هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
lyrics
الإنجليزية؛ بمعنى القصائد الغنائية. وعلى الرغم من أن هيرودوت أورد عددا غير محدود من الشعراء في «تاريخ هيرودوت»، فإن عمل هوميروس الجليل هو الذي أضفى في المقام الأول نكهته الخاصة، وأتاح التناغم والطباق مع سرده (وأعني بقولي «هوميروس» العقلية الهادية التي استنارت بها القصيدتان اللتان نعرفهما اليوم بالإلياذة والأوديسة، ولا يسعنا في هذا المقام التكهن بما إذا كان المؤلف شخصا واحدا، أم شخصين مختلفين، أم هيئة مكونة من عشرات الأشخاص)؛ ذلك أن هوميروس وفر القالب لقصة الحرب وحكاية الأسفار التي تعج بالعجائب على السواء.
لا ريب أن كتابة النثر لم تكن شيئا مجهولا في زمان هيرودوت؛ حيث استخدم أنكسيمندرس وأنكسيمانس على السواء النثر للتعبير عن أفكارهما، وأودع هيراقليطس عملا فلسفيا منثورا في معبد أرتميس المهيب في إفسوس، وهو أحد عجائب الدنيا السبع القديمة (أقصد المعبد لا الكتاب). وقرب نهاية القرن السادس الميلادي، بدأ الإغريق يدونون أساطير الماضي العظمى نثرا، ليصبحوا ما نسميه «جامعي الأساطير»، وكان الخيط الناظم لهذه الأساطير سجلات سلاسل النسب المفصلة التي تتناول الآلهة والأبطال، وبحلول بداية القرن الخامس، كان هناك عدد متداول من هذه السجلات، وأبرزها الذي وضعه هيكاتايوس، الذي توفي على الأرجح سنة ميلاد هيرودوت، حيث تتبع في كتابه «علم الأنساب» أنساب العائلات الإغريقية البارزة وصولا إلى أسلافها الإلهيين، واستخدم تحليلا عقلانيا لتخفيف لهجة الأساطير الشاذة التي صادفها (لكن دون نبذها نبذا مباشرا). كذلك استخدم هيكاتايوس أيضا النثر لتأليف كتابه المعنون «رحلة حول العالم»، واتسم صراحة بالتشكك الذي كان يكتسح أيونيا، والذي اشترك معه فيه يقينا هيرودوت. وتقول إحدى الشذرات التي وصلتنا: «هيكاتايوس الملطي يقول ما يلي: أنا أكتب ما أعتبره صحيحا؛ لأن قصص الإغريق كثيرة وتبدو لي مضحكة.» ويذكر هيرودوت هيكاتايوس في أكثر من مناسبة ويبدو أنه اعتمد عليه من حين إلى آخر.
نال النثر في زمان هيرودوت المكانة التي يستحقها، وبالأخص في ديمقراطية أثينا الآخذة في الازدهار، التي شهدت بالفعل وضع القوانين الأولى نثرا في أواخر القرن السابع، وسرعان ما أصبحت المهارة في الخطابة الجماهيرية (أمام الحشود وفي المحاكم) تضاهي كرم المحتد والثروة والبسالة في ساحات الوغى. وكان الفلاسفة/الخطباء المتجولون المعروفون باسم السوفسطائيين في المتناول، وكلهم حماس لتدريب الشباب على هذا الفن الذي ينال تقديرا متزايدا، وأعني فن الإقناع. ونظرا لنزوعهم إلى النظر إلى المسائل القديمة من زوايا جديدة (وطرح أسئلة حول أشياء لم يسأل عنها أحد قبلهم قط، على الأقل علانية)، اتهمهم اللائمون بكسب عيشهم بتعليم مراهقين مزهوين بأنفسهم عدم احترام الآلهة والوالدين، لكن الحقيقة أن ما فعلوه كان من نواح كثيرة لا يختلف عما يفعله المعلمون (الصالحون منهم) اليوم؛ وهو تعليم الشباب التشكيك في السلطة وطرح حجج قوية. ولم يقتصر هؤلاء على أثينا في الترويج لبضاعتهم. وعلى الرغم من أن المدن الإغريقية لم تكن كلها ديمقراطيات، فإن روح الحوار المفتوح والتفنيد التي وسمت القرن الخامس تواءمت جيدا مع الفورة العارمة في التدبر الفكري التي ميزت القرن السادس لتضع الأساس لنوعية الاستقصاء التحليلي الذي نراه في عمل هيرودوت.
في نهاية المطاف، كان «تاريخ هيرودوت» كتابا ديمقراطيا بعمق، بوجهات نظره الموضوعية المتعددة ودعوته المفتوحة للقراء، كي يتخذوا قراراتهم بأنفسهم ويقفوا دائما موقف المقوم. وليس ذلك فحسب، فمجرد وجود أشكال ديمقراطية (أو على الأقل غير ملكية) من الحكم، كان قد خلق عالما يستطيع فيه الإنسان العادي صنع التاريخ؛ أي يستطيع فيه الأشخاص أنفسهم الذين يقرءون عمل هيرودوت أو يسمعونه صنع هذا التاريخ. كان النظم لغة الآلهة، وأما النثر فكان لغة الناس، كان وسيطا لغويا يستطيعون به تحدي الناس الآخرين أو حتى الآلهة ذاتها. ومن الجائز تماما أن تكون وجهات النظر الموضوعية المتعددة هذه هي التي تفسر ازدياد شعبية هيرودوت في الأزمنة الأخيرة، فبعد أن كان يعتبر ذات يوم تافها عند مقارنته بثوسيديديس، بنهجه التربوي وجديته البالغة، صار «تاريخ هيرودوت» الآن يحظى بالتقدير لانفتاحه على وجهات النظر المتعارضة، ونسبيته الثقافية، واهتمامه بالتاريخ الاجتماعي، واعترافه بوجود نوعين جنسيين. (ويقينا، لن يكون رد فعل الجميع متطرفا كرد فعل أستاذة علم المصريات سليمة إكرام التي استغربت فكرة تقديم ثوسيديديس على هيرودوت، وصاحت قائلة: «حسنا، إذن فثوسيديديس مؤرخ أفضل، لكنه ممل جدا ومضجر بشدة؛ أيا إلهي، سأطلق النار على نفسي!»)
وفي حين أن وجود النظم هو الذي يسر إبداع الملحمتين الهوميريتين، وهما عملان يمكن استظهارهما وغناؤهما أمام جمهور متيم، فإن النثر المصحوب بقدر من العبقرية هو الذي أتاح إبداع التاريخ؛ وأعني فتح المجال أمام مركب كامل من العلاقات بين السائل والراوية، والمؤلف في صورته النهائية، والجمهور. وبالنسبة لمقارعة الحجة بالحجة التي نراها لدى السوفسطائيين، فقد أتاحت نقاشات مجلس أثينا والمحاكم تربة خصبة لتحليل قدر عظيم جدا من النظريات والحقائق في سياق أشمل الهموم البشرية. وحتى بعد أن استمعنا بأناة لكل التنبيهات بخصوص سقطات هيرودوت في الحكم على الأشياء، وأرقامه المبالغ فيها، واعتماده على رواة لا يعول عليهم، وحتى بعد أن أمطرنا مرارا وتكرارا بادعاءات بشأن طبيعة عمل ثوسيديديس الأكثر «علمية» من عمل هيرودوت، وحتى بعد أن استمعنا إلى مزاعم بأن هيرودوت لم يسافر فعلا على نطاق واسع كما ادعى، ولم ير كل الأشياء التي ادعى أنه رآها رأي العين، فالحقيقة الماثلة أمامنا هي أن هيرودوت - كما هو واضح وضوحا لا لبس فيه - اخترع كتابة التاريخ. فذات يوم لم تكن هذه الكتابة موجودة، ثم خرجت فجأة إلى الوجود.
حسنا، ربما لم يحدث هذا فجأة تماما؛ حيث استغرق تأليف «تاريخ هيرودوت» عقودا، بل جرى ذلك في غضون جيل تقريبا. وكان الكتاب الأوائل قد حللوا طريقة عمل الكون، ودونوا أسفارهم، واستكشفوا معنى الأساطير، ووضعوا سرودا للأحداث المحلية الجارية في مكان ما في العالم، لكنهم لم يضفوا من قبل محور تركيز على عملهم، ولم يصبغوه بالدافعية المليئة بالحماس، واحتوت كتاباتهم التي وصلنا قليل منها، بلا شك، كثيرا من القصص، لكنها ليست قصصا شكلت في مجموعها قصة كبيرة تفوق مجمل أجزائها حجما؛ فكونت صورة بلغت أوجا يؤثر على حياة كل مستمع وقارئ خطر ببال هيرودوت، وأثر في الحقيقة على حياتنا حتى قرننا هذا؛ لأنه من دون الهزيمة المعجزة التي مني بها الفرس على أيدي عصبة صغيرة من الدويلات الإغريقية خاضت الحرب لتجنب الاستعباد، ما كنا لنحصل على معبد البارثينون، ولا عقدة أوديب، ولا سقراط ولا أفلاطون ولا أرسطو. ومن دون انتصار الإغريق، من الصعب أن نتصور تاريخ الفلسفة الغربية، أو تاريخ الفكر السياسي الغربي المتأصل في مفارقة أن الأثينيين هم من ابتكروا الديمقراطية، وفي الوقت ذاته خرج من بين ظهرانيهم الرجال أنفسهم الذين رسخوا التقليد المناهض للديمقراطية في الفكر السياسي.
لا يمكن أن يكون هيرودوت قد تنبأ بمسار الفلسفة الغربية والنظرية السياسية كاملا، لكنه كان يعرف الفرق بين الشمولية والحرية، ورأى في هزيمة الأولى على يد الثانية موضوعا جليلا. وكان نصرا جليلا لكن ليس خالصا فيما يخص الإغريق؛ ذلك لأن الحروب الفارسية مثلما «صنعت» هيرودوت، «صنعت» أيضا أثينا، فحولتها إلى مركز ثقافي متألق سيصفه بركليس، أهم رجل دولة فيها، على صفحات عمل ثوسيديديس، بأنه «مدرسة اليونان»، لكنها حولتها أيضا إلى دولة إمبريالية متزايدة الجشع والتعطش إلى القوة، فاستفزت الإمبراطورية الفارسية على أسوأ نحو. ومثلما انتهت الإلياذة بعدم موت أخيل وإن كان مكتوبا عليه الموت يقينا، فإن غمامة الإمبريالية الأثينية تخيم على سرد هيرودوت المصوغ بعناية وتضفي عليه قدرا كبيرا من الإثارة، وذلك على نحو ما كان يرمي المؤلف بكل تأكيد.
لم يعش هيرودوت على الحدود بين دويلات المدن الناطقة باليونانية الواقعة شرقي المتوسط والإمبراطورية الفارسية في الأناضول وفي فجر النثر فحسب، بل عاش في منطقة فاصلة أخرى أيضا؛ عاش في زمن أخذت فيه العقلية القارئة في التنافس مع العقلية السماعية فيما بين طبقات المتعلمين. هذا لا يعني أن الإغريق الذين ارتادوا المدارس قبل القرن الخامس لم يستطيعوا القراءة، لكنهم ربما لم يستخدموا القراءة بدرجة كبيرة في حياتهم، وظل السماع بالنسبة لكثيرين خلال جل القرن الخامس الطريقة الاعتيادية لاستيعاب اللغة، سواء على خشبة المسرح، حيث كانت التراجيديات بلا استثناء منظومة شعرا، أم الخطب الملقاة أمام المجلس التشريعي، والتي كانت تلقى نثرا. لقد قيل بشيء من الإنصاف إن هيرودوت جاء في نهاية تقليد مديد قوامه السماع، وجاء معاصره الأصغر منه سنا ثوسيديديس في بداية تقليد قوامه القراءة؛ ذلك هو ثوسيديديس الذي انتقد عمل هيرودوت قائلا إن عمله (أي ثوسيديديس) لم يؤلف من أجل التصفيق بعد تلاوته استعراضيا، بل ألف كعمل يقتنى لكل الأزمنة. ويمكننا القول إن هيرودوت دون الكلام المنطوق فيما دون ثوسيديديس الفكر، وإن هذا الاختلاف لهو الذي يفسر التباين بين سرد هيرودوت المخفف الماتع والموضوع بالأسلوب الذي سماه أرسطو «الأسلوب المسترسل» - حيث تنساب الجملة إلى الأخرى انسيابا طبيعيا - ونثر ثوسيديديس المحكم الذي كان بناؤه المحكم - وأحيانا غير المباشر - مثار يأس كثير من دارسي اليونانية على مر العصور.
يثير مصنف مؤرخنا، مسموعا كان أم مقروءا، سؤالا حتميا: كيف يمكننا الوثوق فيما يقوله أو يكتبه هذا الشخص؟ فلم يكن هناك في الشعر تساؤل حول حجية المبدع. فكان الشاعر يقدم رواية واحدة فقط للأحداث، وعلى الرغم من إقحامه أحاديث في عمله، فقد كان يتحدث في واقع الأمر بصوت واحد، وكان ذلك الصوت في أغلب الأحوال صوت ربة الشعر. فقد استهلت الإلياذة والأوديسة كلتاهما بمناشدة لربة الشعر؛ إذ يقول الشاعر في مطلع الإلياذة: «غن لي يا ربة الشعر عن غضبة أخيل بن بيليوس ...» بينما استهل الشاعر الأوديسة بقوله: «غن لي يا ربة الشعر عن الرجل واسع الحيلة ...» وفيما بعد، ربما يكون ذلك الصوت صوت الشاعر نفسه، حيث تعلن سافو مثلا أنه لا يوجد مشهد يساوي في جماله مشهد الحبيب. ولا يسع أحدا أن يشكك فيهم، ولن يقول مرتاب: «هل يمكنك إثبات ذلك؟ وما أدلتك؟» لكن المؤرخين الذين يمكنهم تقديم الأصوات الجدالية في مصادرهم الكثيرة وهي تجادلهم لصياغة صورة متماسكة عن الماضي، يجب أن يبرروا ادعاءاتهم بأنهم يعرفون ويفهمون. إذن فالتاريخ ينطوي على تحد وفرصة على حد سواء، ويجب على المؤرخ جمع مصادره قبل أن يتسنى له دمجها، ولجمعها ربما يقرأ الكتب (التي لم يكن متاحا منها إلا القليل في زمن هيرودوت) ويمحص السجلات الرسمية (التي لم يكن يوجد منها الكثير أيضا)، وإجراء الحوارات مع الرواة، وتدقيق النظر في الأدلة المادية، وفي حالات كثيرة السفر. وما إن يجمع البيانات، يجب عليه بذل جهد في تشكيلها على نحو يشجع القارئ (أو المستمع) على الانخراط في النص، على أن يكون هذا دون تشكيك في حجية المؤرخ، ودون نبذ ادعاءات المعرفة التي يدعيها الفنان غير المؤيد بإحدى ربات الفنون. ومرة بعد مرة، وإدراكا منه أنه لا يمكن تصديقه تصديقا مطلقا كشاعر، سيكون على هيرودوت أن يقنعنا - بالحجة، أو بالقياس، أو بالاستشهاد بأقوال شهود العيان، أو كلمات الرواة السماعيين - بأنه يعرف ما يتحدث عنه وهو يكتب هذا الجنس الأدبي المتغير الذي نسميه تاريخا.
صفحه نامشخص