حیات شرق
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
ژانرها
أما الهند فقد تنازعتها الانقسامات القومية وبددت أوصالها خناجر التعصب.
وهذه الصين التي لم يكن يرجى لها تنبه من سباتها العميق الذي جعلها أشبه شيء بأهل الكهف، قد تنبهت وهي تحارب بعضها بعضا كما كانت تفعل إحدى الدول الأوروبية في القرون المظلمة، ولكنها حروب تعقبها الحياة والسلامة والسير إلى الأمام إذا استطاعت أن تتخلص من المؤثرات الأجنبية المضرة بها، والتي لا يقبلها عقلها ولا تندمج في مدنيتها.
ومصر الناهضة الرابضة الساكنة المراقبة ترى كل ذلك وتفهم وتدرك ولكنها صامتة، لأنها تتعلم وتتنور وتنتظر وترجو أن تنتفع بالدروس التي تتلقاها من الداخل والخارج، وما يراه البعض كبيرا خطيرا قد تراه مصر صغيرا دقيقا عديم الشأن في نظر التاريخ وفي حياة الأمم، لأنها هي الأخرى التي حلت فيها روح أبي الهول العظيم صابرة ترمق بعين الهدوء والألم ظهور شمس الحياة والأمل من وراء الأفق.
مصر الاجتماعية
إن الأنظمة النيابية نعمة الأمم الحديثة ولكن يجب أن يحسن تكوينها وانتخابها، فإن إنجلترا وهي سيدة الأمم النيابية وبرلمانها شيخ البرلمانات واقعة في خطأ واضح، فإن تسعة أعشار الأمة الإنجليزية عمال ولا يملكون شيئا إلا تعب أيديهم، وتجد تسعة أعشار البرلمان من الملاك الذين لم يعرفوا هم وآباؤهم عمل اليمين ولا عرق الجبين، حتى في عهد سيادة العمال فإن حزب العمال في الحقيقة اسم ومنهاج ليس إلا، ومن أعضائه لوردات وسيرات ومسترات من أغنى متمولي الدنيا. فلا يعقل أن برلمانا كهذا يسد حاجات شعبه، وإلا فأين أعماله في مقاومة تكويم الثروات الفردية غير الالتجاء إلى التشريع الاستثنائي مثل الضريبة على الدخل وغيرها؟ وإنك إذا حولت نظرك إلى البرلمان الفرنسي وهو وليد الثورة الفرنسية العظمى، فإن منظرا محزنا يقابل نظرك من تعدد الأحزاب ذلك التعدد المهلك وتهافت الأعضاء على اقتناء الثروات بطرق غير مشروعة، فكانت فضيحة بناما الشهيرة التي سجن بسببها دي لسبس، وفضيحة أوستريك وغيرها، بل إن بعض أعضائه بعد أن تولوا الوزارة وهي أرفع منصب في الأمة اتهموا بالخيانة العظمى وثبتت عليهم وحكم عليهم بالنفي وغيره. وقد ظهر ضعف النظام البرلماني المقرون بسوء الانتخاب، إذ تغلب عليه فريق من الرجال الذين صاروا ديكتاتورية، مثل موسوليني في إيطاليا وبريمودي رافيرا في إسبانيا وغيرهما في بعض بلاد الشرق. فظهر وجوب تشريع حازم يحمي النظام النيابي ويصونه لدى عواصف الاستبداد الفردي، وحسن الانتخاب حتى يمكن الانتفاع به، وإلا فيصير حلما مزعجا للأمة وداعيا للسخرية من الأقوياء الذين يريدون الاستئثار بالسلطة. إلا أن حالة الفلاح والعامل لمما يدعو إلى الحنان والشفقة، فإن انتشار الفقر في تلك الطبقة مع سيادة الجهل مما يفتت الأكباد، فإنهما فريسة للشقاء وللأمراض الفتاكة وظروف حياتهما اليومية تكاد تكون من آثار القرون المظلمة. ولم أدرك حالة الفلاح والعامل قبل التسلط الأجنبي، ولكنني لا أظن أنها وصلت إلى ما هي عليه الآن في الشرق، فإن أوروبا لم تكتف بالفتح الحربي والسياسي، بل فتحت البلاد فتحا اقتصاديا وكان ذلك الفتح أوسع نطاقا من الحرب السياسية وأرسخ قدما، فإن أوروبا التي انتقلت في القرن الماضي من عهد الزراعة إلى عهد الصناعة والتجارة تراكمت لديها المصنوعات وأرادت أن تجد لتصريفها أسواقا فلم تجد أروج من أسواق الشرق.
وإذا رجعنا إلى تلك الصناعات نجد أنها من نتائج الاختراعات والاكتشافات العجيبة التي وفق إليها الأوروبيون بمحض اجتهادهم وذكائهم، وليس لشرقي واحد أي فضل في اختراع منها، فحيث حولت نظرك وجدت اختراعا أوروبيا أو أمريكيا، أي صادرا عن الأمم الغربية.
وقد حضرت مرة مناقشة حادة بين رجل مثقف على الطريقة الحديثة وأحد علماء الرسوم، فكان العالم يقول: إن الإسلام هو دين الله وأممه هي الشعوب المختارة وهي أحب الأمم إليه - سبحانه وتعالى - لأنه وفقها إلى عبادته على أفضل الطرق وأسماها. فاعترض عليه المثقف قائلا: كيف تقول ذلك يا سيدي مع أن الله - سبحانه وتعالى - لم يفتح على واحد ... واحد فقط من أبناء هذه الأمم باختراع واحد نافع مثل الكهرباء أو البخار أو ما اشتق عنهما منذ ستين أو سبعين عاما كالبرق واللاسلكي والتليفون والمحرك الكهربائي والطيارة؟ فسكت العالم قليلا ثم قال: وهل نسيت علماء العرب وما أحدثوه في الفلك والكيميا والرياضيات؟
فقال المثقف: كلا! لم أنس، ولكن هذه كانت أعمال بدائية، ولو أنني سلمت جدلا بأن الأوروبيين اتخذوا ثمار قرائح العرب أو غيرهم من الشرقيين كالصينيين، فإن هذا لا ينفي أنهم طبقوها تطبيقا عمليا في كل ما أنتجوه وعاد على الإنسانية بالخير العميم.
على أن الذي يريده الرجل المثقف على الطريقة الإفرنجية هو أن الدين المسيحي لم يكن عائقا لأهل أوروبا عن الاختراع والإنتاج المجدي وكذلك لا يجوز أن يكون الدين الإسلامي عقبة في هذا السبيل، وحينئذ لا دخل للدين في ترقية العقول وتقوية الأخلاق وتربية الرجال تربية صالحة تؤدي بهم إلى الأعمال الجليلة. وماذا يجدينا الآن أن يقال إن أول من اكتشف أمريكا رجال مطوحون من العرب وصلوا إلى المكسيك أو البرازيل وعادوا إلى ثغر «واأسفاه» بشمال أفريقيا، في حين أن الذي اكتشف أمريكا حقيقة هو خريستوف كولومبوس وفريق من البحارة الإسبان؟ فيجب إذن أن نعترف أن كل الاختراعات الحديثة التي بنيت عليها الصناعات هي ثمرة عقول أهل أوروبا دون سواهم ونتيجة اجتهادهم ودأبهم.
ويصح أن يقال في حقهم: «كل ميسر لما خلق له»، لأننا رأينا أشخاصا منهم يقضون عشرات السنين في سبيل إتمام جزء بسيط من اختراع مهم، وأمامنا أمثلة واضحة في أديسون وماركوني وأينشتين وهم من الأحياء، وباستور وكوخ وروتنجن وفارادي وڤولتيرا وهم من الموتى ...
صفحه نامشخص