1
طالب في المدرسة يتصل بالشيخ علي يوسف صاحب «المؤيد» ويفسح له في جريدته حتى لينشر مقالاته فكتبت مقالا عنوانه «خطأ العقلاء» موضوعه نقد سعد باشا على تركه نظارة المعارف وتقلده نظارة الحقانية، لأن نظارة المعارف تحتاج إلى جهاد مع الإنجليز عنيف في وضع أسس جديدة للتعليم، وقد بدأ في وضع هذه الأسس فمن الخطأ ألا يتمها، وأن ينتقل إلى نظارة وضعت أسسها ولا جديد فيها إلا السير وفقا للتقاليد المعروفة، ولكن الشيخ علي يوسف لم ينشر المقالة إما لضعفها وإما لظروف سياسية تتعلق بالموضوع كان يراها ولا أراها. وعلى كل حال كانت المقالة الأولى والأخيرة أيام طلبي.
أما في غير الإنشاء فكنت راضيا عن نفسي في دروسي كلها. إلا ما يتصل بالحواشي الأزهرية والتدقيقات اللفظية فكنت أكرهها، وذلك داء قديم، ولكن لم تكن هذه تؤثر في الامتحان إلا ما كان من الامتحان النهائي للجنة الأزهر. وكنت متفوقا على فصلي في الحساب والجبر والهندسة. آخذ مكافآتها كل عام.
وتعرضت مرة وأنا في السنة الثالثة لحادث خطير كاد يفصلني من المدرسة التي لم أدخلها إلا بعد عناء - ذلك أنه أقيم سنة 1910 احتفال في المدرسة لعيد رأس السنة الهجرية، وعهدت إلي لجنة الاحتفال اختيار موضوع، فاخترت «أسباب ضعف المسلمين» وبنيت محاضرتي على أن أسباب ضعفهم ترجع إلى شيئين رئيسين: الأول فساد نظام الحكم في البلاد الإسلامية وما جره ذلك من ظلم للرعية وعسف بحريتها، واستغلال الحكام لمالها وتسخيرهم قواها لملاذهم الشخصية، والثاني رجال الدين فقد شايعوا الحكومات الظالمة وأيدوها، وتآمروا معها وبثوا في نفوس الشعب الرضا بالقضاء والقدر والاعتماد على نعيم الآخرة إذ حرموا نعيم الدنيا - كل هذا أضعف من نفوس المسلمين وأذلهم وأنهك قواهم، ولا أمل في صلاحهم إلا بصلاح رجال الحكومة ورجال الدين إلخ.
فلما أتممت الخطبة دوي المكان بالتصفيق، ولكن راعني أن استدعاني عاطف بك إلى جانبه، وقال لي: هل جننت؟ أمثل هذا يقال؟ وطلب مني المحاضرة فسلمتها إليه ورأيته يسر إلى الشيخ الخضري كلاما، فيقوم يعقب علي ويقول إن المحاضر - بالطبع - يقصد الحكومات الماضية ورجال الدين الماضيين، أما الحكومة الحاضرة فلا مأخذ عليها، وهي العادلة الحازمة، وهي التي رعت مدرسة القضاء وأنفقت عليها وعلمت طلبتها وغمرتهم بالخيرات، وأما رجال الدين اليوم فمثال للنزاهة والطهر والرقي.
فلما انتهى الحفل قال لي عاطف بك: إن بقاءك في المدرسة الآن بيد القدر، فإن ذكرت الجرائد ما قلت واستخدمته في الأعراض السياسية ضحيت بك حرصا على المدرسة - وشاء الحظ ألا يكون ذلك، وأن أبقى في المدرسة.
وكان عاطف بك معذورا؛ فالمدرسة يحاربها الخديو ويتربص بها الدوائر ويدس لها الدسائس، ورجال الأزهر لها كارهون، وإنما تعتمد المدرسة على الحكومة ورضا الإنجليز عنها، فإذا غضبت الحكومة وغضبوا هم أيضا عليها لم يكن لها سند من أحد وقد كان الكلام في السياسة وما حولها في المدارس جميعها جريمة كبرى، حتى كان الكتاب لا يقرر في مدرسة من مدارس وزارة المعارف إلا بعد إقرار من المفتشين بأنه خال من السياسة، والمختارات من الشعر لا تعطي للتلاميذ حتى يقرها التفتيش، وهو لا يقرها إلا إذا خلت من السياسة بأوسع معانيها، فإذا قال المتنبي:
سادات كل أناس من نفوسهمو
وسادة المسلمين الأعبد القزم
أو قال بشار أبياته المشهورة في الشورى، أو قال شاعر أو ناثر شيئا يتصل من قريب أو بعيد بالحكم ونظامه أو الحرية وقيمتها أو نحو ذلك فهذه سياسة محرمة يعاقب عليها المستر «دنلوب»، مستشار المعارف الإنجليزي، أشد أنواع العقاب، حتى ليرووا أن مدرسة اقترحت كتبا لمكتبتها وكان من بينها المصحف الشريف فاحتيج أيضا إلى إقرار بأنه ليس فيه سياسة، وقد أعدى هذا جو مدرستنا فلم نسمع طول دراستنا كلمة واحدة من مدرسينا عن السياسة وشئونها والحكومة ونقدها، والإنجليز وتصرفاتهم - وكل علمنا بهذه الأمور كان عن طريق اتصالنا بالجرائد، فكنت أقرأ اللواء والمؤيد يوميا وأنفعل لهما وأتجاوب معهما.
صفحه نامشخص