بل زدت نفسي إرهاقا بدراسة أخرى، فقد كانت الجامعة المصرية الأهلية قد ولدت في السنة التي ولدت فيها مدرسة القضاء عقب جدال عنيف في المجالس والصحف، وكان موضوع الجدل غريبا حقا ظريفا حقا: هل من الخير لمصر أن تتوسع في التعليم الأولي فتنشئ الكتاتيب، أو تؤسس التعليم العالي فتنشئ الجامعة، كأنهما ضدان لا يمكن الجمع بينهما؟ ولكنها السياسة الإنجليزية، أرادت أن تصرف الأنظار عن التعليم الجامعي لأنه يخرج قادة الرأي في الأمة، فابتدعت فكرة التعليم الأولي وأولويته، وظلت المناقشة طويلا، وكان اللورد كرومر يؤيد التعليم الأولى ويعارض في إنشاء الجامعة، فأسرع مديرو المديريات ومأمورو المراكز والعمد وأعيان البلاد إلى إنشاء الكتاتيب طوعا لإشارة كبار الإنجليز، وأخيرا تقدم داع
6
يدعو إلى إنشاء الجامعة ويتبرع بخمسمائة جنيه بشرط أن يتبرع عدد كبير بمال كثير، وتحمس بعض الكبراء وعقدوا اجتماعا حضره سعد زغلول وقاسم أمين والشيخ عبد العزيز شاويش ومحمد بك فريد وغيرهم، واكتتبوا بمبلغ من المال لا يزيد عن خمسة آلاف جنيه، وأنشئوا الجماعة واختاروا رئيسها سعد زغلول.
فلما عين ناظرا للمعارف اختير لها الأمير أحمد فؤاد (الملك فؤاد فيما بعد).
ثم نمت الجامعة واستدعي لها بعض كبار المستشرقين واختير لها بناء هو بناء الجامعة الأمريكية اليوم. فأعجبني من دروسها محاضرات يلقيها الأستاذ نللينو في تاريخ الفلك عند العرب، ومحاضرات في الفلسفة الإسلامية يلقيها الأستاذ سانتلانا، ومحاضرات في الجغرافيا العربية يلقيها الأستاذ جويدي، وكنت أحضر هذه المحاضرات لماما في غير انتظام ولا التزام، لثقل العبء علي بمدرسة القضاء. ولكن على كل حال رأيت لونا من ألوان التعليم لم أعرفه: استقصاء في البحث، وعمق في الدروس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين ما يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك.
وختمت حياتي المدرسية بموقف غليظ عنيف ثقيل، ذلك هو يوم الامتحان النهائي، فكلما كان أساتذة المدرسة مختلفين متنوعين كانت لجان الامتحان مختلفة متنوعة: لجنة من كبار العلماء الأزهريين، فيهم المفتي وشيخ المالكية وشيخ الحنابلة وبعض كبار القضاة، ولجنة من كبار رجال القضاء الأهلي فيهم فتحي باشا زغلول وعبد العزيز باشا فهمي، ولجنة من رجال العلم المدني، عالم في الرياضة وعالم في الطبيعة وعالم في التاريخ وهكذا، ولكن كان أثقلها وأبغضها اللجنة الأولى، فأما الامتحان التحريري فقد مضى في سهولة ويسر وكنت الأول، وأما الامتحان الشفوي في لجنة الأزهر فكان موضوعات معينة في كل من العلوم الأزهرية: موضوع في النحو وآخر في البلاغة وثالث في أصول الفقه ورابع في المنطق، وهكذا، وكل موضوع عبارة عن جملة أو جملتين من كتاب، تعين للطالب قبل الامتحان بعشرة أيام. فمثلا في البلاغة جملة «واستغراق المفرد أشمل، بدليل صحة - لا رجال في الدار - إذا كان فيها رجل أو رجلان دون لا رجل»، وهكذا في سائر العلوم أخذت هذه الموضوعات وقرأتها وفرغت منها كلها في يومين وليلتين، ولم أدر ما أصنع بالأيام الثمانية بعد، ولكن بعد ثلاثة أيام مر علي في بيتي شيخ أزهري
7
من كبار مدرسيه كما مر على زملائي ليعرف كيف يحضرون موضوعاتهم، فسألني أسئلة لا أعرف من أين أتت ولا كيف تتصور ولا كيف يجاب عنها، فخاف علي من الرسوب في الامتحان، وزارني بعد ذلك مرتين أو ثلاثا يلقي على هذه الأسئلة العجيبة والأجوبة الغريبة، ومع ذلك لم أتقدم كثيرا. وكان يوما أيوم يوم أديت هذا الامتحان، فقد جلس هؤلاء الأساتذة الستة أو السبعة لا أدري على الأرائك متكئين، وفرشت لي فروة على الأرض جلست عليها متربعا، وبدأت أقرأ في الكتاب الأول، وأشرح جوهر الموضوع شرحا صحيحا، ولكن سرعان ما انهالت علي الأسئلة من كل جانب فأجيب حينا وأعرق حينا، وأذكر من هذه الأسئلة: أن المؤلف لم قال «أي» ولم يقل «أعني»؟ فلم أحر جوابا وهكذا. وهي أسئلة محفوظة مرن عليها الطلبة والأساتذة المتعمقون في الدراسة الأزهرية، ولم أمرن عليها لأني اعتمدت في دراستي على أبي. وأبي أنقذني من الحواشي ومن مثل هذه الأسئلة. وجلست هذه الجلسة على الفروة ست ساعات متواليات لا تتخللها راحة ولا شرب كوب ماء، وكل من الممتحنين يخرج من حين إلى آخر يتمشى ويتروض، ومن حين إلى آخر تقدم لهم القهوة والليمون وما إلى ذلك ولا يقدم لي شيء. وأخيرا أفرج عني وسمح لي بالخروج، فلما حاولت القيام لم أستطع أن أمد رجلي ولا أعدل قامتي، وأخذت في ذلك زمنا طويلا حتى عرفت كيف أقوم وكيف أمشي، ولم أدر كيف ذهبت إلى بيتي وكيف قضيت بقية نهار وليلي. ومهما كان الأمر فقد نجحت ولكن تأخر ترتيبي من الأول إلى السادس. وكان هذا الامتحان الأزهري على هذا الوجه الشاق أول امتحان في مدرسة القضاء وآخره، فبعده احتج عاطف بك فسهل الامتحان وقصرت مدته وتساهل الممتحنون في درجاته.
الفصل الرابع عشر
كنت وأنا مدرس في المدارس الابتدائية غير متفوق في الإنشاء، فانعكس الأمر في مدرسة القضاء، ففي الشهر الأول من دخولي المدرسة طلب إلينا أستاذ الأدب أن نكتب في موضوع «أثر القرآن الكريم في تدوين العلوم» وصادفني التوفيق في كتابة هذا الموضوع كما صادفني أن وقعت ورقتي في يد عاطف بك بركات فاستحسنه - وكان لا يعجبه العجب - وكان كلما أتى زائر للمدرسة طلب الورقة وقرأها عليه وسمع منه استحسانه، فوقر في نفس أستاذ الأدب تفوقي في الإنشاء، وحفزني ذلك على الإجادة فيما أكتب، فكان يعطيني أعلى درجة ولو لم أستحق، لأنه يقرأ ما في نفسه أكثر مما يقرأ ورقة الإجابة، واحتفظت بمكانتي هذه طول دراستي، ودفعني ذلك إلى الاتصال بالجرائد أريد أن أكتب فيها؛ وكان لي صديق
صفحه نامشخص