مِنْ غَيْرِ سَوْطٍ وَلَا نَوْطٍ، بَلْ تَحَمَّلُوا مُعَادَاةَ أَقْرِبَائِهِمْ وَحِرْمَانَهُمْ نَفْعَهُمْ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ مَعَ ضَعْفِ شَوْكَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّةِ ذَاتِ أَيْدِيهِمْ. فَكَانَ أَحَدُهُمْ يُعَادِي أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، لَا لِرِئَاسَةٍ وَلَا مَالٍ، بَلْ يَنْخَلِعُ مِنَ الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ، وَيَتَحَمَّلُ أَذَى الْكُفَّارِ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَشَتْمِهِمْ وَصُنُوفِ أَذَاهُمْ وَلَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.
فَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ وَمَنْ ذَكَرَهُ هَذَا السَّائِلُ قَدِ اخْتَارَ الْكُفْرَ، فَقَدْ أَسْلَمَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ فِرَقِ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَقَلُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ أَسْلَمَ، فَهَؤُلَاءِ نَصَارَى الشَّامِ كَانُوا مِلْءَ الشَّامِ، ثُمَّ صَارُوا مُسْلِمِينَ إِلَّا النَّادِرَ، فَصَارُوا فِي الْمُسْلِمِينَ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ.
وَكَذَلِكَ الْمَجُوسُ كَانَتْ أُمَّةً لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَأَطْبَقُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ إِلَّا النَّادِرُ، وَصَارَتْ بِلَادَ الْإِسْلَامِ، وَصَارَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَالذِّلَّةِ، وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ أَسْلَمَ أَكْثَرُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مُقَطَّعَةٌ فِي الْبِلَادِ.
فَقَوْلُ هَذَا الْجَاهِلِ: إِنَّ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ كَذِبٌ ظَاهِرٌ وَبُهْتٌ مُبِينٌ، حَتَّى لَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ قَدْ أَطْبَقُوا عَلَى اخْتِيَارِ الْكُفْرِ لَكَانُوا فِي ذَلِكَ أُسْوَةَ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَدْ أَقَامَ فِيهِمْ نُوحٌ ﷺ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُرِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُقِيمُ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَطْبَقُوا عَلَى الْكُفْرِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ.
1 / 239