون أن يصلوا إليه مبدئيا، وإذا تعذر عليهم الاختيار العرفي للشهود، عمدوا إلى اقتطاع أقسام من الحقيقة التي شهد بها الشهود الحاضرون، ثم فصلوها من المتن، أو تأولوا الشهادات بروح غير علمي من سوء القصد.
وليست نتيجة تلك المحاكمة سوى صورة مشوهة للإسلام، وللأمور الإسلامية، تواجهنا في جميع ما كتبه مستشرقو أوروبا.»
تلك شهادة من أهلها، شهادة عالم عالمي، بدأ حياته مستشرقا يفكر بتفكير رجال الاستشراق، وينظر بنظرتهم إلى الإسلام والمعارف الإسلامية، حتى أنقذه الله فهداه إلى الإسلام وكلمة الحق.
كلمة يشهد لها الواقع، تشهد لها تلك الكتب المتلاحقة المتتابعة التي يقذف بها رجال الاستشراق في وجه العالم الإسلامي ومحورها الإسلام والمعارف الإسلامية، ظاهرها البحث العلمي الحديث الذي يقوم على الاستقراء والاستنتاج، وباطنها تجريح الإسلام والنيل منه.
فرجال الاستشراق كما يقول «ليوبولد» تحدوهم دائما روح صليبية يمثلون مع الإسلام - والإسلام وحده - دور المدعي العمومي الذي يحاول دائما إثبات الجريمة!
دور محاكم التفتيش، التي تبدأ المحاكمة باستنتاجات متفق عليها من قبل، وبشهود مدربين مأجورين، وحتى إذا أخطأ الشاهد، فنطق بكلمة حق؛ فلا بد من تأويل تلك الكلمة لتجنح إلى الهدف المرسوم المحدد.
ورجال الاستشراق، خصوم للإسلام بصفة عامة، وللتصوف الإسلامي بصفة خاصة.
لأنهم علموا عن معرفة: أن التصوف هو قلب الإسلام الحي، وفلسفته المؤمنة المبصرة، هو المصباح الذي يضيء للقلوب المحمدية الطريق إلى خالقها؛ فقالوا كما قال المشركون من قبل:
لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون .
عبث رجال الاستشراق بمحاريب التصوف عبثا علميا خبيثا متعمدا، فتنادوا أول ما تنادوا - باسم الاستنتاج العلمي الحر - بأن التصوف ليس من الإسلام؛ لأن الإسلام لا يعرف الروحانية، كما لا يعرف المثالية والترفع عن ماديات الحياة؛ وإنما هو وليد يمت بنسب صريح إلى البوذية الهندية، وبنسب صريح أيضا إلى الفلسفة الإشراقية اليونانية، وبنسب صريح للمرة الثالثة إلى الروحانية المسيحية، وإلى شخصية المسيح بالذات.
واستدلوا على دعواهم بأدلة أقرب إلى العبث والفكاهة، منها إلى مناهج العلماء، ورجال الفكر؛ وما قيمة الدليل إذا كان المدعي العمومي، قد أضمر الحكم سلفا؟
فالمستشرق اليهودي «جولد تسهير» مثلا، يبرهن في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»
1 - على صلة التصوف الإسلامي بالبوذية الهندية، بقول أبو العتاهية الشاعر:
يا من ترفع للدنيا وزينتها
ليس الترفع رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف الناس كلهم
فانظر إلى ملك في زي مسكين
ثم يقول: أو ليس هذا هو بوذا؟
هذا منطقهم، وتلك أدلتهم ...!
فإذا انتهى رجال الاستشراق من نشأة التصوف، ونسبتها العجيبة إلى كل دين في الأرض سوى الإسلام، عمدوا إلى تشويه أئمة رجال التصوف؛ تشويها عجبا، إنهم ليرمونهم بالكفر، وبماذا يكفرون؟ إنهم يكفرون بالإسلام، الإسلام الذي يدافع عنه رجال الاستشراق المؤمنون البررة، من يهود ومسيحيين!
ثم تتضخم التهمة وتكبر مع الزمن، حتى يجعلوا من رجال التصوف الإسلامي زنادقة فجرة، يلحدون في ذات الله - تعالى - بجعلهم الحق والخلق شيئا واحدا! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
نيكولسون ووحدة الوجود
والمستشرق نيكولسون عميد المستشرقين الأكبر، هو قارع طبل تلك الفرية الكبرى، ومن عجب أنه أوقف طبوله الضخمة المرعدة على محيي الدين، ومحيي الدين وحده من دون رجال التصوف الإسلامي.
يقول الدكتور عفيفي في مقدمته لكتاب «في التصوف الإسلامي» الذي ترجمه عن نيكولسون: «وقد نفى نيكولسون القول بوحدة الوجود، حتى عن الحلاج الذي أثر عنه قوله: «أنا الحق.» وعن عمر بن الفارض الذي أثر عنه قوله: «أنا هي.» أي: الحقيقة الإلهية، بل عن أبي يزيد البسطامي الذي أثر عنه قوله: «سبحاني ما أعظم شأني.»
لأن هذه الكلمات جميعها، قد قيلت في حالة جذب روحي، لا عن فكرة فلسفية أصيلة؛ لأن مذهب وحدة الوجود لم يظهر في التصوف الإسلامي إلا منذ زمن ابن عربي؛ لأنه وحده بطل تلك الفكرة.»
وكأنما عز على نيكولسون أن يجرح التصوف الإسلامي وحده، بتجريح شيخه الأكبر؛ فرمى بتهمة وحدة الوجود على رجال الكلام الإسلاميين بأعجب دليل في عالم الفكر.
يقول نيكولسون في كتابه «في التصوف الإسلامي»
2 - عند حديثه عن فكرة الشخصية في التصوف: «حالة الوجد أو الفناء الصوفي، تتضمن أمرين متناقضين: الأول: تنزيه الله عن جميع صفات الخلق، والثاني: الشعور بأن وجوده سار متغلغل في جميع الخلق، وكل من هذين الطرفين يؤدي إلى القول بوحدة الوجود من طريق يخالف طريق الآخر، فإن القول بوحدة الوجود في التصوف الإسلامي يرجع إلى عاملين: الأول: شعور الصوفي في حال وجده بأنه متحقق بالوحدة الوجودية مع الحق، والثاني: فهمه التنزيه حسبما عرفه المتكلمون؛ فهما أدى به إلى القول بأن الإرادة الإلهية المطلقة هي وحدها العلة في وجود كل شيء في العالم.
وبهذه الطريقة كاد الصوفية والمتكلمون يجعلون من الإسلام مذهبا في وحدة الوجود.»
وإذن فقد وضح غرض نيكولسون، فهو يريد عن عمد أن يتهم الإسلام جملة بأنه دين يجنح إلى وحدة الوجود.
فهو يقول في صراحة: إن المسلم إذا عبد الله بحالة الوجد والفناء الصوفي؛ فهي عبادة أساسها وحدة الوجود، وإذا عبده على أساس التنزيه، حسبما عرفه المتكلمون من رجال الإسلام، بأن الإرادة الإلهية المطلقة هي وحدها العلة في وجود كل شيء في العالم؛ فهي عبادة أيضا أساسها وحدة الوجود.
وهو نفسه يشهد بأن القولين المتناقضين، كل منهما ينتهي إلى وحدة الوجود من طريق يخالف الآخر.
ويقول أيضا في نفس الكتاب
3
معلقا على متشابهات ابن الفارض التي توهم وحدة الوجود: «ومع ذلك لا نستطيع أن نقول: إن ابن الفارض قد تعدى عقيدة التوحيد الإسلامية التي عليها أهل السنة، أي: العقيدة القائلة بأن الله هو الفاعل الحقيقي لكل شيء، والواقع أنها عقيدة أشبه ما تكون بمذهب وحدة الوجود.»
وبذلك يضيف نيكولسون أهل السنة أيضا إلى أصحاب وحدة الوجود، أي: إلى محيي الدين، ورجال الكلام من علماء المسلمين.
وأخيرا يرفع نيكولسون القناع عن وجهه سافرا، فيقول في كتابه: «وإننا لنرجح أن النبي العربي كان شموليا يعتقد بوحدة الكون
فأينما تولوا فثم وجه الله .»
تلك هي الغاية التي يهدف إليها نيكولسون منذ وجه سهامه المسمومة إلى محيي الدين، إنه يريد أن يرمي الإسلام، أن يطفئ نور الله، أن يلصق تلك الأكذوبة الضخمة بالإسلام وبنبي الإسلام، ويتخذ لذلك سبيلا ملتويا ناعما، فهو يقدم بين يدي هدفه براءة ابن الفارض والبسطامي والحلاج من وحدة الوجود، بدعوى أن كلامهم أساسه الجذب الروحي والفناء المعنوي، فناء الحب والوجد.
فإذا انشرح صدر المسلم، صدر الصوفي المؤمن لهذا القول الكريم النبيل؛ فآمن بالنزاهة العلمية لنيكولسون، قاده الداهية إلى أزقة الظلمات والريب، ليلقي في عقله، ويلقي في قلبه الشك تلو الشك، والريبة بعد الريبة في محيي الدين أولا لأنه الشيخ الأكبر، ثم في رجال الكلام من علماء الإسلام، ثم في أهل السنة جميعا، وأخيرا النبي الأعظم الذي كان - كما يقول هذا المستشرق الغيور على الإسلام - شموليا ينادي بوحدة الكون، والشمول عنده صورة مصغرة من صور وحدة الوجود.
الدكتور أبو العلا عفيفي
ويأتي في أعقاب نيكولسون، تلميذه الأستاذ الدكتور أبو العلا عفيفي؛ فنشاهد فيه صورة مكررة لأستاذه، يردد أقواله حرفيا.
يقول الدكتور في مقدمته لكتاب الفصوص:
4 «إن القضية الكبرى التي تدور حولها فلسفة محيي الدين، والتي ملكت عليه زمام تفكيره، هي نظرية وحدة الوجود.»
ثم يقول: «ولم يكن لمذهب وحدة الوجود، وجود في الإسلام في صورته الكاملة قبل ابن عربي؛ فهو الواضع الحقيقي لدعائمه، والمؤسس لمدرسته، والمفصل لمعانيه ومراميه، والمصور له بتلك الصورة النهائية التي أخذ بها كل من تكلم بهذه المذاهب من المسلمين من بعده.»
ثم يقول: «إن الأقوال المأثورة عن أبي يزيد البسطامي والحلاج، بل عن ابن الفارض المعاصر لابن عربي،
5
ليست في نظري دليلا على اعتقادهم في وحدة الوجود، بل على أنهم كانوا رجالا فنوا في حبهم لله عن أنفسهم، وعن كل ما سوى الله، فلم يشاهدوا في الوجود غيره؛ وهذه وحدة شهود، لا وحدة وجود. وفرق بين فيض العاطفة وشطحات الجذب، وبين نظرية فلسفية في الإلهيات، أي: فرق بين الحلاج الذي صاح في حالة من أحوال جذبه بقوله: «أنا الله.» أو بين ابن الفارض الذي أفناه حبه لمحبوبه عن نفسه، فلم يشعر إلا بالاتحاد التام به، فقال:
متى حلت عن قولي: «أنا هي.» أو أقل
وحاشا لمثلي! إنها في حلت
أقول: فرق بين هذين الرجلين وبين ابن عربي، الذي يقول في صراحة لا مواربة فيها ولا لبس، معبرا لا عن وحدته بالذات الإلهية، ولا عن فنائه في محبوبه، بل عن وحدة الحق والخلق.»
ومن عجب أن الدكتور يأتي بمشهد لمحيي الدين من كتابه «شجرة الكون»، بمشهد يتكلم فيه محيي الدين على لسان العرش، وهو يسبح بحمد الله، ويتغنى بمحامده وجلاله، وكل شيء في الكون يسبح بحمد الله سيده ومولاه؛ ليتخذ منه دليلا عجبا على وحدة الوجود.
6
يقول محيي الدين على لسان العرش: «أقسم بعلي عزته وقوي قدرته، لقد خلقني، وفي بحار أحديته غرقني، وفي بيداء أبديته حيرني؛ تارة يطلع من مطالع أبديته فينعشني، وتارة يناجيني بمناجاة لطفه فيطربني، وتارة يواصلني بكاسات حبه فيسكرني، وكلما استعذبت من عربدة سكري، قال لسان أحديته: «لن تراني.» فذبت من هيبته فرقا، وتمزقت من محبته فلقا، وصعقت عند تجلي عظمته، كما خر موسى صعقا، فلما أفقت من سكرة وجدي به، قيل لي: أيها العاشق، هذا جمال قد صناه، وحسن قد حجبناه، فلا ينظر إلا حبيب قد اصطفيناه.»
يأتي الدكتور بهذا المشهد الإيماني العظيم؛ ليستدل به على عقيدة محيي الدين في وحدة الوجود؛ وإنه لدليل من نوع أدلة أساتذته رجال الاستشراق، دليل أعد الاتهام فيه، حتى قبل قراءة البيان والبرهان.
يقول الإمام البوصيري - رضي الله عنه:
وإذا لم يصحب العلم ذوق
وجد الشهد من الجهل صابا
وإلى هنا والدكتور يردد أقوال أستاذه نيكولسون تماما، ولا يتمرد على تلك الأستاذية المحببة؛ ولكن التلميذ يجزع ويتمرد، فقد أوشك أستاذه في جذبة روحية على تبرئة محيي الدين من وحدة الوجود، والتلميذ أحرص من أستاذه على تجريح شيخ المتصوفة الأكبر.
يقول نيكولسون في كتابه «في التصوف الإسلامي»: «والصوفي لا يدين بوحدة الوجود، ما دام يقول بتنزيه الله - تعالى - مهما صدر عنه من الأقوال المشعرة بالتشبيه، فإذا راعى جانب التنزيه شاهد الله في كل شيء، واعتبره في الوقت نفسه فوق كل شيء؛ وهذه وحدة شهود لا وحدة وجود.»
وبهذا الشرط الذي اشترطه نيكولسون خرج محيي الدين من التهمة دون أن يدرك المستشرق الكبير، ولكن الدكتور التلميذ أدرك خطورة الأمر؛ فأسرع يعقب على أستاذه قائلا: «ولكننا يجب أن نتذكر أن محيي الدين - وهو من أساطين مذهب وحدة الوجود، بل واضع أساس هذا المذهب في الإسلام - قد قال بالتنزيه والتشبيه معا، ولم يغفل لحظة واحدة عن قرن أحدهما بالآخر، فهل كان هذا الصوفي من أصحاب وحدة الشهود لا وحدة الوجود على حد تعبير الأستاذ؟»
ولم يجب الأستاذ ولا التلميذ على هذا السؤال الحائر؛ لأنه بني على حقيقة علمية وحقيقة صوفية، بني على الحقائق التي أدت إلى براءة محيي الدين من هذا الإفك المتهالك.
والحقائق دائما تهدي إلى الصواب، وترشد إلى الصراط المستقيم دائما، الصراط المستقيم الذي هو شعار الصوفية، وإليه يتحاكمون، وإليه يجب أن يحاكمهم العلماء وأحرار الفكر الذين ينشدون الحقائق.
ابن تيمية ووحدة الوجود
ولقد أخطأ في فهم تلك القاعدة رجل أكبر من الأستاذ وتلميذه، رجل من رجال الفكر الإسلامي، هو العلامة ابن تيمية؛ فلقد اهتدى إلى تلك القاعدة العلمية، قبل أن يهتدي إليها نيكولسون؛ ولكنه أخطأ كما أخطأ نيكولسون وتلميذه؛ لأنه أيضا لم يجب على السؤال الحائر.
أخطأ ابن تيمية؛ لأنه تمسك بحرفية النصوص الدينية وهو من أساطينها، وحرفية الألفاظ وهو من علمائها؛ فلم يطلق عقله من قيودها، ولم يستعمل الذوق الوجداني، أو الذوق القلبي في تفهمها، كان من رجال العقول لا القلوب، من رجال الألفاظ لا المعاني؛ فلم يفهم لغة القلب، ولم يتذوق مواجيد الروح.
يقول نيكولسون: «إن الصوفي لا يدين بوحدة الوجود، ما دام يقول بتنزيه الله - تعالى - مهما صدر عنه من الأقوال المشعرة بالتشبيه، فإذا راعى جانب التنزيه، شاهد الله في كل شيء، واعتبره في الوقت نفسه فوق كل شيء.»
الصوفي المحب الفاني يشاهد الله في كل شيء، وفي الوقت نفسه يعتبره فوق كل شيء، تلك هي الحقيقة الصوفية التي عجز عباد الألفاظ، عبيد القوالب والتراكيب الكلامية عن فهمها؛ فظنوا بالمتصوفة وحدة الوجود، وهم عباد الرحمن الذين تطوعوا لعبادة ربهم فوق الفرائض والنوافل، حتى ليعتبرون العبادة واجبا عليهم في كل نفس من أنفاسهم.
الصوفي الحقيقي المحب الفاني في مولاه، لا يرى في الوجود إلا الله، وأن كل شيء لله، ومن الله وبالله؛ فنسب كل شيء إلى الله، ورأى الله في كل شيء هو الفاعل والمدبر، رأى الله في كل شيء رؤية معنوية، لا مادية تؤدي إلى الحلول أو وحدة الوجود.
يقول - تعالى:
وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ، فهل الجواري لله أم لعباده؟
ويقول - جل جلاله:
أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون .
ويقول - تبارك وتعالى:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله ،
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .
آيات بينات تنطق بنسبة كل شيء إلى الله، أي: النسبة الحقيقية لا الظاهرية ، فهل في هذا أيضا وحدة وجود؟ أم هو التوحيد الصافي الطاهر المقدس.
يقول الإمام ابن تيمية في كتابه العبودية
1
متحدثا عن مقام الفناء في المحبة الإلهية: «الفناء عن إرادة ما سوى الله؛ بحيث لا يحب إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب من غيره، وهو المعنى الذي يجب أن يقصد بقول الشيخ أبي يزيد؛ حيث قال: أريد ألا أريد. أي: المراد المحبوب المرضي، وهو المراد بالإرادة الدينية، وكمال العبد ألا يريد ولا يحب ولا يرضى إلا ما أراده الله، ورضيه وأحبه، وهذا معنى قولهم في قوله - تعالى:
إلا من أتى الله بقلب سليم ، قالوا: هو السليم مما سوى الله، أو مما سوى عبادة الله، أو مما سوى إرادة الله، أو مما سوى محبة الله؛ فالمعنى واحد، وهذا المعنى إن سمي فناء، أو لم يسم، هو أول الإسلام وآخره، وباطن الدين وظاهره.»
ثم يتحدث ابن تيمية عن المقام الثاني من مقامات الفناء فيقول: «وأما النوع الثاني: فهو الفناء عن شهود السوى، وهذا يحصل لكثير من السالكين؛ فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته، ضعفت قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد، لا يخطر بقلوبهم غير الله، بل ولا يشعرون، كما قيل في قوله - تعالى:
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ، قالوا: فارغا من كل شيء إلا من ذكر موسى، وهذا كثيرا ما يعرض لمن دهمه أمر من الأمور؛ إما حب، وإما خوف، وإما رجاء؛ يبقى قلبه منصرفا عن كل شيء إلا مما قد أحبه أو خافه أو طلبه؛ بحيث يكون عند استغراقه في ذلك لا يشعر بغيره، فإذا قوي على صاحب الفناء هذا؛ فإنه يغيب بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته؛ حتى يفنى من لم يكن، وهو المخلوقات المبعدة عمن سواه، ويبقى من لم يزل، وهو الرب - تعالى؛ والمراد فناؤها في شهود العبد وذكره، وفناؤه عن أن يدركها أو يشهدها، وإذا قوي هذا ضعف المحب حتى يضطرب في تمييزه، فقد يظن أنه هو محبوبه. كما يذكر أن رجلا ألقى نفسه في اليم، فألقى محبه نفسه خلفه. فقال: أنا وقعت فمن أوقعك خلفي؟ قال: غبت بك عني، فظننت أنك أني.»
أليست تلك المقامات من حالات الفناء، هي المقامات التي يرمى فيها المتصوفة بوحدة الوجود؟
يقول ابن تيمية خصم التصوف الأكبر، وخصم محيي الدين: «فإنهم لفرط انجذاب قلوبهم إلى ذكر الله وعبادته ومحبته، ضعفت قلوبهم عن أن تشهد غير ما تعبد، وترى غير ما تقصد.»
وهل قال المتصوفة أكبر من هذا القول؟! ومن عجب أن ابن تيمية يهاجم التصوف والمتصوفة؛ لأنهم يقولون: إنهم في نشوتهم الكبرى لا يرون إلا الله، ويذهلون عما سواه، أي: نفس ما يقول ابن تيمية.
إنهم ليرون الله في كل شيء، ومع ذلك يوقنون بأنه - سبحانه - فوق كل شيء، وهذا أكمل درجات التوحيد.
ويقول ابن تيمية أيضا في مجموعة رسائله:
2
وأما قول الشاعر في شعره:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا
فهذا إنما أراد به الشاعر الاتحاد المعنوي، كاتحاد أحد المحبين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، هذا تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين؛ إذ كان قد استغرق في محبوبه، حتى فني به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:
غبت بك عني
فظننت أنك أني
فهذه الموافقة هي الاتحاد السائغ.»
ويقول ابن تيمية أيضا في الرسائل: «روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، عن النبي قوله - تعالى: «من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة.» فجعل معاداة عبده الولي معاداة له، فعين عدوه عين عدو عبده، وعين معاداة وليه، عين معاداته، ليس هما شيئين متميزين.»
ويذكر أيضا ابن تيمية حديثا رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي: يقول الله - تعالى: «عبدي مرضت فلم تعدني! فيقول: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض؟ فلو عدته لوجدتني عنده. عبدي جعت فلم تطعمني! فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع؟ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي.»
ولم أجد ردا على ابن تيمية في هجومه على المتصوفة وعلى شيخهم الأكبر، أبلغ من قوله، ولم أجد شاهدا أكبر دلالة مما استشهد به هو من القرآن الكريم:
وأصبح فؤاد أم موسى فارغا ، ولا أعظم من تفسيره؛ إذ يقول: أصبح فؤادها فارغا مما سوى موسى.
وقلب الصوفي - يا شيخ الإسلام، ويا إمام من يتسمون بأهل السنة، ومن يحاربون المتصوفة - أصبح فارغا مما سوى الله؛ فلا يرون في الوجود سواه، وربنا - سبحانه وتعالى - أكبر وأعظم من أن يشبه بعبد من عباده، أو برسول من رسله؛ تلك كلمة الفصل في وحدة الوجود، ومقامات الفناء عند الصوفية وحقيقة توحيدهم الأكبر، والله يهدي إلى الحق ويرشد إلى سواء السبيل.
آداب المريد عند محيي الدين
... من مدرسة المريد والشيخ تتكون الجامعة الصوفية الكبرى، تلك الجامعة التي لا تسامقها جامعة أخرى في العالم.
ولهذا زخر التصوف بمناهج كاملة لتربية المريد وإعداده، وتنشئته على الخلق الصوفي المثالي.
وهي مناهج تعتبر صورة صادقة للآداب الصاعدة، صورة لأسمى ما تنشده التربية الصالحة في أية جامعة عالية.
وفي هذه المناهج يتجلى الذوق الصوفي بأروع صوره، وأجمل ألوانه، كما يتجلى أيضا تفوق الصوفية في طب القلوب، وآداب النفوس على أساتذة التربية قديمها وحديثها.
ولمحيي الدين رسالة في آداب المريد، أو كما يقول هو: «في كنه ما لا بد للمريد منه.» تعتبر في موازين التصوف أجمل النماذج التي أبدعها هذا المنهج العالي.
يقول محيي الدين بعد أن شرح لمريده حقائق التوحيد الإلهي، وصور له كيفية الإيمان برسل الله جميعا:
ومما لا بد لك منه:
حسن الظن بالناس كافة، وسلامة الصدر، والدعاء للمسلمين بظهر الغيب، وخدمة الفقراء برؤية المنة لهم، وحمل كلفهم، وتحمل أذاهم وجفاهم، والصبر بالله على أخلاقهم.
ومما لا بد لك منه:
الصمت إلا عن ذكر الله وتلاوة القرآن، أو إرشاد الضال، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أو إصلاح بين المتهاجرين، أو تحريض على صدقة، بل على كل خير.
ومما لا بد لك منه:
يا حبيبي طلب أخ موافق يعينك على ما أنت بسبيله، وإياك وصحبة الضد.
ومما لا بد لك منه:
طلب شيخ مرشد، والصدق شعار المريد؛ فإن المريد إذا صدق مع الله، قيض الله له من يأخذ بيده، وصير كل شيطان في حقه ملكا يلهمه الخير، فإن الصدق ما وضع على شيء إلا قلب عينه.
ومما لا بد لك منه:
البحث عن هذه اللقمة وهي أساس؛ فعليها قام عماد هذا الأمر.
ومما لا بد لك منه:
يا حبيبي أن ترفع كلفتك عن الخلق، ولا تثقل على أحد، ولا تقبل رفقا من امرئ، لا لنفسك ولا لغيرك، واحترف وتورع في كسبك كله، ونطقك ونظرك في جميع حركاتك وسكناتك، ولا تتوسع في مسكن ولا ملبس ولا مأكل، فإن الحلال قليل ولا يحتمل السرف.
واعلم:
يا حبيبي أن النفوس إذا زرع فيها الإنسان الشهوات، نبتت أصولها فيبعد أن تنقلع بعد ذلك؛ فليس للمريد سعة ولا راحة، هذا كله لا بد منه للمريد.
ومما لا بد لك منه:
يا حبيبي التقليل من الطعام؛ فإنه يورث النشاط للطاعة ويذهب الكسل، وعليك تقسيم الأوقات في ليل ونهار، فأما الساعات التي دعاك الشرع فيها إلى الوقوف بين يدي ربك فهي خمسة أوقات للصلوات المفروضة، وبقي ما سنها من الأوقات، فإن كنت ذا حرفة، فاجتهد أن تعمل في يوم ما يقوتك في أيام، إن كنت من أهل ذلك الشغل، ولا تفارق مصلاك من بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس، ولا بعد صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، تذكر الله بحضور وخشوع، ولا يفوتك الوقوف بين يدي الله مصليا من الظهر إلى العصر، ومن المغرب إلى العشاء الآخرة بعشرين ركعة، وحافظ على أربع ركعات: أول النهار، وقبل الظهر، وقبل العصر، واجعل وترك ثلاث عشرة ركعة، ولا تنم إلا عن غلبة، ولا تأكل إلا عن حاجة، ولا تلبس إلا عن وقاية من برد أو حر، بنية ستر العورة، ودفع الأذى القاطع عن عبادة ربك، وإن كنت ممن يعرف أن يكتب؛ فاجعل على نفسك وردا من القرآن في المصحف، تمكنه من حجرك، وتلقي يدك اليسرى على المصحف، وتمشي بيدك اليمنى على حروفه، وأنت تنظر إليه وترفع صوتك؛ بحيث تسمع نفسك، وترتل القرآن، وتسأل في الآية التي توجب السؤال، وتعتبر في آيات الاعتبار، وتعامل في كل آية بحسب ما تدل عليه من الاستعاذة والاستغفار وغير ذلك، وإذا قرأت صفة للمؤمنين، فانظر إلى ما عندك من تلك الصفات، وإلى ما فقدت منها؛ فاشكر الله على ما عندك، وحصل ما فاتك، وكذلك إذا قرأت صفة للمنافقين والكافرين، فانظر هل فيك من تلك الصفات شيء أم لا.
ومما لا بد لك منه:
محاسبة نفسك، ومراعاة خواطرك مع الأوقات، واستشعار الحياء من الله - تعالى - بقلبك؛ فإنك إذا استحييت من الله، منعت قلبك أن يخطر فيه خاطر ذمه الله، أو يتحرك بحركة لا يرتضيها الله - تعالى، ولقد كان لنا شيخ يقيد حركاته في كتابه بالنهار، فإذا أمسى جعل صحيفته بين يديه، وحاسب نفسه على ما فيها، وزدت أنا على شيخي بتقييد خواطري.
ومما لا بد لك منه:
مراعاة الأوقات، بأن تنظر الوقت الذي أنت فيه، وتنظر ما قال لك الشرع أن تعمله فيه فافعله، فإن كنت في وقت فرض فأده، أو ندب فبادر إليه، وإن كنت في وقت مباح فاشغل نفسك فيه بما ندبك الحق إليه من الخير على أنواعه، وإذا شرعت في عمل مشروع يعطي قربة؛ فلا تحدث نفسك بأنك تعيش بعده إلى عمل آخر، واجعل ذلك آخر عملك من الدنيا، الذي به تلقى ربك عليه، فإنك إذا فعلت هذا أخلصت، ومع الإخلاص يكون القبول.
ومما لا بد لك منه:
الجلوس على طهارة دائما، ومتى أحدثت توضأ، ومتى توضأت صل ركعتين إلا أن يكون الوقت قد نهي عن إيقاع الصلاة فيه، وهي ثلاثة أوقات: عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وعند الاستواء إلا يوم الجمعة خاصة، فإن الصلاة تجوز عند الاستواء .
ومما لا بد لك منه:
يا حبيبي البحث عن مكارم الأخلاق، ولتأتها مهما تعين عليك منها خلق، وكذلك سوء الأخلاق اجتنبها كلها.
واعلم:
أن كل من ترك خلقا كريما؛ إنما تركه بسوء خلق ذميم.
واعلم:
أن الأخلاق أصناف، كما أن الخلق على أصناف؛ فينبغي أن تعرف أي خلق تستعمله معه من الأخلاق الكريمة، والذي يعم أكثر الأصناف إيصال الراحة لهم، ودفع الأذى عنهم، ولكن في مرضاة الله - تعالى، فاجتهد في ذلك يا حبيبي، واعلم أنهم خلق الله، عبيد مسخرون، مجبورون في حركاتهم، ونواصيهم بيد محركهم، والنبي - عليه السلام - قد أراحنا في هذا المقام فقال: «بعثت لأتمم لكم مكارم الأخلاق.» فكل موضع قال لك الشرع فيه: إن شئت انتصرت، وإن شئت تركت. أو قال لك فيه: إن شئت جازيت، فجعلت نفسك محلا للسيئة؛ فإنه - تعالى - قال:
وجزاء سيئة سيئة مثلها ، وإن شئت قابلت بالعفو والصفح، فكن ممن عفا وأصلح وأجرك على الله، وإياك أن تقتص ممن أساء إليك؛ فإن الله سماها سيئة بالجملة، وإن كانت مما يسوء المقتص منه. والأولى سيئة شرعية مما يسوءه؛ فهما سيئتان، وكل موضع قال لك الشرع فيه: اغضب فاغضب، وإن لم تغضب فليس بخلق محمود؛ فإن الغضب لله من مكارم الأخلاق مع الله، ومن أحسن معاملة من الله - تعالى؟ فطوبى لمن عامله وصاحبه، فمع الله ينبغي أن تصرف الأخلاق التي أثنى عليها الله وبينها وأوضحها.
ومما لا بد لك منه:
مجانبة الأضداد، ومن ليس من جنسك من غير أن تعتقد فيهم سوءا يخطر لك بخاطر، ولكن بنية صحبة الحق وأهله وإيثاره عليهم، فكذلك معاملتك مع الحيوانات من الشفقة عليهم والرحمة لهم، فإنهم ممن سخرهم الحق لك؛ فلا تحملهم فوق طاقتهم، ولا تركب عليهم بطرا ولا أشرا، وكذلك مع ملك اليمين من الرقيق فهم إخوانك، ملكك الله نواصيهم؛ ليرى كيف تتصرف فيهم، وأنت عبد له - سبحانه - فما تحب أن يصرف عنك من السوء والقبيح فذلك بعينه افعله معهم، تجز بذلك يوم حاجتك إليه، فإن كان لك أهل فأحسن العشرة معهم، فالكل عيال وأنت من جملة العيال.
وجماع الأمر كله: أن كل ما تحب أن يفعله الحق معك، افعله مع خلقه قدما بقدم، وإن كان لك ولد فعلمه كتاب الله لله، لا لغرض من أغراض الدنيا، وألزمه محافظة الآداب الشرعية والأخلاق الدينية، واحمله على الرياضة من صغره حتى يعتادها، ولا تزرع الشهوات في قلبه، وبغض إليه زينة الحياة الدنيا، وعرفه ما يئول إليه صاحبها من نقص الحظ في الآخرة، وما يئول إليه تاركها من جزيل الحظ في الآخرة، ولا تعمل ذلك شحا على درهمك ومالك.
ومما لا بد لك منه:
ألا تقرب من أبواب السلاطين، ولا تصاحب المتنافسين في الدنيا؛ فإنهم يأخذون بقلبك عن الله، فإن اضطرك أمر إلى صحبتهم، فعاملهم بالنصيحة ولا تخفهم؛ فإنك إنما تعامل الحق، ومهما فعلت ذلك سخروا بك، ولتكن في عموم أحوالك مصروف الهمة بالتوجه إلى الله - تعالى - في تخلصك مما أنت فيه بما هو أحسن لك في دينك.
ومما لا بد لك منه:
الحضور مع الحق في جميع حركاتك وسكناتك، وأوصيك بالإنفاق في السراء والضراء، والشدة والرخاء؛ فإن ذلك دليل على ثقة القلب بما عند الله، فإن البخيل جبان يأتيه الشيطان، فيمد أمله ويطيل عليه عمره، ويقول له: إن أنققت هلكت وبقيت بلا شيء مثلة بين أصحابك وأمثالك، فأمسك عليك مالك، واستعد لصروف الزمان، ولا تغتر بهذا الرخاء الذي أنت تراه، فإنك لا تدري ما يحدث الله في العام المقبل، وأما إن كان في وقت الضراء والشدة، فيقول له: أمسك عليك مالك ولا تعط أحدا منه شيئا؛ فإنك لا تدري متى تنقضي هذه الشدة، ولا تحسب هذا الأمر إلا في زيادة، واحفظه على نفسك، فإن أحدا لا ينفعك إذا لم يبق لك شيء، وتنفر الناس منك وتثقل على الخلق، ويذهب ماء وجهك، فإذا استمرت هذه الوسوسة الشيطانية على قلب المسكين أدته إلى البخل والشح، وحالت بينه وبين قوله - تعالى:
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ، وبين قوله - تعالى:
ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه .
وعندنا في الطريق: أن الرجل إذا لحق بأهل الله - تعالى - وبأوليائه ثم بخل، فإنه يستبدل وينزل من ذلك المقام، ثم يجعل فيه كريما من كرماء الخلق، قال الله - تعالى - عقيب هذه الآية:
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ، وحالت بينه وبين قوله - تعالى:
وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، وحالت بينه وبين قوله - تعالى - في دعوة موسى - عليه السلام - على فرعون، لما أراد إهلاكه دعا عليهم أن يرزقهم الله البخل، فقال:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ؛ فضيعوا فقراءهم حتى هلكوا جوعا، فأخذهم الله، وحالت أيضا بينه وبين قوله
صلى الله عليه وسلم : «أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا.» وحالت بينه وبين قوله - عليه الصلاة والسلام: «إن لله ملكين في كل يوم يناديان عند كل صباح: اللهم أعط كل منفق خلفا، وكل ممسك تلفا.» وحالت بينه وبين حاله
صلى الله عليه وسلم
حين أعطي الكنزين، فاختار تركهما على أخذهما، وبين فعل أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - حين جاء إلى النبي - عليه السلام - بجميع ماله كله، فقال: «ما تركت لأهلك؟» فقال: الله ورسوله. وجاء عمر - رضي الله عنه - بنصف ماله، وترك النصف لأهله، فقال لهما النبي
صلى الله عليه وسلم : «بينكما ما بين كلمتيكما.» فالإنفاق سبب استخلاف الأرزاق من الرزاق في الدنيا والآخرة، فكل من أمسك فهو لله متهم وعلى ماله معتمد، وكانت ثقته بدرهمه أعظم من ثقته بربه، وكان هذا طعنا في إيمانه، نسأل الله العافية، فعليك بالإنفاق في الشدة والرخاء، ولا تخف ولا تفزع من الفقر فبئس الرجل! كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «إلا من قال بماله هكذا وهكذا يمينا وشمالا.» والله موف لك ما وعدك شئت أم أبيت، وشاء العالم أو أبى، فما هلك سخي قط.
محيي الدين ورسالة الأخلاق
فإذا انتهى محيي الدين من «كنه ما لا بد منه للمريد» اتجه إلى أبناء الأمة الإسلامية كافة، بل إلى بني الإنسان في كل زمان ومكان، يرسم لهم الأفق الأعلى للأخلاق ، مبينا أن الإنسان إذا تجرد من التحلي بها؛ فقد فقد نفسه، وأضاع حياته، وانحرف عن أول واجباته الإنسانية.
يقول محيي الدين:
1 «اعلم أن الإنسان من بين سائر الحيوان ذو فكر وتمييز، وهو أبدا يحب من الأمور أفضلها، ومن المراتب أشرفها، ومن المقتنيات أنفسها، إذا لم يعدل عن التميز في اختياره، ولم يغلبه هواه في اتباع أغراضه، وأولى ما اختاره الإنسان لنفسه ولم يقف دون بلوغ غايته، ولم يرض بالتقصير عن نهاية تمامه وكماله، ومن تمام الإنسان وكماله: أن يكون مرتاضا بمكارم الأخلاق ومحاسنها، ومتنزها عن مساويها ومقابحها، آخذا في جميع أحواله بقوانين الفضائل، عادلا في كل أفعاله عن طريق الرذائل، فإذا كان ذلك كان واجبا على الإنسان أن يجعل قصده اكتساب كل شيمة سليمة من المعائب، ويصرف همته إلى اقتناء كل خلق كريم خالص من الشوائب، وأن يبذل جهده في اجتناب كل خصلة مكروهة مروية، ويستفرغ وسعه في إطراح كل خلة مذمومة دنية، حتى يحوز الكمال بتهذيب خلائقه، ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمائله، ويباهي بحق أهل السؤدد والفخر، ويلحق بالذرى من درجات النباهة والمجد.
إلا أن المبتدي بطلب هذه المرتبة، والراغب في بلوغ هذه المنزلة، ربما خفيت عليه الخلال المستحسنة التي يعنيه تحريها، ولم تتميز له من المستقبحة التي غرضه توقيها، فمن أجل ذلك وجب أن نقول في الأخلاق قولا نبين فيه ما الخلق؟ وما علته؟ وكم أنواعه وأقسامه؟ وما المرضي منها المغبوط صاحبه والمتخلق به؟ وما المشنو منها الممقوت فاعله والمتوسم به؟ ليسترشد بذلك من كانت همته تسمو إلى مباراة أهل الفضل، ونفسه أبية تنبو عن مساواة أهل الدناءة والنقص، وتدل أيضا على طريق الارتياض بالمحمود من أنواعه والتدرب به، وتنكب المذموم منها وتجنبه حتى يصير المرتاض به ديدنا وعادة وسجية وطبعا، ليهتدي به من نشأ على الأخلاق السيئة وألفها، وجرى على العادات الردية وأنس بها، ونصف أيضا الإنسان التام المهذب الأخلاق، والمحيط بجميع المناقب الجميلة، وطريقته التي يصل بها إلى التمام، وتحفظ عليه الكمال، ليشتاق إلى صورته من تشوق إلى المرتبة العليا، ويحن إلى احتذاء سيرته من استشرف إلى الغاية القصوى، وقد ينتبه بما نذكره من كانت له عيوب قد اشتبهت عليه وهو مع ذلك يظهر أنه في غاية الكمال.»
ثم يقول: «والخلق هو حال النفس بها يعقل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد، كالسخاء يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمل، وكالشجاعة والحلم والعفة والعدل، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، وكثير من الناس يوجد فيهم ذلك بالرياضة.»
ويأخذ بعد ذلك في بيان أنواع الأخلاق الفاضلة موضحا وشارحا لكل فضيلة، وقد جمعها فبلغت لديه أكثر من سبعين فضيلة ومحمدة، هي جماع مكارم الأخلاق.
ولقد استطاع محيي الدين أن يضفي على كل صفة خلقية من روحه ومن وجدانه ما جعل كلماته الأخلاقية تنبض بالحياة والأشواق، واستطاع أن يبث في شرحه دستوره الخلقي الرحب الآفاق، الشامل لكل الدقائق والرقائق.
يقول شارحا لفضيلة - التصون: «... ومنها التصون، وهو التحفظ من التبذل، فمن التصون التحفظ من الهزل القبيح، ومخالطة أهله، وحضور مجالسه، وضبط اللسان من الفحش وذكر الخنا والقبيح والمزاح السخيف، وخاصة في المحافل ومجالس المحتشمين، ولا أبهة لمن يسرف في المزاح ويفحش فيه، ومن التصون أيضا الانقباض عن أدنياء النفس وأصاغرهم ومصادقتهم ومجالستهم، والتحرز من المعايش الرديئة، واكتساب الأموال من الوجوه الخسيسة، والترفع عن مسئلة الحاجات من لئام الناس وسفلتهم، والتواضع لمن لا قدر له، والإقلال من مبروز من غير حاجة، والتبذل بالجلوس في الأسواق وقوارع الطريق من غير اضطرار، فإن الإكثار من ذلك مخل.»
ويقول موضحا لفضيلة علو الهمة: «... ومنها عظمة الهمة، وهو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية، واستحقار ما يجود به الإنسان عند العطية، والاستخفاف بأوساط الأمور، وطلب الغايات والتهاون بما يملكه، وبذل ما يمكنه لمن يسأله من غير امتنان ولا اعتداد به.
ومن عظم الهمة: الأنفة، والحمية، والغيرة، وارتفاع النفس عن الأمور الدنية، وانتفاضها وثورتها إذا مسها هوان أو مذلة.»
الإنسان الكامل
فإذا انتهى من تبيان دستوره الخلقي، أخذ في بيان أوصاف الإنسان التام الجامع لمحاسن الأخلاق: «... الإنسان التام هو الذي لم تفته فضيلة، ولم تشنه رذيلة، وهذا الحد قلما ينتهي إليه إنسان، وإذا انتهى الإنسان إلى هذا الحد كان بالملائكة أشبه منه بالناس؛ فإن الإنسان مضروب بأنواع النقص، مستول عليه وعلى طبعه ضروب الشر، فقلما يخلص من جميعها حتى تسلم نفسه من كل عيب ومنقصة، ويحيط بكل فضيلة ومنقبة، إلا أن التمام وإن كان عزيزا بعيد التناول؛ فإنه ممكن، وهو غاية ما ينتهي إليه الإنسان، ونهاية ما هو منتهى له، وإذا صدقت عزيمة الإنسان وأعطى الاجتهاد حقه، كان قمينا بأن ينتهي إلى غايته التي هي منتهى له، ويصل إلى بغيته التي تسمو نفسه إليها.
فأما تفصيل أوصاف الإنسان التام، فهو أن يكون متفقدا لجميع أخلاقه، متيقظا لجميع معايبه، متحرزا من دخول كل نقص عليه، مستعملا لكل فضيلة، مجتهدا في بلوغ الغاية، عاشقا لصورة الكمال، ملتذا بمحاسن الأخلاق، متيقظا لمذموم العادات، معتنيا بتهذيب نفسه، غير مستكثر ما يقتنيه من الفضائل، مستعظما لليسير من الرذائل، مستصغرا للمرتبة العليا، مستحقرا للغاية القصوى، يرى التمام دون محله، والكمال أقل أوصافه، فأما الطريقة التي توصله إلى التمام وتحفظ عليه الكمال؛ فهي أن يصرف عنايته إلى النظر في العلوم الحقيقية، ويجعل غرضه الإحاطة بماهيات الأمور الموجودة، وكشف عللها وأسبابها وتفقد غاياتها، ولا يقف عند غاية من علمه إلا ورنا بطرفه إلى ما فوق تلك الغاية، ويجعل شعاره ليله ونهاره قراءة كتب الأخلاق، وتصفح كتب السير والسياسات. وأخذ نفسه باستعمال ما أمر أهل الفضل باستعماله، وأشار المتقدمون من الحكماء باعتياده، وينشد أيضا طرفا من أدب البيان والبلاغة، ويتحلى بشيء من الفصاحة والخطابة، ويغشى أبدا مجالس أهل العلم والحكمة، ويعاشر دائما أهل الوقار والعفة.»
ثم يفيض محيي الدين في الحديث عن صفات الإنسان التام، وهمته وعزيمته وتصعيده لكل أعماله إلى فاطر السموات والأرضين.
ويحتم أكبر ما يحتم، أن يلزم جانب الاعتدال في شهواته ورغباته، ومأكله وملبسه، وصلاته بالناس.
ويأخذ بعد ذلك في الحديث عن موقف الإنسان التام من المال، وهو الفتنة الكبرى فيقول: «إن المال إنما يطلب لغيره، وليس هو مطلوبا لذاته، فإنه في نفسه غير نافع؛ وإنما الانتفاع بالأغراض التي تنال به؛ فالمال آلة تنال بها الأغراض، فلا يجب أن يعتقد أن اقتناءه وادخاره مفيد، فإذا ادخره وحرص عليه لم ينل صاحبه شيئا من الأغراض، التي هو بالحقيقة محتاج إليها، فالمال هو مطلوب لغيره؛ فينبغي للسديد الرأي العالي الهمة، أن يزنه بوزنه، فيكسبه من وجهه ويفرقه في وجهه، ويكون مع ذلك غير متوان في اكتسابه، ولا مقدم في طلبه؛ لأن عدم المال يضطره إلى التواضع لمن هو دونه إذا وجد عنده حاجته، ووجود المال يغنيه عمن هو فوقه وإن دنت منزلته ...»
ثم يحذر صاحب هذا المقام من الغضب، فيقول: «وينبغي لمحب الكمال أن يشعر نفسه أن الغضبان بمنزلة البهائم والسباع، يفعل ما يفعله من غير علم ولا روية، فإذا جرى بينه وبين غيره محاورة أدت إلى أن يغضب خصمه ويتسفه عليه، اعتقد فيه أنه في تلك الحالة بمنزلة البهائم والسباع؛ فيمسك عن مقابلته ويحجم عن الاقتصاص منه، ألا يعلم أن الكلب لو نبح عليه لم يكن يستحسن مقابلته على نبحه؟ وكذلك البهيمة لو رمحته لم يستحسن عقوبتها؛ لأنها غير عالمة بما تصنعه، إلا أن يكون جاهلا فإن من السفهاء من يغضب على البهيمة إذا رمحته، ويوجعها ضربا إذا آذته، وربما عثر السفيه فشتم موضع عثرته، ورفصه برجله!»
ويختم هذه الرسالة العالية، بالدعوة إلى المحبة الشاملة للإنسانية كافة: «... وينبغي لمحب الكمال أيضا: أن يعود نفسه محبة الناس أجمع والتودد إليهم، والتحنن عليهم، والرأفة والرحمة بهم؛ فإن الناس قبيل واحد متناسبون، تجمعهم الإنسانية، وحلية القوة الإلهية، هي في جميعهم وفي كل واحد منهم، وهي النفس العاقلة، وبهذه النفس صار الإنسان إنسانا ...» ... وأخيرا كما يقول محيي الدين: «من صدقت سريرته، انفتحت بصيرته، ومن صدق مقاله استقام حاله، وليس الدين كثرة صوم وصلاة؛ إنما الدين خوفك من الله، ومن صدق توجهه لله أعطاه كل ما تمناه، ومن خاف الله مولاه، خاف منه كل ما سواه، بل سخرت له الحياة.»
عقيدة محيي الدين الإلهية
بقلمه
وكأنما نظر محيي الدين بلحاظ الغيب؛ فعلم أن الخصومات العمياء ستلاحقه بعد موته بالإفك والبهتان، فسجل في مقدمة الفتوحات عقيدته الإلهية في الذات العلية؛ لتكون الحجة الكبرى على من يتقول عليه ظلما وجهلا ... قال: «فيا إخوتي ويا أحبائي، رضي الله عنكم، أشهدكم عبد ضعيف مسكين، فقير إلى الله - تعالى - في كل لحظة وطرفة، وهو مؤلف هذا الكتاب ومنشئه، أشهدكم على نفسه بعد أن أشهد الله - تعالى - وملائكته ومن حضره من المؤمنين وسمعه، أنه يشهد قولا وعقدا أن الله - تعالى - إله واحد لا ثاني له في ألوهيته، منزه عن الصاحبة والولد، مالك لا شريك له، ملك لا وزير له، صانع لا مدبر معه، موجود بذاته من غير افتقار إلى موجد يوجده، بل كل موجود سواه مفتقر إليه - تعالى - في وجوده؛ فالعالم كله موجود به وهو وحده متصف بالوجود لنفسه، لا افتتاح لوجوده، ولا نهاية لبقائه، بل وجود مطلق غير مقيد قائم بنفسه، ليس بجوهر متحيز فيقدر له المكان، ولا بعرض فيستحيل عليه البقاء، ولا بجسم فتكون له الجهة والتلقاء، مقدس عن الجهات والأقطار، مرئي بالقلوب والأبصار، إذا شاء استوى على عرشه كما قاله، وعلى المعنى الذي أراده، كما أن العرش وما سواه به استوى، وله الآخرة والأولى، ليس له مثل معقول، ولا دلت عليه العقول، لا يحده زمان، ولا يقله مكان، بل كان ولا مكان، وهو على ما عليه كان، خلق المتمكن والمكان، وأنشأ الزمان، وقال: أنا الواحد الحي، لا يئوده حفظ المخلوقات، ولا ترجع إليه صفة لم يكن عليها من صنعة المصنوعات.
تعالى أن تحله الحوادث، أو يحلها، أو تكون بعده، أو يكون قبلها، بل يقال: كان ولا شيء معه، فإن القبل والبعد من صيغ الزمان الذي أبدعه؛ فهو القيوم الذي لا ينام، والقهار الذي لا يرام، ليس كمثله شيء ، خلق العرش وجعله حد الاستواء، وأنشأ الكرسي وأوسعه الأرض والسموات العلى، اخترع اللوح والقلم الأعلى، وأجراه كاتبا بعلمه في خلقه إلى يوم الفصل والقضاء، أبدع العالم كله على غير مثال سبق، وخلق الخلق وأخلق الذي خلق، أنزل الأرواح في الأشباح أمناء، وجعل هذه الأشباح المنزلة إليها الأرواح في الأرض خلفاء، وسخر لنا ما في السموات ما في الأرض جميعا منه؛ فلا تتحرك ذرة إلا إليه وعنه، خلق الكل من غير حاجة إليه، ولا موجب أوجب ذلك عليه؛ لكن علمه سبق بأن يخلق ما خلق؛ فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو على كل شيء قدير، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، يعلم السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، كيف لا يعلم شيئا هو خلقه؟!
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ علم الأشياء منها قبل وجودها، ثم أوجدها على حد ما علمها، فلم يزل عالما بالأشياء لم يتجدد له علم عند تجدد الإنشاء، بعلمه أتقن الأشياء وأحكمها، وبه حكم عليها من شاء وحكمها، علم للكليات على الإطلاق، كما علم الجزئيات بإجماع من أهل النظر الصحيح واتفاق، فهو عالم الغيب والشهادة؛ فتعالى الله عما يشركون.
فعال لما يريد، فهو المريد الكائنات في عالم الأرض والسموات، لم تتعلق قدرته بشيء حتى أراده، كما أنه لم يرده حتى علمه؛ إذ يستحيل في العقل أن يريد ما لا يعلم، أو يفعل المختار المتمكن من ترك ذلك الفعل ما لا يريد، كما يستحيل أن توجد نسب هذه الحقائق في غير حي، كما يستحيل أن تقوم الصفات بغير ذات موصوفة بها، فما في الوجود طاعة ولا عصيان، ولا ربح ولا خسران، ولا عبد ولا حر، ولا برد ولا حر، ولا حياة ولا موت، ولا حصول ولا فوت، ولا نهار ولا ليل، ولا اعتدال ولا ميل، ولا بر ولا بحر، ولا شفع ولا وتر، ولا جوهر ولا عرض، ولا صحة ولا مرض، ولا فرح ولا ترح، ولا روح ولا شبح، ولا ظلام ولا ضياء ، ولا أرض ولا سماء، ولا تركيب ولا تحليل، ولا كثير ولا قليل، ولا غداة ولا أصيل، ولا بياض ولا سواد، ولا رقاد ولا سهاد، ولا ظاهر ولا باطن، ولا متحرك ولا ساكن، ولا يابس ولا رطب، ولا قشر ولا لب، ولا شيء من هذه النسب المتضادات منها والمختلفات والمتماثلات، إلا وهو مراد للحق - تعالى، وكيف لا يكون مرادا له وهو أوجده؟ فكيف يوجد المختار ما لا يريد؟ لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويضل من يشاء، ويهدي من يشاء، ما شاء كان، وما لم يشأ أن يكون لم يكن، لو اجتمع الخلائق كلهم على أن يريدوا شيئا لم يرد الله - تعالى - أن يريدوه ما أرادوه، أو يفعلوا شيئا لم يرد الله - تعالى - إيجاده وأرادوه عندما أراد منهم أن يريدوه ما فعلوه، ولا استطاعوا على ذلك ولا أقدرهم عليه؛ فالكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، من مشيئته وحكمه وإرادته.
ولم يزل - سبحانه - موصوفا بهذه الإرادة أزلا، والعالم معدوم غير موجود، وإن كان ثابتا في العلم في عينه، ثم أوجد العالم من غير تفكر ولا تدبر عن جهل أو عدم علم، فعطية التفكر والتدبر علم ما جهل، جل وعلا عن ذلك، بل أوجده عن العلم السابق، وتعيين الإرادة المنزهة القاضية على العالم بما أوجدته عليه من زمان ومكان، وأكوان وألوان، فلا مريد في الوجود على الحقيقة سواه؛ إذ هو القائل - سبحانه:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، وأنه - سبحانه - كما علم فأحكم، وأراد فخصص، وقدر فأوجد كذلك، ورأى ما تحرك أو سكن، أو نطق في الورى من العالم الأسفل والأعلى، لا يحجب سمعه البعد فهو القريب، ولا يحجب بصره القرب فهو البعيد، يسمع كلام النفس في النفس، وصوت المماسة الخفية عند اللمس، ويرى السواد في الظلماء، والماء في الماء، لا يحجبه الامتزاج ولا الظلمات ولا النور وهو السميع البصير.
تكلم - سبحانه - لا عن صمت متقدم، ولا سكوت متوهم بكلام قديم أزلي كسائر صفاته من علمه وإرادته وقدرته، كلم به موسى - عليه السلام، سماه التنزيل والزبور والتوراة والإنجيل، من غير حروف ولا أصوات ولا نغم ولا لغات، بل هو خالق الأصوات والحروف واللغات؛ فكلامه - سبحانه - من غير لهاة ولا لسان، كما أن سمعه من غير أصمخة ولا آذان، كما أن بصره من غير حدقة ولا أجفان، كما أن إرادته في غير قلب ولا جنان، كما أن علمه من غير اضطرار ولا نظر في برهان، كما أن حياته من غير غتر بخار أو تجويف قلب حدث عن امتزاج الأركان، كما أن ذاته لا تقبل الزيادة والنقصان؛ فسبحانه سبحانه من بعيد دان، عظيم السلطان، عميم الإحسان، جسيم الامتنان.
كل ما سواه فهو عن جوده فائض، وعدله الباسط له والقابض، أكمل صنع العالم وأبدعه؛ حين أوجده واخترعه، لا شريك له في ملكه، ولا مدبر معه في ملكه، إن أنعم فنعم فذلك فضله.
وإن أبلى فعذب فذلك عدله، لم يتصرف في ملك غيره فينسب إلى الجور والحيف، ولا يتوجه عليه لسواه حكم، فيتصف بالجزع لذلك والخوف، كل ما سواه تحت سلطان قهره، ومتصرف عن إرادته وأمره؛ فهو الملهم نفوس المكلفين التقوى والفجور، وهو المتجاوز عن سيئات من شاء، والآخذ بها من شاء، هنا وفي يوم النشور، لا يحكم عدله في فضله، ولا فضله في عدله، أخرج العالم قبضتين وأوجد لهم منزلتين، فقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي. ولم يعترض عليه معترض هناك؛ إذ لا موجود كان ثم سواه، فالكل تحت تصريف أسمائه، فقبضة تحت أسماء بلائه، وقبضة تحت أسماء آلائه، ولو أراد - سبحانه - أن يكون العالم كله سعيدا لكان، أو شقيا لما كان من ذلك في شأن؛ لكنه - سبحانه - لم يرد فكان كما أراد؛ فمنهم الشقي والسعيد، هنا وفي يوم الميعاد لا سبيل إلى تبديل ما حكم عليه القديم، وقد قال - تعالى - في الصلاة: هي خمس وهي خمسون، ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، لتصرفي في ملكي وإنفاذ مشيئتي في ملكي؛ وذلك لحقيقة عميت عنها الأبصار والبصائر، ولم تعثر عليها الأفكار ولا الضمائر إلا بوهب إلهي وجود رحماني لمن اعتنى الله به من عباده، وسبق له ذلك بحضرة إشهاده، فعلم حين أعلم أن الألوهة أعطت هذا التقسيم، وأنه من رقائق القديم، فسبحان من لا فاعل سواه، ولا موجود لنفسه إلا إياه! والله خلقكم وما تعملون، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين».
أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية
يقول كلود فاريرا، أحد مؤرخي فرنسا وأدبائها: إن هزيمة العرب في بواتيه، قد أخرت المدينة الغربية ثمانية قرون.
ويستطيع كلود فاريرا أيضا أن يقول: إن فتح العرب لإسبانيا، والتقاء أوروبا بالحضارة الإسلامية في الأندلس هو الذي غير مجرى التاريخ الأوروبي، وهو الذي بعث أوروبا ووضع أقدامها على الطريق العريض، الذي ذهب بها إلى حضارتها العلمية الحديثة.
لقد كانت المعاهد العلمية الإسلامية في الأندلس، هي المنارات التي ترسل الهدى والنور إلى أرجاء أوروبا، وهي المناهل العذبة التي هرع إليها رجال الطليعة الأوروبية، ليتزودوا من معارفها ويقتبسوا من نورها، ثم يعودون إلى بلادهم مبشرين ومنذرين وداعين إلى العلم والفكر الإسلامي. يقول «جونس» المؤرخ المعاصر لفولتير: لقد كانت تعاليم ابن رشد هي الراية التي يتقاتل حولها الأحرار من رجال الفكر الأوروبي، وكانت كتب الرازي وابن سينا هي القمم العالية في معاهد الطب ومدارس العلم في إيطاليا وفرنسا.
بل أعظم من هذا في الدلالة وأعجب: أن النهضة الدينية نفسها في أوروبا، تدين لمسلمي الأندلس عامة، ومتصوفة الأندلس خاصة، بالبعث والحياة.
لقد كانت المعارف الدينية في أوروبا طلاسم وأحجية وأسرارا، تظللها أردية الرهبان المقدسة، وتحتكرها طوائفهم أصحاب القسوة العالمية، معارف مظللة لا تقبل جدلا ولا حوارا، ولا تطيق علما، ولا ترضى منطقا، بل تسخر كل ما ترى لأهوائها ونزواتها، متعالية مترفعة لا تعلل ولا ترضى أن يسألها إنسان عما تفعل.
وكان رجالها يبيعون الجنة، ويهبون الفردوس الأعلى، لكل من يدفع مالا، أو يرضي شهوة، أو يعين على مآرب من مآرب السياسة والهوى.
ثم نظرت أوروبا بعين الإجلال والدهشة إلى المعارف الدينية الإسلامية في الأندلس، وهي ثروة مباحة لكل قاصد، ومنهل يتدفق لكل راغب، وساحة للآراء، ومنتدى للمناطقة، ومجالا لكل صوال وقوال؛ فلا أسرار ولا أقنعة، ولا لاهوت مخبوء تحت أردية الكهان والرهبان، محاط بالأسرار والظلمات، بل معارف وعلوم تساهم في أحداث الحياة، وتشرح مواقف العقول ومعضلات الفكر، وتلين لكل مجتهد، وتفتح صدرها لكل متفنن مبتكر، وتهب نورها بالقسط لكل مؤمن.
نظرت أوروبا إلى تلك الحرية الهائلة، التي يتمتع بها العرب في النظر إلى الدين الإسلامي، وإلى تلك القوة الهائلة المتفجرة من ينابيع الهدي المحمدي؛ فأقبلت عليه تسترشد وتتزود، ثم تعيد نظرها في لاهوتها المسيحي؛ محاولة أن تنفخ فيه الحياة وأن تلقحه بالمنعشات، وأن تمسه بسحر الحرية، وأن تنقله من أبراجه إلى الأفق العام؛ ليكون آية للناس كافة، لا حماية للقسس والرهبان فحسب.
يقول الأستاذ العقاد في كتابه «أثر العرب في الحضارة الأوروبية»: «إن الفلسفة الصوفية الإسلامية هي الطريق التي ظهر منها ما ظهر من آثار التفكير الجديد في العالم المسيحي، وفي العقائد الأوروبية على الإجمال، ونظرة واحدة إلى أرقام السنين التي ازدهر فيها اللاهوت المسيحي، ونجحت فيها دعوة الإصلاح الديني، ترينا أن ذلك لم يحدث قبل احتكاك أوروبا بالحضارة الإسلامية في الأندلس.»
ويشير العلامة «نيكولسون» في مجموعة تراث الإسلام إلى المشابهات بين أقوال الصوفية المسلمين، وأقوال الصوفية الأوروبيين من الأقدمين مثل: إكهارت الألماني، والمحدثين مثل: إدوارد كاربنتر الإنجليزي، ثم يقول: «إن النهضة الأوروبية لم تظهر لها علامة واحدة قبل الاحتكاك بينهم وبين المسلمين، فإن دروس العرب في جامعات الأندلس حضرها رجال الدين والدنيا في سائر أنحاء أوروبا ...»
تلك شهادة كاتب أوروبي معاصر، صريحة في أن النهضة الأوروبية لم تظهر لها علامة واحدة قبل الاحتكاك بينهم وبين المسلمين، وصريحة أيضا في أن دروس العرب في جامعات الأندلس قد حضرها رجال الدين والدنيا في سائر أنحاء أوروبا، ثم انقلبوا إلى شعوبهم مبشرين وداعين إلى العلم الجديد المشرق في سموات الأندلس.
ثم يواصل «نيكولسون » بحثه في أثر الأندلس في البعث الأوروبي فيقول: «إن ابن عربي عبقري الإسلام في الأندلس، بدراساته الجريئة في الإلهيات، ومشاهداته الكبرى في عالم الروح، قد عبد السبل أمام اللاهوت المسيحي للنهوض والتحلل من القيود.» ثم يقول: «وأثر ابن عربي في النهضة الأوروبية لم يقتصر على هذا، بل له آثاره في بعث الأدب الأوروبي أيضا، فإذا قابلنا بين ما كتبه دانتي مثلا حينما نظم الكوميديا الإلهية وبين ما كتبه ابن عربي، نرى أن دانتي قد تتلمذ على ابن عربي تلمذة واضحة في النهج والأسلوب والطريقة، بل وفي الصور والأمثال والاصطلاحات والأساليب الفنية.»
وليس «نيكولسون» وحده هو الذي يقول هذا، بل نرى أيضا المستشرق الكبير «آسين بلاسيوس الإسباني» يشهد بأن نزعات دانتي الصوفية في كتبه، وأوصافه لعالم الغيب مستمدة من ابن عربي بغير تصرف كبير، ثم يقول بعد ذلك: «إن ابن عربي هو الأستاذ الحقيقي للنهضة الصوفية الدينية في أوروبا.» ولنستمع إليه إذ يحدثنا قائلا: «ومن المعلوم: أن أول الفلاسفة الصوفيين من الغربيين وهو «جوهان إكهارت الألماني» قد نشأ في القرن التالي لعصر ابن عربي، ودرس في جامعة باريس، هي الجامعة التي كانت تعتمد على الثقافة الأندلسية في الحكمة والعلوم، وإكهارت يقول كما يقول ابن عربي بأن الله هو الوجود الحق، لا موجود على الحقيقة سواه، وأن الحقيقة الإلهية تتجلى في جميع الأشياء، ولا سيما روح الإنسان التي سعادتها الكبرى في الاتصال بالله عن طريق الرياضة والمعرفة، والتسبيح والتحميد، وأن صلة الروح بالله، ألزم من صلة المادة بالصورة، والأجزاء بالكل، والأعضاء بالأجسام.
ومن هذه الفلسفة قبسات واضحة في مذهب «سبينوزا»، الذي نشأ في هولندا، وأصله من يهود البرتغال، الذين أكرهوا على الدين المسيحي، فقد كان كلامه عن الذات والصفات، وتجلي الخالق في مخلوقاته، وتلقي الخلق نور المعرفة الصحيحة بالبصيرة والإلهام، نسخة من فلسفة ابن عربي.
والفيلسوف المتصوف الإسباني «رايمو ندلول» قد اقتبس معارفه عن أسماء الله - تعالى - وأثرها في الكون، من كتاب ابن عربي: «أسماء الله الحسنى». وكان رايموند يحسن العربية، وعاش بعد ابن عربي، فانتحل الكثير من تراثه، وراح يزود المكتبة الأوروبية بالروائع التي تدل معانيها في وضوح وجلاء على صحة أبوة محيي الدين لها؛ لاسيما وهذا اللون من العلوم لم تعرفه من قبل الديانة المسيحية.»
ولسنا هنا نتصيد الدلالات على أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية الحديثة بشقيها الديني والأدبي، فكتب التاريخ الأوروبي عامة، وكتب رجال الاستشراق خاصة، تشهد بأن ابن عربي الفيلسوف الصوفي - كما يسمونه - كان له أكبر الأثر في عقول النساك ورجال الإصلاح الديني والمتصوفة من فقهاء المسيحية الذين ظهروا بعده، بل إن مذهبه العالمي في المحبة الذي يمثله قوله:
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
قد اتخذه فقهاء المسيحية، بل ورجال الإصلاح فيها لهم شعارا ودثارا.
ولقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن أثر ابن عربي في الإصلاح الديني في اللاهوت المسيحي، لا يقل عن أثر مارتن لوثر نفسه، أو على الأقل هو الذي مهد له الطريق، وأنار الجادة بهتافه الحار للحرية الفكرية، والحرية العلمية في تناول المعرفة، وبدعوته إلى الاجتهاد، وفتح بابه للناس كافة، وعدم تقديس الآراء السابقة، بل وعدم التقيد بقيودها؛ ما دامت قد صدرت عن عقول بشرية، لا من حقائق إلهية.
كما كان له أكبر الأثر في الأدباء الربانيين، من أمثال دانتي وغيره، حتى ليقول المستشرق «آسين» الإسباني: «إن أوصاف الجنة والنار، والعروج إلى السماء، والأقباس الروحية، والنشوة القلبية في الأدب الأوروبي الحديث، كلها تستمد أصولها الأولى من ابن عربي وفلسفته الكبرى، التي نشرت أجنحتها الفضية قرونا على الأفق الغربي.»
ذلك بعض ما يقال في أثر محيي الدين في النهضة الأوروبية، وذلك بعض ما يقوله أئمة القلم في أوروبا عن محيي الدين، وعن فلسفته الكبرى التي نشرت أجنحتها الفضية قرونا على الأفق الغربي.
الأفق الغربي، الذي يأتي من ضفافه أحد المعجبين ببروقه اليوم، من المتعالين من رجالنا، فينظر إلى محيي الدين ويبتسم، ويقول: من محيي الدين؟
فيعيد من جديد قصة الناموسة التي تنفخ على الجبال ...
المدرسة الأكبرية
التصوف الإسلامي كأفق عام، وحدة متسقة متحدة الأهداف والغايات، ولكن الطريق إلى الله - كما يقول المتصوفة - على عدد أنفاس الرجال؛ ومن هنا تعددت المدارس الصوفية، واتسمت كل مدرسة بطابع إمامها، وتلونت بمناهجه ومعارفه.
فللمدرسة الغزالية طابعها القلبي المشرق، ودعوتها الحارة إلى مكارم الأخلاق، وفضائل الأعمال.
وللمدرسة الجنيدية، سمتها في التربية والتصفية، ورسالتها في الفقه والتوحيد.
وللمدرسة الشامية، الدقائق والرقائق، ومحاسبة النفس وتزكيتها، وعصمة الجوارح وتطهيرها.
وللمدرسة الحلاجية، مواجيدها وألحانها، وسبحاتها في المحبة والفناء؛ وهكذا المدارس الصوفية قديمها وحديثها، لكل منها ذوقه ومشاهده ومناهجه.
ولكن مدرسة من تلك المدارس، لم تحدث في عالم الفكر دويا كما أحدثت المدرسة الأكبرية التي تنتسب إلى الشيخ الأكبر.
وليس مرجع هذا أنها أكثر هذه المدارس أتباعا، وأضخمها جمهورا؛ وإنما مرجعه أنها مدرسة العقل الجبار المحلق، مدرسة الثقافة السامقة الشامخة، مدرسة الروحانية في صولتها العنيفة الفاتحة.
ومن هنا تتلمذ على هذه المدرسة أضخم العقول التي عرفها الفكر الإسلامي، ومشى تحت مواكبها الصفوة المختارة المنتقاة من رجال الروح والإيمان.
وامتد أفق هذه المدرسة إلى خارج الحدود الإسلامية؛ فاجتذبت إليها كل عقل قوي، وكل روح كبير، وأشاعت داخل الأفق الإسلامي نورا سار على هديه رجال على بصيرة من أمرهم، وعلى يقين من رسالتهم فحملوا الشعلة المقدسة، وراحوا يحفظون للقلب الإسلامي تشرفه إلى أعلى قمم الإيمان، ويضيفون إلى الروحانية الإسلامية خاصة والروحانية العالمية عامة الزاد الحي القوي بكل ثمراته ووثباته وفتوحاته.
يقول الدكتور زكي مبارك:
1 «... إن ابن عربي لا نعرف أهميته إلا إذا فكرنا جيدا فيما ترك من ثروة ضخمة، يجب أن نتذكر أنه ترك ألوف الصفحات، ومئات القصائد، وفي كل صحيفة ثورة فكرية، وفي كل قصيدة وثبة وجدانية، وأنه راض اللغة على الطواعية للرموز والإشارات، وأنه علم الناس كيف يخوضون في أخطر الأحاديث ثم يسلمون، وأنه هضم ما درس من الفلسفة اليونانية، ومن أصول الديانة اليهودية والديانة المسيحية والديانة الإسلامية، ثم أحال ذلك كله إلى مزاج من الفكر الفلسفي الدقيق يعز على من رامه ويطول.
ويجب أن نتذكر خطر المؤلفات التي صنفت في الرد عليه أو الدفاع عنه؛ فتلك حركة فكرية لا يمكن إغفالها عند تقويم أثر ذلك الباحث الجليل، ولا يتسع المجال لبيان أثر ابن عربي فيمن جاء بعده من المفكرين؛ فذلك شيء ضخم عظيم.»
ثم يقول: «ولكن هل وقف تأثير ابن عربي عند البيئات الإسلامية؟ لا، فقد سرى روحه إلى البيئات المسيحية ولون أفكارها، إن ابن عربي شغل الناس في عصره وبعد عصره، وكان النصارى في الأقطار الإيطالية والفرنسية والإسبانية، يتشوقون إلى المعارف الإسلامية الصوفية التي أذاعها.
ويكفي أن يتذكر القارئ، أن ابن عربي سيشغل الناس ما دام في الدنيا إنسان يهمه درس التصوف الإسلامي، وسيشغل الناس ما دام في الدنيا إنسان يهمه الوقوف على ما صنع الذكاء في درس أسرار الوجود.»
ويحدثنا الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه القيم «الفيلسوف المسلم»، ويعني به «العلامة رينيه جينو» أو عبد الواحد يحيى، عن مجلة عربية إيطالية كانت تصدر في القاهرة عام 1907م، وتسمى النادي، فيقول: «كانت الروح التي تسود هذه المجلة هي روح الشيخ الأكبر محيي الدين، وكانت هذه المجلة تعتبر طليعة لمجلات أخرى صدرت فيما بعد في فرنسا، وساهم فيها «جينو» بحظ وافر، وكان من ألمع محرري مجلة النادي؛ سواء ذلك قسمها العربي، أو قسمها الإيطالي عبد الهادي - وعبد الهادي هذا من أصل لتواني فلندي - ونشأ مسيحيا، وكان اسمه: إيفان جوستاف، ثم اعتنق الإسلام، وتعلم العربية، وأخذ يكتب في المجلة المقالات، ويطبع فيها الرسائل الصوفية الإسلامية من مؤلفات الشيخ الأكبر ويترجم بعض النصوص.»
وأعجب الشيخ عليش الكبير بعبد الهادي، فكتب مقالا في مجلة النادي، شكره فيه على ما أداه للحضارة من خدمة جليلة، هي تعريف الناس بمحيي الدين، وكان من ثمرات هذا المقال، أن أعلن في العدد التالي عن تأليف جمعية في إيطاليا وفي الشرق الأوسط لدراسة ابن عربي، وسميت الأكبرية، ووضعت منهاجا، هو التالي: (1)
دراسة ونشر تعاليم الشيخ محيي الدين؛ سواء ما يتصل منها بالشريعة وما يتصل بالحقيقة، والعمل على طبع مؤلفات تلاميذه وشرحها، وإلقاء محاضرات خاصة به، وأحاديث تشرح آراءه. (2)
جمع أكبر عدد ممكن من محبي الشيخ ابن عربي، وعقد صلة قوية بينهم تقوم على الأخوة، وتؤسس على الترابط الفكري بين النخبة الممتازة من الشرقيين والغربيين. (3)
تقديم المساعدة المادية والتشجيع الأدبي لمن هم في حاجة إلى ذلك، ممن يتبعون الطريق الذي اختطه محيي الدين بن عربي، وعلى الخصوص هؤلاء الذين ينشرون دعوته بالقول أو بالعمل. (4)
ولا يقتصر عمل الجمعية على ذلك، بل يتعداه أيضا إلى دراسة مشايخ الصوفية الشرقيين كجلال الدين الرومي مثلا؛ بيد أن مركز الدائرة يجب أن يستمر ابن عربي. (5)
ولا صلة للجماعة قط بالمسائل السياسية مهما كان مظهرها؛ إذ إنها لا تخرج عن دائرة البحث في الدين والحكمة.
وحمل جينو راية الجهاد في هذه الجمعية، فاستمر يبني على ما أسسته الأكبرية، تلك الجماعة التي تنهج نهج الشيخ الأكبر، وهو أسمى مظهر للتصوف الإسلامي والعقيدة الإسلامية.
وأقام جينو في القاهرة يؤلف الكتب، ويكتب المقالات، ويرسل الخطابات إلى جميع أنحاء العالم، كان حركة دائبة، حركة فكرية وروحانية، ترسل بسنائها إلى كل من يطلب الهداية والرشاد.
وفي المغرب العربي، وفي دمشق، كان الأمير المجاهد عبد القادر الجزائري من العاملين في حقل الروحانية الأكبرية، وكذلك كان ولا يزال الأمير المقاتل عبد الكريم الخطابي، وشقيقه البطل الأمير محمد الخطابي، ولقد حدثنا الأمير أنه كان يقرأ الفتوحات المكية وهو في ساحات القتال.
وهنا وهناك، وفي كل مكان يرتفع فيه صوت التكبير بالتوحيد، أو دوي الطبول للجهاد، ترى العلماء من رجال الفكر، والمقاتلين من أولي البأس، تلاميذ أوفياء للمدرسة الأكبرية ولشيخها الأكبر.
الشيخ الأكبر
التصوف هو قلب الإسلام الخافق بالشوق والمحبة، وهو أيضا فلسفة الإيمان، التي ظفرت بالعلوم الكونية، وآمنت في الإلهيات لاعتمادها على الدين والوحي.
وبالتالي فالمتصوف الإسلامي، هو صاحب العلم المحيط الشامل لجميع الحقائق، هو الفيلسوف العالمي، الذي جمع المعارف كافة، وتميز بإيمان، يمشي في مواكب الأنبياء، وهدى الرسل، ورضاء الله ومحبته.
وإذا قلنا: التصوف هو الفلسفة الكاملة، فإننا نقصد إلى هذه الكلمة قصدا، ونتجه إليها عن عمد، ونحن نعلم أن السفهاء من الناس سيقولون كما قال بعض أربابهم من رجال الاستشراق: إن قيود الإسلام قد حجرت على العقول في المجتمعات الإسلامية؛ فباعدت بينها وبين الفكر والفلسفة. وسيقولون أيضا، كما قال بعض أربابهم من متعصبي أوروبا: إن الأمة الإسلامية عامة، والعربية خاصة لم تعرف التفكير الفلسفي والنهج العلمي، ولن تعرفهما؛ لقصورها الذاتي، وحياتها الفاترة الجامدة على شواطئ الأوهام والخيالات.
لقد جالت العقول الإسلامية في المعارف الكونية، جولاتها الموفقة الفاتحة، وتناولت فيما تناولت المسائل الفلسفية الكبرى على ضوء إيمانها وكتابها الرباني، كما جال المتصوفة بصفة خاصة في آفاقها وسمواتها ومعارجها.
وإنما الفرق بينهم وبين فلاسفة اليونان أنهم لم ينظروا في المسائل الفلسفية لذاتها، كموضوعات علم مستقل مرتبط الأجزاء، بل اعتبروها مسائل دينية منطوية تحت أجنحة رسالتهم الكبرى؛ فعالجوها على هذا الضوء، وتناولوها على هذا الهدى.
وإذن؛ فالفلسفة عندهم لم تجرد من الدين ولم تفصل عنه، ولم ترتب مسائلها في علوم مستقلة قائمة بذاتها، خارجة عن دائرة الوحي والإيمان؛ ولهذا لم يؤلف المتصوفة الإسلاميون كتبا في المنطق والجدل لبيان أصولهما وطرقهما، ولم يتركوا دراسات في المناهج العلمية التي تصعد بالاستقراء من الجزئي إلى الكلي، وتنزل بالقياس من الكلي إلى الجزئي؛ ولكنهم مع ذلك جادلوا وتحاكموا إلى المنطق، وأوضحوا الطرق، ومهدوا السبل، وقاسوا جريا مع فطرة العقل، دون تقيد بحرفية القواعد، ما دامت روح تلك القواعد قد سلمت وعاشت، وترعرعت تحت ظلالهم.
ولم يؤلف المتصوفة الإسلاميون كتبا في علم النفس والأخلاق، ولا في تعريف الجسم والحركة والزمان والمكان، على نحو المنهج اليوناني والنهج الأوروبي.
ولكنهم بلا ريب قد تركوا مكاتب الإسلام عامرة زاخرة بأروع الدراسات النفسية والخلقية، وأنضج الآراء في تعريف الأجسام والحركات، وخصائص الزمان والمكان.
فالذي يجرد الإسلام من الفلسفة، هو الذي يتمسك بقشور الفلسفة أو وثنياتها، أما من ينشد الروح والجوهر والإيمان، فقد بلغ بهم المتصوفة الإسلاميون أعلى قمم التصعيد والتفوق.
ومحيي الدين، هو المثل الكامل للصوفي الفيلسوف المسلم، الذي أحاط بمعارف عصره، بل وسبق ذلك العصر، إلى آفاق لا تزال الإنسانية تجهد قواها، وتحشد مواهبها للوصول إليها.
كما اختص محيي الدين بفيض دافق من الينابيع والإلهامات القلبية، أو بلغة التصوف بالهبات والعطايا الربانية، وهي موارد إلهية لا تنفد ولا تحد، ولا تسامقها عزمات، ولا تطاولها معارف؛ وإنما هي فيوضات تتنزل من لدنه - تعالى - على قلوب عباده، وألسنة محبيه، وأقلام من اصطفاهم واجتباهم لحمل أمانة العلم ورسالة المعرفة.
ولا يمكننا، ونحن نؤرخ لعبقرية محيي الدين وفلسفته أن نطبق عليه ما اصطلحت عليه الأقلام من استنطاق الهيئة، وتقصي الدراسات التي تزود بها، والدوافع والكوامن النفسية التي أحاطت به، وتفاعلت مع عواطفه وأحاسيسه؛ فكونته وصاغته.
لا يمكننا هذا؛ لأن محيي الدين عجيبة من عجائب التصوف، وصنيعة من صنائع الإيمان، ولطيفة من لطائف التقوى، وقبسا من أقباس النور الذي يشرق في الأرواح المتطهرة العابدة.
إن محيي الدين، لم تكونه عوامل المحبة الجنسية، التي تكون الشعراء والأدباء، ولم تصقله الشكوك والريب والقسوة، التي تلهب الأذكياء، ولم تدفعه عوامل البيئة والزمان والمكان إلى الوثوب والاعتلاء.
وإنما صاغته سبحات الروح، وكونته إلهامات القلب، وأبرزته الجلوة والخلوة، والحضرة والمحبة، ورعته وحبته عناية الله، التي ترعى وتحابي المؤمنين، وتعلم وتلقن العابدين الساجدين، الذين قعدوا على بابه الأسنى، مجردين حتى من أنفسهم في انتظار النفحات والهبات، فدخلوا تحت ظلال الآية الكريمة:
عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما .
طريقته في التأليف
يقول محيي الدين: «فإن تأليفنا هذا وغيره لا يجري مجرى التآليف ولا نجري فيه نحن مجرى المؤلفين؛ فإن كل مؤلف إنما هو تحت اختياره، وإن كان مجبورا في اختياره، أو تحت العلم الذي تعلمه خاصة، فيلقي ما يشاء ويمسك ما يشاء، أو يلقي ما يعطيه العلم وتحكم عليه المسألة التي هو بصددها، حتى يبرز حقيقتها، ونحن في تأليفنا لسنا كذلك؛ إنما هي قلوب عاكفة على باب الحضرة الإلهية، مراقبة لما ينفتح له الباب، فقيرة خالية من كل علم، لو سئلت في ذلك المقام عن شيء، ما سمعت لفقدها إحساسها، فمهما برز لها من وراء ذلك الستر أمر ما، بادرت لامتثاله وألقته على حسب ما حد لها في الأمر.»
قلوب عاكفة على باب الحضرة الإلهية، مراقبة لما ينفتح له الباب، هذا هو صفوة ما يقال في عبقرية أهل الله، ومن هذا الباب كانت معارف محيي الدين، معارف متلاحقة متدفقة، ممتزجة متداخلة متشابكة، أشبه بدائرة المعارف، التي ليست لها أبواب ولا مناهج، بل هي بحار زاخرات متلاطمة المعاني جبارة الأمواج.
يقول رجال الدنيا: إن العبقرية صبر طويل وكفاح مرير، أما رجال التصوف فالعبقرية عندهم سجود القلب الطويل، في محراب النور والهدى، والمجاهدة المريرة الشاقة، التي توصل إلى الباب الأسنى.
العبقرية العلمية عند رجال التصوف منحة وخلعة، وهبة مستفادة من صفاء الروح وطهارة القلب، ومراعاة الله مع الأنفاس؛ فلا يصعد نفس ولا يهبط إلا بذكر الله وخشيته، والشوق الحار المشبوب بمحبته وسجود القلب تحت ظلال رؤيته.
وسجود القلب عزم عظيم، لا يطيقه إلا الفحول من أهل الحظوة والفتوة، وملازمة الباب مجردا من كل شيء حتى من نفسه، مجردا لربه قاصدا إليه؛ فحينئذ تهبط الخلع والمنح، وتترى الهبات والنفحات، وتتنزل العلوم، وتتدفق في القلب ينابيع من المعارف لا تحد ولا تحصر،
واتقوا الله ويعلمكم الله .
كتب محيي الدين، إلى فخر الدين الرازي، الإمام العلامة صاحب التفسير المعروف، رسالة يبين له فيها نقص درجته في العلم عن أهل الله: «اعلم يا أخي - وفقنا الله وإياك - أن الرجل لا يكمل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله - عز وجل - بلا واسطة من نقل أو شيخ، فإن كان علمه مستفادا من نقل أو شيخ، فما برح عن الأخذ من المحدثات، وذلك معلول عند أهل الله - عز وجل، ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفاصيلها، فاته حظه من ربه - عز وجل؛ لأن العلوم المتعلقة بالمحدثات يفني الرجل عمره فيها ولا يبلغ إلى حقيقتها، ولو أنك يا أخي سلكت مسلك أهل الله - عز وجل - لأوصلك الله - تعالى - إلى حضرة شهوده؛ فتأخذ عنه العلم وما أدراك ما هذا العلم الذي من رجاله الخضر - عليه السلام.»
ذلك هو علم المتصوفة، وهذا هو المصدر الأعلى لمعارف محيي الدين، ومن يرد أن يعرف محيي الدين، فليلتمس له بابا إلى تلك المعارف؛ ويومئذ يعرف محيي الدين، وما أدراك ما محيي الدين؟! ثم ما أدراك ما محيي الدين؟!
مكانته من الفكرة والأسلوب
محيي الدين هو المثل الأعلى للأرستقراطية العقلية، كما هو المثل الكامل للأديب المثالي، وإذا كان الشعراني، يمثل معارفه بالنسبة إلى معارف المتصوفة بإكسير الذهب بالنسبة إلى الذهب، فإن أسلوبه البياني - كما يقول بعض رجال الاستشراق - يشبه عمل الفنان المدقق الذي يتخير الدرر الغالية، بأكبر عناية، وأقصى حساسية، أكثر مما يشبه الثمار الأولى لنوبة من نوبات النشوة الروحية.
أسلوب محيي الدين، أسلوب الفنان المدقق، الذي يتخير جواهره ولآلئه، بعناية المتذوق الخبير، وحساسية الفنان القدير؛ فهو لا يشغلك بالألفاظ مع روعتها عن المعاني، ولا بالمعاني على سموها عن الألفاظ، بل لكل نصيبه ومكانه؛ فهو العالم الأديب، والأديب العالم، في كل جملة له معركة عقلية، وصورة بيانية، والقوة لديه قوة فكر وبيان، لا قوة زخرف وتهويل.
ولقد قسم علماء البلاغة تأثيرها إلى قسمين: فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة، والتأثير في القلوب عمل الموهبة المشرقة الجاذبة.
ولقد جمع محيي الدين بين الموهبتين؛ فهو لدى العقول المعلم المفسر الذي يعرض عليك ألوانا متتابعة من شتيت الصور والمعاني، على سنان قلم عبقري، يجمل ويفصل، وهو لدى القلوب العازف الماهر، المترنم بالألحان والمواجيد، الذي يهبط بالمعارف من خدورها، فيزفها إليك مجلاة محلاة بالإشراق والنور.
ولمحيي الدين أكبر الأثر في لغة التصوف، فلقد نقلها من لغة القلوب إلى لغة العقول ومزج بينهما؛ فكان منهما معا أسلوب محيي الدين الذي تميز به وعرف عنه، وعاش به وله، والذي وثب به وثبات عقلية ولغوية جبارة، تضيفه إلى المبتكرين العالميين.
ثم تأتي بعد ذلك خصوصية لمحيي الدين لا يشاركه فيها سواه، وهي سره كما أنها مفتاحه، وذلك أن قارئ محيي الدين، يحس بعد قراءته بأنه قد خلق خلقا جديدا، وأنه اطلع على آفاق من الفكر والبيان لم يكن له بها عهد، ثم يشعر بعد ذلك بحب غلاب قهار، يربطه بمحيي الدين ويمسكه لديه، ثم يرى، إذا كان من أهل الرضا، في كل كلمة من كلام محيي الدين محرابا وبابا للسماء.
شخصيته
مقام محيي الدين بين رجال التصوف هو مقام السلطنة، ولعل هذا المقام قد اشتق من مكانته وشخصيته.
ولقد أجمع رجال التاريخ على أن محيي الدين، قد تميز بشخصية جبارة غلابة، لها جلال ورواء وبهاء، وسمت ووسامة ووقار، تخشع لديه الطغاة ويرجف منه المتكبرون.
حتى إن خصومه كانوا إذا واجهوه خنعوا والتمسوا لديه عفوا، ومنه تسامحا، وأقبلوا يتمسحون بأطرافه، ويتبركون بنجواه، ويرجون مغفرة ورضا.
ولقد مر بنا أن محيي الدين كان في مجالسه مع الملوك الناصح الموجه، الذي يقرع بكلمة الحق القوية أسماعهم؛ فيسارعون إلى الإجابة والإنابة.
ورأينا ملك قونية يلقبه بالوالد، وملك حلب يخاطبه بالمولى، والملك العادل الأيوبي يلتمس منه إجازة بخطه تبيح له قراءة كتبه وروايتها.
ثم يحدثنا التاريخ أن ملك الروم سعى يوما إليه ليزوره وينتفع بعلمه، فلما خرج من عنده خرج مصفر الوجه مرتعد الجوارح، فسأله بعض رجاله عن حاله، فقال: هذا رجل تذعر منه الأسود.
وسئل محيي الدين عن سر ذلك الرعب الذي يأخذ بالملوك والأمراء والسادة في مجالسه، فقال: «لقد خدمت بمكة رجلا صالحا، فدعا الله أن يذل لي أعز خلقه.»
محيي الدين الذي سعى إليه الملوك، وذل له الأمراء والسادة، صاحب السلطنة والشخصية الآخذة الزاحفة، كان آية الآيات في الزهد والقناعة والتواضع؛ لأنه مؤمن، والمؤمن يعرف أول ما يعرف قدر نفسه، وحقيقة واجباته، ولون رسالته.
هو العزيز القوي لدى الملوك والأمراء والسادة؛ لأنه يحب أن يقرع أسماعهم بكلمة الحق، يحب أن ينتزع من مخالبهم حقوق الضعفاء ولا سبيل إلى ذلك إلا بالقوة والعزة.
كان محيي الدين آية التواضع للضعفاء، بل الخادم الساعي في ركاب الصالحين والأولياء، خدم في إشبيلية امرأة عجوزا عابدة، وخدم في مكة رجلا صالحا فقيرا، وكان يسعى دائما إلى أمثاله خادما ومعينا، وهذا فرق ما بين عظماء المتصوفة وعظماء الدنيا.
ولعل من أسرار قوته الروحية العظمى، التي هي أساس بناء الشخصية الكاملة: عزمه القوي الذي تميز به، عزمه الذي سلطه على نفسه؛ فأخضعها وسيرها وتولاها حتى في منامها.
يقول ابن شودكين عنه: «كان محيي الدين يقول: ينبغي للعبد أن يستعمل همته في الحضور في مناماته؛ بحيث يكون حاكما على خياله يصرفه بعقله نوما، كما كان يحكم على يقظته، فإذا حصل للعبد هذا وصار خلقا له وجد ثمرة ذلك، وانتفع به في كل شيء.»
ولقد كان من ثمرات هذا العزم الجبار: المساهمة في بناء هذه الشخصية الجبارة المهابة، التي تحكمت في خيالها في يقظتها ومنامها.
رجل الأسرار
معارف محيي الدين أمة قائمة بذاتها، معارف شاملة، محيطة بكل ما في هذا الكون من ألوان العلوم والمعارف.
ومحيي الدين مقتحم غواص، يدفع بقلمه العبقري إلى النقطة الصغيرة، التي تكاد لا ترى فيجول بقلمه فيها، فإذا بها تكبر وتتسع حتى تتحول إلى دائرة كبرى، تضم بين محيطها أقصى ما يتصور الخيال من ألوان وفنون.
وإذا تناول هذا الملهم الفياض مسئلة من المسائل، عرض لها من وجهة العلم الظاهري، ثم ينتقل إلى أسرارها في الباطن فترى عجبا، وسواء لديه أكانت أحاديثه في الفقه والتوحيد، أم في السحر والهندسة؛ فلكل علم ظاهره وباطنه، وواضحه وسره، وخيره وشره.
فإذا حدثك عن الطهارة في الفقه مثلا لخص لك أقوال علماء الظاهر، ثم انتقل إلى معارف الباطن؛ حيث يقول: «اعلم أن الطهارة في طريقنا طهارتان: طهارة غير معقولة المعنى، وهي الطهارة من الحدث، والحدث نفسي للعبد، فكيف يمكن أن يتطهر الشيء من حقيقته؟ فإنه لو تطهر من حقيقته انتفت عينه، وإذا انتفت عينه فمن يكون مكلفا بالعبادة؟ ولهذا قلنا: إن الطهارة من الحدث غير معقولة المعنى، فصورة الطهارة من الحدث عندنا، أن يكون الحق سمعك وبصرك في جميع عباداتك.»
وإذا حدثك عن السحر، وهو علم مرقوم في رق الكون، عرض عليك أقوال رجاله، ثم ولى بوجهه إلى مملكة الباطن، فإذا السحر هناك مشتق من السحر ، أي: الوقت الذي بين الظلمة والنور؛ ولهذا فهو باطل وحق، ومباح وحرام، وهدى وضلال، والفيصل في الأمر ميزان الشرع؛ فكل ضرر محرم، وكل نفع مشروع.
فإذا تهادن محيي الدين مع العلم الظاهر، وأقبل على الأسرار اللدنية وحدها؛ فهذا هو المحراب والهيكل الذي لا يلجه إلا أربابه، وما لآذاننا طاقة بما يتلى فيه.
وإذا أردت قطرة من هذا البحر، فلمحيي الدين كتاب مخطوط بدار الكتب المصرية يسمى «بالشجرة النعمانية»، وما أدراك ما الشجرة النعمانية؟! كتاب بين دفتيه أسرار وأسرار، من بعضها: حديث عجيب عن ملوك الإسلام من عصره إلى قيام الساعة! والأحداث الكبرى التي تمر بالأمة الإسلامية، وغير هذا وذاك مما تضيق عنه معارفنا، وقد تضيق عنه عقولنا.
ولقد خلف محيي الدين ثروة من كتب الأسرار لم تطبع إلى يومنا، ثروة بددتها الأعاصير، وذهبت بها غفلة العالم الإسلامي؛ فضاع جانب لا يعوض من تراث أكبر عباقرة رجال التصوف، وأعظم كتاب للأسرار في المحيط المحمدي.
الشيخ الأكبر
محيي الدين اعترف له رجال التصوف وأئمته منذ القرن السابع الهجري إلى يومنا بأنه الشيخ الأكبر، الذي لا يرقى إلى معارج قلمه قلم.
فهو كاتب المتصوفة وإمامهم، يقول عنه الشيرازي: «كان شيخ الطريقة حالا وعلما، وإمام الحقيقة حقيقة ورسما، ومحيي رسوم المعارف معنى واسما، إذا تغلغل فكر المرء في طرف من بحره، غرقت فيه خواطره، عباب لا تدركه الدلاء، وسحاب تتقاصر عنه الأنوار، كانت دعوته تخترق السبع الطباق، وتفترق بركاته فتملأ الآفاق.
وأما كتبه ومصنفاته فالبحور الزواخر، التي لكثرتها وجواهرها لا يعرف لها أول ولا آخر، ما وضع الواضعون مثلها، وإنما خص الله بمعرفة قدرها أهلها، ولا غرو فهو صاحب الولاية العظمى، والصديقية الكبرى، وإني أصفه، وهو يقينا فوق ما وصفته.»
وأبلغ كلام الشيرازي قوله: «وإني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته.» أجل؛ فجماع ما يقال في محيي الدين: إنه لا يوصف إلا بالعجز عن وصفه، فهو دائما أبدا فوق وصفه ونعته.
وبعد، فلعلنا قد وفقنا إلى أن نضع في يدك المنظار المكبر، الذي وعدناك به في مقدمة هذا الكتاب، المنظار الذي يجلو ويوضح ما يمكن أن يرى من قمة الشيخ الأكبر.
الشيخ الأكبر الذي سيشغل العالم الإسلامي، بل عالم الفكر العالمي، ما دام في الدنيا رواد للفكر والبحث، وما دام في العقول استشراف إلى رؤية القمم العالية، وتطلع إلى الوقوف على ما صنع الإيمان والإلهام من أعاجيب في دراسة أسرار الوجود.
وسواء لدينا أن يقول رجال الفكر: أخطأ الشيخ الأكبر أو أصاب، فلن يستطيع رجل من رجال الفكر، أن ينكر على شيخنا الأكبر أنه قضى العمر كله في المناجاة والطاعة، والتطهر والعبادة، وجعل من الكون مسجدا؛ فلا محل لعمل لا يليق بقداسة المسجد، واتخذ من الوجود محرابا، يرشد إلى الله، ومعراجا يهدي إلى آياته، وجعل الحب شرعة الحياة، وسبيلا إلى الله، وطريقا سلطانيا ربانيا للدنيا والآخرة.
ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين .
بعض مصادر الكتاب
الفتوحات المكية لابن عربي.
فصوص الحكم لابن عربي.
ترجمان الأشواق لابن عربي.
عنقاء مغرب لابن عربي.
مسامرات الأبرار لابن عربي.
إحياء علوم الدين للغزالي.
منهاج العارفين للغزالي.
جواهر القرآن للغزالي.
ميزان العمل للغزالي.
اللمع للطوسي.
حلية الأولياء لأبي نعيم.
عوارف المعارف للسهروردي.
العبودية لابن تيمية.
الصراط المستقيم لابن تيمية.
خمس رسائل لابن تيمية.
منهاج السنة لابن تيمية.
الروح، دار الهجرتين لابن القيم.
تلبيس إبليس لابن الجوزي.
شرح ديوان ابن الفارض.
الإنسان الكامل للجيلي.
فصل المقال لابن رشد.
تفسير الطبري للطبري.
الفرق بين الفرق للبغدادي.
الرسالة القشيرية للقشيري.
مفتاح السعادة لطاش كبرى زاده.
حجة الله البالغة للدهلوي.
دائرة المعارف الإسلامية.
العقيدة والشريعة في الإسلام لجولد تسهير.
في التصوف الإسلامي لنيكولسون ترجمة عفيفي.
الطواسين لماسنيون.
ظلال الكنيسة لبلاسكوا أبانيز.
تاريخ المسلمين بإسبانيا لدوزي.
مجموعة تراث الإسلام.
اليواقيت والجواهر للشعراني.
الشفا لابن سينا.
كشف الظنون لحاجي خليفة.
الفصل في الملل والنحل لابن حزم.
البداية والنهاية لابن كثير.
الإسلام على مفترق الطرق لمحمد أسد.
أثر العرب في الحضارة الأوروبية للعقاد.
صفحه نامشخص