حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرها
طاليس.
في الواقع لم يتنبأ طاليس بنبوءة حقيقية، بل كان الأمر محض افتراض مستنير مبني على معلومات. فأغلب الظن أن طاليس لم يكن يفهم الطبيعة الحقيقية لكسوف الشمس؛ حتى إنه لم يكن يعلم أن للقمر أية علاقة بالأمر، ولكنه لحسن حظه كان رجلا رحالة، وهذا ما يفسر سبب افتراضه المذكور. وربما يكون قد اطلع على السجلات الدقيقة لذوي البصيرة من المنجمين البابليين، وعرف عن دورة تميز وقائع الكسوف في الماضي، حيث كان هناك أعوام محددة قد يحدث فيها الكسوف وأعوام أخرى لا يمكن أن يحدث فيها. وأقصى ما يمكن أن يكون قد استنتجه طاليس من هذه السجلات أن هناك فرصة كبيرة لحدوث كسوف في مكان ما في وقت ما خلال عام 585ق.م. ولو ادعى طاليس أكثر من ذلك لرآه الناس دجالا.
وكان ذلك الكسوف فرصة سانحة لتدعيم نظرة علماء الطبيعة للعالم. من الواضح أن هؤلاء كانوا مفكرين يعتد بهم. وقد يبدو ذلك غريبا عندما ينظر المرء للتفاصيل المتبقية من آرائهم؛ ذلك أن النظريات المنسوبة بطريقة يعول عليها إلى طاليس تؤكد أن أحجار المغناطيس إنما هي كائنات حية وأن العالم مصنوع من الماء. ربما ذكر طاليس أيضا العديد من الأمور التي تأتي في مرتبة أقل من الناحية التخمينية؛ مما أكسبه سمعة وصيتا بين أقرانه بوصفه رجلا ذا معرفة عملية. وإذا نظرنا إلى هاتين الفكرتين الجامحتين في سياقهما الطبيعي، نجد أنهما تستحقان بعض الاحترام.
لننظر إلى مسألة الماء أولا. من الخصائص المميزة لما نطلق عليه الآن التفسير العلمي للأمور أن يكون بسيطا قدر الإمكان، ولكن طاليس تجاوز تلك النقطة وحاول اختزال كل الأمور في أمر واحد فقط وهو الماء. ويبدو أنه لم يتمكن من الوصول فعليا لأية تفسيرات تقوم على الماء في تلك العصور القديمة التي كان يعيش بها. إلا أنه في بحثه عن مادة طبيعية يمكنها توحيد ظواهر العالم وتبسيطها كان يسعى على الأقل وراء المعرفة فيما نعتبره الآن المكان الصحيح، عوضا عن تعقيد الأمور من خلال الاستعانة في تفسيره بالكثير من الآلهة.
وليس واضحا ما إذا كان طاليس يقصد بالفعل أن كل شيء يتكون من الماء بشكل ما أم أن الماء يشكل أصل كل شيء، وربما قصد كليهما. ومن المفارقات التاريخية غير المضللة أن يفسر ما يرمي إليه طاليس - كما قال أرسطو - بأن الماء هو الأصل
arche ، وهو مصطلح استخدمه بعض المفكرين اللاحقين، ليس بمعنى أصل الأشياء فحسب بل المادة الأساسية التي يتكون منها كل شيء بطريقة ما ويعود إليها كل شيء في النهاية.
وأيا كان التفسير، لم يكن الماء خيارا سيئا بالنسبة لطاليس؛ فعلى النقيض من العناصر الأخرى الشائعة كالأرض والنار، يمكن للماء أن يتخذ أشكالا متعددة كالثلج أو البخار؛ ولذلك يبدو عنصرا نشطا متعدد الاستخدامات. وعندما اقترح أرسطو أسبابا لتفضيل طاليس للماء لاحظ أيضا أن للماء ارتباطا شديدا بالحياة، فالطعام والدم والمني كلها تحتوي على الماء، والنبات والحيوان كل يتغذى على الماء، والكائنات الحية تميل نحو الرطوبة إلى حد ما ويصيبها الجفاف عند الموت. كما أن العديد من التفسيرات الأسطورية للكون تعطي دورا رئيسا للماء حيث سطر البابليون وقدماء المصريين أساطير عن الخلق يلعب فيها الماء دورا بارزا، وهو أمر ليس بغريب؛ لأن كلتا الحضارتين اعتمدتا على الأنهار التي استقر حولها الناس. وفي ملاحم هوميروس (في القرن الثامن قبل الميلاد) كان أوقيانوس الذي يجسد الماء المحيط بسطح الأرض الدائري هو واهب الحياة وربما كان منجب كل الآلهة. وطبقا لما ذكره بلوتارخ (حوالي 46-120م)، كان الكهنة المصريون يحبون الإشارة إلى أن هوميروس وطاليس قد استمدا أفكارهما حول الماء من مصر.
وربما علم طاليس بالأساطير المصرية والبابلية القديمة، إلا أن هذا لا يعني أنه كان مرددا لها وحسب أو حتى إنه استمدها منهما، بل ربما تكون الأساطير وتأملاته الخاصة قد نشأت عن وعي بفاعلية الماء وتعدد استخداماته وتغلغله في جل عمليات الحياة. كما أن طاليس قد استفاد من هذا الوعي بطريقة مختلفة كل الاختلاف؛ إذ لم يكن الماء لديه شقيق الإلهة تيثيس وزوجها، كما كان أوقيانوس في «ملاحم هوميروس»، ولم يكن كذلك خليطا من أنواع الماء الثلاثة المشخصة في علم الكون البابلي وهم أبسو وتيامات ومومو الذين أوجدوا الآلهة، ولم يكن كذلك نون - الماء البدائي الذي كان أبا لإله الشمس في الصباح في الأسطورة المصرية القديمة - بل هو ماء طبيعي يمكن للمرء السباحة فيه أو تناوله، وهو لا يتعلق بأية آلهة مجسدة سواء بالميلاد أو بالزواج.
وثمة فرق آخر بين طاليس ومن سبقه من صناع الأساطير، ألا وهو أنه ربما يكون طاليس قد شعر بضرورة ذكر أسباب لبعض أقواله على الأقل؛ فقد رأى أن الأرض ترتكز على الماء، ويبدو أنه قال ذلك «لأنها تطفو كالخشب والمواد المشابهة بما يمكنها من الارتكاز على الماء وليس على الهواء.» كانت قضية ارتكاز الأرض من أكثر الأسئلة التي سعى علماء الطبيعة جاهدين إلى الإجابة عنها. وبدلا من الإصرار على تفسير دوجمائي، يبدو أن طاليس حاول التفكير في الأمر بطريقة منطقية؛ فالماء يمكنه حمل بعض الأشياء كألواح الخشب، وكذلك قد يحمل الأرض ذاتها. ولكن أرسطو لم ينبهر بذلك الاستدلال، بل أوضح أنه إذا كانت الأرض بحاجة لما ترتكز عليه فالأمر نفسه ينطبق على الماء الذي يزعم أنه يحمل الأرض. وهكذا لم يجب طاليس بالفعل على السؤال. وثمة اعتراض قوي آخر على منطق طاليس وهو أن ألواح الخشب قد تطفو ولكن بعض الأشياء الأخرى لا تطفو، فلماذا إذن نفترض أن تطفو الأرض كلوح الخشب ولا تغرق كالحجر؟ ولكن حتى تلك الهزيمة انقلبت نصرا لطاليس، فكي ندحض أفكاره علينا أن نجادله بالمنطق، وهي إشادة ما كنا لنفكر في تقديمها للكهنة المصريين.
وربما يستحق طاليس الإشادة نفسها لزعمه أن المغناطيس والكهرمان كائنات حية (أو ذات روح، حيث تشير هاتان الصفتان إلى الشيء نفسه في الوقت الحاضر ). فقد لاحظ أنها تتمتع بالقدرة على تحريك بعض الأشياء الأخرى وتحريك نفسها باتجاه تلك الأشياء، وحاول تفسير هذا اللغز باقتراح أن بها نوعا من الحياة، فالحركة التلقائية غالبا ما تعد إحدى علامات الحياة. ونحن نختلف مع طاليس في أن القدرة على إحداث الحركة لا تكفي وحدها لإسباغ صفة الحياة على الحجر، ولكن هذا لا يعني أن نتجاهل تأملاته بوصفها ضربا من العته. وحتى اليوم لا يوجد بين أيدينا تعريف دقيق للحياة، وفي القرن السابع قبل الميلاد لم يكن هناك إلا ما يمكن أن يوصف بالتعريف الغامض لها. وهكذا قد تصبح فكرة طاليس التي تبدو شاذة نتيجة طبيعية لعقل فضولي كثير السؤال في وقت لم يفهم الناس فيه من الأمور إلا قليلا.
صفحه نامشخص