حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
ژانرها
الجزء الأول
الفصل الأول
النموذج الأصلي: الملطيون
لن يحسم التاريخ أبدا هوية منشئ الفلسفة، فقد يكون أحد العباقرة الفقراء هو من اخترعها ثم غرق في لجة التاريخ غير المكتوب قبل أن يتمكن من الإعلان عن نفسه للأجيال القادمة. وليس هناك ما يدعونا لأن نعتقد بوجود ذلك الشخص، ولكن عندئذ ما كانت الفلسفة لتظهر إلى الوجود. ولحسن الحظ توجد على الأقل سجلات لإحدى بدايات الفلسفة، حتى إن لم نتيقن من أنها لم تسبق ببدايات أخرى زائفة.
ويحظى حاليا الفلاسفة الأوائل بدراسة جادة في المكتبات والجامعات، لكن العديد منهم اشتهروا في بدايتهم فيما يمكن أن يعد فرعا من الأعمال الاستعراضية؛ فقد كانوا يظهرون للناس مرتدين ثيابا فخمة في الغالب ويلقون المحاضرات عليهم أو يقولون قصائد الشعر فيهم. وقد جذبت هذه العروض الكثير من المارة والأتباع المخلصين وأصحاب العقول البسيطة في بعض الأحيان. وكان بعض هؤلاء الرجال أكثر تبسطا مع الآخرين من غيرهم. فمن جهة نجد الشاعر الرحالة زينوفانيس الذي قال - وهو في الثانية والتسعين من العمر حسب زعمه آنذاك - إنه قضى «سبعة وستين عاما ... طارحا الهموم بين جنبات أرض اليونان.» ومن جهة أخرى نجد مثالا لأحد الأرستقراطيين الذين يزدرون كل ما حولهم وهو هرقليطس الأفسسي (والذي عرف في العصور القديمة باسم «الكئيب» و«المنتحب» و«الغامض») والذي كان باعترافه يبغض الحكماء ومن يستمع إليهم من العامة وبدا أنه يحتفظ بآرائه لنفسه. وقد عاش معظم الفلاسفة الأوائل بين طرفي هذين النقيضين، وكان ذلك في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد في أجزاء مما يعرف الآن باليونان وتركيا وإيطاليا.
واليوم يعرف هؤلاء باسم «فلاسفة ما قبل سقراط»، وهو ما يشير إلى أن معظمهم لسوء حظهم - كما يرى مؤرخو القرن التاسع عشر - قد ولدوا قبل سقراط (469-399ق.م.) قد يفضل البعض إطلاق هذه التسمية عليهم، ولكنهم في حقيقة الأمر لم يكونوا محض افتتاحية لإحدى حفلات الأوبرا السقراطية؛ فكما قال نيتشه فإنهم اخترعوا النماذج الأصلية للفلسفة اللاحقة، كما أنهم اخترعوا العلم، الذي كان حينذاك يفضي إلى النتائج نفسها التي تفضي إليها الفلسفة.
ولم تهبط أولى هذه المعجزات من السماء على حين غرة، فلم تكن بلاد الإغريق في القرن السادس قبل الميلاد هي فجر التاريخ، وقد يكون ثمة برهان على أن البداية قد سبقت ذلك عن طريق الهندسة البابلية البدائية أو الديانات الإغريقية القديمة. وقد يقال أيضا إن فلاسفة ما قبل سقراط لم يخترعوا التفكير ذاته، رغم أنهم كانوا مفكرين من الطراز الأول، وإن البحث في بعض المساعي السابقة قد يساعد على إيضاح أفكارهم. لكننا بصدد تاريخ الفلسفة وليس تاريخ كل شيء، وعلينا أن نبدأ من نقطة ما. •••
أفضل مكان نبدأ منه هو مدينة ملطية، وهي إحدى المدن الأيونية التي تقع على ساحل آسيا الصغرى (في تركيا حاليا). وفي القرن السادس قبل الميلاد، عندما ترعرع كل من طاليس وأناكسيماندر وأناكسيمينس هناك، كانت ملطية قوة بحرية تمتلك العديد من المستعمرات في الشمال في تراقيا وحول البحر الأسود، بالإضافة إلى علاقات تجارية مع أجزاء من جنوب إيطاليا وبلاد الشرق ومصر. وكانت ملطية مدينة متطورة توفر للبعض وقت الفراغ الذي أكد أرسطو لاحقا أنه أحد المتطلبات الأساسية للفلسفة. وقد ناقش أرسطو بعد ذلك بمائتي عام أفكار هؤلاء الرجال الملطيين الثلاثة مرات عدة، حيث قسم المفكرين الإغريق الأوائل إلى «علماء اللاهوت» الذين رأوا أن العالم تتحكم فيه كيانات طائشة خارقة للطبيعة و«علماء الطبيعة» الذين حاولوا تفسير العالم الذي يبدو مضطربا وغير منظم، وفقا لمبادئ أكثر بساطة وموضوعية. وقد أكد أرسطو أن الملطيين هم أول علماء الطبيعة.
دون العديد من فلاسفة ما قبل سقراط خواطرهم بالإضافة إلى إلقائها على الملأ، ولكن يمكن بالكاد التعرف عليها مما تبقى منها حتى اليوم؛ إذ تناثرت كتاباتهم بمرور الوقت ولم ينج منها إلا القليل. وطوال ما يقرب من ألفي عام، ظل الباحثون يبحثون في فقرات لا تتجاوز بضع عبارات، ويقفون على بعض الكلمات هنا وهناك وهنالك، معولين في ذلك تعويلا شديدا على مصادر ثانوية لا يجدون غيرها. ويمكن الاعتماد على بعض التعليقات القديمة على تلك الأجزاء التي عثر عليها في محاولة لتحري الدقة على أقل تقدير، ولكن حتى أفضل هذه الأجزاء قد كتب بعد عصر فلاسفة ما قبل سقراط بعدة أجيال، بل بمئات الأعوام. وسنجد العجب العجاب إذا قرأنا بعض المصادر الثانوية مثل الكتابات غير الدقيقة، رغم إمتاعها، لكاتب السير ديوجين ليرتيوس (الذي عاش في القرن الثالث الميلادي) حيث كان ديوجين مؤرخا يفتقر إلى البصيرة يبتلع كل ما يصادفه من روايات كالحوت يبتلع فريسته.
ويجب أخذ هذه التحذيرات بعين الاعتبار عند معاينة الفيلسوف طاليس الملطي. اشتهر طاليس في بلاد الإغريق لعدة أسباب، أشهرها ما لم يقم به في حقيقة الأمر، وهو أنه تنبأ بحدوث كسوف للشمس عام 585ق.م. حدث ذلك الكسوف وسط معركة بين الدولتين المجاورتين لمدينة ملطية من ناحية الشرق وهما الليديون والميديون؛ مما أضاف إلى البعد الدرامي للأمر وساهم في الشهرة الفكرية التي حققها طاليس. وقد تأثر المقاتلون بحدوث هذا الكسوف أثناء المعركة حتى إنهم ألقوا أسلحتهم وجنحوا للسلم. وقد تأثر الإغريق بشكل عام بهذه النبوءة التي بدا أن طاليس الملطي قد تنبأ بها؛ حتى إنهم نسبوا إليه لاحقا كما لا يصدق من الحكم اللفظية والفعلية والاكتشافات، من إثبات العديد من النظريات الهندسية، إلى القدرة على جمع الثروات الضخمة. وأهم ما في الأمر أنهم صاروا يكنون لفكره احتراما لا حدود له.
صفحه نامشخص