هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
ژانرها
مقدمة
1 - عالم هيرودوت
2 - الأصول والمؤرخ
3 - الحرب بين الإغريق والفرس
4 - هيرودوت الإثنوجرافي
5 - المرأة في التاريخ، والمرأة في «تاريخ هيرودوت»
6 - هيرودوت والآلهة
7 - هيرودوت القاص
8 - هيرودوت المؤرخ
قراءات إضافية
صفحه نامشخص
تسلسل زمني
مقدمة
1 - عالم هيرودوت
2 - الأصول والمؤرخ
3 - الحرب بين الإغريق والفرس
4 - هيرودوت الإثنوجرافي
5 - المرأة في التاريخ، والمرأة في «تاريخ هيرودوت»
6 - هيرودوت والآلهة
7 - هيرودوت القاص
8 - هيرودوت المؤرخ
صفحه نامشخص
قراءات إضافية
تسلسل زمني
هيرودوت
هيرودوت
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
جينيفر تي روبرتس
ترجمة
خالد غريب علي
مراجعة
صفحه نامشخص
إيمان عبد الغني نجم
إلى ابني
العالم الإغريقي في عصر هيرودوت.
مقدمة
لم يكن آمبروز بيرس وحده من نبذ التاريخ باعتباره سردا لأحداث افتعلها «حكام معظمهم مدلسون وجنود معظمهم حمقى.» ولتتأمل كلمات مؤرخ روما القديمة العظيم إدوارد جيبون الذي وصف التاريخ بأنه «ليس أكثر من سجل لجرائم البشرية وحماقاتها وبلاياها.» وأما جين أوستن، فأضافت غياب المرأة إلى هذا المزيج، حيث اشتهر عنها تنويهها إلى أن التاريخ كله حروب وكوارث، وصراعات بين الأقوياء، و«رجال لا خير فيهم، وبالكاد يظهر النساء.» فمن ذا الذي اخترع هذا الشيء البغيض؟ ومتى وأين ولماذا؟
ظهر التاريخ - كما نعرفه - إلى الوجود في اليونان في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد؛ أي في زمان ومكان شهدا وفرة غير عادية في الإنتاج الثقافي والفكري. وقبل ذلك، كانت تؤلف سرود للأحداث، لكنها - على نحو ما وصلتنا - كانت تجمع دائما لخدمة أجندة معينة؛ إذ كانت تهدف مثلا إلى تمجيد أي من ملوك آشور، أو بيان هيمنة الإله يهوه على شئون البشر. وكان إنجازا رائعا للمؤرخين الإغريق العظماء الذين عاشوا في القرن الخامس أن حذوا حذو المشتغلين بالعلوم الطبيعية، واضطلعوا ببحوث أطلقوا عليها في لغتهم اسم «هستوريا»؛ بمعنى تاريخ، وكان غرضها الارتقاء بفهمهم للماضي والحاضر، وربما المستقبل، ونقل هذا الفهم إلى جمهور عريض. وعلى الرغم من أن الآلهة كان لها دور بكل تأكيد، فإن الهستوريا كان في أغلبه مشروعا علمانيا يهدف إلى بيان الطبيعة البشرية وسلوكياتها. ولقد كان هيرودوت من غير ريب سيؤيد ادعاء آر جي كولنجوود بأن قيمة التاريخ تكمن في «أنه يعلمنا ما فعله الرجل، ومن ثم ماهية الرجل»، لكن ربما كان حريا به أن يستبدل كلمة «الإنسانية» بكلمة «الرجل» ليضمن اشتمال المرأة.
عني بهذا المشروع غير العادي مؤرخان يختلف أحدهما عن الآخر تمام الاختلاف، وكان الفاصل بينهما على الأرجح قرنا من الزمان. ولقد قيل إن هيرودوت، المولود زهاء سنة 484 قبل الميلاد، أسال مدامع الشاب ثوسيديديس عندما تلا على مسامعه مقتطفات من عمله. وخلع الأديب الروماني شيشرون على الرائد هيرودوت لقب «أبو التاريخ» على الرغم من إقراره باشتمال «تاريخ هيرودوت» على أساطير لا تحصى (وكان محقا فيما يخص تلك الأساطير، ولسوف نعود إليها). لكن التاريخ كما تصوره هيرودوت لم يكن سجل «الخرائط والأشخاص» ذلك الذي اعترف مفكرون مثل بيرس وجيبون وأوستن بازدرائهم إياه. وعلى الرغم من افتتان هيرودوت يقينا بكل من الخرائط والأشخاص، إلا أن عمله اشتمل على ما هو أكثر من ذلك بكثير.
فقد كان هيرودوت أول من اضطلع بمهمة فرز الخرافة عن الحقيقة على مشقتها. والواقع أنه هو أول من رأى فارقا بين الاثنتين؛ فباستخدام الاستقصاء والتمحيص والتراث المسموع والذكاء الفطري، أنتج منسوجة نصية مزخرفة تتمحور حول السؤال الجوهري الذي راوده في شبابه: كيف خاض الإغريق والفرس حروبا ضد بعضهم بعضا، وما سبب انتصار الإغريق على الرغم من تفوق الفرس الملحوظ في العدد والعدة؟ تحدث هيرودوت معربا عن رأيه كمواطن عادي، فلا ملك أعطاه إذنا ولا إله، ولم يستلهم وحي ربات الفنون - على خلاف سلفه في رواية القصص الطويلة جدا (وأعني مؤلف، أو مؤلفي، الإلياذة والأوديسة) - بل اعتمد بالكلية على مصادره البشرية وما أوتي من قدرات بشرية على التحليل. لقد كان بمفرده.
لا ريب أني سأكون مبالغا إذا ادعيت أن هيرودوت ذهب بجرأة إلى حيث لم يذهب أحد قبله؛ إذ ألفت بعض الأعمال التاريخية المصغرة من قبل، وكانت تتناول التقاليد المحلية في العادة، وتظهر الشذرات التي وصلتنا أن الإثنوجرافيا (دراسة الأعراق) شكلت جزءا من العمل النثري الذي ألفه هيكاتايوس الملطي قرابة سنة 500 قبل الميلاد بعنوان «رحلة حول العالم». لكن لم يكن قد سبق وضع أي مصنف على مستوى مؤلف هيرودوت على الإطلاق؛ إذ كان يفوق أيا من قصيدتي هوميروس في الطول بفارق كبير، وكان هائل النطاق فيما يتعلق بالزمان والمكان على السواء، واعتمد مبدأ تنظيمه على زحف الطاغوت الفارسي، حيث نالت كل أمة اتصل بها الفرس قبل هجومهم على اليونان في القرن الخامس معالجة إثنوجرافية، تطول وتقصر حسب مقدار معلومات هيرودوت أو اهتمام الجمهور الإغريقي كما يتصوره هيرودوت.
يأسرنا راوينا المتجول - وهو مفكر ورحالة يتميز بفضول لا ينضب - في سرده بشدة تعطشه إلى المعرفة على نحو يصيبنا بالعدوى؛ فهيرودوت «يريد أن يعرف»، سواء أكانت هذه المعرفة تخص القصة الحقيقية لاختطاف هيلين (يقول هيرودوت إنها لم تكن قط في طروادة، لكنها ظلت في مصر طوال الحرب)، أم الطريقة التي دفن بها السكيث ملوكهم (كانوا يدفنون معهم كثيرا من الخدم والأتباع)، أم كيف استقبل التراوسوي - وهم من التراقيين - ميلاد الأطفال (كانوا يتفجعون للمعاناة التي سيلاقونها)، أم كيف تقاتل الإغريق والفرس (قصة طويلة جدا في حقيقة الأمر). وكان هيرودوت سيوافق الصحفي البولندي ريزارد كابوشنسكي (الذي سافر إلى كل أنحاء العالم مصطحبا نسخة من «تاريخ هيرودوت») تماما في قوله إننا «لن نفهم أي شيء عن العالم دون محاولة استخدام طرق أخرى للنظر والإدراك والوصف.» وهو، فيما نقرأ، ينقل إلينا رغبته العارمة؛ لأنه لا يريد أن يتعرف على شتى التقاليد والقيم في العالم فحسب، بل يريدنا أن نتعرف نحن أيضا عليها. وقد عضد الغياب الواضح للتعصب الإغريقي إثنوجرافية هيرودوت ودفعها قدما، ومع ذلك، وعلى الرغم من كل تسامحه، وعلى الرغم من كل ثنائه على التقاليد الفارسية الفردية (إذ استحسن كثيرا ممارستهم إبعاد الصبي عن أبيه خلال السنوات الخمس الأولى من عمره؛ خشية أن يكون لوفاة الطفل وقع شديد عليه)، فإنه لا يشير في أي موضع إلى أن الأوتوقراطية الشرقية صالحة - كعرف - كصلاحية التشكيلة المتنوعة من أنظمة الحكم عريضة القاعدة التي سادت العالم الإغريقي.
صفحه نامشخص
نوه الصحفي ستيفن شيف ذات مرة قائلا : «في قلب التاريخ الجيد، يوجد سر صغير ماكر، وهو الحكي الجيد.» ومما يجعل هيرودوت يأسر قراءه أنه كان حكاء من الطراز الأول؛ فسرده الطويل، والذي ربما سماه الإغريق لوجوس (بمعنى حكاية)، يتألف من حكايات قصيرة كثيرة موصول إحداها بالأخرى، بعضها طوله بضع مئات من الكلمات، وبعضها بضعة آلاف، وليست كلها دائما في ترتيب تاريخي دقيق، حيث تتدفق وتنحسر وتستدير راجعة كنهر يثير مساره الحيرة والبهجة على الدوام. إن مصنف هيرودوت صعب، وتمثل الحكايات أجناسا مختلفة تماما من أجناس الأدب، حيث تتراوح بين محاولات لسبر أغوار التاريخ السياسي لأثينا وإسبرطة، وبين طرف غريبة ذات جذور واضحة في التراث الشعبي أو الحكايات الخرافية، وبعضها له دلالة عميقة في سياق مشروع هيرودوت، وبعضها الآخر ليس كذلك. وأيضا فإن الوتيرة ليست متسقة؛ فالمصنف الذي قسمه الباحثون لاحقا إلى تسعة «كتب» يتجول عبر قرون التاريخ على مدى عدة كتب - عدة مئات من صفحات عصرنا الحديث - ثم يتخذ محور تركيز أضيق كثيرا فيما ينقلنا هيرودوت إلى سنوات الحرب التي سبقت هزيمة خشايارشا.
فما الذي نفعله بعمل معقد طويل وضعه بغير تأن رجل يعشق حكي الحكايات من مصادر مسموعة تتفاوت في موثوقيتها؟ هل يمكننا الاستيثاق من أن هيرودوت ذهب إلى كل الأماكن التي قال إنه ذهب إليها؟ غالبا ما يسعى النقاد المحدثون المعتدلون إلى النأي بأنفسهم عن هيرودوت، بل وفي بعض الأحيان يمضون بعيدا جدا فيحرمونه لقب مؤرخ. لقد جمع هيرودوت - الذي كان على دراية بالخرائط والأشخاص - بين الأرانب البرية وأكلة لحوم البشر والمومياوات والخنازير والأحلام والدعارة والنمل المنقب عن الذهب والملكات الداهيات والنحل، والنساء اللاتي تعرضن للاغتصاب الجماعي حتى الموت، والناس الذين لا يمكنهم حتى النظر إلى حبة باقلاء، وبين بعض التفاهات.
بل والأسوأ من ذلك أن الدين متغلغل في «تاريخ هيرودوت»؛ فعلى الرغم من أن هيرودوت يصور مسار الحرب باعتباره مدفوعا في المقام الأول بأطراف بشرية لديها دوافعها البشرية وشخصياتها البشرية، فإن مصنفه يعج بالوحي الإلهي والنبوءات والتعبيرات الصريحة عن الاعتقاد. ففي أي موضع نضع عملا «تاريخيا» يشتمل على حس ما بالوجود الإلهي في كل معركة كبرى؟
من حسن الحظ - كما تبين - أنه فيما ينسج هيرودوت حكايته أو حكاياته، فإنه يخلق مجالا لا للآلهة فحسب، بل لنا جميعا: لي ولك، نحن جمهوره. وإقحام نفسه في النص باستمرار يبقي على الدوام أمام أعيننا حقيقة أنه شخص عادي يصارع مادة عنيدة، وإن كنا نحن أيضا مدعوين لمصارعتها بالقدر نفسه. وإذ يقحم هيرودوت حوارات في هذا السجل، ويورد ملاحظة شاهد عيان (أو ينكرها)، ويدعي الحجية (أو ينفيها)، فإنه يبدي بوجه عام نحو خمسمائة ملاحظة تقييمية من نوع أو آخر (على غرار: أعرف، أعتقد، أظن، لا أعرف، لا يسعني القول، أخمن، يبدو على الأرجح أو غير محتمل، بلغني لكني لا أعتقد ...) ويضع ثراء هذا المتن الخلاب وغموضه تحديات أمام القارئ تجتذبه. وفيما نقرؤه، نجد أنفسنا منهمكين في حوار مستمر مع ما نقرأ، وكثيرا ما يطرح هيرودوت روايات مختلفة لعدد من الأحداث التاريخية، مؤيدا أحيانا إحداها على الأخرى، وتاركا أحيانا لنا حرية الاختيار.
إن رجلا حكيما كهيرودوت، اجتاحه الأسى على تفشي الحروب، كان سيفهم نقد بيرس وجيبون، على الرغم من أنه لم يكن يمتلك وسيلة يعرف بها أن خلفه سيتمسكون بتصوره لأفرودة الحرب باعتبارها القالب لكتابة التاريخ، لكن يرفضون تضمينه غير المأسوف عليه للنساء. وإجمالا، كان سيصبح أسعد بمقولة درويسن إن «التاريخ هو معرفة الإنسانية نفسها، أو وعي البشرية بذاتها.» إن هذا الصنف الثري والشامل من أصناف التاريخ هو ما يبدو في العمل الذي يسميه البعض «الحروب الفارسية»، ويسميه آخرون - على نحو أكثر ولاء للإغريق - «تاريخ هيرودوت»؛ ألا وهو «البحوث».
الفصل الأول
عالم هيرودوت
تركت المحصلة المذهلة التي تمخضت عنها الحروب الإغريقية الفارسية انطباعا عميقا لدى من كانوا أحياء في ذلك الزمان. ومن المتصور أن هيرودوت تذكر أبويه وقد بلغهما نبأ انتصار الإغريق على خشايارشا في سلاميس سنة 480. وكانت إحدى كبريات أميرات البحر في جيش خشايارشا، وهي أرتميسيا، ملكة على مدينة هاليكارناسوس - موطن هيرودوت - الواقعة على الساحل الأناضولي، حيث يوجد اليوم ميناء بودروم التركي الحديث، وقد قاتلت ببسالة في تلك المعركة. وربما يرتبط افتتان هيرودوت بالسيدات القويات ارتباطا وثيقا بخبرته إبان طفولته بهذه المرأة الجسورة التي قادت سفنا حربية قيادة فعلية، وربما كان مؤرخنا يبلغ من العمر خمس سنوات عندما حدثت المواجهة الأخيرة التي دارت رحاها في ربيع العام التالي في الأناضول نفسها. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، ظل انتصار الإغريق المذهل الذي حققه «أعظم جيل» موضوع نقاش مثيرا في العالم الهيليني، وكان شباب الجنود ما زالوا في المتناول لإجراء الحوار معهم عندما بلغ هيرودوت رشده، وكانوا على الأرجح يجدون ما يشبع غرورهم في سؤالهم عن تجاربهم في الحرب، وكانوا متلهفين للحديث، فغالبا ما يعيش الرجال والنساء من جيل ما بعد الحرب هذه الحرب بشكل غير مباشر من خلال أحاديث طاولة الطعام وغيرها من الأحاديث التي يرويها الآباء، والعمات والخالات، والأعمام والأخوال، والأجداد، ممن ينتمون إلى هذا العالم الأقدم من عالمهم. وكان هيرودوت نفسه - وبشكل شبه يقيني - صديقا للكاتب المسرحي سوفوكليس، الذي اختير وهو في سن المراهقة لأداء واجب وطني، وهو قيادة أناشيد الكورال احتفالا بانتصار الإغريق البحري في سلاميس. وفي عام 472، أنتج أسخيلوس مسرحيته «الفرس» التي تدور حول ذلك الانتصار، وكان الرجل الذي بذل المال لتدريب كورس المسرحية هو بركليس، الذي سيصبح أبرز رجل دولة أثيني في زمن هيرودوت. وفي عموم بلدان البحر المتوسط، ظلت الحرب حية على مدى أجيال كلحظة حاسمة في التاريخ. وفيما تقاتل التحالفان الأثيني والإسبرطي، في البداية في حرب غير معلنة استمرت من 460 إلى 446، ثم في الحرب البيلوبونيزية الكبرى بين عامي 431 و404، بقيت ذكريات الوحدة الإغريقية كتذكرة مؤلمة بأزمنة أحسن حالا.
شكل 1-1: هيلين كاري في دور أتوسا، وتد فان جرايثايسن في دور دارا، في نسخة حديثة من مسرحية «الفرس» لأسخيلوس، من إعداد إيلين ماكلافلن، وإخراج إيثان ماكسويني، وإنتاج فرقة شكسبير المسرحية سنة 2006.
1
صفحه نامشخص
لا نعرف إلا تفاصيل قليلة عن حياة هيرودوت بعد طفولته في هاليكارناسوس. لقد تعرض على الأرجح للإبعاد في واحدة من موجات الحرب الأهلية التي اتسمت بها المدن الإغريقية، وأمضى جزءا كبيرا من حياته مترحلا في منفاه، وزار أثينا، ومات على الجانب المقابل من العالم الهيليني في مستعمرة ثوريوم الإغريقية في جنوب إيطاليا بعد سنة 430 بحين من الدهر، على الرغم من قول بعضهم إن وفاته كانت على الحافة الشمالية في مدينة بلا المقدونية. وتذكر المصادر اللاحقة أن اسم أبيه ليكسيس، وأمه درايو أو رويو أو ربما شيء مختلف بالكلية، الأهم من ذلك اسم شخص آخر من أقاربه (ربما عمه أو ابن عمه) هو الشاعر بانياسيس، الذي أشاد به بعض القراء (بعد موته فقط للأسف) وقالوا إنه لا يفوقه مكانة إلا هوميروس. كتب بانياسيس عن بدايات المدن الإغريقية في أيونيا - الاسم الذي كان يعرف به ساحل الأناضول الغربي - فجعل بذلك هيرودوت منتميا إلى عائلة أدبية، على الرغم من أنه كان يكتب شعرا، ومن ثم فلم يشكل إلا سابقة جزئية للعمل البارز الذي اضطلع به هيرودوت.
كانت هاليكارناسوس التي عاش فيها هيرودوت تقع عند ملتقى طرق الشرق والغرب، ويقطنها خليط من السكان الإغريق والسكان الأصليين، وتضم مزيجا من هاتين الثقافتين، وكان السكان المحليون كاريين، وقال هوميروس إن بعضهم شاركوا في حرب طروادة حلفاء لطروادة، وتشمل معلوماتنا الضئيلة عن أقارب هيرودوت أسماء إغريقية وأسماء كارية على السواء. وقد عزا بعض القراء، مثل كابوشنسكي، اتساع أفق هيرودوت إلى عرقه المختلط هذا، مدعين أن «أصحاب العرق المختلط» الذين يقضون شبابهم بين ثقافات مختلفة «كمزيج من سلالات مختلفة، تتحدد رؤيتهم الكونية بفعل مفاهيم من قبيل الحدود والمسافة والاختلاف والتنوع.» وقد شكلت طريقة هيرودوت في النظر إلى الأشياء بلا شك، وأثريت بفعل الثقافة المختلطة التي تميزت بها مدينته الأصلية، وكذلك بفضل مخاطر العقلية الإمبريالية التي اكتسبها الأثينيون من بلاد فارس.
علاوة على ذلك، كانت مدن أيونيا الإغريقية مرتعا للفكر الجديد الذي اتسم بالجرأة في أغلب الأحوال. ففي ظل غياب مناهج علمية راسخة، كانت ما نعتبرها الآن فروعا فكرية منفصلة (العلوم الطبيعية، الفلسفة، علم النفس، اللاهوت) مندمجة أكثر بكثير منها اليوم. وكان طاليس قد تكهن بأصل المادة، وانتهى إلى أن كل شيء كان في الأصل على هيئة ماء، لكن من جهة أخرى كان أنكسيمانس يرى أن كل شيء نشأ من الهواء، الذي يمكنه التحول إلى نار أو ريح أو سحاب أو - عند تكثيفه - إلى مادة صلبة، في حين قال أنكسيمندرس بأن المخلوقات الأولى نشأت من الطين، وأن البشر تطوروا من أنواع حيوانية أخرى، وكان أول إغريقي يرسم خريطة للعالم المعروف. وقدر زينوفان - المعمر الذي ولد هيرودوت في حياته - أن البشر خلقوا الآلهة وليس العكس، حيث زعم - مستخفا - أنه لو استطاعت الأنعام والخيل والأسد أن ترسم، لصور كل منها صور آلهة شبيهة بجنسه. وقال هيراقليطس - الرجل الذي نربط بينه وبين ادعاء أن المرء لا يمكنه الخوض في النهر نفسه مرتين أبدا - بأن كل شيء في حالة تدفق. وكان هيرودوت وريثا لهذا التراث الأيوني بما اشتمل عليه من فضول وشكوكية.
وفي الوقت نفسه، شاع التكهن بالصلات بين الجغرافيا والمجتمع. كان عمل هيرودوت منتشرا، كلاما وكتابة، قبل أن يبلغ الطبيب أبقراط ذروة نجاحه كطبيب، لكن أبا أبقراط وجده كانا طبيبين، وكان البحث عن تفسيرات علمية للمرض تنبذ الأسباب الإلهية يجري على قدم وساق منذ زمن ليس بقصير، وكانت جزيرة كوس التي عمل فيها أبقراط تقع على الجانب الآخر من المضيق قبالة هاليكارناسوس. وقد ربطت ملاحظات شهود العيان والحوارات وتقييم الأدلة واستخدام القياس وتحليل البيانات التراكمي عمل هيرودوت بعالم الأطباء، فتعلم هو منهم بلا شك وتعلموا منه. كل هذا يقدم لنا تفسيرا عميقا لثراء عقل هيرودوت وعكوفه على البحث وجرأته في فضوله بشأن المناخ والطبوغرافيا، وانفتاحه على الأفكار الجديدة وتسامحه مع التنوع الثقافي، لكن وجود دافعية غير عادية هو وحده الذي يمكنه تفسير قراره الاضطلاع بعمل غير مسبوق بهذا الحجم. كان «تاريخ هيرودوت»، بتغطيته نطاقا واسعا من حيث الزمان والمكان، أطول من أن يلقى بكامله على المسامع في مهرجان ما، بل إن فريقا من القراء يعمل أعضاؤه بالتناوب كانوا سيحتاجون إلى خمسين ساعة على الأقل لتلاوته.
يصعب علينا اليوم أن نستوعب بدعة تأليف كتاب كامل على هيئة نثر؛ فنحن نتعلم التحدث والكتابة نثرا قبل أن نقرض الشعر، وبعضنا لا يصادف كلاما موزونا إلا عند الغناء أو الاستماع إلى الأغاني أو سماع أناشيد رياض الأطفال، وأما النثر فهو ببساطة موجود في كل مكان، مما يجعله غير ملحوظ، فهو لغة الصحف وأفلام الإثارة وكتيبات التعليمات والبريد الإلكتروني. كانت هذه التراتبية، من نواح عديدة، مقلوبة في اليونان القديمة، حيث كان الأدب يؤلف في البداية شعرا ولا يؤلف نثرا إلا فيما بعد. وفي الحقيقة، لم يكن لدى الإغريق على أيام هيرودوت كلمة للإشارة إلى النثر، ولم يدخل تعبير «الكلام المجرد» (ويقصد به الكلام غير الموزون) أو «اللغة التي تسير على القدمين» (ويقصد بها اللغة التي لا تستعين بمركبة الشعر المجنحة) نطاق الاستخدام كتصنيف للنثر إلا بعد قرن أو نحو ذلك من الزمان. وكتب النصان التأسيسيان للحضارة الإغريقية - وأعني الإلياذة والأوديسة - على هيئة شعر، والتجأ إليهما الإغريق جيلا بعد جيل طلبا لنماذج بطولية ملهمة، وأساليب تعبير راقية، ورؤية كونية كاملة، ورغبة في الاطلاع على حكاية سردية طويلة ثرية، بها كثير من المنعطفات؛ فكانتا زادا معتادا للإلقاء والتلاوة كمادة ترفيهية بعد العشاء في عصر خلا من المصابيح الكهربائية والتليفزيون والإنترنت.
كان الشعر أيضا هو الوسيلة التي شكا بها الشعراء الغنائيون - كالشاعرة سافو ابنة جزيرة ليسبوس - تباريح العشق، وبه كتب المشرع الأثيني سولون عن العدالة والسياسة، وبه كتب المغرب ثيوجنيس بمرارة عن الحرب الأهلية في دولته ميجارا. وكان الشعراء في أغلب الأحوال ضالعين ضلوعا محوريا في حياة مدنهم، حيث كانوا يعتبرون معلمين وفنانين في آن واحد، وكانوا يحظون بالاحترام بناء على ذلك. قارن ذلك بزمننا هذا الذي يصعب فيه على كثير من الناس ذكر اسم شاعر واحد على قيد الحياة، بل وفي بعض الحالات اسم شاعر راحل. وينبغي ألا نندهش عندما نعلم أن هناك العديد من السرود التاريخية ضيقة النطاق التي كتبت على هيئة شعر؛ فقد ألف الشاعر سيمونيدس الأمورجوسي «التاريخ المبكر للساموسيين» زهاء سنة 650، وتناول على الأرجح تأسيس ساموس، وربما كان طوله نحو 4000 بيت (قرابة ربع طول الإلياذة وثلث الأوديسة). وبعد ذلك بحين من الدهر، ألف زينوفان «تأسيس قولوفون واستعمار إيليا» الذي يبلغ زهاء 2000 بيت طولا. وبعد الحروب الفارسية بفترة وجيزة، نظم سيمونيدس الكيوسي قصائد طويلة بعض الشيء حول هذا الموضوع، ومجد بطولة من سقطوا في بلاتايا بأسلوب هوميري. الأمر الأشد وضوحا أن قريب هيرودوت، بانياسيس الهاليكارناسوسي، كتب فيما يبدو عن تأسيس المستعمرات الإغريقية في أيونيا في قصيدته «أيونيكا» المؤلفة من نحو 7000 بيت. فكان الشعر هو لب التعليم الإغريقي، وكان تعليم الصبيان (وأحيانا الفتيات) الإغريق جديرا بالملاحظة، من حيث ما يشمله وما يتركه على حد سواء؛ إذ كان التلاميذ يدرسون شيئا من الرياضيات، ولكن لا يتعلمون دراسات اجتماعية ولا علوما، وكانت الموسيكيه
mousike - بمعنى الشعر المنظوم على موسيقى القيثارة - جوهر التعليم الإغريقي، واشتق هذا الاسم من الربات اللاتي كن مصدر إلهامها، وأعني ربات الفنون، واشتقت منه بدورها كلمة
music
الإنجليزية؛ أي الموسيقى، ومن كلمة القيثارة اليونانية
lyre ، اشتقت كلمة
صفحه نامشخص
lyrics
الإنجليزية؛ بمعنى القصائد الغنائية. وعلى الرغم من أن هيرودوت أورد عددا غير محدود من الشعراء في «تاريخ هيرودوت»، فإن عمل هوميروس الجليل هو الذي أضفى في المقام الأول نكهته الخاصة، وأتاح التناغم والطباق مع سرده (وأعني بقولي «هوميروس» العقلية الهادية التي استنارت بها القصيدتان اللتان نعرفهما اليوم بالإلياذة والأوديسة، ولا يسعنا في هذا المقام التكهن بما إذا كان المؤلف شخصا واحدا، أم شخصين مختلفين، أم هيئة مكونة من عشرات الأشخاص)؛ ذلك أن هوميروس وفر القالب لقصة الحرب وحكاية الأسفار التي تعج بالعجائب على السواء.
لا ريب أن كتابة النثر لم تكن شيئا مجهولا في زمان هيرودوت؛ حيث استخدم أنكسيمندرس وأنكسيمانس على السواء النثر للتعبير عن أفكارهما، وأودع هيراقليطس عملا فلسفيا منثورا في معبد أرتميس المهيب في إفسوس، وهو أحد عجائب الدنيا السبع القديمة (أقصد المعبد لا الكتاب). وقرب نهاية القرن السادس الميلادي، بدأ الإغريق يدونون أساطير الماضي العظمى نثرا، ليصبحوا ما نسميه «جامعي الأساطير»، وكان الخيط الناظم لهذه الأساطير سجلات سلاسل النسب المفصلة التي تتناول الآلهة والأبطال، وبحلول بداية القرن الخامس، كان هناك عدد متداول من هذه السجلات، وأبرزها الذي وضعه هيكاتايوس، الذي توفي على الأرجح سنة ميلاد هيرودوت، حيث تتبع في كتابه «علم الأنساب» أنساب العائلات الإغريقية البارزة وصولا إلى أسلافها الإلهيين، واستخدم تحليلا عقلانيا لتخفيف لهجة الأساطير الشاذة التي صادفها (لكن دون نبذها نبذا مباشرا). كذلك استخدم هيكاتايوس أيضا النثر لتأليف كتابه المعنون «رحلة حول العالم»، واتسم صراحة بالتشكك الذي كان يكتسح أيونيا، والذي اشترك معه فيه يقينا هيرودوت. وتقول إحدى الشذرات التي وصلتنا: «هيكاتايوس الملطي يقول ما يلي: أنا أكتب ما أعتبره صحيحا؛ لأن قصص الإغريق كثيرة وتبدو لي مضحكة.» ويذكر هيرودوت هيكاتايوس في أكثر من مناسبة ويبدو أنه اعتمد عليه من حين إلى آخر.
نال النثر في زمان هيرودوت المكانة التي يستحقها، وبالأخص في ديمقراطية أثينا الآخذة في الازدهار، التي شهدت بالفعل وضع القوانين الأولى نثرا في أواخر القرن السابع، وسرعان ما أصبحت المهارة في الخطابة الجماهيرية (أمام الحشود وفي المحاكم) تضاهي كرم المحتد والثروة والبسالة في ساحات الوغى. وكان الفلاسفة/الخطباء المتجولون المعروفون باسم السوفسطائيين في المتناول، وكلهم حماس لتدريب الشباب على هذا الفن الذي ينال تقديرا متزايدا، وأعني فن الإقناع. ونظرا لنزوعهم إلى النظر إلى المسائل القديمة من زوايا جديدة (وطرح أسئلة حول أشياء لم يسأل عنها أحد قبلهم قط، على الأقل علانية)، اتهمهم اللائمون بكسب عيشهم بتعليم مراهقين مزهوين بأنفسهم عدم احترام الآلهة والوالدين، لكن الحقيقة أن ما فعلوه كان من نواح كثيرة لا يختلف عما يفعله المعلمون (الصالحون منهم) اليوم؛ وهو تعليم الشباب التشكيك في السلطة وطرح حجج قوية. ولم يقتصر هؤلاء على أثينا في الترويج لبضاعتهم. وعلى الرغم من أن المدن الإغريقية لم تكن كلها ديمقراطيات، فإن روح الحوار المفتوح والتفنيد التي وسمت القرن الخامس تواءمت جيدا مع الفورة العارمة في التدبر الفكري التي ميزت القرن السادس لتضع الأساس لنوعية الاستقصاء التحليلي الذي نراه في عمل هيرودوت.
في نهاية المطاف، كان «تاريخ هيرودوت» كتابا ديمقراطيا بعمق، بوجهات نظره الموضوعية المتعددة ودعوته المفتوحة للقراء، كي يتخذوا قراراتهم بأنفسهم ويقفوا دائما موقف المقوم. وليس ذلك فحسب، فمجرد وجود أشكال ديمقراطية (أو على الأقل غير ملكية) من الحكم، كان قد خلق عالما يستطيع فيه الإنسان العادي صنع التاريخ؛ أي يستطيع فيه الأشخاص أنفسهم الذين يقرءون عمل هيرودوت أو يسمعونه صنع هذا التاريخ. كان النظم لغة الآلهة، وأما النثر فكان لغة الناس، كان وسيطا لغويا يستطيعون به تحدي الناس الآخرين أو حتى الآلهة ذاتها. ومن الجائز تماما أن تكون وجهات النظر الموضوعية المتعددة هذه هي التي تفسر ازدياد شعبية هيرودوت في الأزمنة الأخيرة، فبعد أن كان يعتبر ذات يوم تافها عند مقارنته بثوسيديديس، بنهجه التربوي وجديته البالغة، صار «تاريخ هيرودوت» الآن يحظى بالتقدير لانفتاحه على وجهات النظر المتعارضة، ونسبيته الثقافية، واهتمامه بالتاريخ الاجتماعي، واعترافه بوجود نوعين جنسيين. (ويقينا، لن يكون رد فعل الجميع متطرفا كرد فعل أستاذة علم المصريات سليمة إكرام التي استغربت فكرة تقديم ثوسيديديس على هيرودوت، وصاحت قائلة: «حسنا، إذن فثوسيديديس مؤرخ أفضل، لكنه ممل جدا ومضجر بشدة؛ أيا إلهي، سأطلق النار على نفسي!»)
وفي حين أن وجود النظم هو الذي يسر إبداع الملحمتين الهوميريتين، وهما عملان يمكن استظهارهما وغناؤهما أمام جمهور متيم، فإن النثر المصحوب بقدر من العبقرية هو الذي أتاح إبداع التاريخ؛ وأعني فتح المجال أمام مركب كامل من العلاقات بين السائل والراوية، والمؤلف في صورته النهائية، والجمهور. وبالنسبة لمقارعة الحجة بالحجة التي نراها لدى السوفسطائيين، فقد أتاحت نقاشات مجلس أثينا والمحاكم تربة خصبة لتحليل قدر عظيم جدا من النظريات والحقائق في سياق أشمل الهموم البشرية. وحتى بعد أن استمعنا بأناة لكل التنبيهات بخصوص سقطات هيرودوت في الحكم على الأشياء، وأرقامه المبالغ فيها، واعتماده على رواة لا يعول عليهم، وحتى بعد أن أمطرنا مرارا وتكرارا بادعاءات بشأن طبيعة عمل ثوسيديديس الأكثر «علمية» من عمل هيرودوت، وحتى بعد أن استمعنا إلى مزاعم بأن هيرودوت لم يسافر فعلا على نطاق واسع كما ادعى، ولم ير كل الأشياء التي ادعى أنه رآها رأي العين، فالحقيقة الماثلة أمامنا هي أن هيرودوت - كما هو واضح وضوحا لا لبس فيه - اخترع كتابة التاريخ. فذات يوم لم تكن هذه الكتابة موجودة، ثم خرجت فجأة إلى الوجود.
حسنا، ربما لم يحدث هذا فجأة تماما؛ حيث استغرق تأليف «تاريخ هيرودوت» عقودا، بل جرى ذلك في غضون جيل تقريبا. وكان الكتاب الأوائل قد حللوا طريقة عمل الكون، ودونوا أسفارهم، واستكشفوا معنى الأساطير، ووضعوا سرودا للأحداث المحلية الجارية في مكان ما في العالم، لكنهم لم يضفوا من قبل محور تركيز على عملهم، ولم يصبغوه بالدافعية المليئة بالحماس، واحتوت كتاباتهم التي وصلنا قليل منها، بلا شك، كثيرا من القصص، لكنها ليست قصصا شكلت في مجموعها قصة كبيرة تفوق مجمل أجزائها حجما؛ فكونت صورة بلغت أوجا يؤثر على حياة كل مستمع وقارئ خطر ببال هيرودوت، وأثر في الحقيقة على حياتنا حتى قرننا هذا؛ لأنه من دون الهزيمة المعجزة التي مني بها الفرس على أيدي عصبة صغيرة من الدويلات الإغريقية خاضت الحرب لتجنب الاستعباد، ما كنا لنحصل على معبد البارثينون، ولا عقدة أوديب، ولا سقراط ولا أفلاطون ولا أرسطو. ومن دون انتصار الإغريق، من الصعب أن نتصور تاريخ الفلسفة الغربية، أو تاريخ الفكر السياسي الغربي المتأصل في مفارقة أن الأثينيين هم من ابتكروا الديمقراطية، وفي الوقت ذاته خرج من بين ظهرانيهم الرجال أنفسهم الذين رسخوا التقليد المناهض للديمقراطية في الفكر السياسي.
لا يمكن أن يكون هيرودوت قد تنبأ بمسار الفلسفة الغربية والنظرية السياسية كاملا، لكنه كان يعرف الفرق بين الشمولية والحرية، ورأى في هزيمة الأولى على يد الثانية موضوعا جليلا. وكان نصرا جليلا لكن ليس خالصا فيما يخص الإغريق؛ ذلك لأن الحروب الفارسية مثلما «صنعت» هيرودوت، «صنعت» أيضا أثينا، فحولتها إلى مركز ثقافي متألق سيصفه بركليس، أهم رجل دولة فيها، على صفحات عمل ثوسيديديس، بأنه «مدرسة اليونان»، لكنها حولتها أيضا إلى دولة إمبريالية متزايدة الجشع والتعطش إلى القوة، فاستفزت الإمبراطورية الفارسية على أسوأ نحو. ومثلما انتهت الإلياذة بعدم موت أخيل وإن كان مكتوبا عليه الموت يقينا، فإن غمامة الإمبريالية الأثينية تخيم على سرد هيرودوت المصوغ بعناية وتضفي عليه قدرا كبيرا من الإثارة، وذلك على نحو ما كان يرمي المؤلف بكل تأكيد.
لم يعش هيرودوت على الحدود بين دويلات المدن الناطقة باليونانية الواقعة شرقي المتوسط والإمبراطورية الفارسية في الأناضول وفي فجر النثر فحسب، بل عاش في منطقة فاصلة أخرى أيضا؛ عاش في زمن أخذت فيه العقلية القارئة في التنافس مع العقلية السماعية فيما بين طبقات المتعلمين. هذا لا يعني أن الإغريق الذين ارتادوا المدارس قبل القرن الخامس لم يستطيعوا القراءة، لكنهم ربما لم يستخدموا القراءة بدرجة كبيرة في حياتهم، وظل السماع بالنسبة لكثيرين خلال جل القرن الخامس الطريقة الاعتيادية لاستيعاب اللغة، سواء على خشبة المسرح، حيث كانت التراجيديات بلا استثناء منظومة شعرا، أم الخطب الملقاة أمام المجلس التشريعي، والتي كانت تلقى نثرا. لقد قيل بشيء من الإنصاف إن هيرودوت جاء في نهاية تقليد مديد قوامه السماع، وجاء معاصره الأصغر منه سنا ثوسيديديس في بداية تقليد قوامه القراءة؛ ذلك هو ثوسيديديس الذي انتقد عمل هيرودوت قائلا إن عمله (أي ثوسيديديس) لم يؤلف من أجل التصفيق بعد تلاوته استعراضيا، بل ألف كعمل يقتنى لكل الأزمنة. ويمكننا القول إن هيرودوت دون الكلام المنطوق فيما دون ثوسيديديس الفكر، وإن هذا الاختلاف لهو الذي يفسر التباين بين سرد هيرودوت المخفف الماتع والموضوع بالأسلوب الذي سماه أرسطو «الأسلوب المسترسل» - حيث تنساب الجملة إلى الأخرى انسيابا طبيعيا - ونثر ثوسيديديس المحكم الذي كان بناؤه المحكم - وأحيانا غير المباشر - مثار يأس كثير من دارسي اليونانية على مر العصور.
يثير مصنف مؤرخنا، مسموعا كان أم مقروءا، سؤالا حتميا: كيف يمكننا الوثوق فيما يقوله أو يكتبه هذا الشخص؟ فلم يكن هناك في الشعر تساؤل حول حجية المبدع. فكان الشاعر يقدم رواية واحدة فقط للأحداث، وعلى الرغم من إقحامه أحاديث في عمله، فقد كان يتحدث في واقع الأمر بصوت واحد، وكان ذلك الصوت في أغلب الأحوال صوت ربة الشعر. فقد استهلت الإلياذة والأوديسة كلتاهما بمناشدة لربة الشعر؛ إذ يقول الشاعر في مطلع الإلياذة: «غن لي يا ربة الشعر عن غضبة أخيل بن بيليوس ...» بينما استهل الشاعر الأوديسة بقوله: «غن لي يا ربة الشعر عن الرجل واسع الحيلة ...» وفيما بعد، ربما يكون ذلك الصوت صوت الشاعر نفسه، حيث تعلن سافو مثلا أنه لا يوجد مشهد يساوي في جماله مشهد الحبيب. ولا يسع أحدا أن يشكك فيهم، ولن يقول مرتاب: «هل يمكنك إثبات ذلك؟ وما أدلتك؟» لكن المؤرخين الذين يمكنهم تقديم الأصوات الجدالية في مصادرهم الكثيرة وهي تجادلهم لصياغة صورة متماسكة عن الماضي، يجب أن يبرروا ادعاءاتهم بأنهم يعرفون ويفهمون. إذن فالتاريخ ينطوي على تحد وفرصة على حد سواء، ويجب على المؤرخ جمع مصادره قبل أن يتسنى له دمجها، ولجمعها ربما يقرأ الكتب (التي لم يكن متاحا منها إلا القليل في زمن هيرودوت) ويمحص السجلات الرسمية (التي لم يكن يوجد منها الكثير أيضا)، وإجراء الحوارات مع الرواة، وتدقيق النظر في الأدلة المادية، وفي حالات كثيرة السفر. وما إن يجمع البيانات، يجب عليه بذل جهد في تشكيلها على نحو يشجع القارئ (أو المستمع) على الانخراط في النص، على أن يكون هذا دون تشكيك في حجية المؤرخ، ودون نبذ ادعاءات المعرفة التي يدعيها الفنان غير المؤيد بإحدى ربات الفنون. ومرة بعد مرة، وإدراكا منه أنه لا يمكن تصديقه تصديقا مطلقا كشاعر، سيكون على هيرودوت أن يقنعنا - بالحجة، أو بالقياس، أو بالاستشهاد بأقوال شهود العيان، أو كلمات الرواة السماعيين - بأنه يعرف ما يتحدث عنه وهو يكتب هذا الجنس الأدبي المتغير الذي نسميه تاريخا.
صفحه نامشخص
وإننا لنود كل الود أن نعرف كيف كتب هيرودوت هذا العمل المتشعب؛ فهل دون ملاحظات أثناء سفره؟ هل أملى على عبد كان يرافقه في أسفاره؟ فقد كانت الكتابة باللغة اليونانية مسألة صعبة، بل وأصعب منها المراجعة، وكانت الكتب في واقع الأمر لفائف طويلة من البردي، وهو مادة غالية وغير عملية كانت تثني عن تأليف (أو شراء) أعمال طويلة ، وربما وضع «تاريخ هيرودوت» في ثلاثين لفافة من هذه اللفائف. أما المراجعة، فكانت تمثل عقبات لوجستية كبيرة، لكن هيرودوت في حالات كثيرة كان يعلق فيما يبدو على ردود الأفعال تجاه عمله، منوها مثلا إلى أن بعض الإغريق لم يقتنعوا بادعائه عقد دارا، قبل اعتلائه العرش، مناقشة بينه وبين اثنين آخرين من الفرس عن الفضائل النسبية للملكية والأوليجارشية والديمقراطية، لكنه يؤكد أن هذا الحديث دار حقيقة. وتوحي مثل هذه التعليقات الجانبية بأنه قرأ تجريبيا فقرات مختارة في مناسبات مختلفة، وكان على وعي باستقبال الناس المقولات المثيرة للجدل. ولم تكن فكرة وجود تاريخ معين «للنشر» مفهوما ذا معنى في عالم قلما كان المرء فيه يطيق شراء كتاب. وقد نشر بالفعل هذا العمل في نهاية المطاف، وكان ذلك على الأرجح قبل وفاة هيرودوت بزمن ليس بالطويل، لكن أجزاء منه على الأقل شهدت يقينا حياة حافلة بالإلقاء الشفهي قبل ذلك ببعض الوقت.
شكل 1-2: ينمو البردي في دلتا أوكافانغو في بوتسوانا كما ينمو في دلتا النيل.
2
إن العقبات الهائلة التي واجهها هيرودوت تجعل مشروعه أشد دهشة، فلم يكن ممن تفتر هممهم بسهولة، حيث توجز جملته الأولى برنامج عمل هائلا:
هذه بحوث هيرودوت الهاليكارناسوسي، كتبها لئلا تنسى مآثر البشر على مر الوقت، ولئلا تنسى المنجزات الرائعة والمذهلة التي اجترح بعضها الإغريق واجترح بعضها الآخر الأعاجم، وأخيرا لبيان أسباب النزاع بينهما.
بعبارة أخرى نقول إن دافع هيرودوت كان مزدوجا؛ تخليد ذكرى المآثر العظيمة، وبيان أسباب الحروب الفارسية. ونظرا لرغبة هيرودوت ألا يخمد ذكر الأشياء العظيمة، يردد ما كتبه هوميروس عن الأرستقراطيين في طروادة الذين حاربوا من أجل تخليد ذكراهم، وعندما يقود أوديسيوس هيئة من المبعوثين إلى خيمة أخيل في الإلياذة، يجد أخيل ممسكا بقيثارة ويترنم بأمجاد الرجال. لكن رؤية هيرودوت كانت أوسع؛ ذلك أنه سعى إلى تخليد ذكر الأبنية الفخمة والقبور الجليلة والعجائب الطبيعية بالإضافة إلى الأفعال، وكثير مما سعى إلى تخليد ذكره لم يكن من عمل الرجال، بل في الحقيقة من عمل النساء. وعلى الرغم من أن من خلفوه مباشرة لم يبدوا اهتماما بالنساء، فإن جهوده من زوايا أخرى كللت بالنجاح؛ ذلك أنه على الرغم من إشاراته العديدة التي تدل على أنه يفترض أن جمهوره إغريق (مثل «لن أصف البعير؛ لأن الإغريق يعرفون بالفعل هيئة البعير»)، فإن سعة اهتماماته وتعاطفه، وحساسيته تجاه كروب الحالة الإنسانية، أعطت عمله سعة نطاق، وزادت جاذبيته لدى القراء في عوالم ما كان ليحلم بها أبدا حتى هو نفسه، بانفتاحه على ما هو أجنبي. وليست وحدها أسطورة ثيرموبيلاي الخالدة - التي توظف في سياقات تتراوح بين تحرير اليونان من الهيمنة التركية إلى مقبرة فرنسية في فيتنام - التي ندين بها ل «تاريخ هيرودوت»؛ حيث سحرت حكايات مثل الأمازونيات، ومغامرات قمبيز في مصر ألباب الأثريين والمستكشفين، والروائيين والأنثروبولوجيين، على مر العصور.
لفت كتاب هيرودوت، الذي ترجم مرارا وتكرارا منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، انتباه الجغرافي الإنجليزي جيمس رينيل، الذي وضع - بالإضافة إلى عمله «نظام هيرودوت الجغرافي» (1800) - أول خريطة صحيحة على وجه التقريب للهند، بالإضافة إلى دراسات في جغرافية شمال أفريقيا، كذلك صاحب الكتاب المستكشف لاسلو أولماشي في الصحراء من العشرينيات حتى وفاته سنة 1951 (وشخصية أولماشي القصصية هي الشخصية المحورية في رواية «المريض الإنجليزي» للكاتب مايكل أونداتجي)، وأرشد هيرودوت المراسل الخارجي البولندي ريزارد كابوشنسكي الذي قاده عمله إلى السفر عبر الهند والسودان والكونغو وكمبوديا وأفغانستان ورانجون والصين، وألهم الصحفي البريطاني جستن ماروتسي كي يحزم حقيبة ويقتفي مسار هيرودوت، مستغلا هذه المناسبة ليقدم لنا تأملا حول عدم جدوى الحرب (ولينقل - مثلما فعل هيرودوت - ما سمعه من محاوريه، كتهديد سليمة إكرام الطريف بإطلاق النار على نفسها، في سياق إشارتها إلى ما تراه من ملل في مؤلف ثوسيديديس). وفي أكثر من موضع في هذا الكتاب، تعلق وجهات نظر هؤلاء «السائرين على خطى» هيرودوت على ما كان هيرودوت يفعله وما لم يكن يفعله في كتابه «تاريخ هيرودوت»، والحقيقة أنهم منخرطون في حوار لا مع هيرودوت فحسب، بل مع بعضهم بعضا. فكابوشنسكي يعتمد بشدة على أونداتجي، وفي كتاب ماروتسي نجد أن صديقته أنتيجوني تعنف كابوشنسكي لتصديه لهذا المؤرخ. فهي تقول إن رسالة هيرودوت هي:
معرفة حدود الحالة الإنسانية. فلا علاقة لها ب «لا تستغل الآخرين، وكن لطيفا معهم»، فهذا هراء ذو طابع إنساني مسيحي من كابوشنسكي؛ وسخيف جدا. يقول هيرودوت: كلا، لا تظن أنك ستكون سعيدا إلى الأبد، ولا تضع نفسك فوق الآلهة.
لكن هؤلاء السائرين على الخطى لن يجيبوا عن جميع الأسئلة التي أثيرت حول عمل هيرودوت، ومنها على سبيل المثال: ما مدى دقة تقارير هيرودوت المدهشة عن الكون المترامي الأطراف الذي تناوله في كتابه؟ وهذا سؤال سنعود إليه لاحقا.
هوامش
صفحه نامشخص
الفصل الثاني
الأصول والمؤرخ
ثمة حكاية شهيرة تتحدث عن محاضر بارز وامرأة صعبة المراس كانت بين جمهوره، حيث تحدته هذه العجوز - بعد أن نبذت تفسيره للنظام القائل بمركزية الشمس معتبرة إياه هراء - مؤكدة أن الأرض ما هي إلا لوحة مستوية مرتكزة على ظهر سلحفاة. وحتما، وعلى نحو لا يخلو من الاعتداد بالنفس، سأل المحاضر متحديته علام تقف هذه السلحفاة في اعتقادها، فأجابت محاورته بأسلوب مشاكس: «إنك لذكي أيها الشاب، ذكي جدا، لكنها سلاحف فوق سلاحف وصولا إلى البداية». يقول بعضهم إن المحاضر هو برتراند راسل، ويقول آخرون إنه ويليام جيمس، ويقول فريق ثالث إن شيئا من هذا القبيل لم يحدث البتة. ويقال إن مفكرا هندوسيا أعطى صورة بديلة يستند فيها العالم على فيل، ويستند هذا الفيل على سلحفاة، وعندما سئل عما تستند إليه هذه السلحفاة، اقترح ... تغيير الموضوع. كان هذا الموضوع ليفتن هيرودوت وهو المولع بجمع مختلف الروايات التي تصور أمرا ما.
لا تشهد شهرة هذه الحكايات (الملفقة؟) وتنوعها على صعوبة الوصول إلى الأصول فحسب، بل أيضا على الدافع الإنساني الملح للتوصل إلى بدايات الأشياء، وهو ملح بالنسبة لكل الأشخاص المتأملين، لكنه مثار اهتمام خاص بالنسبة للمؤرخين؛ ذلك أنه من دون فهم الأصول، لا يمكن أن يكون هناك فهم للسببية، ومن دون السببية ... حسنا، من دون الدافع إلى فهم السببية، سيظل هيرودوت جغرافيا مثل هيكاتايوس، الذي كتب عن العادات التي صادفها في أسفاره الواسعة، أو شاعرا مثل سيمونيدس، الذي مجد أبطال الحرب الفارسية بأسلوب هوميري، أو بندار الذي تضمنت قصائده الغنائية الاحتفالية حكايات أسطورية، أو قاصا مثل عيسوب، الذي سحر الألباب بحكاياته الهادفة المتضمنة الحيوانات. ودون سببية، يصبح مفهوم التاريخ عديم المعنى. لكن على الرغم من كل اهتمامه بالسببية، أدرك هيرودوت أيضا مدى سهولة أن يضل المرء طريقه وينتهي به الحال مع نموذج بسيط إلى حد السخف. والحقيقة أنه يبدأ برواية أساطير مسلية عن الأصول البعيدة للحرب الكونية بين الشرق والغرب، لينحيها جانبا في النهاية وينتقل بشكل هادف إلى مجال التاريخ الأكثر جدارة بالثقة بكثير.
وهو يقول إن الفرس المثقفين ينحون باللائمة في العداوة بين الإغريق والفرس على التجار الفينيقيين، الذين أقدموا - أثناء بيعهم بضائعهم في آرجوس في البر الرئيس اليوناني - على اختطاف أيو ابنة الملك، مما دفع بعض الإغريق إلى اختطاف يوروبا من مدينة صور في فينيقيا، وميديا من كولخيس المطلة على البحر الأسود (وهناك رواية أخرى تقول إن أيو فرت بملء إرادتها بعد أن حبلت من قبطان السفينة الفينيقية). واختطف الأمير الطروادي باريس بدوره هيلين من إسبرطة، وبالتالي تسبب في غزو الإغريق طروادة. ويقول هيرودوت إن الاستيلاء على طروادة هو - من وجهة نظر الفرس - الذي أثار عداوتهم للإغريق؛ لأن «الفرس يعتبرون آسيا والشعوب البرابرة التي تسكنها منطقة نفوذ لهم، على اعتبار أن أوروبا واليونان منفصلتان.» ويواصل هيرودوت قائلا: حسنا، بعد أن تسلينا بهذه الحكايات الشهوانية، لا سبيل لدي إلى معرفة ما إذا كان أي من هذا صحيحا:
بدلا من ذلك، أفضل أن أتمسك بما أعرفه، وأن أبين بالضبط من سبق إلى إيذاء الإغريق، ثم سأمضي في قصتي، مقدما أوصافا مفصلة لمدن صغيرة ومدن كبيرة على السواء. ولا ننس أن كثيرا من المدن التي كانت عظيمة فيما مضى صارت صغيرة، وكثيرا مما كانت عظيمة في زماني كانت صغيرة في أزمنة سابقة؛ ومن ثم فسأناقش كليهما على السواء، مدركا أن الازدهار البشري لا يدوم طويلا في المكان ذاته أبدا. (تعليقا على هذا السطر، ينوه أولماشي - شخصية الروائي أونداتجي الخيالية - إلى أنه وزملاءه الجغرافيين، كانوا - وهم يجتازون الصحراء حاملين نسخة من «تاريخ هيرودوت» - يعرفون أن «السلطان العظيم والمال الوفير إلى زوال. لقد عشنا جميعا مع هيرودوت».) فتبرز من هذا النص القصير حدود المعرفة الإنسانية، والانشغال بالأوائل، وتمييز نفسه كمؤلف كتاب، وتقلب المصائر؛ وكل هذه العناصر أساسية في «تاريخ هيرودوت».
إذن فمن ذا الذي ألحق الأذى أول مرة بالإغريق؟ وماذا كانت الدرجة الأولى في سلم السببية الذي أدى إلى الحروب الفارسية؟ يقول هيرودوت إن كرويسوس، حاكم ليديا، كان أول أجنبي على ما بلغنا اتصل بالإغريق، حيث كان يجبي الجزية من بعضهم ويعقد تحالفات مع آخرين. وسرعان ما ستتبين أهمية هذا الأمر؛ لأنه عندما يغلب قوروش وأتباعه الميديون كرويسوس والليديين، ستجد المدن الإغريقية الدافعة للجزية نفسها ترزح تحت نير سيد أشد قسوة.
تتكرر عبارة «الأول على ما بلغنا» تكرارا ملحوظا في «تاريخ هيرودوت»، مما يشير إلى انبهار هيرودوت بالأوائل، وكذلك إدراكه لمحدودية نطاق المعرفة البشرية. فيروي هيرودوت أن بوليقراط الساموسي:
كان أول إغريقي على ما بلغنا خطط مناطق السيادة البحرية، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار مينوس الكنوسوسي أو أي شخص آخر ربما حكم البحر في أي تاريخ سابق. أما في التاريخ البشري العادي، فقد كان بوليقراط هو الأول.
كان جيجس على ما بلغنا أول أجنبي، بعد ميداس ملك فريجيا، يقدم قرابين في دلفي. وكان الليديون على ما بلغنا أول من ضرب العملة الذهبية والفضية واستخدمها. وكان أريون على ما بلغنا أول من ألف الشعر المعروف باسم الأناشيد الحماسية وأطلق عليه هذا الاسم. ويمتلئ القسم الذي يتناول مصر - ويشكل الكتاب الثاني - بالأوائل؛ لأن قدم مصر ذاته هو الذي أسر خيال هيرودوت إلى حد كبير. يقول هيرودوت إن المصريين أول من استخدم أسماء الآلهة الاثني عشر الذين اتخذهم الإغريق فيما بعد، وأول من تنبأ بطالع المرء من يوم ميلاده، وأول من استحدث لقاءات ومسيرات احتفالية وعلم الإغريق إياها. بل إن الفرعون بسماتيك أجرى تجربة هيرودوتية لتقرير ما إذا كان المصريون هم فعلا - كما كانوا يظنون من قبل - أقدم سلالة بشرية في العالم، فعزل وليدين لا يرافقهما أحد غير راع وقطعانه، وانتظر الراعي كي يخبره بالكلمة الأولى التي نطق بها الطفلان، وعندما بدآ يهتفان «بيكوس» وهما يركضان نحوه مادين أيديهما، أبلغ الراعي بسماتيك بهذا، وبالاستقصاء علم الفرعون أن هذه الكلمة كلمة فريجية تعني خبزا. وبذلك فإن المصريين - في غفلتهم عن احتمال كون الطفلين يحاكيان ثغاء رفاقهما الحملان فحسب - سلموا بأن الفريجيين هم أقدم سلالة بشرية في العالم، وأنهم هم ثاني أقدم عرق (ولم يصلهم قطعا نبأ التجربة التي أجراها فيما بعد الملك جيمس الخامس، ملك اسكتلندا، وأثبتت أن الأطفال الصغار إذا تركوا وشأنهم سيتحدثون العبرية).
صفحه نامشخص
كفانا من أوائل المصريين والفريجيين. فكيف صار كرويسوس، وهو «على ما بلغنا أول» من اتصل بالإغريق، ملكا على ليديا؟
يبدو أن كرويسوس دان بالفضل في بلوغه منصبه لجده الأكبر جيجس، وهذا هو الموضع الذي سيبدأ فيه هيرودوت في الحقيقة قصته؛ لأن قصة جيجس أثرى من أن تهمل؛ إذ تتيح لهيرودوت فرصة للاعتماد على كامل قدراته على المسرحة، وتوضح العديد من أفكاره المحورية، وتقوده إلى قصة كرويسوس، التي بدورها تصب في سيرة قوروش وتأسيس الإمبراطورية الفارسية، التي من دونها ما كانت لتوجد حروب فارسية. ونحن نرى هنا سمة دائمة لأسلوب هيرودوت، الذي يورد فيه عبارة إيضاحية ثم يعدلها فورا برأي مغاير يعيد تشكيل سرده، حيث نراه يقول: سأستهل بكرويسوس ... لكن كلا، أظن أنه ينبغي أن نستهل بجيجس.
إننا نعلم أن كاندوليس ملك ليديا كان مقدرا له أن ينتهي نهاية سيئة؛ ونظرا لهذا المصير، ولأنه يكن لزوجته (من دون كل الناس!) عاطفة جامحة تثير العجب، دأب على الإكثار من الحديث عن جمالهما مع حارسه الأثير (عند هذه المرحلة نجد هيرودوت يستخدم أسلوبا دراميا بكل معنى الكلمة)، ولما يوقن كاندوليس أن حارسه - وهو تحديدا جيجس، جد كرويسوس الأكبر - غير مقتنع قناعة كافية بجمال الملكة، يقترح عليه رؤيتها عارية، مبررا ذلك بقوله إن الناس دأبوا على الثقة في أعينهم أكثر من ثقتهم في آذانهم (هذا أيضا تعليق على مناهج هيرودوت في البحث التاريخي التي يعطي فيها شهادات الشهود الأولوية)، فيصيح جيجس مرعوبا: سيدي! هذا غريب! أنا أصدق تماما كل شيء تقوله عن جمال زوجتك، وأتوسل إليك ألا تجعلني أفعل هذا الشيء المخالف تماما للعرف.
لا يقتنع كاندوليس، ويجبر جيجس على مشاهدة الملكة وهي تخلع ثيابها استعدادا للنوم، فتمسك به وتخيره - وقد لوثت سمعتها بفعلته هذه - بين مواجهة الإعدام أو اغتيال كاندوليس وحكم المملكة بجانبها. وكما يقول هيرودوت في جملة قصيرة قاطعة: «اختار أن يحيا.» وبعد مقتل الملك، أقرت كاهنة دلفي جيجس في منصبه، وإن كانت الكاهنة نبهت إلى أن الثأر من أفعاله سيأتي في الجيل الخامس. وكما هو الحال غالبا في «تاريخ هيرودوت»، لم تعر هذه النبوءة اهتماما حتى تحققت، وقد تحققت، ولم يكن الرجل الذي دفع ثمن أفعال جيجس سوى كرويسوس. وبذلك فإن الدافع إلى رؤية كرويسوس كبشير لخشايارشا، وإلى رؤية قصة حياته كأنها تعرض برنامج «تاريخ هيرودوت» ككل دافع لا يقاوم، لكن من المهم أن ندرك أن كرويسوس هيرودوت هو في الحقيقة شخصية هامشية؛ إذ كانت ليديا في أقصى الغرب من بين الأوتوقراطيات الشرقية التي يناقشها هيرودوت، وقد اهتم كرويسوس اهتماما شديدا بالعالم الإغريقي، ملتمسا حلفاء بين الإغريق، وكان كجده الأعلى جيجس يقدم القرابين - شديدة السخاء في حقيقة الأمر - في دلفي.
على الرغم من أن التأريخ للقائهما مشكوك فيه، فمن الواضح أن المجال كان متاحا للقاء بين كرويسوس وسولون، الذي عرف بأسفاره الكثيرة في القرن السادس بعد إصلاح نظام أثينا القانوني والاقتصادي. وبعد أن حرص الملك الليدي على قيام سولون بجولة في خزانته، يسأله عمن يعتبره أعظم الرجال حظا، أخطأ كرويسوس بطرحه سؤالا لا يريد في حقيقة الأمر سماع إجابة عنه، بل كل ما يريده هو أن يقول له سولون إنه هو، كرويسوس ملك ليديا، الأوفر حظا وبفارق كبير. وبكل تأكيد، لم يكن مثل هذا الرد ليصبح مؤثرا من الناحية الفنية ، أو إغريقيا من الناحية الفلسفية، وبدلا منه، يذكر سولون اسم رجل أثيني من أصل عريق لكنه غير أرستقراطي، وأعني تيلوس، وهو مواطن يملك أموالا كافية «وفق معاييرنا» (تأويل: ثروة الملوك الشرقيين ليست ضرورية للسعادة) وله أولاد وأحفاد، ومات مقاتلا دفاعا عن المدينة ويجله الجميع. وكما هو متوقع، تخيب هذه الحكاية - بما فيها من عظة - كرويسوس، فيسأل بنبرة حادة عمن قد يكون ثاني أسعد شخص رآه سولون.
ما من فائدة. يذكر سولون اسم شابين من آرجوس ربطا نفسيهما موضع الثيران من عربة العائلة، وجرا أمهما نحو ستة أميال إلى معبد هيرا لحضور مهرجان الربة عندما تأخرت الثيران في عودتها من الحقول. واستجابة لصلوات أمهما، نال الشابان أعظم بركة يمكن أن ينالها بشري، حيث خرا نائمين في المعبد (ولا شك أنهما كانا منهكين) ولم يستيقظا قط.
إن إخفاق كرويسوس التام في استيعاب رسالة سولون يقود الأثيني إلى شرحها له، فيقول: أيا كرويسوس، البشر جميعهم مخلوقات الصدفة، ولا يمكنني أن أخبرك بما إذا كنت محظوظا أم لا ريثما أعرف أنك مت سعيدا؛ لأن «الإله يهب في أغلب الأحيان الإنسان لمحة من السعادة، لا لشيء إلا ليمحقه تماما في النهاية.» لذا ينبذ كرويسوس سولون بوصفه جاهلا، لكن سرعان ما تأخذ الربة نيميسيس ملك ليديا بغتة؛ إذ يثير بغروره غضب الآلهة، فيفقد ابنه الحبيب آطيس، الذي يقتله عرضا - من دون كل الناس - مستجير تكرم كرويسوس بقبوله في جواره؛ يقتله بينما يحاول اصطياد خنزيرا بريا (ربما يكون كرويسوس نسيا بعض الشيء، لكنه ليس سيئا بالكلية). ظل حزينا لمدة سنتين بعد ذلك إلى أن أخرجته من أحزانه هذه أنباء مزعجة واردة من الشرق؛ فقد بدا أن قوروش المتقد بالحيوية شرع في تحويل فارس إلى قوة يحسب لها حساب، فدفع هذا التطور كرويسوس إلى طلب النصح من كهنة اليونان وليبيا بغرض توجيه ضربة استباقية (فكرويسوس، مثله مثل هيرودوت، أشبه بباحث)، والبقية يحكيها لنا التاريخ. وبعد أن دفعه كلام كاهنة دلفي إلى اعتقاد أن إمبراطورية عظمى ستنهار لو خاض حربا ضد قوروش، ولا ريب أنه أخطأ في فهم النبوءة. ونظرا إلى خطأ شخصيات هيرودوت عادة في فهم النبوءات كل مرة، لا نكاد نتوقع شيئا آخر. فكانت القوة التي دمرها كرويسوس قوته، وضمت ليديا إلى الإمبراطورية الفارسية، وأفلت كرويسوس من الموت على يدي قوروش بأعجوبة.
لا يسير سرد هيرودوت دائما بأسلوب خطي؛ إذ لا نسمع عن أصول قوروش مثلا إلا بعد مرور بعض الوقت على اقتتاله هو وكرويسوس، وعندما نكتشف في النهاية كيف بلغ قوروش المكانة التي بلغها وأسس الإمبراطورية الفارسية، نعلم أن خططا قد وضعت قبل ميلاده لضمان ألا يتجاوز سنين عمره الأولى. كان أستياجس ملك ميديا قد رأى حلما يخص سبطه أثار خوفه؛ إذ رأى في المنام ابنته الشابة مانداني تتبول في عموم آسيا، فزوجها بدافع القلق من رجل فارسي متوسط الحال، وفيما بعد رأى في المنام كرمة تنبت من مهبلها وتغطي الإقليم ذاته، فقرر أن يتخلص من الطفل الذي كانت تحمله، لكن كما هو معهود في هذه الحكايات التي تتناول نجاة الزعيم المستقبلي بأعجوبة (موسى، رومولوس، إلى آخره)، كان الحظ حليف قوروش؛ إذ يدفع هارباجوس - تابع أستياجس الأمين - في الواقع بالوليد، بعد أن أمر بالتخلص منه، إلى راعي غنم كي يقتله، لكن راعي الغنم - طبعا لأن الطفل ولد كي يصير ملكا - يتخذ هو وزوجه سليل الملوك ولدا ويربيانه.
عندما يبلغ قوروش مبلغ الرجال وقد علم بهويته الحقيقية، يحشد الفرس للاصطفاف خلفه والإطاحة بأستياجس، حيث يستدعي رجالا من أقوى القبائل، ويأمرهم بتطهير بقعة معينة من الأرض الوعرة المليئة بالأشواك تقارب مساحتها ثمانية عشر أو عشرين فرسخا مربعا، وبعد إنجاز العمل، يذبح أعدادا هائلة من المعز والضأن والثيران استعدادا لمأدبة سخية، مضيفا إلى الخليط النبيذ الفاخر والخبز. وعندما يرى الفرس في اليوم التالي، يسألهم عما يفضلون: كدح يومهم السابق أم مباهج يومهم الحالي. وبعد سماع قوروش الإجابة المتوقعة، يعدهم بأنهم لو تمردوا على أستياجس، فسيتمكنون من التمتع بألف ملذة تتساوى في فخامتها مع المأدبة التي أمامهم، لكنهم إذا رفضوا فإن العمل البائس الذي كلفوا به اليوم السابق سيشكل نموذجا لكثير من المهام الرهيبة التي ستأتي. ثم يقول: «أنا الرجل الذي شاءت العناية الإلهية أن أضطلع بتحريركم. أعتقد أنكم صنو للميديين في كل شيء بما في ذلك الحرب. الحق أقول. لا تتمهلوا، بل ثوروا على أستياجس في هذه اللحظة.» وهكذا فإن قوروش، الذي لم ينس قط أصوله والأذى الذي كاد يكلفه حياته كطفل رضيع، يطيح بأستياجس ويحكم لسنوات طويلة، فاتحا ليديا وعددا كبيرا من الأقاليم الأخرى، ويخلفه على العرش ابنه مثار الجدل قمبيز الذي يخلفه في نهاية المطاف دارا. وبولاية دارا، تبدأ المواجهات المفتوحة بين الإغريق والفرس.
لكن من هؤلاء الإغريق؟ وما أصولهم؟ يكشف انخراط هيرودوت في الإجابة عن هذا السؤال - في الحقيقة استعداده الشديد للانخراط في الإجابة عنه - عن هيرودوت مختلف عن هيرودوت القاص الذي روى الحكايات الشائقة التي تتناول جيجس وكرويسوس وقوروش؛ ففي فقرة شهيرة في الكتاب الثامن، يؤكد الأثينيون للإسبرطيين أنهم لن يبرموا أبدا اتفاقا مع بلاد فارس؛ لأن في ذلك خيانة ل «إغريقيتنا»، فنحن «عرق واحد يتحدث بلغة واحدة ويشترك في الأضرحة والقرابين، ويجمعه منهج حياة متماثل.» وقبل أن يمضي على ذلك وقت طويل، يهددون بإبرام مثل هذا الاتفاق بالضبط، والواقع أن هيرودوت يقوض في مراحل مختلفة فكرة أن الإغريق كانت تجمعهم ثقافة فريدة وموحدة.
صفحه نامشخص
يبين هيرودوت أن اليونان كلها كانت مأهولة في الأساس بالشعب البربري المسمى بيلاسجيان، الذي تحدر منه أثينيو ذاك العصر مباشرة. وقد استقبل بسخرية الادعاء القائل بأن سكان المدن الأيونية الاثنتي عشرة بآسيا الصغرى هم بطريقة أو بأخرى من أصل أيوني أنقى وأشرف من الآخرين؛ لأن عددا ضخما من المستوطنين الأصليين جاءوا من مدن غير أيونية، بل ومن بعض المدن التي لم تكن حتى إغريقية! كذلك يشدد أيضا على النفوذ الفينيقي؛ إذ يقول إن البطلين الأثينيين المبجلين هارموديوس وأريستوجيتون كانا ينتميان إلى عشيرة ليست - كما زعما - من مدينة إريتريا الواقعة شمال أثينا، بل في الحقيقة من أصل فينيقي مثلما كانت الألفبائية من فينيقيا، حسب تأكيده. وهيرودوت لا يرحم الإغريق أبدا في تشديده على المصادر المتنوعة التي استعاروا منها، فمن الليديين استعاروا معظم ألعابهم، ومن الكاريين استعاروا ريش الخوذات وشعارات الدروع ومقابضها، ومن الليبيين استعاروا الملابس التي كان الأثينيون يصورون عادة وهم يرتدونها، وأكد أنهم تعلموا هويات الآلهة كلها من غير الإغريق؛ ولا سيما المصريين، فمقارنة بالمصريين، لم يتوصل الإغريق إلى معرفتهم بالآلهة «إلا أمس أو أول أمس إذا جاز التعبير.» وهو يقول إنه يستطيع تقديم قدر لا بأس به من الأدلة التي تؤيد فكرة أن الإغريق استعاروا اسم هرقل من مصر وليس العكس. ويعزو هيرودوت - وهو في العادة، لكن ليس دائما، من القائلين بالانتشار الثقافي - اختراع المذابح والمعابد والتماثيل والمواكب الدينية وعقيدة تناسخ الأرواح إلى المصريين، وفي معظم الأحيان يؤكد أن الإغريق استعاروا هذه العادات، بل وفي حالة تناسخ الأرواح، نجده في واقع الأمر يتهم المستعيرين الإغريق بالسرقة الصريحة (يقول علماء المصريات إنه مخطئ في هذه النقطة، لكن تفكيره يتباين تباينا صارخا مع تفكير هيكاتايوس الأكثر منه تعصبا لوطنيته، والذي كان مقتنعا بأن التأثير سار في الاتجاه المعاكس).
إذن فهيرودوت يظهر، في أسلوبه القصصي وفي أسلوبه الإثنوجرافي، اعتقادا قويا بأن المرء كي يفهم التاريخ يجب أن يفهم الأصول؛ فهو على دراية بأن الكبرياء الوطني يقود الناس إلى طرح روايات مجملة لأصولهم تقلل من قيمة المزيج العرقي والاستعارة الثقافية. وعلى امتداد صفحات «تاريخ هيرودوت»، يتعامل المؤلف مع أصول الأصول، منوها إلى أن التقاليد السائدة حيال التقاليد إنما هي محل شك، وأنه يجب علينا أن نأخذ المصدر بعين الاعتبار. وكان ينبغي أن يتذكر من ينتقدون هيرودوت بسبب بعض الحكايات غير المعقولة الواردة في كتابه دوره في تأسيس نقد المصدر.
الفصل الثالث
الحرب بين الإغريق والفرس
لا يعتمد هيرودوت على مهاراته ككاتب مسرحي في أي موضع آخر اعتمادا أعظم نجاحا منه في معالجته الحروب الفارسية الدموية ذاتها؛ فالحروب بين اليونان وفارس، التي تشكل محور «تاريخ هيرودوت»، لا تظهر على الساحة إلا بعد تجاوز منتصف الطريق في السرد، لكنها عندما تظهر، تتسارع كالسيل الجارف نحو ختامها، فتسرعها قناعات هيرودوت القوية بشأن الطبيعة الإنسانية بكل صنوفها: ذلك التعطش النهم إلى الانتقام، وميل الملوك الشرقيين إلى الرغبة في المزيد والمزيد من الأملاك، والعواقب المأسوية لعدم الالتفات إلى المستشارين الحكماء الذين يقولون الحقيقة لأصحاب السلطة، وأخطار الحكم المطلق، وتزلف المتزلفين إلى الحكام ممن لديهم أجنداتهم الخاصة، والبطولة المستبسلة من جانب جنود المشاة الإغريق الجادين، والطاقات التي أطلقتها الديمقراطية. فالتوتر مستمر بين الدراية بالمحصلة وعدم ترجيح حدوث تلك المحصلة. بالتأكيد، سيكون النصر حليف الإغريق، ويعلم الجمهور أن الإغريق انتصروا، وقد حذرت الطوالع والبشر على السواء خشايارشا المتغطرس من المتاعب التي تنتظره.
من ناحية أخرى، كيف أمكن في الحقيقة وقوع ما حدث؟ كيف أمكن لعصبة من نيف وثلاثين دويلة صغيرة دأبت التشاحن المستمر فيما بينها، ناهيك عن التنازع الداخلي الدائم، أن تهزم أكبر إمبراطورية شهدها العالم على الإطلاق؟ إن تفسير هيرودوت لنصر الإغريق باعتباره لا يصدق وحتميا في آن واحد - هزيمة جالوت الفارسي على يدي داود الإغريقي - يشكل سرده ويعمق الشعور بالإثارة لدى جمهوره. وتدوي فكرة النصر التي تتمحور حولها هذه السيمفونية عاليا، ماضية بسلاسة وقوة بينما تتصاعد وتمور نحو خاتمة تحبس الأنفاس. إننا نتعامل مع عمل فني هنا، لا حوليات جافة؛ وبالتالي فإن هناك عناصر من إعادة التشكيل الدرامي والمبالغة، فأنا أو أنت ربما نقدم وصفا مفصلا للحروب بطريقة مختلفة، لكن دعنا نستمع إلى القصة كما يرويها هيرودوت، مرجئين عدم التصديق طويلا بدرجة كافية لاستيعابها، على الرغم من تشككنا في أن كل شيء ربما لم يحدث بالضبط كما يقول.
شكل 3-1: يظهر خشايارشا هنا في شبابه عندما كان ولي عهد فارس، واقفا خلف أبيه دارا بين المنحوتات البارزة التي تزخر بها الخزانة في العاصمة الفارسية برسبوليس.
1
يتمرد الإغريق الأيونيون على الإمبراطورية الفارسية بدافع الشعور بالقهر نتيجة زيادة الضرائب، وبتشجيع من زعماء حريصين على مصلحتهم الشخصية؛ فيظهر أرستاجوراس الملطي في إسبرطة ملتمسا العون من الملك كليومينس (احتفظت إسبرطة، خلافا للدويلات الإغريقية الأخرى ، بنظام الملكية، لكن كان يتولى الحكم فيها ملكان من أسرتين حاكمتين)، فتحبطه ابنة كليومينس الجريئة جورجو ذات الثماني أو التسع سنوات، التي تحذر أباها من محاولات أرستاجوراس رشوته، صائحة: «أبتاه، الأحرى بك أن تنهض وتغادر وإلا سيرشوك ضيفك.» كان الأثينيون أكثر تجاوبا، حيث وافقوا على توفير 20 سفينة لحركة التمرد، مما دفع هيرودوت إلى التنويه إلى أن خداع حشد أسهل فيما يبدو من خداع فرد. ويخفق التمرد، وفي غضونه تشتعل النيران في عاصمة كرويسوس القديمة سارديس، ولدى سماع دارا بضلوع الأثينيين، يسأل عمن يكون هؤلاء الناس، ولدى سماعه الإجابة:
يقال إنه طلب قوسه، فأمسكه وشد في وتره سهما، وأطلقه عاليا نحو السماء، وبينما كان يطلقه في الجو قال: «أيها الرب زيوس، هب لي ما أعاقب به الأثينيين.» ثم أمر أحد أفراد حاشيته أن يكرر على مسامعه عبارة «أي سيدي، تذكر الأثينيين» ثلاث مرات كلما جلس لتناول طعامه.
صفحه نامشخص
شكل 3-2: بغض النظر عن الصحة التاريخية لحكاية هيرودوت عن دارا والسهم، كان الفارسيون معروفين يقينا بأنهم رماة لا يشق لهم غبار. أما الملك الرامي الذي نراه يحمل قوسا وسهما على هذه العملة الفارسية - التي تعود إلى القرن الخامس والمعروفة باسم الدارية نسبة إلى دارا - فربما يكون خشايارشا. من ناحية أخرى، كان الأثينيون ينقشون على عملاتهم صورة البومة التي ترمز إلى ربتهم الحامية الحكيمة. هذه العملة الفضية كانت شائعة (وهي من فئة أربع دراخمات).
2
وقد تذكر دارا الأثينيين، فكانت النتيجة هي المعركة التي دارت رحاها في سهل ماراثون. كان الأثينيون - وهذا مفهوم - وجلين من الاشتباك مع جيش الملك الكبير، لكن أحد جنرالاتهم؛ وهو ملتيادس، ألقى خطابا ألهب به حماسهم وأقنعهم بخوض المعركة. كان الجنرالات منقسمين بشأن ما إذا كانوا يحاربون أم ينسحبون، لكن اقتراعا ديمقراطيا بينهم حسم المسألة، فأسفر القتال عن تحقيق قوة المشاة الثقيلة الأثينية نصرا مذهلا. ولا يخبرنا هيرودوت من هو جندي قوة المشاة الثقيلة؛ لأنه افترض أن جمهوره من الإغريق سيكون على دراية تامة بالدرع المستديرة والرمح والخنجر والخوذة التي كانت تمثل العتاد النظامي، مصحوبة في بعض الحالات بدروع لحماية الساقين. وكان أي إغريقي سيتلقى خبر انقضاض الأثينيين على الفرس ركضا، كما يدعي هيرودوت، كعمل بطولي بمعنى الكلمة؛ لأن المسافة بين الجيشين كانت نحو ميل، وقد يزن عتاد جندي قوات المشاة الثقيلة 35 رطلا أو أكثر. كان الصراع طويلا جدا، وأحدث قلب الجيش الفارسي ثغرة في الصف الإغريقي، لكن الأثينيين على أحد الجناحين وحلفاءهم البلاتيين على الجناح الآخر حققوا النصر، وبتقاربهم وتشكيلهم وحدة واحدة هجموا على الفرس الذين كانوا قد اقتحموا القلب وحصدوهم وهم متجهون نحو البحر. مات ما مجموعه 192 أثينيا (ولا يورد هيرودوت عددا لقتلى البلاتيين)، لكن خسائر الفرس كانت أعلى بكثير، حيث قتل منهم 6400 محارب، وبعد المعركة توجه الأسطول الفارسي صوب أثينا، لكنه عاد أدراجه وأبحر صوب آسيا بعدما أدرك أن الأثينيين سبقوه إلى هناك.
يقرر دارا - حانقا - شن غزو ثان، فليس على الأثينيين الآن دفع ثمن سارديس فحسب، بل ثمن ماراثون أيضا، لكن الأجل يوافيه أثناء حشده القوات وتجهيزه المؤن، فتقع مسئولية حرب الإغريق على عاتق ابنه وخليفته خشايارشا، وبتحريض من التملق السافر من جانب ابن عمه الطموح ماردونيوس، الذي يطمح في حكم إقليم جديد في اليونان، يتجاهل خشايارشا نصيحة حكيمة من عمه أرطبانس، الذي يطرح حجة إغريقية بامتياز لتلطيف الرغبات الإمبراطورية. يقول أرطبانس:
ترى كيف ينسف الرب بصاعقته المخلوقات العظيمة ولا يسمح لها بإظهار تفوقها، في حين لا تزعجه المخلوقات الصغيرة على الإطلاق. أنت ترى صواعقه تحل دائما على أكبر الأبنية وأطول الأشجار. هذا هو نهج السماء في كبح الشطط.
لا يبالي الملك، ويسمح لنفسه بالانسياق إلى مشروع معاقبة الأثينيين؛ فخشايارشا - كما يتبين - يعشق العقاب. والواقع أنه يقرر عقاب أرطبانس نفسه لنصحه بعدم غزو اليونان، ويضحك هازئا منه قائلا إنه سيبقيه في الديار مع النساء بينما يخرج هو والرجال الحقيقيون لمعاقبة الأثينيين. وليس ذلك فحسب؛ فعندما عرض الليدي الثري بايثيوس وضع كل أمواله تحت تصرف خشايارشا، يقدم الملك على تصرف ملؤه التباهي لمكافأته، فيهبه هبة تزيد ثروته زيادة هائلة ، لكن بعدئذ، عندما يلتمس بايثيوس من خشايارشا السماح لأحد أبنائه الخمسة بالبقاء في الديار لرعايته في كبره فيما يرافق الآخرون الحملة المتجهة إلى اليونان، يأمر الملك الغاضب رجاله بالعثور على أكبر أبناء باثيوس وشق جسده نصفين، ثم يأمر الجيش بالمسير بين شطري جسد الشاب.
شكل 3-3: «ثلاثية المجاديف» (سفينة ذات ثلاثة صفوف من المجاديف)، نسخة من السفينة الحربية الانسيابية الخفيفة التي استند إليها الإغريق في بناء أساطيلهم.
3
تمتد عقوبات خشايارشا إلى الجمادات؛ فعندما دمر الجسر الذي كان قد بناه عبر مضيق الهلسبونت بفعل عاصفة عاتية، أمر الملك رجاله بجلد المياه 300 جلدة، و«التحدث بكلمات متعجرفة لن تسمعها أبدا من إغريقي»:
أيتها المياه المرة، هذا عقابك على خطئك في حق سيدك الذي لم يخطئ في حقك. الملك خشايارشا سيعبرك، شئت أم أبيت. الناس محقون في عدم تقديمهم القرابين لمياه كدرة كريهة مثلك!
صفحه نامشخص
كذلك أمر بقطع رءوس من قاموا على بناء الجسر. لقد فصل خشايارشا ما أرادته الطبيعة واحدا (شطري جسد ابن بايثيوس)، ووصل ما جعلته الطبيعة منفصلا (آسيا وأوروبا). إن انتهاك خشايارشا الحدود الطبيعية يحاكي بالتأكيد انتهاكه الحدود الاجتماعية في مثلث كاندوليس والملكة وجيجس.
تسير الحملة بلا توقف نحو الغرب، فتشرب مياه الأنهار حتى تجف، وتتجاهل نذر الشؤم، وترفض النصائح السديدة. وفي صحبة خشايارشا خلال هذه الحملة ملك إسبرطة المخلوع ديماراتوس، وهو من بين شخصيات عديدة في «تاريخ هيرودوت» تقوم بدور «المستشار الحكيم» المتكرر. يأمره خشايارشا قائلا: أخبرني، هل سيجرؤ الإغريق على مقاومتي؟ فيجيبه ديماراتوس بقوله: حسنا، دعني أحدثك عن الإسبرطيين بصفة خاصة. سوف يقاتلونك حتى لو استسلم الإغريق الآخرون. تفوقك في العدد لن يعني لهم شيئا. لو خرج للحرب ألف منهم، فأولئك الألف سيقاتلونك، وكذلك سيفعل أي عدد، كثر أو قل.
يقول خشايارشا ضاحكا: كلا بالتأكيد. أنى يكون هذا وهم - على عكس رعيته - لا سيد لهم يحكمهم؟ فيجيبه ديماراتوس بقوله: يا جلالة الملك، هذا هو حال الإسبرطيين:
عندما يقاتلون رجلا لرجل، فهم في كفاءتهم مثلهم مثل أي ممن سواهم، لكن عندما يقاتلون في تشكيل، فهم خير جنود العالم. هم أحرار، نعم هذا صحيح، لكنهم ليسوا أحرارا تماما؛ لأن لهم سيدا، وذلك السيد هو القانون (الناموس)، الذي يخشونه أشد مما تخشاك رعيتك. وهم يطيعون هذا السيد ما أمرهم، وأمره دائما واحد: ألا تولوا الأدبار أبدا في الوغى، مهما كثر العدد، بل احتفظوا بمواقعكم، فإما نصر وإما موت.
اقتصر ديماراتوس في حديثه على الإسبرطيين، لكن هيرودوت نفسه، وفي الكتاب الخامس، قال شيئا عن الأثينيين أيضا؛ فعندما كانوا تحت حكم الأوتوقراطيين ممن عرفوا في اليونان ب «الطغاة» (ليسوا بالضرورة أشرارا، لكنهم أشخاص جاءوا إلى السلطة عبر انقلابات قاموا بها هم أو آباؤهم)، كانوا مقاتلين أكفاء، لكن كفاءتهم آنذاك لم تداني بأية حال كفاءتهم بعدما تخلصوا من الطغاة وأقاموا ديمقراطية، بعدما أراد كل شخص - كرجل حر - أن يحقق إنجازا بنفسه.
عندما يتلفظ ديماراتوس بهذه الكلمات، يضحك خشايارشا من جديد (للضحك الفارسي دائما دلالة سيئة في سرد هيرودوت)، ويمضي في طريقه دون أن يثنيه شيء عن مقصده.
ستكون أول مواجهة في ثيرموبيلاي، التي تمركز فيها ليونيداس ملك إسبرطة، وكانت معه طليعة من الإغريق. وبينما كانوا يضعون استراتيجية الحرب، اقترب منهم خلسة جاسوس فارسي لتقييم الموقف، وبعد أن رأى بعض الإسبرطيين متجردين من عتادهم للتريض، وبعضهم الآخر يمشطون شعورهم، قفل عائدا في دهشة وأخبر خشايارشا بما رأى. يقول ديماراتوس للملك المخدوع: لا تقل إنني لم أحذرك، لقد ضحكت عندما أخبرتك بأمر الإسبرطيين، لكن من عادتهم أن يعتنوا جيدا بشعورهم وهم مقبلون على المخاطرة بأرواحهم. لكن خشايارشا لا يتزعزع، ثم يشن رجاله هجوما، لكن بلا طائل. ويروي هيرودوت أنه يقال إنه بينما كان خشايارشا يراقب المعركة من موضع جلوسه، هب واقفا على قدميه ثلاث مرات ذعرا على جيشه. وفي اليوم التالي يقاتلون من جديد، لكن الفرس لا يستطيعون خرق صفوف الإغريق؛ فتصيب الحيرة خشايارشا وهو الذي اعتاد الحصول على ما يشاء.
ثم يتغير كل شيء؛ يخبر رجل من أبناء المنطقة طامع في مكافأة ثمينة، خشايارشا ببعض المعلومات المثيرة للاهتمام الشديد، فهناك ممر خفي فوق التلال موصل إلى ثيرموبيلاي. ينتشي خشايارشا. يصعد الفرس لاجتياز الممر. وفي ثيرموبيلاي، يفحص العراف الإسبرطي ميجستياس أحشاء القرابين ويعلن عن هلاك وشيك. يصل الفارون من القتال أثناء الليل حاملين أنباء تحركات الفرس، وعند انبلاج الصبح يأتي أفراد المراقبة الإغريق مهرولين من التلال. معظم القوات الإغريقية رحلت، فيميل هيرودوت إلى اعتقاد أن ليونيداس صرفهم عندما رأى ضعف معنوياتهم وانعدام حماسهم للقتال. بينما أحس ليونيداس نفسه أنه سيكون من غير اللائق أن يتخلى الإسبرطيون عن الموقع الذي أرسلوا للاحتفاظ به، زد على ذلك أنه كانت هناك نبوءة تقول إن موت أحد الملوك هو وحده الذي يمكنه وقاية إسبرطة من الدمار؛ لذا بقي هو وجنوده الإسبرطيون الثلاثمائة وقاتلوا، صامدين حتى النهاية، بسيوفهم إذا كانت ما زالت لديهم، وإن لا فبأيديهم وأسنانهم (في الحقيقة لم يكن هناك إلا 298 موجودون في النهاية، ولتتعرف على ما حدث للاثنين الآخرين، يجب أن تقرأ كتاب هيرودوت، وحتى هيرودوت يورد روايات بديلة). كانت الخسائر البشرية بين صفوف الفرس مرتفعة أيضا، حيث كان قادة فيالق خشايارشا يحثون دائما الرجال على التقدم وبأيديهم أسواط، وسقط كثيرون في مياه البحر وغرقوا، بل ومات أكثر منهم سحقا تحت أقدام رفاقهم الجنود.
يصف هيرودوت ثيرموبيلاي كنصر معنوي مدو؛ فهي لم تكسب للإغريق في جهة الجنوب وقتا فحسب، بل ألهبت حماسهم للتصدي للفرس انتقاما لليونيداس ورجاله. وفي الوقت نفسه، التقى الأسطولان الإغريقي والفارسي قبالة موقع قريب من مضيق أرتميسيوم لفترة دامت عدة أيام. لم يحسم أي الفريقين في النهاية القتال لصالحه، لكن المعركة شجعت الإغريق ليدركوا أن بمقدورهم التصدي لأسطول فارسي، وهذه معلومة مفيدة؛ لأن المعركة التالية ستدور رحاها في عرض البحر، في مضيق قبالة جزيرة سلاميس بالقرب من أثينا.
كان مهندس موقعة سلاميس هو السياسي الأثيني اللامع تيميستوكليس، الذي أقنع الأثينيين بأن النبوءة الإلهية التي تلقوها من دلفي وتتحدث عن «جدار خشبي» لا تشير إلى التحصينات الخشبية في معبد الأكروبوليس، بل بالأحرى إلى الخشب المصنوعة منه سفنهم ؛ وبالتالي أقنعهم بالتخلي عن أرضهم لخشايارشا، ونقل النساء والأطفال إلى سلاميس على أمل إعادتهم إلى الديار بعد قهر الفرس. بذل تيميستوكليس مجهودا مضنيا لإقناعهم، وفي عدم وجود غير ثلة من المدافعين، نهب خشايارشا المدينة وأحرق الأماكن المقدسة في الأكروبوليس. وكما في ثيرموبيلاي، فكر الجنود المحبطة معنوياتهم في الانفضاض والعودة إلى ديارهم، أو على الأقل العودة إلى برزخ كورنثة الذي سيكون الانسحاب منه سهلا نسبيا في حالة التعرض لهزيمة في المضيق. استبق تيميستوكليس الكارثة بإرسال غلامه سكينوس إلى المعسكر الفارسي برسالة إلى خشايارشا، وكان تيميستوكليس - كما أفاد سكينوس - على الجانب الفارسي في حقيقة الأمر. وقال إن الإغريق:
صفحه نامشخص
في حالة من الذعر ويخططون للتقهقر، فإذا منعتهم من الانسلال من قبضة يدك، واتتك الفرصة لتحقيق نصر مؤزر. إنهم في نزاع، وفي وضع لا يسمح لهم بالمقاومة. على العكس تماما، ستجد سفنهم يقاتل بعضها بعضا، حيث يهاجم الموالون للفرس الآخرين.
راق لخشايارشا ما سمع، فطوق الأسطول الإغريقي تحت جنح الظلام، واستعد الإغريق للمعركة، مذعنين لقدرهم المحتوم. قدم مقاتلون مختلفون روايات متغايرة لسير المعركة اعتمادا على كل من الكبرياء الوطني وحدود الرؤية، لكن بدا واضحا لهيرودوت أن السفن القادمة من أثينا وجزيرة أيكينا القريبة ألحقت أضرارا بالغة بالأسطول الفارسي، الذي كان قد تبعثر أثناء سير المعركة. منح الإغريق أثينا الجائزة الثانية في البسالة؛ حيث كانت الأولى من نصيب أهل أيكينا. وإجمالا، تكبد الإغريق خسائر بشرية قليلة؛ لأنهم في حالة انفصالهم عن سفنهم كان بمقدورهم السباحة إلى سلاميس، أما الفرس الذين سقطوا من سفنهم فلم تكن لديهم تلك الميزة فغرقوا. كانت نتيجة المعركة البحرية هذه المرة واضحة لا لبس فيها؛ إذ مني الفرس في نهاية اليوم بهزيمة حاسمة. خشي ماردونيوس - وهو أمر مفهوم - أن ينكل به لإلحاحه على خشايارشا محاربة الإغريق، فأكد للملك المتجهم أن خسارة «بعض ألواح الخشب» لن يقف في طريق تحقيق نصر في النهاية، بل إن محصلة الصراع سوف تعتمد في نهاية المطاف على الرجال والخيل (هو لا يذكر الرجال الذين غرقوا مع «ألواح الخشب»). ويقول للملك: لا تيأس، فعاجلا أم آجلا سيدفع الإغريق ثمن ما فعلوه بك. إذا شئت عد إلى الديار، وسوف أبقى أنا هنا مع جزء من الجيش وأجعلك سيد اليونان.
راقت لخشايارشا بشدة فكرة العودة إلى الديار في واقع الأمر، فيمم وجهه شطر آسيا على الفور. في غضون ذلك، عرض ماردونيوس أن يعفو عن خطايا الأثينيين السابقة لو بدلوا ولاءهم؛ فأرسل الإسبرطيون على الفور وهم في حالة من الذعر رسلا لإثناء الأثينيين عن التخلي عن القضية الإغريقية، وقد أجل الأثينيون - في خطوة استراتيجية - موافاة رسول ماردونيوس بردهم ريثما يكون الإسبرطيون هناك لسماعها. ويفسح هيرودوت المجال للرفض المؤثر الذي قدموه، الذي قصد به أن يحظى بتقدير الصديق والعدو على حد سواء:
ما من ذهب أو أراض خصبة على وجه الأرض يمكن أن تجعلنا نتعاون مع العدو المشترك ونوقع اليونان في أسر العبودية. ربما تكون هناك عقبات هائلة عديدة تقف في طريقنا، وعلى رأسها حرق معابدنا وتماثيل آلهتنا. إننا نرى أن من واجبنا أن نثأر لهذا التدنيس بكل ما أوتينا من قوة، وألا ندخل في معاهدة مع من اقترفه. ثم إن هناك أيضا حقيقة أننا كلنا إغريق، عرق واحد ينطق بلسان واحد، تجمعنا معابد وقرابين مشتركة، ونهج حياة واحد؛ إذن فلتعلموا إن لم تكونوا تعلموا من قبل أننا لن نتوصل أبدا إلى تفاهم مع خشايارشا ما دام هناك أثيني واحد باق على قيد الحياة.
وهكذا بقي ماردونيوس في اليونان وواجه القوات الإغريقية مجتمعة تحت قيادة الإسبرطي باوسانياس، الوصي على ابن ليونيداس القاصر بلايستارخوس، فالتقى الجيشان في بلاتايا بالقرب من طيبة في الربيع التالي. وكما كان معتادا قبل خوض المعارك في العالم القديم، حصل كلا القائدين على قراءة لطالعيهما قبل خوض المعركة، وكلاهما كان سيئا، لكن باوسانياس تمكن في اللحظة الأخيرة من الحصول على علامة مبشرة أثناء المعركة، وكان النصر في الحقيقة حليف الإغريق. وقد دان الإغريق بنصرهم في جزء كبير منه لهيكل الجيش الفارسي - حيث انهارت المقاومة الفارسية عندما قتل ماردونيوس - وكذلك إلى افتقار الفرس إلى الدروع؛ لأنهم من دونها لم يستطيعوا الصمود أمام قوات المشاة الثقيلة الإغريقية. ويحرص هيرودوت على تأكيد عدم افتقار الفرس إلى الشجاعة بأية حال، ولا ينزل إلى مستوى التقليل من شأن جنود خشايارشا المغاوير.
شكل 3-4: تظهر هذه السلطانية الصغيرة جندي قوات مشاة ثقيلة إغريقيا يحمل درعا عليها صورة البيجاسوس (الحصان المجنح)، وهو يعلو فارسيا يرتدي ملابس كان الإغريق يعدونها غريبة. وهذا من عمل فنان يسمى رسام تربتولموس، قرابة عام 460 ق.م ولم يصور هيرودوت الفرس باستهزاء إلى هذه الدرجة.
4
قيل إن ذلك حدث في ذات اليوم الذي تغلب فيه الأسطول الإغريقي على الفرس في موقعة ميكالي في أيونيا، حيث كتب هيرودوت: «الترتيب الإلهي للأمور تثبته براهين كثيرة»، من أهمها خبر النصر في بلاتايا الذي بلغ بعون الآلهة ميكالي قبيل خوض المعركة مباشرة، وهو تطور أعطى دفعة قوية لروح الإغريق المعنوية. وبهزيمة الفرس في ميكالي، انتهت محاولتهم إخضاع الإغريق نهاية غير مشرفة. لقد حدث ما لم يكن يخطر ببال، فانتصرت عصبة من دويلات إغريقية صغيرة فقيرة، تضافرت جهودها دفاعا عن وطنها، على الملك الفارسي الثري وحشوده التي تعد بالملايين بالمعنى الحقيقي للكلمة.
هذا هو حقيقة النشيد العسكري الاحتفالي الذي قدمه هيرودوت ليدخل السرور على قلوبنا بما فيه من مواضيع متكررة (العظات الحماسية قبل المعركة، استعراض الأعمال الجسورة، التجاهل القاتل للمستشار الحكيم أو العلامات الإلهية، تفوق أساليب التفكير الإغريقية على الأساليب الفارسية)، ويبلغ ذروة في الموقف الإسبرطي في ثيرموبيلاي، وذروة ثانية في النصر في سلاميس. لكن إذا نظرنا إليه كمقطوعة بيانو لا كسمفونية، علينا أن نسأل عما تفعله اليد اليسرى فيما تنتج اليد اليمنى كوردات كبيرة لا تنسى ولا تزال تصدح حاليا إلى يومنا هذا. أما الإجابة فهي طباق متقن من دونه تكون هناك مجازفة بأن يبدو اللحن الانتصاري المبهج عاطفيا، بل وعديم المعنى.
ذلك أنه حتى مجرد القراءة العابرة لسرد هيرودوت تبين إدراكه أن الإغريق لم يكونوا بأي حال متحدين في الدفاع عن وطنهم؛ فالإغريق الذين قاتلوا في صف خشايارشا أكثر ممن قاتلوا ضده، وكان التضارب واللامبالاة سائدين بين الدويلات الحلفاء، وواجه ملتيادس صعوبة شديدة في إقناع القادة الأثينيين بالاشتباك مع الفرس في ماراثون، ولم يرسل الإسبرطيون إلا قوة صغيرة إلى ثيرموبيلاي، وكان حلفاؤهم متقلبين بشدة، لدرجة أن ليونيداس كان بادي التوتر لوجودهم حوله. وعشية موقعة سلاميس، هدد تيميستوكليس بحمل الأثينيين كافة على ظهور سفنهم والإبحار إلى إيطاليا إذا لم يوافق القائد الإسبرطي يوروبيادس على القتال في المضيق بدلا من التراجع إلى البرزخ. وحتى بعد إقناع يوروبيادس، اعتبر الموقف مشكوكا فيه إلى درجة أنه كان مستعدا لاستفزاز حصار فارسي لفرض معركة. وفي الربيع التالي، أعاد الإسبرطيون التفكير في تلبية طلب الأثينيين المساعدة في بلاتايا، والحقيقة أنهم نظروا بجدية في تسوير البرزخ الذي يفصل أرضهم عن أرض الأثينيين وتركهم لمصيرهم. وأما تأكيدات الأثينيين الاستعراضية لولائهم الأبدي لليونان، فقد أذهبت أثرها فيما بعد، وبشكل يكاد يكون فوريا، كلمات بالغة القتامة، وذلك عندما ألمحوا إلى الإسبرطيين بأنهم لو لم يتحركوا، فإنهم ربما يعيدون النظر في قبول شروط الفرس. كفانا من الحديث عن التضامن الإغريقي.
صفحه نامشخص
ولا يصور هيرودوت الفرس من منظور غير إطرائي تماما؛ فيصورهم كمقاتلين شجعان في بلاتايا، وفي مقابل ماردونيوس المداهن المراوغ نجد أرطبانس الشجاع بعيد النظر الذي يكرر مع خشايارشا الدور الذي لعبه سولون مع كرويسوس. يتجشم هيرودوت عناء كبيرا لإضفاء الطابع الإنساني حتى على خشايارشا، مسلطا الضوء على قلقه الأولي بشأن غزو اليونان؛ إذ بدأت تنتاب الملك برودة في قدميه في الليلة التي تلت إعلانه عن نواياه لمستشاريه، ثم يرتاع الملك لمرأى الشبح الذي يظهر له في سلسلة من الأحلام التي تنذره بالعواقب إذا لم يمض في الطريق حتى النهاية. علاوة على ذلك، فعندما يتوقف لتفقد قواته وهو في الطريق إلى اليونان، يدخل مرأى الهلسبونت وسفنه تغطي صفحته كاملة، واليابسة القريبة وهي تعج بجنوده، البهجة على نفسه في البداية، فيصف نفسه بأنه سعيد، ويجهش فورا بالبكاء، فيستفسر أرطبانس - الذي لم يعاقبه خشايارشا في نهاية المطاف بتركه من خلفه مع النساء في بلاد فارس - عن هذا التغير المفاجئ في الحالة المزاجية، فيجيبه خشايارشا: «كنت أتدبر الأمور، وخطر ببالي كم قصيرة هي الحياة البشرية بشكل يدعو للرثاء، فمن بين كل هذه الحشود، لن يبقى أحد على قيد الحياة بعد مائة سنة من الآن.» في هذه المرة، وعندما يرد أرطبانس بمحاضرة طويلة عن تقلبات الحياة البشرية، لا يغضب خشايارشا، بل يقر بأن أرطبانس وصف الحالة الإنسانية فأحسن الوصف. حتى خشايارشا له لحظاته في «تاريخ هيرودوت».
أخيرا، فإن انتصاري بلاتايا وميكالي المزدوجين ليسا آخر ما نسمعه عن تعاملات الإغريق مع الفرس؛ فبعد موقعة ميكالي، ضرب الأثينيون بقيادة زانثبوس حصارا حول سيستوس، أقوى معقل فارسي في المنطقة المعروفة الآن باسم شبه جزيرة جاليبولي. وسنعلم أن الحاكم المحلي أرتياكتيز كان رجلا رهيبا، سرق كميات هائلة من قرابين النذور من ضريح بطل الحرب الطروادية بروتيسيلاوس في مدينة أيلة القريبة - أموال وأقداح من الذهب والفضة - بل والأسوأ من هذا أنه سيأخذ إلى الضريح نساء ويضاجعهن، وهو أمر محرم تحريما قاطعا في الأعراف الإغريقية. وعندما تسقط سيستوس في النهاية، يعرض أرتياكتيز مبالغ مالية طائلة ليفتدي نفسه وابنه، لكن زانثبوس يرفض الأموال؛ فشعب أيلة يريد الانتقام لتنديس الضريح ويطالبون بإعدام أرتياكتيز، ويميل زانثبوس نفسه إلى هذا المنحى، وهكذا يمسمره الأثينيون في لوح من الخشب ويرجمون ابنه بالحجارة حتى الموت أمام عينيه.
يوجد نحو ألف شخصية مسماة بالاسم في «تاريخ هيرودوت»، وأرتياكتيز مجرد واحد منها، ولو نسيت اسمه، فستحتفظ القصة بمعناها. لكن اسم بروتيسيلاوس، الذي دنس أرتياكتيز ضريحه، يعد بمنزلة لمسة لطيفة من أسلوب الإنشاء الحلقي الأدبي، تعيدنا إلى أصول الحرب الطروادية التي بدأ بها «تاريخ هيرودوت». لم يكن زانثبوس - كما كان يعرف أي إغريقي - مجرد جنرال إغريقي؛ إذ كان أبا بركليس، مهندس الإمبريالية الأثينية. وقد يتذكر القراء أيضا واقعة سابقة في «تاريخ هيرودوت» عندما قام الفارسي أورويتيس بشنق بوليقراط الساموسي على صليب، والآن حان دور الإغريق ليقوموا بعملية الصلب. وهكذا يختتم «تاريخ هيرودوت» بنبرة منذرة بسوء؛ إذ استبدل هيرودوت بالخاتمة الاحتفالية المتوقعة ما يمكن أن يسميه باحث موسيقي «قفلة مفاجئة»، وبدلا من التآلف النهائي الذي نتوقعه، نحصل على شيء نشاز وغير متوقع، مما يتركنا على أقل تقدير في حالة من التشكك، وعلى أقصى تقدير قلقين بعمق بشأن ما سيحدث.
ظل هيرودوت دائما مصدرنا الرئيس حول الحروب الفارسية، وكان لكل معركة سردها أبطالها. وقد اشتهر عن جون ستيورات ميل إشارته إلى أن «موقعة ماراثون، حتى كحدث في التاريخ الإنجليزي، أهم من معركة هاستينجز.» قوية هذه الكلمات، لكن المكانة الأولى لم تعط بوجه عام إلى أي من الانتصارات الإغريقية المذهلة، بل إلى هزيمة ثيرموبيلاي ذات الشهرة العالمية؛ لأن المرء يجد دائما ما يواسيه إذا شعر أن باستطاعته إعادة صب عملية إبادة تامة في قالب تضحية طوعية في سبيل الوطن. وكما كتب مونتين سنة 1580: «هناك هزائم انتصارية تنافس الانتصارات»، ولا شيء من انتصارات الإغريق على الفرس يضاهي في مجده إفناء الإسبرطيين في ثيرموبيلاي.
كانت أسطورة ثيرموبيلاي عنصرا قويا شديد الحضور في الفترة السابقة على تحرير اليونان من الهيمنة التركية في عشرينيات القرن التاسع عشر، وكان ريتشارد جلوفر قد أثار من قبل في 1737 ضجة بقصيدته الملحمية «ليونيداس» التي روت الأحداث المحيطة بالمعركة، وقد ترجمت «ليونيداس» من الإنجليزية إلى الفرنسية والألمانية والدنماركية. وقدمت تتمة جلوفر المعنونة «الأثينيد» صورة مغايرة معبرة لوصف هيرودوت موت ليونيداس. فعلى الرغم من أن هيرودوت ذكر أن خشايارشا وضع رأس ليونيداس المقطوع على خازوق، فإن جلوفر يصور ملك إسبرطة تصويرا هادفا وقد صلب على يد عدو الحضارة هذا، ومن ثم يستحضر موت يسوع المماثل وفكرة التضحية الطوعية بالنفس. ورسم دافيد لوحته الشهيرة «ليونيداس في ثيرموبيلاي» سنة 1814. وكان بايرون متبعا سنة قديمة عندما كتب أبياته الشهيرة:
ألا يجب أن نبكي على أيام أعظم يمنا؟
ألا يجب أن نحمر خجلا؟ فآباؤنا نزفوا الدماء.
أيتها الأرض! أعيدي لنا من قلبك.
رفات قتلانا الإسبرطيين!
من الثلاثمائة لا تعطينا إلا ثلاثا.
صفحه نامشخص
ليصنعوا ثيرموبيلاي جديدة!
شكل 3-5: تظهر هذه الصورة - المطبوعة على حجر والتي رسمها آرثر إيه ديكسون - استقبال اللورد بايرون سنة 1823 في بلدة ميسولونجي اليونانية التي ذهب إليها دعما لليونان في حربها ضد الأتراك العثمانيين لنيل استقلالها. وقد مات الشاعر هناك متأثرا بالحمى بعد ذلك بسنة، وكانت المدينة لا تزال تحت الحصار.
5
بعد خلع ربقة العثمانيين في نهاية المطاف بعدة سنوات، نشر أندرياس كوروميلاس أول ترجمة يونانية حديثة لهيرودوت كإلهام لبني وطنه.
كثيرا ما كانت تستحضر فكرة ثيرموبيلاي لإضافة سياق تاريخي إلى أي محاولة أخيرة للتصدي لأعداد متفوقة بدرجة هائلة. وهكذا أطلق ماونتباتن على النجاح الملحوظ لقوة حشدت على عجل من جنود هنود وبريطانيين لإجبار اليابانيين الغزاة على الانسحاب من منطقة كوهيما الهندية سنة 1944 (وكان منعطفا مهما في الحرب العالمية الثانية) اسم «ثيرموبيلاي البريطانية الهندية». ويوجد هناك نقش معروف على شاهد القبر يتوسل إلى قرائه:
عندما تعود إلى الديار، حدثهم عنا وقل لهم:
من أجل غدهم ضحينا بيومنا.
يصعب ألا نعتقد أن هذين البيتين - وهما على الأرجح للشاعر الكلاسيكي الإنجليزي جون ماكسويل إدموندز (1875-1958) - لم يصاغا على شاكلة نقش شاهد قبر قتلى ثيرموبيلاي المنسوب لسيمونيدس والذي استشهد به هيرودوت:
أيها المار الغريب، اذهب وقل للإسبرطيين:
إننا نرقد ها هنا طاعة لأوامرهم.
صفحه نامشخص
العجيب أنه لم يقتصر استحضار فكرة ثيرموبيلاي على السياقات الدفاعية، بل استحضرت أيضا في السياقات الهجومية؛ فالألمان التعساء الذين أرسلوا ليعانوا معاناة بائسة خلال حصار ستالينجراد الفاشل، لم يكونوا مسرورين لتلقي هذه الأوامر ذاتها الصادرة من هتلر (بأن يقاتلوا حتى الموت دون الاستسلام)، وقد ذعروا يقينا عندما عرفوا أن الصحافة الأوروبية تنشر ادعاء جورينج بأنهم يضحون طواعية بأنفسهم لإنقاذ الحضارة من انقضاض الحشود البربرية الآتية من الشرق، مثلما فعل الإسبرطيون تماما منذ أكثر من ألفي عام.
شكل 3-6: لا يزال حصن ألامو - الكائن في سان أنطونيو بولاية تكساس - وجهة سياحية شهيرة حتى يومنا هذا.
6
وفي الولايات المتحدة، تمخضت الهزيمة الحاسمة التي تعرضت لها القوات الأمريكية في حصن ألامو سنة 1836 عن نصب تذكاري يحمل كلمات «ثيرموبيلاي أبقت على رسول يحمل أنباء الهزيمة، أما ألامو فلم تبق ولم تذر.» وكان الدفاع الفاشل عن إحدى النقاط الخارجية التابعة للكونفيدرالية في سابين باس بولاية تكساس سنة 1863 الحافز وراء نشر كتاب بعنوان «سابين باس: ثيرموبيلاي الكونفدرالية». وبعد ذلك بقرن، بدأ الأمريكيون يرسلون قوات إلى فيتنام، وفي 1978 حولت رواية دانيال فورد عن تلك الحرب وعنوانها «واقعة في موك وا» إلى فيلم سينمائي بعنوان «اذهب وقل للإسبرطيين»، بطولة بيرت لانكستر وكريج واسون، ودار حول فكرة التضحية الطوعية، وتمحورت حبكته الدرامية حول دفاع ثيرموبيلاي.
فعندما يصل الأمريكيون إلى نقطة موك وا الخارجية الصغيرة سنة 1963، يجدون مقبرة تضم رفات 300 شخص ونقشا على المدخل باللغة الفرنسية، يتعرف عليه واسون الصغير بوصفه نقش سيمونيدس ويترجمه لرفيق حائر ليست لديه أي فكرة عما يعنيه ذلك. وهكذا تصور الدراية بثيرموبيلاي كسمة لشخص مثقف يعرف تاريخه (واللغة الفرنسية). يرفض الأمريكيون في موك وا تصديق أنهم يمكن أن يخفقوا كما أخفق الفرنسيون من قبل، لكنهم يتعرضون للخيانة، حيث يتم التشديد على أن طرقا عدة تؤدي إلى معسكرهم. وعلى خلاف ليونيداس، لا يجد بيرت لانكستر - الذي رأى من الحرب الكثير، وصار ناقما إلى أقصى درجة - في نفسه رغبة البقاء بمجرد أن تبين خسارة القضية خسارة صريحة، وهو لا يحتاج إلى ذلك؛ لأن الأمريكيين - على خلاف الإسبرطيين - يملكون مروحيات. تأتي نقطة التحول في الفيلم عندما يترك لانكستر مروحية الإخلاء وينضم إلى واسون المثالي في القتال دفاعا عن موقعهم الميئوس منه، وعندما تشرق الشمس بعد معركة ليلية بشعة، نرى جثة لانكستر راقدة عارية على الأرض المغطاة بالمستنقعات، أما واسون فيترنح وهو يدخل المقبرة الفرنسية، وهو فيما يبدو لم يتعرض لإصابة قاتلة، لكن الاحتمالات ضئيلة أن يتمكن من شق طريقه عائدا إلى مكان آمن. لقد أكسب الإسبرطيون في ثيرموبيلاي وقتا لليونان، أما الأمريكيون في موك وا فماتوا بلا مقابل.
لم يكتف هيرودوت - وقد أعانه مؤلفون لاحقون استقوا بشدة من عمله، كما أعانه أيضا وبالتأكيد نقش شاهد قبر سيمونيدس الذي كان متاحا له كي يضمنه في «تاريخ هيرودوت» - بإعطائنا أسطورة ثيرموبيلاي، وهي محور ملحمته الحربية ، بل عضد أيضا تصور أفرودة الحرب التي تضاهي بامتياز القصة الفخمة الطويلة، وهي فكرة اقتبست من هوميروس وانتقلت إلى ثوسيديديس وآخرين يفوقون الحصر. يكرر وصف هيرودوت للحروب الأفكار نفسها التي نراها في مواضع أخرى في «تاريخ هيرودوت»، من أعمال عجيبة تستحق الذكر، وقصر عمر السعادة البشرية، لكن مع إضافة طبيعة الطموح الإمبريالي المتأصلة. وماذا عن دور الآلهة في كل هذا؟ يعتقد هيرودوت بوضوح أنها تلعب دورا ما، وهذا موضوع سنعود إليه في الفصل
السادس .
هوامش
الفصل الرابع
هيرودوت الإثنوجرافي
صفحه نامشخص
لا توجد بغال في إليس.
الأطلسيون لا يحلمون قط.
يظن الجيتيون أنهم خالدون.
يطلي السكيث بالذهب جماجم آبائهم الموتى، ويولمون بلحمهم.
تتبول النساء واقفات في مصر، بينما يقعد الرجال القرفصاء.
يقال إن الرجال في القوقاز يجامعن النساء علانية كالحيوانات.
يدفن البابليون موتاهم في العسل.
يأكل الجيزانتيون القرود!
كل هذا تحصل عليه هيرودوت من الاستقصاءات التي أجراها أثناء أسفاره؛ ففي الكتاب الأول، يحدثنا عن العادات التي تمارس في ليديا وبلاد فارس، أما الكتاب الثاني فيكرسه بالكلية لمصر، ويتضمن الكتاب الثالث انتهاك قمبيز الأعراف المقبولة في مصر، وتجربة دارا لمعرفة كيف يكون رد فعل الناس تجاه الطرق التي يتبعها بعضهم في التعامل مع الموتى، ومعالجة هيرودوت طرفي الأرض، ويتناول الكتاب الرابع سكيثيا متطرقا بإيجاز إلى ليبيا. وبداية من الكتاب الخامس، يتحول التركيز إلى التاريخ السياسي الضيق، وإن شابته بعض الانحرافات الإثنوجرافية، ومن ذلك مثلا عادات الإسبرطيين التي تقدم لنا نظائر مدهشة لعادات الشعوب غير الإغريقية.
يمكن النظر إلى الإثنوجرافيا على أنها تتكون من ملمحين أساسيين يمتزجان امتزاجا وجوديا، وهما المنظور والمنهجية. فلا بد أن يكون الإثنوجرافي إنسانيا وعالما على حد سواء، فيكون إنسانيا في قدرته على التسامي على ثقافته وتقييم المجتمعات الأخرى في إطار لا ينطوي على إصدار أحكام، ويكون عالما في جمع الأدلة من خلال المشاهدة والمحاورة. وفي كلا المجالين، نجد أن فضول هيرودوت وطاقته الفطريين قاداه إلى ارتياد مجال جديد سيوسع بدرجة عظيمة أفق إخوانه الإغريق وفهمهم للمجتمع الإنساني، ويضع في نهاية المطاف حجر الأساس للأنثروبولوجيين الأوروبيين العاملين في العالم الجديد.
صفحه نامشخص
ومثلما يستخدم مؤلفو الخيال العلمي عوالمهم البديلة لطرح مقولات حول العالم الذي يعيشون فيه، تمثل غرض هيرودوت، في جزء منه، في تسليط الضوء على ما كان إغريقيا بشكل متمايز باستعراض العادات اللاإغريقية الواضحة. وعلى الرغم من إظهار هيرودوت انفتاحا عقليا غير معهود على عادات الشعوب غير الإغريقية، «المتحضرة» منها كالمصريين والفرس، و«غير المتحضرة» كالسكيث، على السواء، فإنه يميل إلى رؤيتها بأعين إغريقية، وإن لم يكن دائما؛ إذ إن خريطة هيرودوت الثقافية ليست متأصلة في مقابلة ثنائية بسيطة. فرجل لا يستطيع التفكير إلا من منظور إما هذا أو ذاك، ما كان بوسعه أن يؤلف «تاريخ هيرودوت».
كانت فكرة أن الأعراف الثقافية تختلف باختلاف الزمان والمكان محل خلاف شديد في عصر هيرودوت (على الرغم من أن قليلا من الإغريق ومنهم هيرودوت كانوا يرون أن بعض الطرق الأجنبية ربما تكون أفضل من طرقهم هم). وكان بعضهم يتساءل: هل الآلهة موجودة فعلا، أم أنها من اختلاق البشر؟ إذا كان قانون معين لا يروق لك، فهل يمكنك تغييره فحسب، أم أن هناك مبدأ طبيعيا أساسيا من نوع ما يعارض هذا بشدة؟ كان الأمر كله يختزل إلى الناموس مقابل الطبيعة، وكانت كلمة ناموس الإغريقية تنطوي على عدة أفكار مختلفة؛ كالتشريع والعرف المعزز اجتماعيا والقيمة والتقليد والعادة. كان أنصار الطبيعة يرون بعض الأشياء صحيحا وبعضها الآخر خاطئا، ويعتبرون هذا التفريق أزليا وغير قابل للتفاوض. أما أنصار الناموس، فكانوا يتبنون نظرة مختلفة؛ فالقواعد، بالنسبة لهم، من وضع البشر ويمكن تغييرها أو تجاهلها، ولا ريب أن النواميس هي بالضبط الأشياء التي تثير اهتمام الإثنوجرافيين. فمن يضع القواعد بين هؤلاء الناس؟ وما الجزاءات على انتهاكها؟ وما الذي يحترمونه؟ وكيف يقضون أيامهم؟ وماذا عن الجنس، والزواج، وتربية الأطفال؟ وكيف يتعاملون مع الموت؟ ومن يأكل ماذا؟ ولماذا؟ ربما تكون الطبيعة موضع بعض الاهتمام أيضا (فالمناخ على سبيل المثال قد يشكل الأفراد والثقافات)، لكن الناموس هو الأهم.
كان الناموس محل اهتمام خاص من جانب السوفسطائيين معاصري هيرودوت الذين كانوا يجدون متعتهم في كشف ما يعتبرونه عشوائية كل شيء، وكانوا يشجعون - مثل بعض محاوري سقراط المزعجين - أتباعهم على الاعتقاد أن القوانين وضعت لتخرق، لكن هيرودوت اعتنق وجهة النظر المقابلة، حيث يبين لنا في كتابه أولوية احترام مختلف النواميس. يستطيع المرء يقينا أن يتجاهل النواميس؛ فهي ليست قوانين كقوانين الطبيعة، لكن المرء يفعل هذا متحملا العاقبة. وأشهر حالة في «تاريخ هيرودوت» هي حالة ابن قوروش، قمبيز، الذي سخر من المصريين لعبادتهم عجلا يعرف باسم أبيس، وألحق في الواقع بأبيس إصابة قاتلة في الفخذ. هذه الفعلة لم تروع المصريين فحسب، بل روعت هيرودوت أيضا، ويتركنا المؤلف ولدينا اعتقاد أن موت قمبيز متأثرا بإصابة في الموضع ذاته تماما الذي أصاب فيه أبيس من قبل ليس من قبيل المصادفة. وفي سياق استخفاف قمبيز الأرعن بالنواميس المحلية، يحكي هيرودوت حكاية صارت الآن مشهورة عن تجربة أجراها دارا لإثبات تفضيل المرء عموما عاداته الأصلية:
دعا دارا بعض الإغريق الذين كانوا حاضرين إلى مؤتمر، وسألهم كم يرضون من المال ليأكلوا أجساد آبائهم الموتى، فأجابوا بقولهم إنهم لن يفعلوا ذلك مهما كان المقابل. وبعد ذلك استدعى الملك بعض أفراد قبيلة كالاتياي الهندية التي يأكل أبناؤها جثامين والديهم الموتى، وسألهم في حضور الإغريق (وكان هناك مترجم حتى يفهموا ما يقال) كم يرضون من المال كي يوافقوا على حرق جثامين آبائهم، فصرخوا مرتاعين وحرموا عليه أن يقول مثل هذه الأشياء الشنعاء. وهكذا صارت هذه الممارسات محفوظة كعادات باقية، وأعتقد أن بندار كان على حق أن قال في قصيدته إن العادة سيدة الجميع.
ومع ذلك فإن هيرودوت الإغريقي نفسه قلما يعبر عن اشمئزازه من أي من التشكيلة الهائلة من العادات غير الإغريقية التي يصادفها. فمثله مثل السفسطائيين، تعامل مع النواميس في أغلب الأحوال كما هي، وقد طمح - كباحث ميداني بكل معنى الكلمة - إلى دور المسجل لا القاضي. فإلى الشمال يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم هذه العادات والنباتات والحيوانات، وعلى الجانب الآخر من الجبل يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم تلك العادات والنباتات والحيوانات، وهم يقولون إن على الجهة الأخرى من الصحراء يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم هذه العادات والنباتات والحيوانات. ومثل الأنثروبولوجيين في العصر الحديث، كان مؤمنا بالنسبية الثقافية، لكن إلى حد معين فحسب، فهو يتوقف دوريا للإشادة أو الاستهجان. وفي مرات الشجب القليلة، يظل أرفع مستوى من بعض من أتوا بعده، حتى إن باحثا ميدانيا يحظى باحترام شديد مثل برونيسلاف مالينوفسكي قال في مذكراته أشياء أشد قسوة بكثير عن الأشخاص موضوع بحثه، مقارنة بأي شيء نقرؤه في عمل هيرودوت.
وبالإضافة إلى فضوله تجاه النواميس المتنوعة، كان هيرودوت مهتما باختلاف النواميس بشأن النواميس؛ فهو يروي لنا أن الفرس يتبنون عادات أجنبية أكثر من أي شعب آخر. ولتقارن بينهم وبين المصريين، الذين يتمسكون بنواميس أسلافهم ولا يقبلون أبدا أي نواميس جديدة. وهناك قصتان طويلتان جدا تحكيان لنا عن أفراد لقوا حتفهم نتيجة حماسهم للعادات الأجنبية، وهما أناقارسيس السكيثي، الذي قتل من الواضح على يدي شقيقه عندما اكتشف انخراطه في طائفة دينية أجنبية، وسايلس، وهو الآخر سكيثي، الذي بدأ - بعد أن تيمته الثقافة الإغريقية - يتجول خلسة مرتديا ملابس الإغريق ويعبد آلهتهم، وعندما وشى به واش، أقدم شقيقه هو الآخر على قتله. ويختم هيرودوت بقوله: «شديدو المحافظة هم السكيث، حتى إنهم يعاملون من يعتنقون عادات أجنبية على هذا النحو.»
اعتبر هيرودوت - مثله مثل معظم الإثنوجرافيين - التفاصيل الثانوية للحياة اليومية جديرة كل الجدارة بالتسجيل، لكننا نجد في عمله أن محض غرابة عادات الآخرين وممارساتهم اليومية يحولها إلى شيء دخيل. وهيرودوت ها هنا يتميز عن إثنوجرافيي وأنثروبولوجيي العصر الحديث المدربين على كبح حماساتهم والاكتفاء بتسجيل ما يرون أو يسمعون، وما يفتقر إليه «تاريخ هيرودوت» هو موقف الباحث الميداني المحترف الواضح والمحكم؛ فملاحظات هيرودوت حول العوالم التي يزورها تتميز بمزجها بالعجب، فنحن نقرأ بين السطور ما مفاده: إنك لن تصدق هذا أبدا.
كان هيرودوت، الذي اتسم في بعض الأحيان بأنه كاتب رحلات أكثر منه إثنوجرافيا، منجذبا بشدة إلى الأشياء اللافتة للنظر والغريبة وغير المألوفة والعجيبة والمروعة؛ إلى أي شيء يختلف اختلافا مثيرا عما ألفه هو وإخوانه الإغريق. وكان يستمتع ب «القصي» - بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة (لقد فتنه ما يوجد على أطراف العالم المعروف، كالنمل الهندي الذي يفوق الثعلب حجما وينقب عن الذهب في الأرض) - جزئيا بسبب افتتانه الشخصي بما هو غير عادي، وجزئيا بسبب التزامه بالدقة والشمولية فيما يرويه، لكن جزئيا أيضا، وبكل تأكيد، بسبب علمه أن تلك مادة كتابة مناسبة.
كان هيرودوت مولعا ولعا خاصا بالظواهر غير العادية التي كانت تجلي سعة حيلة البشرية. انظر مثلا إلى براعة السكيث؛ فعندما كانوا يضحون بثور، كانوا يواجهون صعوبة في طهيه؛ لعدم وجود حطب في سكيثيا يصنعون به نارا، ولعدم توافر القدور على الدوام؛ ومن ثم، فهم يضعون كل اللحم في بطن الثور ويخلطون به بعض الماء ويسلقونه على نار اتخذوها من العظام. عجبا؛ فيكون ثورا ذاتي الطهي! وفي شبه الجزيرة العربية، تأتي طيور كبيرة بعيدان القرفة إلى أعشاش على منحدرات جبلية شديدة الارتفاع، لدرجة أنه لا يستطيع إنسان التسلق والحصول عليها؛ لذا طور العرب استراتيجية، حيث يقطعون أجسام الدواب قطعا كبيرة جدا ويتركونها بالقرب من الأعشاش، وعندئذ تهبط الطيور لحمل قطع اللحم إلى أعشاشها، لكن الأعشاش ليست بالقوة الكافية لتحمل الوزن، فتنهار وتسقط على الأرض، وعندها يأتي العرب ويأخذون القرفة، التي يصدرونها بعدئذ إلى البلدان الأخرى. وهناك ما هو أكثر، فأحد أنواع الضأن في شبه الجزيرة العربية له ذيل مفرطح عرضه ثماني عشرة بوصة، وهو أمر مدهش لكنه لا يمثل مشكلة، وأما النوع الآخر فيشكل تحديا؛ لأن ذيله طويل جدا (أربعة أقدام ونصف القدم أو أكثر) لدرجة أنه سيتقرح لو تركت الشياه تجره على الأرض من ورائها وهي تسير، لكن الرعاة فيما يبدو يعرفون ما يكفي عن النجارة لصنع عربات صغيرة يثبتون الواحدة منها تحت ذيل الشاة. مشكلة وحلت!
ويسر هيرودوت سرورا واضحا بالنظام الذي وضعه رجال بابل لضمان تزويج كل نسائهم؛ فالبنات غير المتزوجات مشكلة أشد خطورة بكثير من الذيول الحساسة . ففي كل عام، كان البابليون يعقدون ملتقى تطرح فيه الشابات في مزاد بترتيب تنازلي حسب جمالهن، فيزايد الرجال الأعظم ثراء للفوز بأجمل النساء، ويستخدم المال الذي يجمع على هذا النحو لتوفير مهور للإناث الأقل جاذبية والمعوقات، إن وجدن، وبالتالي كان كل يعود إلى بيته متزوجا ولا يشكو من شيء. مشكلة أخرى وحلت! بل والأفضل من ذلك أن التوازن تحقق، وهو شيء بالغ الأهمية بالنسبة لهيرودوت.
صفحه نامشخص
وفي المجمل، ملأت مدينة بابل الضخمة والثرية هيرودوت بالعجب، لكنه يقول إنه وجد ثاني أكبر عجيبة هناك، وهي القوارب التي تجوب الفرات إلى المدينة. كان تيار النهر أقوى من أن تبحر فيه القوارب شمالا، لكن التجار وجدوا مخرجا؛ فأعلى النهر من بابل، وتحديدا في أرمينيا، كانوا يبنون قوارب لا قيدوم لها ولا كوثل، فكانت مستديرة كالدرع، مصنوعة من جلود سدودة للماء مشدودة على هيكل من خشب الصفصاف، وبعد تحميلها بالبضائع كانوا يضعون عليها رجلين لتوجيهها بالإضافة إلى حمار أو حمارين على حسب حجم القارب، وعندما يصل الرجلان بابل ويبيعان البضاعة، كانا يبيعان هيكل القارب ويحملان الجلد على ظهر الحمارين ويسوقانهما عائدين شمالا إلى أرمينيا، وبمجرد وصولهما إلى أرمينيا بالحمارين، يبنون هياكل جديدة ويبدءون عملية بناء القوارب من جديد. وهكذا كانت تتم التجارة دون قوارب تحتاج إلى إبحار ضد التيار. مشكلة أخرى وحلت!
إن افتتان هيرودوت بالتنوع يدفعه إلى إطلاعنا على عادات تناول الطعام التي تميز الشعوب التي درسها؛ فهناك ثلاث عشائر في بابل لا تأكل إلا السمك، ومعظم القبائل التي تسكن القوقاز تقتات على الشجيرات البرية. ويأكل الكاليبيداي الحبوب والبصل والثوم والعدس والدخن. وأما الأرجباي المحبون للسلام، الذين يظلون منذ مولدهم صلعانا، فيتألف طعامهم بالكلية من ثمار شجرة البونتيكوس، التي يصنعون منها الطعام والشراب على السواء. وأما الإثيوبيون الذين يعيشون في كهوف فيأكلون الثعابين والسحالي. ولا يأكل نساء قورينا لحوم الأبقار تعظيما للإلهة المصرية إيزيس التي كان يرمز لها بصورة بقرة. وطبعا، يأكل الجيزانتيون لحوم القردة.
كما هو الحال مع الأعمال الأنثروبولوجية في يومنا هذا ، تلقى أدوار الجنسين والزواج بشكل حتمي نصيبا كبيرا جدا من الاهتمام في «تاريخ هيرودوت». ومثل إثنوجرافيي العصر الحديث، يعترف هيرودوت بالقيمة الصادمة التي تملكها العادات التي تتحدى قيم النظام الأبوي الغربية التقليدية بسيطرته المحتومة على الحياة الجنسية الأنثوية، وما يصاحب ذلك من تقسيم إلى ما هو علني وسري. ومما أثار روع هيرودوت أن المرأة في بابل يجب أن تذهب مرة في حياتها وتجلس في معبد أفروديت، وتمارس الجنس مع أول رجل يلقي إليها بقطعة عملة، وعندئذ فقط يجوز لها مواصلة حياتها القائمة على الاحتشام الجنسي الدائم (تعود النساء طويلات القامة حسنات الطلعة إلى بيوتهن بسرعة، لكن بعض النساء الأقل جاذبية يضطررن إلى الاستمرار في المحاولة لما يصل إلى ثلاث سنوات أو أربع). وترتدي الواحدة من نساء الجندانيين خلاخيل بأعداد الرجال الذين مارست معهم الجنس، والمكانة الأرفع لصاحبة أكبر عدد من الخلاخيل؛ لأنها حظيت بحب أكبر عدد من الرجال. وبدلا من التزاوج مثنى مثنى، يمارس الأوزيون الجنس بشهوانية مع من يريدون، وعندما يكبر الأطفال الناتجون عن هذا الوطء، يحضرون إلى اجتماع للرجال ويلحق كل طفل بأب استنادا إلى الشبه بينهما.
أما المعالجة الأتم تطورا فهي معالجة هيرودوت للأمازونيات، التي تختلف اختلافا جذريا عن السرود القديمة الأخرى في تصويرها هؤلاء النساء المحاربات تصويرا مشرفا، كما أنها قصة رائعة أيضا؛ فقد كان الإغريق يصورون الأمازونيات، اللاتي اشتهر عنهن كسر القواعد الجنسانية، دائما كأعداء شواذ للحضارة. فنجد على أفاريز البارثينين التي خلدت ذكرى الانتصارات الإغريقية في الحروب الفارسية ما يشير إلى قوى الطبيعة الخطيرة، مصورة على هيئة ثنائية مكونة من الأمازونيات وكائنات القنطور التي نصفها رجل ونصفها فرس. وقد تفاخر الخطيب ليسياس، الذي يصغر هيرودوت ببضعة أجيال، بانتصار الأثينيين المبكر عليهن في الحرب. لكننا نجد في «تاريخ هيرودوت» وصفا مفصلا خلابا لمغازلة الأمازونيات والسكيث التي تبلغ أوجها بزواج هانئ بين الفريقين يتمخض عن السلالة البشرية المعروفة باسم السارماتيين. ولم يرد في سرد هيرودوت ذكر أي شيء من التفاصيل المروعة عن الأمازونيات التي نجدها في أماكن أخرى (مثل عادتهن قتل مواليدهن الذكور).
يذكر هيرودوت أن الحكاية التالية تحكى عن السارماتيين؛ فبعد أن تقاتل السكيث مع جنود أشاوس جاءوا إلى شواطئهم على متن سفن، فوجئوا عند فحصهم جثث من تغلبوا عليهم أنهم نساء. وبعد التشاور، يقرروا التوقف عن قتالهن وبالأحرى محاولة كسب صداقتهن، وذلك على أمل إنجاب أطفال من مثل هؤلاء الأمهات الرهيبات؛ فيرسل السكيث فرقة من الشباب ومعها تعليمات بالنزول بالقرب من هؤلاء النساء غريبات الشأن، وشيئا فشيئا، يقترب معسكرا الأمازونيات والسكيث أحدهما من الآخر. وكان من عادة الأمازونيات التفرق عند منتصف النهار، إما فرادى وإما مثنى مثنى، بغرض استخدام الخلاء على الأرجح (لكن الإغريق لا يدركون ذلك)، ويفعل السكيث الشيء نفسه، محاكين بدقة كل حركة يأتين بها، وهو تصرف غير مألوف في المواعدات الغرامية الأولى، لكن هذا ما يقوله لنا هيرودوت فيما يبدو. وعندما يدنو أحد السكيث من إحدى الأمازونيات بنية مطارحتها الغرام، توافق المرأة على الفور، بل وتطلب منه بلغة الإشارة أن يأتي في اليوم التالي بصديق وتخبره بأنها ستفعل الشيء نفسه (ويتطور الأمر شيئا فشيئا). ولم يمض وقت طويل حتى يتزاوج الفريقان تماما ويدمجان معسكريهما في معسكر واحد، وبعد فترة قصيرة، يقترح السكيث على الأمازونيات أن يعودوا جميعا إلى ذويهم حيث آباؤهم وأمهاتهم وأمتعتهم، لكن الأمازونيات الصناديد يرفضن ذلك، ويجبن بقولهن: لا يصلح لنا أن نعيش مع نسائكم ...
لأننا لا نتبع العادات ذاتها التي يتبعنها؛ نحن نطلق السهام ونرمي الرماح ونركب الخيل، لكننا لم نتعلم القيام بالأعمال المنزلية قط، في حين لا يفعل نساؤكم أيا مما نفعل؛ فهن يمكثن داخل العربات ويقمن بأعمال النساء، هن لا يذهبن للصيد، بل وفي الحقيقة لا يذهبن إلى أي مكان. لا يمكننا أبدا أن نتواءم معهن، لكن إن كنتم تريدون أن نكون زوجاتكم، وتريدون حقا توخي الإنصاف، فلتذهبوا ولتأخذوا من آبائكم نصيبكم من ممتلكاتكم، وعندئذ سنقيم هنا معا مجتمعا خاصا بنا.
المدهش أن الشباب يوافقون، وينطلقون في رحلة تستغرق ثلاثة أيام شمالا ومثلها شرقا، ويقيمون مجتمعهم الجديد الذي عرف باسم السارماتيين. وقد ظلت المرأة السارماتية حتى عهد هيرودوت تمارس القنص على ظهر الخيل وتقاتل في الحروب. علاوة على ذلك، فإن المرأة السارماتية لا تتزوج حتى تقتل عدوا، ولهذا السبب - وفي صورة تعكس بشكل مثير للاهتمام محنة النساء قليلات الجاذبية اللائي يقعدن في المعبد في بابل لسنوات - يموت بعضهن طاعنات في السن دون أن يتزوجن.
معظم البيانات التي يطلعنا عليها هيرودوت لا تقتصر على غير الإغريقيين وحسب، ومن ثم العادات الجديرة بالملاحظة فحسب، لكنها ترسم أيضا دورة حياتية مميزة للجنس والزواج والطعام والموت. وكل هذه الأشياء تحدث في سياق اجتماعي؛ إذ تفضي التقاليد الجنسية في نهاية المطاف إلى إنجاب الأطفال، ولا بد أن يتبع الإنسان المولود حديثا أعراف الجماعة في عاداتها المتعلقة بتناول الطعام، وكذلك - من جديد - الحياة الجنسية، وبمرور الوقت ستقام لهذا الإنسان جنازة ويدفن (أو لا تقام له جنازة ولا يدفن) وفقا للقواعد المتعارف عليها اجتماعيا، وأحيانا تتمخض تقاليد الجماعة فعلا عن موت أفرادها، وستقرر هذه التقاليد دائما ما يفعل بالجثامين بعد الموت.
قليلون منا كانوا سيجدون في أنفسهم الرغبة في العيش بين هنود الباداي؛ فحتى إذا استطعنا تحمل نظامهم الغذائي المشتمل على اللحم النيئ، فربما نفكر مرتين إذا كان اللحم المقدم لتناوله هو لحم بشري؛ إذ يروي هيرودوت أنه متى مرض الواحد من الباداي، يضع رفاقه المقربون ممن ينتمون إلى نوع جنسه نهاية لحياته؛ خشية أن يفسد لحمه ويفقد صلاحيته لأكله، ولذلك ينفي المريض بشدة أنه مريض (كم هو هائل الحس الكوميدي هنا، فلنا أن نتخيل الباداي وهو ينهض من رقاده محتجا ويقول: «كلا، أنا في الحقيقة أشعر بتحسن كبير اليوم!») وعلى الرغم من كل إصراره، فإنه يقتل ويوزع لحمه في وليمة. وتضحي القبيلة بأي شخص يطعن في السن وتأكل لحمه، لكن قلما يطعن أحد في السن بالتأكيد؛ لأن المرء بقراءته «تاريخ هيرودوت» يتخيل أن أصدقاء الباداي وأهليهم ينهون حياتهم لدى إصابتهم بأولى علامات برد.
يربط هيرودوت، في مناقشته الباداي، بين الموت والأكل، وأما في معالجته التراقيين الذين يعيشون شمال كريستونيا، فالربط يكون بين الموت والجنس/الزواج؛ فهم يمارسون على ما يبدو تعدد الزوجات، وعندما يموت الرجل منهم، تخضع زوجاته لاختبارات دقيقة لتقرير أيهن كانت تحظى بحبه أكثر من غيرها، وبعد سماع الرجال والنساء على السواء يسهبون في تعديد محاسن الفائزة سعيدة الحظ، يقدم أقرب أقاربها على نحرها على قبر زوجها ثم تدفن معه. أما الأخريات فيشعرن أنهن أصبن بمصيبة كبيرة؛ لأنه لا شيء تستحق عليه إحداهن اللوم أشد من عدم وقوع الاختيار عليها.
صفحه نامشخص