حیات شرق
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
ژانرها
Mécanisme
ما يجعلنا نعتقد أن حياة تلك العصبة رهينة قوة الدول الكبرى التي تتألف منها، وعندما تضمحل تلك الدول في حرب كبرى (يقول الكثيرون بضرورة اشتعال نارها ويحتمونها تحتيما) تنحل طبعا تلك الجمعية فتكون أمريكا حينئذ هي دولة المستقبل بقوتها المادية وقوتها المعنوية وبنبوغها في الاختراع والإبداع وتسخير الطبيعة للإنسان وثروتها التي تكاد لا تفنى في جوف الأرض وعلى سطحها، وأوروبا العجوز تعلم ذلك وتنتظره وتلمح كوكب تلك الجمهورية الساطع، وتدرك أنها نفسها في طور الانحلال والذوبان.
فلا تستطيع مصر أن تجهل ذلك أو تتعامى عنه أو تغفله، بل ينبغي لها أن تسلك عين السبل التي سلكتها جمهورية الولايات المتحدة للتقدم بالعلم والصناعة والاجتهاد، وأن تسعى للتقدم والإصلاح في جميع ناحيات الحياة، فإن الأمريكيين المشهورين بالعجلة والتقليد والاكتفاء بمظاهر الأشياء، إنما هم في الحقيقة رجال عمليون وتبدو حياتهم للجاهل بطبيعتهم بتلك الحالة السطحية. وليس أمام أمريكا ما يعوقها عن سيادة العالم كسيادة الرومان ولكنها لا تريد، وقد أسفت على دخولها في مأزق الحرب العالمية، ويؤكد ساستهم وعلماؤهم أنه لو ظهرت حرب أخرى فلن يكون لهم شأن فيها، وكفاهم ما أصابهم من ضياع الرجال والمال ومماطلة الدول المدينة. وظهور مبادئ ويلسون الذي كان يمثلهم بمظهر الرجل العالق بالمثل الأعلى المندفع وراء الخيال اندفاعا أفقده ميزان الحقائق الجارية بين الدول.
ولعل من أعظم ما ننتفع به من أمريكا طرق التعليم فيها وتأسيس المدارس الحديثة القائمة على مبادئ علم النفس ودرس معقولية التلاميذ والطلاب، وقد كان أعظم فلاسفتهم في العصر الحديث وهو ويليام جيمس أستاذا مدرسا. ثم نقل مصر من الزراعة إلى الصناعة.
ولا يمكن مصر أن تجهل ما هو حادث في أوروبا ذاتها وفي أحضان جمعية الأمم التي عجزت عن تطبيق نصوص نزع السلاح أو تخفيضه في العالم إلى الحد الأدنى الذي يتفق مع سلامة كل دولة. وهذه النصوص المنقولة عن عهد جمعية الأمم مطاطة وقابلة للتأويل والتفسير على هوى كل دولة، وكل دولة تستطيع أن تتملص من أي تخفيض حقيقي في سلاحها، وستبقى هذه المسألة من المشاكل الأوروبية المعقدة التي يصعب حلها. وقد ثبت لمن يرقب حالة العالم السياسية أن الدول الأوروبية تستخدم العصبة لتبرير مقاصدها الخاصة ولتصبغ سياستها بصبغة قانونية لتبريرها أمام الشعوب، أما أمريكا فليست في حاجة إلى الدخول في هذا المأزق ولا يهمها البرنامج البري أو البرنامج البحري ... كما رأينا فعلا. وإليك إيطاليا وإسبانيا وتشيكوسلوفاكيا واليونان وتركيا، وكل منهن تعيش تحت نظام حكومة مطلقة يتصرف في شئونها رجل واحد تميز بمحو النظم الدستورية وجعلها أثرا بعد عين، في حين أن أمريكا مع نموها وتقدمها وتطورها لم تحتج لتغيير نظام حكومتها ولا للقضاء على دستورها. وهذا النظام المطلق معلق بحياة شخص واحد أو بضعة أشخاص، ولا يعلم مستقبله ومآله بعد حياته إلا الله الذي يعلم السر وأخفى!
أما ألمانيا وفرنسا فهما الدولتان المنهوكتان اللتان تعيشان بين الرجاء والخوف، وقد حدثت في ألمانيا عين الظاهرة السياسية التي حدثت في فرنسا بعد الهزيمة، فإن فرنسا انقلبت من إمبراطورية إلى جمهورية بعد حرب السبعين، وكذلك ألمانيا انقلبت إلى جمهورية بعد حرب 1914، وكلتاهما في كفتي الميزان، وترقبان إنجلترا (التي استفادت وحدها من الحرب) بعين الحذر وتحسدانها على ما أفادت من مستعمرات وانتدابات وآبار للزيت والنفط في الشرق ونفوذ خارق في الغرب، على حساب برتا وماريان الداميتين.
وكل هذه الدول الغالبة المغلوبة الخادعة المخدوعة تشرئب بأعناقها في ثياب الوجل والحيرة وتحارب بكل قواها منفردة ومجتمعة الدولة الروسية التي غامرت في مجهولة تاريخية تشبه معادلة جبرية معقدة الحروف والأعداد، وعندنا أن روسيا لا تزال في دور التكوين الاجتماعي وهي أشبه الأشياء بطهي ينضج في مرقه الدسم الكريه الرائحة، فإن المشاعية، حسب مبادئ الدولية الثالثة، تجربة شديدة الخطورة، ومجازفة غير مأمونة العاقبة. وليس لدى الروس ما يمكن مصر أن تستفيد منه أو تقتدي به لمخالفة مبادئها لعقائدنا ومدنيتنا وآدابنا، فلنتركها «تستوي في صلصتها» على حد قول السياسي العتيق كرومر عن السودان في عهد المهدي، ولنتجه قليلا نحو الشرق فإذا هو أيضا قدر تغلي على نار متأججة، فمن ثورة وحرب يعقبهما فتور وخمود في سورية إلى حرب الجوريلا في شرقي الأردن وحدود العراق، وهذا الحجاز ونجد والربع المعمور والربع الخراب لا تزال كالبوتقة المصهورة في يد صائغ ماهر تعوزه المادة اللازمة لصنع الذهب.
وإذا رفعنا بصرنا إلى ما وراء العراق رأينا تلك الدولة الفتية التي أوقعها تسرع صاحبها في حب الإصلاح في هاوية الفوضى وحرب القبائل، وقد نزع التعصب الأعمى ودسائس الأجنبي تلك السلطة غير المحدودة من يد أمان الله ووضعها في يد آفاقي هو أقرب إلى زعامة اللصوص منه إلى سيادة الممالك،
1
ولا تزال الدولتان الإسلاميتان اللتان فتنته مظاهر الإصلاح فيهما وهما تركيا والفرس بعيدتين عن معاونته ومناصرته، لأن تركيا تكاد بشق الأنفس تبلغ غايتها التي رسمها لها ونفذها رجل واحد نابغ في الحرب والسياسة والتشريع يعمل في جيل واحد ما يجب عمله في بضعة أجيال، ولا يشبهه عن بعد إلا شاه الفرس العصامي الذي يستغويه التقدم والارتقاء ويعوقه الجمود القومي الذي يشبه قباء عتيقا مزركشا بالخز والديباج ومرصعا بالجواهر، ولكنه من ثياب القرون الوسطى يرغم صاحبه على التدثر به للدخول في محفل حديث العهد بين المتعاصرين من أهل المدنية الجديدة.
صفحه نامشخص