حکمت غرب
حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
ژانرها
1
ولكن العقيدة الحرفية هي التي انتصرت في النهاية. ويأتي بعد ذلك التضاد بين مملكة السماء ومختلف ممالك الأرض، وهو تضاد نجد أصوله في الأناجيل، ولكنه اكتسب أهمية مباشرة بعد سقوط روما، إذ إنه أدى إلى الاعتقاد بأن البرابرة، وإن كانوا قادرين على تدمير المدينة، عاجزون عن تخريب مدينة الله. وأخيرا هناك التضاد بين الروح والبدن، وهو تضاد يرجع إلى أصول أقدم بكثير، من أهمها نظرية سقراط في الجسم والنفس، وقد أصبحت هذه المفاهيم في صورتها الأفلاطونية الجديدة أساسية في الصيغة التي وضعها القديس بولس للعقيدة الجديدة، ومن هذا المصدر استلهمت روح الزهد التي اتسمت بها المسيحية الأولى.
هذا، باختصار شديد، هو العالم الذي تطور فيه ما يمكن أن يطلق عليه إيجازا اسم الفلسفة الكاثوليكية، وقد وصلت هذه الفلسفة إلى أول مراحل نضوجها على يد القديس أوغسطين، الذي تأثر بأفلاطون أساسا، وبلغت قمتها على يد القديس توما الأكويني، الذي أرسى الكنيسة على أسس أرسطية ظل كبار أنصارها يدافعون عنها منذ ذلك الحين، ونظرا إلى أن هذه الفلسفة ترتبط بالكنيسة أوثق الارتباط، فإن أي عرض لتطورها وتأثيرها في العصور اللاحقة لا بد أن يتضمن قدرا من السرد التاريخي قد يبدو لأول وهلة زائدا عن الحد، ولكنه في الواقع ضروري لفهم روح ذلك العصر وفلسفته.
إن المسيحية التي أصبحت لها السيطرة في الغرب، منبثقة من عقيدة اليهود، مع بعض العناصر اليونانية والشرقية؛ فالمسيحية تشترك مع اليهودية في الرأي القائل إن الله يصطفي أناسا معينين، وإن كان نوع الناس المختارين يختلف بالطبع في الحالتين.
وللعقيدتين نفس النظرة إلى التاريخ الذي يبدأ بالخلق الإلهي، ويسير نحو تحقيق غاية إلهية، صحيح أنه كانت هناك بعض الاختلافات في الرأي في مسألة من هو المسيح، وما الذي سيقوم به؛ ففي نظر اليهود سيأتي المخلص فيما بعد، ويضمن لهم الغلبة في الأرض، على حين أن المسيحيين رأوه في يسوع الناصري، الذي لم تكن مملكته مع ذلك تنتمي إلى هذا العالم، وبالمثل فإن المسيحية استمدت من اليهودية مفهوم الصلاح بوصفه مبدأ يوجه المرء نحو مساعدة أقرانه، كما استمدت منها تأكيد ضرورة وجود أركان أساسية للعقيدة، وقد اشتركت اليهودية اللاحقة والمسيحية معا في تأكيد فكرة العالم الآخر، التي كانت فكرة أفلاطونية جديدة في المحل الأول،
2
ولكن على حين أن النظرية عند اليونانيين كانت فلسفية لا يسهل فهمها على الجميع، فإن الرأي اليهودي والمسيحي كان أقرب إلى فكرة تسوية الحسابات في العالم الآخر، حين يذهب الأخيار إلى الجنة ويحترق الأشرار في النار، ولقد أدى عنصر القصاص في هذه النظرية إلى جعلها مفهومة للجميع.
ولكي نفهم كيف تطورت هذه المعتقدات، ينبغي أن نتذكر أن «يهوه»، إله اليهود، كان في البداية إلها لقبيلة سامية قبل كل شيء، وكان يتولى حماية شعبة الخاص، بينما توجد إلى جانبه آلهة ترعى شئون القبائل الأخرى. ولما يكن يوجد في ذلك الحين أي تلميح إلى عالم آخر، فرب إسرائيل يدير الشئون الدنيوية لقبيلته، وهو إله غيور لا يقبل أن يرى لدى قومه آلهة غيره. أما الأنبياء القدامى فكانوا زعماء سياسيين قضوا وقتا طويلا في القضاء على عبادة الآلهة الآخرين، اتقاء لغضب «يهوه» وتحريض تماسك اليهود الاجتماعي للخطر. هذا الطابع القومي والقبلي للعقيدة اليهودية أذكته مجموعة من الكوارث التي حلت بهؤلاء القوم؛ ففي 722ق.م. سقطت إسرائيل المملكة الشمالية في أيدي الآشوريين الذين رحلوا معظم سكانها، وفي 606ق.م. استولى البابليون على نينوى ودمروا الإمبراطورية الآشورية، أما مملكة «جودا» الجنوبية فقد غزاها نبوخذ نصر ملك بابل، الذي استولى على أورشليم في عام 586ق.م، وحرق المعبد وأخذ أعدادا كبيرة من اليهود أسرى إلى بابل.
ولم يسمح لليهود بالعودة إلى أرض فلسطين إلا بعد السنة التي تمكن فيها قورش ملك فارس من الاستيلاء على بابل في عام 538، والواقع أن العقيدة الجامدة والطابع القومي للدين اليهودي قد اتخذا طابعا متصلبا خلال فترة الأسر في بابل، ولما كان المعبد قد دمر، فقد اضطر اليهود إلى الاستغناء عنه بطقوس للتضحية، وإلى هذه الفترة يعود جزء كبير من الشعائر التقليدية لعقيدتهم كما ظلت إلى اليوم.
وإلى هذه الفترة بدورها يرجع تشتت اليهود؛ ذلك لأنهم لم يعودوا جميعا إلى موطنهم، وإنما عاد البعض فقط وظل هؤلاء يشكلون دولة دينية قليلة الأهمية نسبيا، ولكنهم بعد الإسكندر حاولوا على نحو ما أن يحتفظوا باستقلالهم في النزاعات الطويلة الأمد بين آسيا السليوسية
صفحه نامشخص