فصل: الله أبدي لا يزال. لأن ما ثبت له القدم انتفى عنه العدم. لأن حدوث العدم محتاج إلى سبب كما أن حدوث الحدث محتاج إلى سبب، فإنه لا ينعدم الشيء من قبل نفسه لكن من قبل ضده، ولا ضد له ولا مثل. لأن ما هو مثله في جميع الوجوه فهو هو لا يوصف باثنين. وأما الضد المعدم فلا يمكن أيضا أن يكون قديما، لأن هذا قد تبين قدم وجوده ولا يمكن أن يكون حديثا، لأن كل حادث إنما هو معلول لهذا القديم فكيف يعدم المعلول علته.
فصل: الله ليس بجسم. لأن الجسم لا يخلو عن حوادث. وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. ومن المحال تسميته عرضا، لأن العرض قيامه بالجسم الحامل. فالعرض معلول للجسم تابع له محمول عليه، والله تعالى لا يتحيز ولا يختص بجهة دون أخرى، لأن هذا من شروط الجسم.
فصل: الله تعالى عالم بما غل وما دق، ولا يعزب عن علمه شيء، إذ تبين أنه خلق الكل ورتبة ونظمة كما قال הנוטע אוזן הלא ישמע אם יוצר עין הלא יביט. وقال גם חשך לא יחשיך ממך וגו'، כי אתה קנית כליותי וגו'.
فصل الله تعالى حي إذ قد ثبت به العلم والقدرة. فقد ثبت له الحياة. لكن ليس كحياتنا المحددة بالحس والحركة. لكن حياة معناها العقل المحض وهي هو وهو هي.
فصل: الله تعالى مريد. لأن كل ما صدر عنه في الإمكان أن يصدر ضده أو عدمه، أو قبل الوقت الذي صدر أو بعده. وقدرته على الحالين سواء، فلا بد من إرادة ترد القدرة إلى أحدهما دون الآخر. ولقائل أن يقول أن علمه يغني عن قدرة وإرادة، إذ علمه مخصوص لأحد وقتين وأحد الضدين، وعلمه القديم هو السبب في كل حادث على ما هو، وهذا يطابق الفلسفة.
فصل: إرادته تعالى قديمة مطابقة لعلمه. فلا يطرأ عليه شيء ولا يتغير عنده. وهو تعالى حي بحياة ذاتية لا مكتسبة. وكذلك قادر بقدرة ومريد بإرادة، لأن من المحال وجود الشيء ونقيضه معا. فلا يقال قادر بلا قدرة قولا مطلقا.
<19> قال الخزري: هذا كاف للتذكرة، ولا محالة أن هذا الذي ذكرته في أمر النفس والعقل وهذه العقائد إنما هو منقول من حفظك لما قاله غيرك. وأنا لا أطلب إلا ذوقك وعقيدتك. وقد قلت لي أنك معرض للبحث في هذا وأمثاله، وأظن أن لا محيد لك عن البحث في مسألة القدر والاختيار إذ هي مسألة عملية، فلتقل لي فيها رأيك.
<20> قال الحبر: ليس ينكر طبيعة الممكن إلا متعسف ممار يقول ما لا يعتقد، لأنك ترى من استعداده لما يرجوه ويخافه ما يدلك على أنه يعتقد أن الأمر ممكن، وينفع فيه الاستعداد. ولو اعتقده ضروريا لاستسلم ولم يستعد بسلاح لعدوه ولا بقوت لجوع مثلا، فإن زعم أن ذلك الاستعداد ضروري أيضا لمن يستعد، وترك الاستعداد ضروري لمن لا يستعد، فقد أقر بالأسباب المتوسطة وإن بها قوام المتأخرة وسيصادف الإرادة في جملة الأسباب المتوسطة، وأن أنصف ولا يتعسف فسيقر بأنه يجد نفسه مخلي بينه وبين إرادته في الأمور الممكنة له، إن شاء فعلها وإن شاء تركها، وليس في هذا الاعتقاد اخراج شيء عن حكم الله تعالى، بل الكل راجع إليه على وجوه مختلفة على ما أبين.
أقول: أن جميع المعلولات منسوبة إلى العلة الأولى على ضربين، إما على القصد الأول، وإما على طريق التسلسل، مثال الضرب الأول النظام والترتيب الظاهر في الحيوان والنبات وفي الأفلاك الذي لا يمكن العاقل المتأمل أن ينسبه إلى اتفاق، بل إلى قصد صانع حكيم يضع كل شيء موضعه ويعطيه حظه. ومثال الثاني إحراق هذه النار مثلا لهذه الخشبة، لأن النار جسم لطيف حار فعال، والخشبة جسم متخلخل منفعل، ومن شأن اللطيف الفعال أن يفعل في منفعله، والحار اليابس أن يسخن ويفني رطوبات المنفعل حتى تتفرق أجزاؤه، وأسباب هذه الأفعال وهذه الانفعالات إذا طلبتها لم يعزب عليك إدراكها، وربما وجدت أسباب أسبابها حتى تنتهي إلى الأفلاك، ثم إلى علل الأفلاك، ثم إلى العلة الأولى. فبحق قال القائل إن الكل من قدر الله تعالى. وبحق قال آخر بالاختيار والاتفاق من غير أن يخرج شيئا من ذلك عن قدر الله. وإن شئت قربت تصور ذلك بهذه القسمة التأثيرات إما الإلهية وإما طبيعية وإما اتفاقية وإما اختيارية. فالإلهية أن السبب الأول نافذة ولا بد لا سبب لها غير مشيئة الله تعالى. وأما الطبيعية فعن أسباب متوسطة مهيئة لها ومبلغتها آخر كمالها مهما لم يعق عائق من قبل أحد الثلثة أقسام. وأما الاتفاقية فعن أسباب متوسطة أيضا، لكنها بالعرض لا بالطبع ولا بنظام ولا عن قصد ولا لها تهيؤ لكمال ما تبلغه وتقف عنده، ويستثني فيها بسائر الأقسام الثلثة. وأما الاختيارية فسببها إرادة الإنسان في حال اختياره. والاختيار من جملة الأسباب المتوسطة وللاختيار أسباب تتسلسل إلى السبب الأول تسلسلا غير ضروري لكون الإمكان موجودا. والنفس مخلاة بين الرأي ونقيضه تأتي أيهما شاءت، فوجب أن تحمد أو أن تذم على ذلك الاختيار ما لا يجب ذلك في سائر الأسباب المتوسطة فإنه لا يلام سبب اتفاقي ولا طبيعي وعلى أن الإمكان حاضر في بعضها، كما لا تلوم الطفل والنائم إذا أذاك وكان في الإمكان خلاف ذلك، إلا أنك لا تلومه لارتفاع الفكر عنه.
أترى الذين ينكرون الممكن ليس يغضبون على من يؤذيهم قصدا، وهل يستسلمون إلى من يسرق ثيابهم فيؤذيهم بالبرد كما يستسلمون إلى الريح الشمالية إذا هبت في يوم قر حتى تؤذيهم، أم يزعمون أن ذلك الغضب قوة كاذبة غرزت عبثا ليغضب الإنسان على شيء دون شيء آخر. وكذلك أن يحمد ويستحسن ويحب ويبغض وغير ذلك فليس للاختيار من حيث هو اختيار سبب ضروري، لأنه يرجع ذلك الاختيار اضطرارا فيصير كلام الإنسان ضروريا مثل نبضه وفي هذا إنكار العيان # <.....> مهما كنت في ملك العقل ولم تملكك أعراض آخر، ولو كانت الحوادث مقصودة قصدا أوليا عن العلة الأولى لكانت مخلوقة لحينها مع اللحظات، ولجاز أن نقول في العالم بأسره في كل حين أنه الآن خلقه الخالق ولم يكن للطائع فضل على العاصي إذ كلاهما طائعان فاعلان ما أنهضا إليه وحملا عليه إلى شناعات عظيمة تلحق هذا الاعتقاد، وأشدها إنكار العيان كما قلنا. وأما الشناعة اللاحقة بمن يقول بالاختيار لإخراجه بعض الأمور عن قدر الله تعالى فيحتج عليها بما تقدم أنه ليس يخرجها عن قدر الله بالجملة بل يردها إليه بطريق التسلسل، وتلحقه بعد ذلك شناعة أخرى وهي إخراجه تلك الأمور عن علمه، لأن الممكن المحض مجهول بطبعه، وقد خاض في ذلك المتكلمون، فخرج لهم أن العلم به بالعرض وليس العلم بالشيء سببا لكون ذلك الشيء، فلا ينكر علم الله للكائنات وهي مع ذلك ممكنة أن تكون ولا تكون، إذ ليس العلم بما سيكون هو السبب في كونه، كما أن العلم بما كان ليس سببا لكونه بل دليل عليه، كان العلم لله، أو للملائكة أو للأنبياء أو للكهنة. ولو كان العلم سببا للكون لوجب حصول قوم في גן עדן لعلم الله أنهم صالحون من غير أن يطيعوا. وآخرون في جهنم لعلمه أنهم عاصون من غير أن يذنبوا، ولوجب أن يشبع الإنسان من غير أن يأكل لعلم الله أنه سيشبع في وقت كذا، فتسقط الأسباب المتوسطة، ولو سقطت لإرتفع وجود المخلوقات المتوسطة، فقد ساج/ساغ قول והאלהים נסה את אברהם لإخراج طاعته من القوة إلى الفعل ليكون سببا لسعادته، يقول יען אשר עשית את הדבר הזה וגו' כי ברך אברכנו וגו'. ولما كانت الحوادث مضطرة هل هي إلهية أم غيرها من الأقسام، وكان في الإمكان أن تكون كلها إلهية آثر الجمهور نسبها إلى الله، لأن ذلك أوثق وأقوى في الإيمان. لكن لمميز أن يميز قوما من قوم، وشخصا من شخص، وزمانا من زمان، ومكانا من مكان، وقرائن من قرائن آخر. فيرى أن الحوادث الإلهية إنما ظهرت على الأكثر في أرض مخصوصة وهي المقدسة، وفي قوم مخصوصين وهم بنو إسرائيل، وفي ذلك الزمان، ومع القرائن التي اقترنت بها من فرائض وسنن، ظهر بانتظامها المرغوب، وظهر بانخرامها المكروه. ولا تغنى الأمور الطبيعية والإتفاقية بمغنى في وقت الانخرام، ولا تضر في وقت الانتظام، ولذلك صار بنو إسرائيل حجة في كل ملة على الزنادقة الذين يرون رأي أفيقوروس اليوناني في زعمه أن جميع الأمور إنما تقع بالإتفاق، إذ لا يظهر فيها قصد قاصد، وشيعته يسمون أصحاب اللذة، إذ يرون أن اللذة هي الغاية المطلوبة، وأنها الخير بإطلاق. ومطلوب المتشرع من الشارع أن يكون مرضيا عنده يفوض اختياراته إليه تعالى، طالبا إلهامات إن كان وليا، أو معجزات وكرامات إن كان نبيا أو جماعة مرضية، مع القرائن المذكورة في الתורה من الأزمنة والأمكنة والأفعال، فلا يبالي بالأسباب الطبيعية والإتفاقية كل المبالاة، ويعلم أن شرها مدفوع عنه، إما لإلهام يسبق له في التوطئة لذلك الشر، وإما بكرامة تصنع له في حين ذلك الشر، وإما خير الأسباب الإتفاقية فليس يمتنع على الفاسق فضلا عن الخير، وسعادات الأشرار إنما هي بتلك الأسباب الإتفاقية والطبيعية ثم لا دافع لنحسها إذا حل. وأما الأخيار فيسعدون بتلك الأسباب، ثم يأمنون من نحسها.
صفحه نامشخص