حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

محمد طلبه نصار d. 1450 AH
10

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

ژانرها

شكر وتقدير

لقد قدم لي كثير من الباحثين العون والمساعدة بالتعليقات أو الاقتراحات أو النقد أو بالرد على ما طرحته من أسئلة. ولذلك أخص بالشكر كلا من: جوناثان بارنز، ووالتر بركرت، وبرايان كوبنهافر، والأب الراحل كوبلستون، وجون ديلون، والسير كينيث دوفر، وأنتوني جرايلينج، وجيم هانكينسون، وإدوارد هاسي، وجون مارينبون، وويلارد فان أورمان كواين، وجون فالانس، ومارتن وست. كما أتقدم بخالص الشكر لكل من: أوليفر بلاك، ودانييل بورستين، وراي مونك، وأندرو راشباس، ومات ريدلي، وإيلين سميث (التي كان ذلك الكتاب فكرتها)، والسير بيتر ستروسون، وزوجتي ميراندا سيمور؛ لما قدموه لي من دعم ومساعدة وتشجيع. ولا يفوتني أن أتقدم بأسمى آيات الشكر والتقدير لكل من روبرت بينانت ري وبيل إيموت رئيسي التحرير المتواليين لجريدة «ذي إيكونوميست» لسماحهما لي بإجازات طويلة للتفرغ لهذا الكتاب.

مقدمة

كان آخر ما توقعت أن أكتشفه حين شرعت في تأليف هذا الكتاب منذ أكثر من عشرة أعوام أنه ليس هناك ما يسمى فلسفة، ولكن هذا ما اكتشفته بالفعل وفسر لي الكثير من الأمور بعد ذلك. وانطلقت عازما على إغفال كل ما ظننت أني أعرفه، وبدأت في دراسة كتابات أولئك الذين عاشوا على مدار الألفين والستمائة عام الماضية؛ أولئك الذين يعدهم العالم فلاسفة الغرب العظام. وكان هدفي (الذي تأدب أصدقائي في وصفه ب «الطموح» وغالبا ما كانوا يقصدون «المجنون») أن أتناول قصة الفلسفة كما ينبغي لصحفي أن يعالجها؛ بحيث أعتمد على المصادر الأولية فقط أينما وجدت، وأن أتشكك في كل شيء بات يعتبر حكمة سائرة مألوفة، وفوق كل ذلك أن أحاول تفسير كل ذلك قدر ما أستطيع من الوضوح.

وبينما كنت أعرض للشخصيات المختلفة من القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد الذين جرت العادة على وضعهم في سلة واحدة بوصفهم فلاسفة - بداية بسقراط وأفلاطون وأرسطو (الذين يشار إليهم غالبا بالثالوث، ولكن هل كان هناك من هم أكثر اختلافا فيما بينهم من هؤلاء الثلاثة؟) ومرورا بأهل الفكر في العصور الهيلينية، والمتصوفين والسحرة والمنجمين من أهل العصور القديمة، إلى الأوائل من المفكرين المسيحيين والرهبان المفتونين بالمنطق والعلماء، وعلماء اللاهوت الذين عاشوا في بداية العصور الوسطى، ومن عاش في عصر النهضة من السحرة وأصحاب الرؤى والنحاتين والمهندسين، وصولا إلى بدايات العصور الحديثة - تجلت أمام عيني بنية «الفلسفة» التي تعد افتراضا أقدم موضوعات البحث على الإطلاق، وتوصلت إلى أن علم التأريخ التقليدي الذي يسعى إلى تمييز الفلسفة عن العلوم الفيزيائية والرياضية والاجتماعية والدراسات الإنسانية قد بسطها تبسيطا مخلا؛ إذ كان ضربا من المستحيل أن تقصر ما يشار إليه عادة ب «الفلسفة» على موضوع واحد يمكن وضعه في سهولة على الخريطة الأكاديمية.

يرجع ذلك في أحد أسبابه إلى أن أسماء الأماكن على تلك الخرائط تنزع إلى التغير؛ ففي العصور الوسطى - على سبيل المثال - كانت الفلسفة تغطي عمليا كل فروع المعرفة النظرية التي لا تندرج تحت علم اللاهوت. كان الموضوع البحثي لنيوتن هو «الفلسفة الطبيعية»، وهو مصطلح شاع استخدامه في النصف الأول من القرن التاسع عشر ليغطي معظم ما يندرج الآن تحت بند العلم وجزءا مما يندرج تحت بند الفلسفة. وما كان يسمى بالتفكير الفلسفي يميل بطبيعة الحال إلى التشتت عبر الحدود التقليدية؛ ففضول هذا النوع من التفكير الذي لا يهدأ ونهمه الذي لا يشبع أديا إلى خلق مناطق جديدة من الفكر تزيد مهمة رسم الخريطة تعقيدا. وكما سنرى في الفصل الأول فقد خرجت العلوم الغربية للحياة عندما بلغ بعض المفكرين اليونانيين المعروفين باسم «الفلاسفة الأوائل» من الجرأة مبلغا عظيما تجاهلوا فيه الحديث المعتاد عن الآلهة وشرعوا في البحث عن أسباب طبيعية لكل حدث. وبعد ذلك بفترة طويلة ولد علم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد من رحم أعمال من كان يطلق عليهم آنذاك فلاسفة. وما زالت عملية الإبداع تلك مستمرة حتى اليوم؛ فلغات البرمجة على سبيل المثال نشأت بفضل ما كان يعتبر لفترة طويلة أكثر اختراعات الفلاسفة مللا ألا وهو المنطق الصوري. وثمة مثال صغير ولكنه نموذجي لكيفية نجاح الفلسفة في تحقيق طفرات جديدة يتمثل في حالة جورج كانتور - عالم رياضيات ألماني عاش في القرن التاسع عشر - وكان بحثه في موضوع اللانهاية قد استبعده زملاؤه العلماء في بادئ الأمر بوصفه «فلسفة» محضة حيث بدا بحثا شديد الشذوذ والتنظير ولم يكن من الأهمية بمكان، ولكنه الآن يدرس في الجامعات باسم «نظرية المجموعات».

والواقع أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ طريقة تفكير شديدة النهم إلى المعرفة أكثر منه تاريخ فرع محدد من فروع المعرفة. وتعتبر الصورة التقليدية للفلسفة بوصفها ضربا من ضروب العلوم التأملية للتفكير المحض، المفصول فصلا غريبا عن الموضوعات الأخرى، خدعة ووهما في الرؤية التاريخية. ويعزى ذلك الوهم إلى الطريقة التي ننظر بها إلى الماضي، وبالأخص إلى الطريقة التي نميل إليها في تصنيف المعرفة وتقسيمها ومن ثم إعادة تصنيفها، فالأعمال الفلسفية تسترقها العلوم الأخرى وتتبناها على نحو منتظم؛ فما كان بالأمس فلسفة أخلاقية أصبح اليوم جزءا من التشريع أو اقتصاديات الرفاه، وما كان يندرج في الماضي تحت فلسفة العقل أضحى ينتمي إلى العلوم الإدراكية. ويمتد الطريق في كلا الاتجاهين؛ إذ تثير تساؤلات جديدة في العلوم الأخرى أسئلة جديدة لدى المهتمين بالفلسفة حيث يصبح اقتصاد الغد ضربا مهما من ضروب العلم لدى الفلاسفة الأخلاقيين بعد غد. ويتمثل أحد تأثيرات تلك الحدود الفاصلة بين العلوم والتي تتغير باطراد في إمكانية أن يبدو التفكير الفلسفي عقيما على نحو غير معتاد حتى بالنسبة للمبادرات الفكرية. ويعزى ذلك بالأساس إلى أنه إذا اكتسب أي فرع من فروع الفلسفة قيمة وأهمية فسرعان ما يخرج من إطار الفلسفة. ومن ثم نشأ ذلك المظهر الخادع الذي يوحي بأن الفلاسفة لا يحرزون أي تقدم أبدا.

ذات مرة وصف عالم النفس ويليام جيمس الفلسفة بأنها «محاولة شديدة العناد للتفكير بوضوح.» وعلى الرغم من شدة جفاف هذا التعريف فهو أكثر التعريفات التي أعرفها قربا من الصواب. صحيح أن الوضوح ليس تحديدا أول ما يخطر بالذهن عندما يفكر معظم الناس في الفلسفة، فلا أحد ينكر أن محاولات الفلاسفة للتفكير بوضوح غالبا ما باءت بنتائج عكسية (فأيا ما كان الفرع الذي أنتج لنا شخصية مثل هايدجر، مثلا، مدين للعالم بالاعتذار!) ورغم ذلك فإن ويليام جيمس كان محقا في وصف الفلسفة بهذا الوصف؛ ذلك أنه حتى ممارسو أكثر أشكال الفلسفة غموضا يسعون جاهدين إلى فهم الأمور فهما عقلانيا، وهذا الجهد هو ما يجعل منهم فلاسفة. ومع أن ذلك الجهد لا يؤتي ثماره في بعض الأحيان فإنه ينجح في أحيان أخرى.

كان خلع صفة «العناد» على التفكير الفلسفي مناسبا إلى أبعد الحدود؛ حيث وصفه برتراند راسل ذات مرة بأنه «شديد العناد بشكل غير عادي»، والشيء الذي يميزه عن الأنواع الأخرى من التفكير هو عدم استعداده لقبول إجابات تقليدية، حتى عندما يبدو الإعراض عن فعل ذلك حمقا من وجهة نظر عملية؛ ولذلك غالبا ما يصبح الفلاسفة موضع سخرية لدى الجميع. وقد أدرك الأوائل من مؤرخي الفلسفة الإغريق هذا الأمر إدراكا أفضل منا اليوم؛ إذ امتلأت كتبهم بالحكايات الهزلية التي قد يكون بعضها صحيحا ومعظمها في صميم الموضوع، حتى وإن كان مختلقا. ويعد الاعتراض على تلك السخرية ممن يستحق السخرية تجاهلا لروح الدعابة التي تكمن في الفلسفة، فكثيرا ما كان الفلاسفة يرفعون حواجبهم دهشة مما يراه الناس منطقا سليما في ذلك العصر. وتكتمل الدعابة لاحقا عندما يتضح أن «المنطق السليم» هو ما التبس فيه التباسا غير عادي. ولا شك أنه أحيانا لا تصيب الدعابة، ويبدو الفيلسوف في نهاية الأمر هو الأحمق، ولكنها في الحقيقة مخاطر المهنة.

غالبا ما تبوء المحاولة العنيدة لدفع التساؤلات المنطقية إلى حدودها القصوى بالفشل، وحينها يبدو حلم العقل الذي يستنهض التفكير الفلسفي محض سراب، ولكن في أحيان أخرى تحقق المحاولة نجاحا باهرا ويتجسد الحلم على صورة وحي مثمر. ويسعى هذا الكتاب إلى كشف جانبي القصة المتعلقة بحلم العقل منذ القرن السادس قبل الميلاد وحتى عصر النهضة، وستستكمل الحكاية في مجلد ثان من ديكارت حتى عصرنا الحالي.

صفحه نامشخص